logo

logo

logo

logo

logo

الإلهة الأم في عصور ماقبل التاريخ

الهه ام في عصور ماقبل تاريخ

Mother Goddess -



الإلهة الأم

 الإلهة الأم في عصور ما قبل التاريخ

 

 

مع حلول الهولوسن  Holocene (الألف العاشر قبل الميلاد) في منطقة المشرق العربي القديم وانتها العصور الجليدية (عصر البليستوسن  (Pleistocene؛ تدخل المنطقة عصراً جديداً، وهو العصر الحجري الحديث Neolithic.

حمل هذا العصر في طياته اختراعاتٍ وإبداعاتٍ جديدة عرفت "بالثورة النيوليتية " Neolithic Revolution؛  نظراً لأهميتها. فقد استقر الإنسان لأول مرّة في التاريخ الإنساني بعد أن كان يبحث عن طعامه هائماً على سطح الأرض، وبنى لأول مرّة بيته الدائري وسقفه بجذوع الأشجار و القصب، وزرع إلى جانب بيته حقله بالحبوب التي التقطها بداية من الغابة والتي أخذت وقتاً طويلاً حتى أصبحت مورثاتها وجيناتها مدجنة تماماً، وبعد أن اطمأن الإنسان النيوليتي إلى الزراعة توجه إلى تربية الحيوانات واستئناسها، وكانت الخراف والماعز أولى الحيوانات المدجنة، حيث استفاد من لحومها وصوفها والحليب ومشتقاته.

لم تكن الحياة الروحية والمعتقدات بمعزل عن كل هذه التطورات، فقد شوهدت بعض الأبنية البسيطة ذات محراب، عدّها بعض العلما هيكلاً أو مصلى، بعضها احتوى على مكان للذبح وشوهدت آثار دما عليه كما في موقع أريحا في فلسطين، وبعض الشواهد الأخرى مثل مواقع عين غزال، والبيضا في الأردن، وتل العبر في سورية.

هذا التحول الحضاري الكبير بمعاييره المختلفة - ولاسيما ما يخص معتقدات إنسان العصر الحجري الحديث - ركزت الأضوا من قبل الباحثين عليه، وخاصة ظهور الدمى أو التماثيل الصغيرة figurines والتي أشير إليها - مع بدايات ظهورها الأنثوي الواضح كما في تل المريبط على الفرات - بالإلهة الأم.

يمكن باستعراض سريع لتطور الدمى خلال فترات العصر الحجري الحديث،  الـ PPNA (المجتمعات الزراعية الباكرة) 9500- 8800 ق.م في الثقافة المريبطية. 9500-8300 ق.م في الحضارة السلطانية وPPNB (المجتمعات الزراعية المتطورة) 8800- 7000 ق.م. وEPN (المجتمعات الزراعية واستخدام الفخار الباكر) 7000- 6500 ق.م.

يطلق مصطلح "الدمى" على التماثيل الصغيرة التي لا يتجاوز ارتفاعها أكثر من 15سم، وتجسد شكلاً بشرياً أو حيوانياً. وهنا سوف يتم تناول الدمى الإنسانية فقط وتحديداً الأنثوية التي اصطلح بعض العلما على تسميتها "الإلهة الأم"؛ نظراً لما تمثله من مظاهر الخصب عند المرأة. واعتقاداً منهم أن عصر النيوليت الذي شهد الزراعة وتدجين الحيوانات والاستقرار قد ترافق مع إجلال المرأة إلى حد التقديس ومطابقة رحم المرأة مع الأرض البكر التي زرعها الإنسان.

كان لظهور الدمى في كل مواقع النيوليت دلالة على وجود دور أساسي لها في الحياة الاجتماعية على الأقل، ولمعرفة ماهية هذا الدور و دلالاته؛ لابد من التعمق قليلاً في البيئة المحيطة بها ومكان وجودها إضافة إلى دراسة أشكال هذه الدمى والتطورات الحاصلة عليها خلال فترات العصر الحجري الحديث. ويمكن هذا من خلال استعراض سريع لأشكال الدمى خلال الفترات الأساسية في العصر الحجري الحديث، ومراقبة الملاحظات المهمة على أشكالها وطرق صنعها. ويُبدأ هنا بدمى فترة العصر الحجري الباكر أو ما اصطلح على تسميته النيوليت ما قبل الفخار- آ- PPNA. فالدمية الأولى من موقع المريبط على الفرات الأوسط (الشكل 1) صنعت من الحجر الكلسي الأبيض، وقدماها مكسورتان، ذات أعضا أنثوية واضحة، حيث اليدان تحملان الثديين لإبراز صفة الخصب، وهذه الإشارة باليدين ستظل صفة للخصب حتى نهاية العصر الكلاسيكي.

الدمية الثانية (الشكل2) المصنوعة من الطين المشوي تمثل أيضاً امرأة أكثر اكتنازاً مكسورة الرأس و تشير اليدان إلى الثديين.

أما النموذج الثالث (الشكل3) فهو من موقع أريحا في فلسطين حيث صنعت الدمية من الطين واليدان تشيران إلى الثديين، مع ملاحظة عدم وجود الرأس وصنع قاعدة الدمية بشكل يمكنها الوقوف وحدها.

الشكل (3)

الشكل (2)

الشكل (1)

ومن خلال استعراض نماذج دمى فترة PPNA، يمكن ملاحظة ما يلي:

أن الدمى تمثل الإنسانية، تجسد المرأة بشكل واقعي مبرزة أماكن الخصب ولاسيما الأثدا مع إشارة اليدين إليهما، كما أن أغلبها مفقود الرأس.

الدمى خلال العصر الحجري الحديث المتطور، وهذا ما اصطلح على تسميته النيوليت ما قبل الفخار-ب- PPNB: شهد هذا العصر انتشاراً للزراعة والتدجين في كل المناطق التي استقر بها الإنسان، أي إن مشهد الزراعة قد تعمم على كل المواقع.

أما ما يخص الدمى فسوف تُستعرض خمسة نماذج؛ أول ثلاثة منها من موقع تل أسود في حوضة دمشق، وكلها مصنوعة من الطين المشوي، حيث تعرض الدمى لأول مرة جالسة وهي تشير بإحدى يديها إلى الثدي الذي لا يكاد يظهر بوضوح مع الاكتناز بالجز السفلي مع ملاحظة فقدان الرأس (الشكل 4).

الشكل (4)

أما الدمية الثانية فهي تعرض للجز العلوي فقط حيث تشير اليدان إلى الأثدا الكبيرة، مع ملاحظة فقدان الرأس (الشكل 5). أما الثالثة من هذا الموقع فهي تشير إلى تشكيل يهتم أكثر بتفاصيل الوجه الذي شكل بعناية، وصنعت عيناه على شكل حبة القمح، وهناك إشارة إلى الأثدا الصغيرة مع ملاحظة فقدان الجز السفلي من الدمية (الشكل 6).

   

الشكل (6)

الشكل (5)

الدمية الرابعة مشكلة من الطين المشوي من موقع البيضا في الأردن حيث تجسد المرأة جلوساً على خلفية مكتنزة ومفقودة الرأس (الشكل 7).

من هذه  النماذج الأربعة يمكن ملاحظة ما يلي:

دمى صنعت من الطين المشوي جميعها، أغلبها بوضعية الجلوس و الإشارة إلى الأثدا ، كما ظهرت سمينة، وكلها تقريباً مفقودة الرأس أو أحد أجزائها.

إن تتبع أشكال الدمى خلال ما تبقى من عصر النيوليت يشير إلى ازدياد أعداد الدمى مع إضافة ظهور نوع جديد، لم يعد يهتم بإظهار الشكل الواقعي، بل اختصار للشكل الأنثوي وترميزه كما في موقع تل الرماد، وحيث أصبحت الدمى عبارة عن جسم غير واضح التفاصيل ولكن مع التركيز على الوجه (الشكل 8) مع ملاحظة عدم وجود تكسير أو فقدان من الدمية.

   

الشكل (8)

الشكل (7)

وعند السؤال عن أماكن وجود هذه الدمى؛ فإن المعلومات الأثرية المتوافرة لا تتفق على وجودها في مكان واحد، بل كانت في غرف البيوت، وأحياناً في بعض القبور، وأحياناً أخرى في الساحات، وهنا لن نغفل أن إمكان وجودها في الحقول أمر وارد جداً، ولكن الأثري لا يمكنه رصدها هناك.

إذاً هل مثلت هذه الدمى بحق "الإلهة الأم" أو ماذا؟

إن ما تم استعراضه من الدمى الأنثوية وأشكالها و أماكن وجودها، والتدقيق في ناحيتين؛ الأولى: أن الدمى الواقعية الأنثوية كانت بمعظمها مكسورة الرأس أو فاقدة لأحد أجزائها السفلية.

الثانية: أن الدمى الرمزية للأنثى كانت كاملة، والتركيز فيها كان على الرأس وتعابير الوجه؛ يقود إلى أن أهمية هذه الدمى في حياة الإنسان النيوليتي ومرافقتها له في كل ما يواجهه من أخطار، كما أنها كانت السبيل أو الواسطة التي يمكن أن تربطه مع العالم الغيبي الذي يؤمن له الخلاص من الخوف أو الأذى. ولم يجد أفضل من الأنثى التي رأى فيها اختصاراً لاختراعاته الإبداعية الجديدة من زراعة وتدجين واستقرار؛ كي تمثله لدى هذه القوى.

إذاً يمكن القول: إن هذه الدمى لم تكن في الواقع آلهة تماماً، بل هي وساطة أو وسيلة للوصول إلى القوى العليا، وعملية كسر الدمى الواقعية هي جز من طقوس تحقق هذه الغاية لحظة كسرها. أما الرمزية فكانت لتحقيق أماني أخرى بعيدة المدى.

 

عمار عبد الرحمن

 

 

مراجع للاستزادة:

- جاك كوفان، الألوهية والزراعة ثورة الرموز في العصر النيوليتي، مراجعة وتقديم سلطان محيسن، ترجمة: موسى الخوري (منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1999).

- نائل حنون، الحياة والموت في حضارة بلاد الرافدين القديمة (دمشق 2005م).

- J. MABRY, the Birth of the Ancestors: The Meanings of Human Figurines in Near Eastern Neolithic Villages, eds  by Beth Alpert Nakhai, The Near East in the Southwest: Essays in Honor of William G. Dever, ASOR 58, (2003), pp .85-114.

- O. AURENCHE & K. KOZLOWSKI, La Naissance du Néolithique au ProchE- Orient; Edition Errance (Paris, 1999).

-E. O. JAMES, The Cult of the Mother Goddess, (London, 1959).

 


التصنيف : عصور ما قبل التاريخ
المجلد: المجلد الثاني
رقم الصفحة ضمن المجلد :
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1089
الكل : 40589112
اليوم : 118927