logo

logo

logo

logo

logo

حلب في العصور التاريخية

حلب في عصور تاريخيه

-

 حلب

حلب

حلب في العصور التاريخية

 

 

تُعدّ حلب إحدى أقدم المدن في المشرق العربيّ، وتدلّ الشواهد التي ذكرت أخبارها في المصادر المكتوبة بلغات الشرق القديم على أنها حافظت على مكانتها حاضرةً كبرى ومركزاً تجارياً مهماً من دون انقطاع منذ القرن ١٨ق.م.

 وقد ورد اسمها في تلك المصادر بصيغٍ متعدّدة، نحو: Halab في الأكاديّة و Halpa في الحثيّة و Hrb/p في الهيروغليفية المصريّة و Hlb في الأوغاريتية– وكلها بالخاء المعجمة - و Hlb في الآرامية و Halab في السريانية (بالحاء المهملة) في كلتيهما. وذكر أنها وردت باسم Armi في أرشيف إيبلا (القرن ٢٤ ق.م) أو باسم Armanu في نقش نرام - سن (٢٢٥٤-٢٢١٨ ق.م) ثم باسم Halmanفي نقوش لشلمنصر (٨٥٨-٨٢٤ ق.م )؛ لكن تطابق هذه الأسماء مع حلب أمرٌ مايزال بحاجةٍ إلى أدلة أوضح. وتتفاوت المصادر فيما تتضمنه من أخبار عنها تفاوتاً كبيراً، ومرد ذلك فيما يبدو إلى أمرين؛ أحدهما: طبيعة صلات حلب بالأقوام المجاورة التي تمثّلها تلك المصادر، والآخر: ارتفاع مكانة حلب أو انخفاضها من حينٍ إلى حين، لأن وفرة الأخبار عنها أو قلتها تتناسب طرداً وعكساً مع هذه المكانة؛ فإذا ازدهرتْ امتدت رقعتها من البحر المتوسط غرباً إلى تخوم ماري (تل الحريري شمالي البوكمال) على الفرات شرقاً، وإذا ضعفتْ ضاقت فلا تتجاوز حدودها المدينة نفسها. فلعل هذين العاملين هما اللذان جعلا أرشيفي ماري وألالاخ[ر] ( تل عطشانة) حافلين بالأخبار عن حلب؛ في حين اكتفت المصادر المصرية والآشورية بذكرها ذكراً عابراً في إطار وصف سير الحملات الحربية، وجاء ذكرها في المصادر الأخرى كالأوغاريتية والآرامية مرتبطاً إمّا بأسماء أشخاص منسوبين إليها وإمّا بإلهها الأكبر إله الطقس المعروف باسم هدد Hadad، فقد انتشرت عبادة هدد - وكانت حلب مركز عبادته منذ مطلع الألف الثاني ق.م - في سورية وفي شمالي بلاد الرافدين، وإنْ لحق اسمه بعضُ التغيير فهو- مثلاً- Had في الأوغاريتية، و Adad أو Addu Adda في الأكادية.

منظر عام لمدينة حلب

يبدو أن أول ذكر مؤكّد لحلب في كتابات الشرق القديم يرجع إلى أوائل القرن الثامن عشر ق.م، وكانت حينذاك عاصمة دولةٍ تُدعى يمخض Yamhad ؛ إذ ورد هذا الاسم بصيغة Ia–am–ha–ad (بالخاء المعجمة والدّال المهملة) مراراً في البابلية القديمة في نصوص من أرشيف ماري، حيث يُعرّبها معظم الباحثين العرب بصيغة يمحاض وبعضهم بصيغة يمخد من دون بيانٍ لاشتقاقهما أو دلالتهما، والأرجح أنّ الصيغة المسماريّة تقابل يَمْخَض في العربية من الجذر مخض، الذي يناظر şmh في اللغات الساميّة. ويرجع أقدم شواهده إلى عهد ملك ماري يخدون لِم Yahdun-lim (١٨٢٥ - ١٨١٠ ق.م)؛ فقد ورد في وثيقة تأسيس معبد الشمس في ماري؛ إذ ذكرتْ أن ثلاثة من الملوك ثاروا على يخدون لم يؤازرهم جيش سُمو إببوخ Sumu-epuh من بلاد يمخض mat Iamhadki فقهرهم هم وجيوشهم وكذلك الجيش الذي أتى لمؤازرتهم. فلمّا قُتل يخدون لِم في قصره اجتاحها جند شمشي أدد الأول ملك آشور (١٨١٤- ١٧٨٢ق.م ) الذي عيّن ابنه الأصغر يسمخ أدد Yasmah-Adad نائباً له في ماري. وأدّت تلك الأحداث إلى هرب زمري لِم Zimri - lim وليّ عهد ملك ماري إلى حلب عاصمة مملكة يمخض لائذاً بملكها يارم - لِم Yarim- lim الأول (١٧٨١-١٧٦٥ق.م). ولمْ يمض وقت طويل حتى استطاع زمري لِم استعادة الحكم في ماري بمساعدة ملك حلب المذكور، فتزوّج ابنته وصار حليفاً له. وتلا ذلك عقد معاهدة بين يارم - لِم الأول وأموت بيل Amut-piel ملك قطنا [ر]Qatna (تلّ المشرفة) لإحلال السلام بين المملكتين المتنافستين ، وربما تم ذلك بوساطة زمري - لِم . وورد ذكر يمخض غير مرّة في نصوص أخرى من عهد زمري - لِم (١٧٨٢ -١٧٥٩ ق.م) ، ومن شواهده رسالة أَرسلَ بها قائدٌ يُدعى Itur-Asdu مخاطباً سيّده ملك ماري بقوله: «لا أحد من الملوك قويّ بنفسه، فأتباع حمورابي ملك بابل عشرة من الملوك أو خمسة عشر»، ثم يقول: «أما أتباع يارم - لِم ملك يمخض فهم عشرون ملكاً». وظلت العلاقات حسنةً بين ماري ويمخض في عهد خليفة يارم - لم وهو ابنه حمورابي Hammmu-rapi الأول حيث ساندا كلاهما الملك البابلي حمورابي (١٧٩٢-١٧٥٠ق.م) في القضاء على إشنونا وعيلام؛ إذ يذكر نصٌ من ماري- وهو رسالةٌ من ملكها زمري لِم إلى ملك بابل - أنّ حمورابي أرسل لهذا الغرض عشرة آلاف مقاتل إلى بابل. ووردت أسماء بعض ملوك هذه الدولة بعد سقوط ماري بيد حمورابي ملك بابل عام ١٧٦٠ق.م في وثائق أرشيف آلالاخ المبكّرة - أي من الطبقة السابعة - المكتوبة بالبابلية القديمة أيضاً، وأولهم أبَّا-إل Ab-ba-el – وهو ابن حمورابي الأول – الذي عيّن أخاه يارم - لِم حاكماً على ألالاخ، وسيطر على كركميش [ر] (جرابلس) وإيمار [ر] (مسكنة) أيضاً، وخلفه ابنه يارم - لِم الثاني فنقميباNiqmepa ، فإركابتوIrkabtu - وكلٌّ منهم ابنٌ لِمَن سبقه - ، فيارم - لِم الثالث- الذي لايُعرفُ: أهو ابنُ إركابتو أم هو أخوه- فابنه حمورابي الثاني؛ وفي عهده – أيْ في منتصف القرن السابع عشر ق.م -حدث التدخل الحثّي في شمالي سورية؛ فقضى الحثيّون على الدولة البابلية الأولى، وحاول ملكهم حاتوسيلس الأول HattuŠili الاستيلاء على حلب mat Halabki، ولكنه أخفق. غير أن خلفه مورسيليس MurŠili الأول تمكّن عام ١٥٩٤ ق.م من اجتياح حلب وإنهاء استقلالها. وقد عُثر عام ١٩٠٦ في موقع العاصمة الحثيّة حاتوشا Hattuša(بوغازكوي [ر]) على محفوظاتٍ ملكية مكتوبة بالأكادية والحثيّة تتحدث عن أعمال الملك الحثي حاتوسيليس الأول وحملاته على شمالي سورية، ويظهر أنه نقل تمثال هدد إله الطقس الحلبي إلى عاصمته فظلّ معبوداً عند الحثيِّين حتى نهاية دولتهم.

منظر لمدينة حلب القديمة من القلعة

ثم استطاعت حلب أن تتخلّص من الحكم الحثّي بعد فترة وجيزة، وعُرِفَ من ملوكها شاراإل Šarrael و أباإل Abbael. وتعاقب على حكم حلب بعد ذلك أو بسط النفوذ عليها الحثَيون والميتانيون- الحوريّون، فتكون الغلبة لهؤلاء تارةً أو تكون لأولئك تارةً أخرى.

واجهة متحف حلب

وقد سقطت حلب في يد حكام دولة ميتاني الحوريّة إثر تمردٍ في نهاية عهد إيليم إليمَّا Ilimilimma آخر ملوكها أنهى حكمه وأجبر أبناءه على الفرار إلى إيمار Emar (مسكنة) ، فلما عاد أحدهم وهو إدريمي[ر] Idrimi بعد سنواتٍ سبع قضاها في المنفى أعلن تبعيته للملك الحوري باراترنا Barattarna، واتخذ ألالاخ بدلاً من حلب مقراً له. وقد ورد اسم حلب في نصوص نوزي (يورغان تبه قرب كركوك ) - المكتوبة بلهجة أكادية – أيضاً مقترناً باللاحقة الوصفية في الحورية وصفاً لإله الطقس dIŠKUR Halbahe ، ولم تنقص مكانة آلهة حلب أيام الميتانيِّين حيث أطلق على أدد اسم تيشوب الحلبي وعلى عشتار اسم خيبات الحلبية. وانتهى الأمر إلى اسيتلاء الملك الحثّي شوبيلوليوما الأول Šuppiluliuma (١٣٨٠-١٣٤٦ق.م) عليها ضمن الممالك التي اجتاحها في حملته الكبرى على سورية، ومنها أوغاريت وألالاخ، فعين ابنه تيليبينو Telipinu كاهناً لإله الطقس باسمه الحوري الميتاني تيشوب Tešubub ثم نائباً له في حلب.

معبد أدد في قلعة حلب

وهكذا وردت أسماء حكّامها المتأخّرين في النصوص المسمارية من عاصمة الحثيِّين حاتوشا- من دون ذكرٍ لاسم الدولة نفسها يمخض- في ثنايا الحديث عن الهجمات على شمالي سورية مما أدّى إلى القضاء على هذه المملكة. وتتضمن معاهدة بيّنتْ طبيعة العلاقات بين الدولة الحثية وحلب في عهد مورسيليس الثاني (١٣٤٩-١٣٢٠ ق.م)؛ تثبيت نائبه فيها تلمي - شروما Talmi-Šarruma الذي خلف في هذا المنصب أباه تليبينو بن شوبيلوليوما الأول. كما يتحدث نقش حثي هيروغليفي عُثر عليه في جدار مسجدٍ في حي العقبة بحلب؛ عن بناء تلمي - شروما ملك حلب معبداً فيها لبعض الآلهة. وذُكرتْ حلب كذلك في معاهدتين لمورسيليس الثاني Mursilis II، إحداهما : مع دُبي تيشوب Duppi-TeŠŠub الأموري، والأخرى مع نقميبا الأوغاريتي.

منحوتات أدد إله العاصفة في قلعة حلب

وليس ثمة دليل قاطع على أن حملات تحوتمس [ر] الثالث (١٤٩٠-١٤٣٦ق.م) العسكرية، ثم رعمسيس [ر]الثاني (١٢٧٩-١٢١٢) استطاعت إدخال حلب تحت السيادة المصرية، كما خلتْ رسائل العمارنة - خلافاً لما يراه بعض الباحثين - من ذكرها تماماً.

منحوتة الإله أدد

ولمْ يُكتشف من آثار حلب في تلك العهود المتعاقبة - لنُدرة التنقيبات الأثريّة فيها- شيء من قصورها ومعابدها وتماثيلها وأسواقها، ماعدا معبداً يضم اثنتي عشرة حجرة، والذي يعود إلى العصر البرونزي القديم الرابع (EB IV) اكتشفه أنطون سليمان في موقع الأنصاري في المدينة، ومعبداً آخر لإله الطقس في التلّ الذي تعلوه القلعة اكتشفه ونقّب فيه كاي كوهلماير K.Kohlmeyer أواخر القرن العشرين، ويضمّ قاعةً كبرى في صدرها محراب، وأمامها قاعة مكشوفة نحو الخارج، ويتألف الجانب الداخلي من جدار المعبد من سلسلة أنصابٍ عالية من الحجر الكلسيّ، وقد نُحتت عليه أشكال تمثل إله الطقس وآلهةً أخرى وأشخاصاً وحيوانات. وكان هذا النمط من المعابد شائعاً في شمالي سورية في النصف الأول من الألف الثالث ق.م كالمعبد المكتشف في إيبلا. والظاهر أنّ السبر الذي أجراه قبل ذلك بعقود بلوا دو روترو G.Ploix de Rotrou سنة ١٩٢٩ كان في الموقع نفسه، وذكر حينذاك أنه اكتشف جزءاً من جدارٍ حثّيٍ ضخم يرتفع ستة أمتار عن مستوى الأرض الحالي، ورجّح أن يكون جزءاً من قصرٍ أو معبد. وعُثر هناك على حجرٍ بازلتي يحمل كتابةً مسمارية تعود إلى مطلع الألف الثاني ق.م، تضمّن القسمُ الباقي منها- الذي نشره حميدو حمادة عام ١٩٩٩- اسمَيْ الإلهين دجان Dagan و نرجال Nergal.

تنقيبات أثرية في قلعة حلب 

فلمّا جاءت فترة ما يسمى غزوات شعوب البحر التي تزامنت مع بداية العصر الحديدي مطلع القرن ١٢ ق.م انقطعت أخبار حلب قروناً، كما أن حوليات الملك الآشوري تجلات بلاصر [ر] الأول (١١١٥-١٠٧٦ق.م) - مع أنها تشير إلى بلوغ إحدى حملاته البحر المتوسط- تغفل ذكرها.

تنقيبات البعثة الألمانية في قلعة حلب

ويبدو أن دولة بيت أجوش [ر] Bit AguŠi الآرامية حلّت محلّ حلب منذ مطلع القرن التاسع ق.م، وكانت عاصمة تلك الدولة تدعى أرفادArpad ( تل رفعت) على بعد نحو ٣٠كم إلى الشمال من حلب. ومن آثار هذا العهد حجرٌ بازلتيّ نُحتَ عليه صورة جنّيَّيْن مُجنّحَيْن، عُثر عليه في القلعة، وتمثالٌ بازلتيٌ لأحد الأعيان من موقع عين التلّ شمالي حلب، وكلاهما من القرن التاسع ق.م، ونُصبان بازلتيان نُحت على كلٍّ منهما صورة كاهنٍ، يحملان نقشين آراميّين من القرن السابع ق.م من النيرب شرقي حلب. ولم يرد ذكرٌ لحلب ضمن المدن التي اجتاحها ملوك الدولة الآشورية الحديثة، ولكن أرفاد هذه خضعت للآشوريِّين عام ٧٤٠ ق.م، أي في عهد تجلات بلاصر الثالث (٧٤٥- ٧٢٧ ق.م)، وغدت حلب فيما يبدو تابعةً لولاية أرفاد Arpaddu الآشورية. ولا يوجد كذلك ذكر لحلب في سياق الحملات المتتالية لملوك الدولة البابلية الحديثة، والظاهر أنها خضعت لنبوخذ نصر [ر] الثاني (٦٠٥-٥٦٢ ق.م) في إحدى حملاته على سورية، والتي انتهت ببسط السيادة البابلية على مناطق واسعة منها، وترجع إلى هذه الفترة مسلّة حجَريّةً اكتشفها كولدوي R.Koldeway عام ١٨٩٩ في بابل، قيل إنها حُملت إليها من حلب لأنّ صورة إله الطقس الحلبيّ منحوتة عليها.

وليس تاريخ حلب في زمن الامبراطورية الفارسية الأخمينية (٥٣٩- ٣٣١ ق.م) أكثر وضوحاً، فلا تُعرف منه في هذا الزمن الطويل سوى أنّ الولاية الخامسة في النظام الإداري - وهي ولاية ماوراء النهر- كانت تشمل سورية الطبيعية كلها؛ مما يعني أنّ حلب كانت إحدى مدنها، ولكنها لاترد ضمن أسماء المقاطعات التي تضمها تلك الولاية.

وهكذا تبين أنّ حلب- مدينةً ودولةً – كانت في العصور التاريخية القديمة ملتقى الحضارات الكبرى في المشرق، وهي حضارات مصر وبلاد الرافدين وآسيا الصغرى، كما كانت منذ القرن الثامن عشر ق.م مركزاً اقتصاديّاً ودينيّاً وسياسياً مهماً في شمالي سورية. ولعلّ ما تكشف عنه التنقيبات في حلب نفسها من آثارٍ وكتابات يُسهم في جلاء ما غمض من تاريخها واكتمال ما عُرف من حضارتها.

رفعت هزيم

 

التصنيف : العصور التاريخية
المجلد: المجلد الخامس
رقم الصفحة ضمن المجلد :
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 581
الكل : 31233646
اليوم : 58803