logo

logo

logo

logo

logo

حرق الموتى

حرق موتي

Cremation - Cremation

 ¢ حرق الموتى

حرق الموتى

 

حرق الموتى cremation هو أحد أساليب الدفن الذي مارسته بعض الشعوب منذ العصور القديمة اعتقاداً منها أن حرارة النار تطهر الروح وتحررها من الجسد، كما لجأت إليه بعض الجماعات في حالات محددة ومنها التخلص من بعض الأوبئة التي اجتاحتها.

لم يكن هناك نسق متشابه في التعامل مع جثث الأموات بدءاً من لحظة الموت ثم عملية الحرق فالدفن، ولوحظ بعض الاختلاف بين مكان وآخر، لكن من المؤكد أن عملية الحرق لم تؤدِّ إلى تلف كل الجثة، فكان يتم جمع العظام المتبقية بما فيها الرماد لتوضع في القبور مباشرة أو في جرار فخارية يتم دفنها في حفر أو قبور بسيطة، ومعها بعض المرفقات الجنائزية.

لم تعرف مصر ولا الصين خلال التاريخ القديم هذه العادة، فيما مارستها الهند وأوربا (في حوض الدانوب) منذ بداية الألف الثاني ق.م، أما في منطقة بلاد الشام فقد ظهرت منذ الألف السادس في بعض المواقع مثل تل حلف حيث جرى تفسيرها على أنها تخص أفراداً لا ينتمون إلى المجتمع المحلي، أو ربما كان لهم وضع شاذ عن بقية السكان كأن يكونوا أسرى أو مرضى أو مجرمين.

أما المدفن الجماعي الذي عثر عليه في بلدة مرسين (خليج السويدية) والذي يعود تاريخه إلى منتصف الألف الخامس وضم عدداً من الجثث المحروقة فقد فسره بعض الباحثين على أنه ناجم عن احتلال القرية وتعرض سكانها للقتل والحرق الجماعي.

تشير بعض الوثائق الكتابية من بلاد الرافدين إلى حرق جثة أحد الملوك بعد وفاته، وهو ينتمي إلى سلالة أور الثالثة [ر] (نحو ٢١٠٠ق.م)، وهي الحالة التي تكررت لاحقاً خلال العصر الآشوري الحديث عندما تم حرق جثة ملك تم تنصيبه بديلاً عن الملك الأصيل.

بعد ذلك يتميز الحثيون [ر] بممارسة هذا الأسلوب من الدفن في سورية منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد حيث عثر في إحدى مقابر موقع عثمان كياسي Osmankayasi على بقايا أموات وضعوا في جرار فخارية تم دفنها بشكل مزدوج الفوهة مقابل الفوهة. فيما وصفت بعض النصوص الحثية كيفية إقامة هذه الطقوس والتعامل مع جثث الموتى حيث كان يتم وضع الجثة في مكان خاص لإجراء عملية الحرق، بعد ذلك يتم جمع بقايا العظام المحروقة وتُلفُ بقطعة من قماش الكتان وتوضع في جرار ثم تدفن في القبور.

ويرى معظم الباحثين أن حالات حرق الموتى المكتشفة في المواقع السورية ناجمة غالباً عن التأثر بالثقافة الحثية، أو عن وجود جاليات حثية مندمجة مع المجتمعات المحلية، ويرون فيها ظاهرة غريبة عن التقاليد الدينية للمجتمعات السورية القديمة؛ لأنها لم توجد قبل عصر الحديد الأول إلا في مواقع نادرة ومنها موقع ألالاخ [ر] (تل عطشانة)، الذي عثر فيه على العديد من القبور التي تم فيها حرق جثث الموتى وتم دفنها تحت أرضيات البيوت، وهي تبدأ بالظهور من الطبقة الخامسة (القرن الخامس عشر ق.م)، وتستمر لتنتشر أكثر في الطبقة الأولى (النصف الأول من القرن الثاني عشر ق.م)، وتصبح هذه الحالات موازية لحالات الدفن العادية، وعُزيت في الحالتين إلى تقاليد حثية. لكن انتشارها بكثرة في العديد من مواقع بلاد الشام بما فيها لبنان وفلسطين والأردن، وانتقالها إلى المستوطنات الفينيقية في إفريقيا يضعف فرضية الأصل الحثي لها.

توسعت ظاهرة حرق الموتى خلال عصر الحديد الأول، وعثر على الكثير من حالات الدفن في العديد من المواقع ومنها حماة [ر] على العاصي وفي كركميش [ر] وتل الشيوخ الفوقاني [ر] على الفرات وتل حلف [ر] في الجزيرة السورية، وتل سوكاس [ر] على الساحل. إلا أن أهم المكتشفات تلك التي جاءت مؤخراً من تل صبي أبيض[ر] على البليخ، وتمثلت بمقبرة تألفت من ٣٨ قبراً، تسعة منها تم حرق جثث الأموات فيها قبل الدفن، وجدت في الطبقة الرابعة ويعود تاريخها إلى الفترة الواقعة بين١٢٢٠ و ١٢٠٠ق.م (العصر الآشوري الوسيط)، وكانت المدينة تدعى حينذاك باسم «دونُ Dunnu».

ويُعدُّ القبر (98-1 SAB BN) من أهم هذه القبور، ويعود تاريخه إلى الفترة الواقعة بين ١١٨٠ و١١٤٠ق.م، وقد تميز بكبره وغناه بالمرفقات الجنائزية وتنوعها، وهو حفرة دائرية الشكل قطرها نحو ٤٥سم وعمقها ١١٥سم، تموضعت تحت زاوية إحدى غرف البناء ٤، ودفن فيها الإناء الذي يحتوي بداخله على بقايا المواد المحترقة. والإناء هو جرة من الفخار المصقول والملمع والنادر الوجود في الموقع ،ارتفاعها ٤٠سم وقطر الفوهة ١٢سم، تم إغلاقها وختمها بختم أسطواني من دون معرفة السبب، ويتضمن الختم مشهداً لحصان مجنح يعدو ويتبعه من خلفه مهر صغير.

أثبتت الأبحاث المتعلقة ببقايا العظام المدفونة داخل الجرة أنها تعود إلى هيكلين ذكر وأنثى، يراوح عمرهما بين ٢٠ و٤٠ سنة، تم حرق جثتيهما بدرجة حرارة بين ٤٥٠و٨٠٠ درجة مئوية، ثم جمعت بقاياهما لتوضع في الإناء، ومعهما بقايا عظام حيوانية تتضمن أجزاء من عظام رأس كبش وأقدامه يزيد عمره على ثلاث سنوات. وقد تكرر وجود عظام رأس الخراف وأقدامها في مدافن أخرى مماثلة، إضافة إلى وجودها في المدافن العادية، وغالباً ما كانت تلفى في القبر إلى جانب إناء الدفن. ومن اللافت للنظر وجود قطعة من جلد أسد صنع منه رداء كان يتدثر به الميت، وربما تم فرشه تحت الجثة ليحترق معها.

إناء الدفن مع بعض الحلي من تل صبي أبيض

احتوى إناء الدفن على حلي وجواهر متنوعة، من بينها خرز وقلائد ورقائق وخواتم وأساور وجعلان، تمت صناعتها من مواد مختلفة منها الحجر والعظم والخزف والخشب والذهب والبرونز والحديد، وقد تعرض بعضها للضرر وتغير اللون بسبب الاحتراق، ومع هذا لا يمكن عدها من الأثاث الجنائزي لأنها على الأرجح من المقتنيات الشخصية التي تخص أحد الميتين. أما الكبش فقد ذبح من أجل المناسبة واستهلك لحمه من قبل المشيعين قبل قليل من عملية الحرق أو في أثنائها وقذفت بقاياه في النار، بعد ذلك تم جمع الرماد ووضع في الإناء الفخاري، ومن ثم تمت تغطيته وختمه ثم دفنه في البيت الذي كان يعيش فيه صاحبا القبر، وربما كانا زوجاً وزوجه ماتا سويةً وحُرقت جثتاهما سويةً، وكما ارتبطا في عالمهما الأرضي فقد أرادا البقاء كذلك في عالم ما بعد الموت. وهما ينتميان إلى طبقة ثرية، وتشير طبعة الختم الطينية العائدة إلى العصر الآشوري الوسيط إلى أنهما كانا من الإدارة الآشورية في تل صبي أبيض «دونُ».

طبعة ختم على غطاء إناء دفن من تل صبي أبيض

أما في تل حلف فقد كشف المنقبون عن جرار احتوت على بقايا عظام ورماد ومواد، وبالقرب منها عثر على تمثالين بازلتيين كبيرين لامرأتين بوضعية الجلوس، ربما كانتا أميرتين أو كاهنتين، من المفترض أنهما دفنتا بعد حرق جثتيهما ووضعت بقاياهما ضمن الجرار التي احتوت أيضاً بعض المرفقات الجنائزية. كما كشف بالقرب من مكان الدفن عن أبنية- لها مداخل- تشبه القبور، بُنيت من اللبن فوق سطح الأرض تضمنت بقايا بعض الجثث، وربما كانت مخصصة لإجراء شعائر حرق الموتى قبل دفنهم.

كما تم الكشف في موقع البص القريب من مدينة صور اللبنانية عن مقبرة مساحتها تقارب ٥٠٠م٢، أكدت البعثة الإسبانية التي عملت في الموقع بين عامي ١٩٩٧ و٢٠٠٨ أن تاريخها يعود إلى الفترة الواقعة بين ٩٠٠و ٧٠٠ق.م. طريقة الدفن تمت بحرق الجثث ثم جرى دفنها بالجرار الفخارية، لكنها اقتصرت على الراشدين فقط دون الصغار. وتم تمييز ثلاثة نماذج من الدفن، الأول: وهو الأقل، تم الدفن في إناء منفرد وضع بجانبه إبريقان، وغُطّي الإناء بصحن أو بحجر مستوٍ، وتم أحياناً وضع طاس أو كوب للشرب عند كتف الإناء، ترافق أحياناً مع حجارة صغيرة منحوتة حملت إشارات رمزية، أما المرفقات الجنائزية فقد كانت غنية في بعض الأواني. النموذج الثاني، وهو الأكثر شيوعاً في المقبرة، تألف من جرتين تشاركتا المكان نفسه مع النموذج الأول، ولوحظ معهما وجود نوعين من الأباريق وطاسات الشرب. وأثبتت التحاليل أن بقايا الشخص نفسه توزعت أحياناً على الجرتين، احتوت إحداهما على الرماد فقط، فيما احتوت الثانية على العظام والمرفقات الجنائزية، تم فصلها بوساطة الغربلة. أما النموذج الثالث فتضمن مجموعات كثيرة منفصلة من جرار الدفن يرجح أن كل مجموعة منها تخص عائلة بعينها.

مدافن موقع البص في صور

ومن المعتقد أن هناك شعائر طويلة كانت ترافق الميت وتدوم عدة أيام وربما أسابيع بعد لحظة الموت، كان يتم خلالها تنفيذ الطقوس اللازمة للميت على مراحل متتالية، ويصعب تفسير الكثير منها، لكن المؤكد منها هو الولائم الجنائزية وتقديم أضاحي الحيوانات والطيور والمشروبات.

لوحظ في النموذج الثاني الذي توزعت فيه البقايا على الإناءين قيام المشيعين بغربلة المواد المحترقة بهدف فصل الرماد عن البقايا العظمية ووضع كل منهما في إناء فخاري منفصل، واستتبع ذلك إضافة بعض المقتنيات الشخصية إلى المتوفى، ومن ذلك بعض الحلي والجواهر والتعاويذ والجعلان التي كان بعضها محلي الصنع وبعضها الآخر من صنع مصري، وبعد ذلك تم إغلاق الإناء، ووضعه في حفرة الدفن، ووضع بالقرب منه إبريقان مع عدد من أكواب الشرب بيّنت الأبحاث أن أحد الإبريقين كان يحتوي على عسل وربما تم خلطه بالماء، والثاني احتوى على الخمر. إن استخدام المقبرة على مدى أكثر من مئتي سنة واستمرار الشعائر الدينية نفسها يظهر متانة العقيدة الدينية القائمة آنذاك والنظام الاجتماعي الذي كان يحتضنها والذي جعلها تنتقل إلى المدن الفينيقية على الساحل الإفريقي، ومنها قرطاجة التي عثر فيها على ما يقارب عشرين ألف جرة جنائزية تحتوي على بقايا هياكل عظمية إنسانية، من بينها أطفال، وهياكل حيوانية، تعرضت للحرق قبل أن توضع فيها ويجري دفنها.

مدفن داريا

عُرفت عادة حرق الموتى في جنوبي بلاد الشام أيضاً، فعثر في العديد من المواقع على قبور تم فيها دفن رفات الموتى في جرار فخارية بعد حرق الجثث، ومنها مواقع ساحل فلسطين الجنوبي، ومن أهمها تل فرح الذي تم فيه الكشف عن مقبرة كاملة يعود تاريخها إلى عصر الحديد الثاني، وتتضمن جراراً فخارية تحتوي بقايا عظام بشرية محروقة. وفي الأردن عثر في مطار عمان على كومة من الحجارة يُعتقد أن الناس وضعوا عليها جثث الأموات قبل حرقهم، واستدل الباحثون على هذا الأمر بعد اكتشاف عدد كبير من العظام البشرية تظهر عليها آثار حرق حول كومة الحجارة هذه، وفيما رأى باحثون أن المعبد المكتشف قرب مطار عمان استخدم لتقديم الأضاحي البشرية رأى آخرون أن المكان استخدم مذبحاً لحرق الموتى بوصفه جزءاً من الطقوس الدينية.

أصبحت عادة حرق الموتى أكثر شيوعاً عند الإغريق، وازدادت عند الرومان لتتوقف خلال العصر البيزنطي؛ لأن الديانة المسيحية رأت فيها تحقيراً للروح الإنسانية. ومن مواقع العصر الروماني في سورية التي شهدت هذا النوع من الدفن جنديرس [ر] في حلب، وداريا وحينة [ر] في ريف دمشق، التي تعود إلى القرن الثاني والثالث للميلاد.

فقد عثر في الطبقة الثالثة- العائدة إلى العصر الروماني- في تل جنديرس على عدد من الجرار الفخارية التي تحتوي على بقايا الأطفال بعد أن أحرقت جثثهم، وفي بلدة داريا القديمة عثر على مدفن جيد البناء جدرانه وسقفه مبنية بألواح حجرية كلسية منحوتة بعناية، وهو يخص امرأة تنتمي إلى طبقة ثرية تم دفنها في القبر، ثم سكب الزيت عليها وأوقدت النار بالجثة ثم رُدمَت بالتراب عبر فوهة في سقف المدفن قبل أن تخمد النار المستعرة وهذا ما يلاحظ من بقايا الدخان وآثاره على جدران القبر، وهو ما أدى إلى بقاء معالم الجثة واضحة كما الكثير من المرفقات الجنائزية التي تضمنت بعض الحلي والجواهر والأواني الزجاجية، ويرجح أن حرق الجثة كان بدافع مرض صاحبتها وليس من منطلق ديني.

أما قبور حينة فهي من النوع البسيط، أبعادها نحو ١٨٠× ٦٠ سم، لبعضها جدران بنيت بالحجارة الغشيمة، وبعضها الآخر حفر عادية، لكن سقف النموذجين كان يتم ببلاطات من الحجر البازلتي، احتوت هذه القبور على بقايا عظام بشرية ورماد، ترافقت أحياناً مع بعض اللقى الجنائزية، ومنها أكواب زجاجية جيدة الصنع ونقود برونزية والقليل من الحلي، فيما لم يتضمن بعضها الآخر أي نوع من اللقى.

يُشار أخيراً إلى أن ممارسة حرق الموتى ما زالت تمارس لدى بعض المجتمعات الحديثة، ومنها معتنقي الديانتين البوذية والهندوسية الذين يرون فيها تطهيراً للروح وصعوداً بها من الأرض إلى السماء.

محمود حمود

مراجع للاستزادة:

- Peter Akkermans, Elisabet Smits, A Sealed Double Cremation at Middle Assyrian Tell Sabi Abyad, Syria, in: Fundstellen (Wiesbaden 2008), pp. 251-261.

- Kay Prag, “ The Dead Sea Dolmens: Death and the Landscape” in the Archaeology of death in Ancient Near East, edited by Stuart Campbell and Anthony Fundstellen, Green. Oxford, 1995.

- P.Bienkowski, Some Remarks on the Practice of Cremation in the Levant, Levant 14(1982), pp. 80-89.

 


التصنيف : العصور التاريخية
المجلد: المجلد الخامس
رقم الصفحة ضمن المجلد :
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 5989
الكل : 45606855
اليوم : 7538