التوقيعات
توقيعات
Tawqi'at - Tawqi'at
التوقيعات
التوقيعات
التوقيعات هي ما يوقّع به الخليفة أو الوزير أو الوالي أو السلطان أو صاحب ديوان الإنشاء على ما يُرفَع إليه من الرسائل المتضمنة للاستشارة أو الشكوى أو التظلّم أو العتاب، وميزتها الجمع بين قوة الفكرة وإيجاز الأسلوب وجمال العبارة، وقد تكون من فصيح القول كالآيات، وبليغ الأحاديث، والحِكَم، كما يمكن أن تكون بيتاً من الشعر يحكي المناسبة المطروحة.
جاء في لسان العرب: «أن التوقيع في الكتاب إلحاق شيء فيه بعد الفراغ منه، وقيل هو مشتق من التوقيع الذي هو مخالفة الثاني للأول، وقال الأزهري: توقيع الكاتب في الكِتاب المكتوب أن يحمل بين تضاعيف سطوره مقاصد الحاجة، ويحذف الفضول، وهو مأخوذ من توقيع الدَبَر ظهر البعير، فكأن الموقِّع في الكتاب يؤثر في الأمر الذي كُتب الكتاب فيه مما يؤكده ويوجبه، والتوقيع ما يوضَع في الكتاب».
وأوَّل صورة واضحة لمفهوم التوقيع نجدها في كتاب «صبح الأعشى» للقلقشندي الذي قال تحت عنوان (ما يَتَصَرَّف فيه صاحب هذا الديوان بتدبيره ويُصرِّفه بقلمه التوقيع والتعيين): «أمَّا التوقيع فهو الكتابة على الرقاع والقصص مما يعتمده الكاتب من أمر الولايات والمكاتبات في الأمور المتعلقة بالمملكة، والتحدَّث في المظالم،... واعلم أن التوقيع كان يتولاه في ابتداء الأمر الخلفاءُ، فكان الخليفة هو الذي يوقِّع في الأمور السلطانية وفصل المظالم وغيرهما». وعاد القلقشندي ففصَّل مفهوم التوقيع في عصره، فنقل عن ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكُتّاب: «أنّ التوقيع معناه في اللغة: التأثير الخفيف، وفي اصطلاح الأقدمين من الكُتّاب أنه اسمٌ لما يُكتَب في حواشي القصص كخط الخليفة أو الوزير في الزمن المتقدِّم، وخط كاتب السر الآن، ثم غلب حتى صار عَلَماً على نوعٍ مما يُكتَب في الولايات وغيرها». وقال الكُلاعي عن أسلوب التوقيع: «وهذا النوع من الكلام ممّا عدلوا فيه عن التطويل والتكرار إلى الإيجاز والاختصار».
عُرِفت التوقيعات منذ أن عُرِف للعرب حكومة واسعة، فيها رعية لها قضايا كثيرة، وجمع ابن عبد ربه في كتابه «العقد الفريد» طائفة غير يسيرة من التوقيعات، بدأها بتوقيع عمر بن الخطاب[ر] في أسفل كتاب كتبه له سعد بن أبي وقاص يستشيره في بنيانٍ يبنيه، فوقَّع عمر: «ابْنِ ما يُكِنّكَ من الهواجر، وأذى المطر». كما وقَّع لعمرو بن العاص: «كُنْ لرعيتكَ كما تحب أن يكون لك أميرك». كما أورد ابن عبد ربه توقيعات لعثمان وعلي، فمن توقيعات علي توقيعه المشهور لصعصعة بن صوحان يسأله في شيء: «قيمة كل امرئ ما يحسن»، ووقَّع في كتاب جاءه من الأشتر النخعي فيه بعض ما يكره: «مَن لك بأخيك كله». كما أردف هذه التوقيعات بتوقيعاتٍ لبعض الخلفاء الأمويين كمعاوية وعمر بن عبد العزيز الذي كتب بعض عماله إليه يستأذنه في مرمّة مدينته، فوقَّع أسفل كتابه: «ابنها بالعدل، ونَقِّ طرقها من الظلم». أما يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فلما كاتبه مروان بن محمد وقَّع في أسفل كتابه: «أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت».
وازدهر فن التوقيعات في زمن العباسيين، فمن توقيعات أبي جعفر المنصور، وتوقيعاته كثيرة، ما وقَّع به إلى عامله على حمص، وجاء منه كتاب فيه خطأ، وقَّع أبو جعفر فقال: «استبدِل بكاتبكَ وإلا استُبدل بك». ومن توقيعات المهدي ما وقَّع به لشاعر قال: «أسرفتَ في مديحك فقصّرنا في حِبائك». أما هارون الرشيد فقد وقَّع إلى صاحب خراسان: «داوِ جرحك لا يتسع»، ووقَّع في قصة رجل من البرامكة: «أنبتته الطاعة، وحصدتْه المعصية». ونختم توقيعات العباسيين بتوقيع للمأمون كتب به إلى الرستمي في قصة من تظلم منه: «ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة، وغريمك خاوٍ، وجارك طاوٍ»، وأورد ابن عبد ربه نماذج كثيرة من توقيعات الأمراء والكبراء ولم ينس أن يورد بعض توقيعات العجم، وألحقها بتوقيعات ذات أغراض متفرقة كالمودة والعتاب والتنصّل والشكر والمدح والوفاء والأدب وغيرها. والمطلِّع على هذه التوقيعات يجد أسلوبها متميزاً بتكثيف الفكرة في صورة من الإيجاز البليغ، هذا الإيجاز الذي جعل كبار كتّاب العصر العباسي يوصون عامّة الكتَّاب والمنشئين باتباع هذه الأنماط من الأساليب المكثفة، لذلك قال جعفر بن يحيى: «إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا».غير أنه بعد انقضاء الدولة العباسية تغيَّر المفهوم العام للتواقيع، وغدا المصطلح أكثر شمولاً، وتوضح في دوائر دولة المماليك والدول التي تشعبت عن الدولة العباسية.
والمتصفِّح لتاريخ الأدب العربي، ولاسيما الفنون النثرية يجد فنّ التوقيعات قد اندثر وحلَّت محله، بفعل تطور الزمان وتطور الأساليب معه، صيغ من التوقيعات تختلف عن المفهوم الذي عرفناه سابقاً، فلم تعد التوقيعات بالإيجاز والبلاغة اللتين عرفناهما، وإنما طالت الصياغات وصارت لها رسوم معينة وعبارات محفوظة، بل غدت تُكتب على نوع من الورق خاص، وصار لها كُتَّابها الذين يتفننّون في كتابتها بحسب المرسِل والمتلقي.
محمود الربداوي
الموضوعات ذات الصلة: |
الأدب العربي (في العصرين الأموي والعباسي).
مراجع للاستزادة: |
ـ الحلبي، حسن التوسل في صناعة الترسل (بغداد 1980).
ـ القلقشندي، صبح الأعشى، دار الكتب العلمية، (بيروت).
ـ محمد كرد علي، أمراء البيان، لجنة التأليف والترجمة والنشر (القاهرة 1355هـ/1937م).
ـ شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر، دار المعارف (القاهرة).
- التصنيف : التاريخ - المجلد : المجلد السابع، طبعة 2003، دمشق - رقم الصفحة ضمن المجلد : 165 مشاركة :