ابن المقفع (عبد الله-)
مقفع (عبد الله)
Ibn al-Muqafa’ (Abdullah-) - Ibn al-Muqafa’ (Abdullah-)
ابـن المقفـع (عبدالله ـ)
(106 ـ 142هـ/724 ـ 759م)
اسمه في الأصل رُوزْبه بن داذُويه ، وكنيته أبو عمرو. وكان مجوسياً (مزدكياً) فلما أسلم تسمى بعبد الله، وتكنّى بأبي محمد.
وهو فارسي الأصل، من أئمة الكتاب، وأول من عُني في الإسلام بترجمة كتب المنطق.
ويعدّ من مخضرمي الدولتين : الأموية والعباسية، فالمرحلة الأموية من حياته دامت نحواً من خمس وعشرين سنة، وهي مرحلة التحصيل والتأمل والمراقبة، والمرحلة العباسية دامت نحواً من عشر سنوات، وهي مرحلة الإنتاج الفكري.
ولد على الأرجح في مدينة «جور» ببلاد فارس، وهي «فيروز أباد» الحالية. وقيل: ولد بالبصرة.
أما أبوه فلُقّب بالمقفع - بفتح الفاء المشددة- لأنه كان يتولى خراج فارس للحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق، فاحتجن شيئاً من مال الدولة فضربه الحجاج ضرباً تقفعت منه يده أي تشنجت.
وقيل هو «المقفِّع» بكسر الفاء المشددة، لعمله القفاع وهي شبيهة بالزنبيل بلا عروة، وتُعمل من الخوص. والأول هو المشهور بين العلماء.
نشأ عبد الله أول أمره في فارس مجوسياً فتثقف بالثقافة الفارسية وبرع بلغتها الفهلوية (أي الفارسية القديمة) واستفاد من أبيه شيئاً كثيراً؛ لأن أباه كان من عمال الخراج وكتّاب الدواوين الذين كانوا خير من يمثل الثقافة الفارسية.
ثم ارتحل إلى البصرة، وكانت يومئذٍ عامرة بحلقات العلم والأدب واللغة والشعر، وفيها سوق المربد التي كانت ما تزال في أوج ازدهارها، وكونها أعظم مركز للثقافة العربية الإسلامية عصرئذٍ، كما كانت ملاذاً لعلماء اللغة والفقه والحديث، وملتقى رجال اللغة والرواة الفصحاء من الأعراب. فأخذ ابن المقفع يتردد على مجالس المربد، ويخالط أصحابها، كما اتصل ببني الأهتم مواليه، وكانوا معروفين بالفصاحة واللَّّسن والشعر والخطابة. فكان في ذلك كله سرّ براعته في العربية، وإحاطته بأسرارها وأساليبها وبذلك جمع بين الثقافتين: الفارسية والعربية وأتيح له أن يُدخل عناصر جديدة في الأدب العربي.
ولا شك أن ابن المقفع درس ما كان يدرسه طالب العلم العربيُّ في عصره من قرآن كريم، وحديث شريف، وشعر وأدب، ولا سيما خطب الإمام علي بن أبي طالب وأقواله، يضاف إلى ذلك معرفته المبكرة بصديقه عبد الحميد ابن يحيى الكاتب، فقد اقتبس كل واحد من صاحبه خصائص كانت لقاحاً لكتابته.
وأول ما يُعرف من حياة ابن المقفع العملية أنه ولي الكتابة لداود بن عمر ابن هبيرة في الدولة الأموية. ولما جاءت الدولة العباسية اتّصل بأعمام الخليفـة أبي جعفـر المنصور، كعيسى بن علي (ت164هـ) ، وعلى يديه أسلم ابن المقفع، ثم اتصل بأخيه سليمان بن علي (ت142هـ) أمير البصرة والبحرين وعُمان.
ويقال أيضاً إن ابن المقفع ولي كتابة الديوان لأبي جعفر المنصور نفسِه وترجم له «كتب أرسطوطاليس» الثلاثة في المنطق، وكتاب «المدخل إلى علم المنطق» المعروف بإيساغوجي.
ولم تطل حياة ابن المقفع، التي انتهت بالقتل. واختُلف في تحديد سنة مصرعه ما بين 142ـ143ـ 144ـ145هـ. والأولى هي الراجحة عند الأكثرين.
وقد أجمع المؤرخون على أن الذي قتل ابن المقفع، هو سفيان بن معاوية المهلبي والي البصرة على عهد أبي جعفر المنصور الذي عزل عمه سليمان ابن علي عنها وولّى مكانه سفيان.
على أنهم اختلفوا في سبب قتل سفيان لابن المقفع فقيل إنه لما امتنع عم المنصور، عبد الله بن علي عن بيعته طلبه فلجأ إلى أخيه سليمان بن علي عامل البصرة للمنصور. ولما عزل المنصور سليمان وولى مكانه سفيان بن معاوية طلب عبد الله الأمان من المنصور فأمّنه.
وكان الذي تولى كتابة الأمان ابن المقفع نفسه الذي أغلظ فيه العهود والمواثيق، وتشدّد على المنصور إذا غدر بعمه عبد الله، ، وكان مما فيه: «فإن أنا فعلت أو دسست فالمسلمون براء من بيعتي، وفي حلّ من الأيمان والعهود التي أخذتُها عليهم»؛ فكان ذلك سبب غضب المنصور على ابن المقفع، ويقال إنه كتب إلى سفيان بن معاوية بقتله خفْية.
وقيل أيضاً: إن ابن المقفع كان يلجأ إلى الوقيعة بسفيان ويستخفّ به مستهزئاً، فلذلك قتله، متهماً إياه بالزندقة وأنه أفسد الناس، ومنتهزاً في الوقت نفسه فرصة فتك المنصور بالزنادقة.
ولم يستبعد طه حسين أن يكون سبب قتل ابن المقفع هو تلك الرسالة التي وجهها إلى أبي جعفر المنصور ودعيت «رسالة الصحابة» لأنها توشك أن تكون برنامج ثورة وتمرّد .
أما عقيدة ابن المقفع فلم يرد نصّ في حقيقتها، ومن ثم اختلفت الآراء فيها على ثلاثة:
1- فريق ذهب إلى أن ابن المقفع كان مؤمناً مسلماً صادق الإسلام، وليس في كتبه كلّها ما يشعر بزندقته.
2- وذهب فريق آخر إلى أنه كان زنديقاً ملحداً، أظهر الإسلام، وأبطن الإلحاد، وأن إظهاره للإسلام كان رغبة في جاه يحصّله في الدولة العباسية، أو غرضٍ معاشيّ أو سياسيّ.
3- وأحجم آخرون عن الخوض في هذه المشكلة التي يصعب الوصول فيها إلى أمر يقينيّ لأن من المتعذر جداً الحكم على ما يعتقد الناس أو يبطنون.
عرف ابن المقفع بأخلاقه الرفيعة وأدبه الجمّ، وآثاره نفسها أصدق دليل على ذلك، فهو يتحدث فيها عن الأخلاق تحدُّث المتخلّق بها، وهي مملوءة بمايدل على جانب عظيم من حسن الأدب ونُبل النفس. وقد سئل مرةً: من أدّبك؟ فقال: «نفسي، إذا رأيت حسناً أتيتُه، وإن رأيت قبيحاً أبَيْتُه».
وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: «ما رأيت مثله، وعلمه أكثر من عقله».
وكان ابن المقفع في سائر أحواله عفيف النفس، قليل الاختلاط بالناس، إلا نفراً اصطفاهم لنفسه.
وعرف بالإخلاص لأصدقائه، آية ذلك قصته مع صديقه عبد الحميد ابن يحيى الكاتب، فإنه لما قتل مروان ابن محمد آخر خلفاء بني أمية اختفى كاتبه عبد الحميد عند ابن المقفع وفاجأهما الطلب وهما في بيت واحد. ولما سألوهما: أيكما عبد الحميد؟ قال كل منهما: أنا، خوفاً على صاحبه. لكن عُرف عبد الحميد بأمارات به، فأُخذ وقُتل.
كان ابن المقفع أمّة في البلاغة وإجادة القول، في لفظ سهل وأسلوب رشيق. ولا توصف بلاغته بأجمل مما وصف هو البلاغة به حيث قال: «هي التي إذا سمعها الجاهل ظنّ أنه يحسن مثلها».
وكان الجاحظ يظهر إعجابه بأدب ابن المقفع فيقول فيه «… وكان مقدماً في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السّير … وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله».
وقد أُعجب الناس بأدب ابن المقفع ونثره إعجاباً عظيماً وقلّده الكتّاب والمنشئون في عصره وبعد عصره، واستظهروا كلامه؛ لما في أسلوبه من حُسن انتقاء المفردات الحلوة في النطق، الخفيفة على السمع، المتباعدة عن ابتذال العامة وإغراب المتشدقين، ولما في هذا الأسلوب أيضاً من سهولة التراكيب وسلامتها من التعقيد، وجمالها كقوله: «إذا كلّمك الوالي فأصغِ لكلامه، ولا تَشغل طرفك عنه بنظرٍ إلى غيره، ولا أطرافك بعمل، ولا قلبك بحديث نفس، واحذر هذه الخصلة من نفسك، وتعاهدها بجهدك».
وعلى الرغم من قصر الحياة التي عاشها ابن المقفع فقد خلّف لنا كتباً ورسائل قيّمة، تشهد له بالنضج العقلي، والعمق الفكري، وكان لها أثر عظيم في أدب الكتّاب وتهذيب أساليب المتأدبين وتعليم الناشئة. وأشهر تلك الآثار:
1- «كليلة ودِمْنة»: هو كتاب من وضع أهل الهند ثم ترجم إلى الفهلوية (الفارسية القديمة) ثم ترجمه ابن المقفع إلى العربية. وقيل إنه كله أو معظمه من وضع ابن المقفع نفسه، وأخفى ذلك لغرضٍ في نفسه، وليصادف رواجاً وإقبالاً.
وهو موضوع على ألسنة الحيوانات، والغاية منه الإصلاح الاجتماعي والسياسي. وقد لقي رواجاً كبيراً وحظي بالخلود حتى نظمه بعضهم شعراً، وألف آخرون على مثاله نثراً وترجم إلى عدة لغات أجنبية.
2- «الأدب الكبير»: والمراد بالأدب هنا أدب النفس. وهذا الكتاب يبحث في السلطان وآدابه، وفي الصداقة ومعاملة الأصدقاء وآدابهم، ويعرض بعض الحكم والنصائح لطالب العلم والأدب.
3- «الأدب الصغير»: سماه بذلك تمييزاً له من «الأدب الكبير» لصغر حجمه، وتحدث فيه عن حاجة العقل إلى الأدب، وتأثير الأدب في إنماء العقول، وحفظ أقوال أهل الرأي والمشورة، والاقتداء بالصالحين، والأخذ عن الحكماء.
4- «رسالة الصحابة»: هي رسالة كتبها ابن المقفع للخليفة المنصور، يذكّره فيها بأحوال رعيته، وما ينبغي أن يوجه نظره إليه بشأن بلاد الخلافة، وبشأن صحابته وأعوانه وجنده، ودراسة أحوالهم وتنظيمها.
وخلاصة القول أن ابن المقفع كان رجل فلسفة وسياسة واجتماع، كما كان رجل العقل، والإمام الضليع من أئمة النثر الفني عند العرب.
محمود فاخوري
مراجع للاستزادة: |
ـ خليل مردم، ابن المقفع (دمشق 1930م).
ـ عبد اللطيف حمزة، ابن المقفع (القاهرة 1941م).
ـ محمد كرد علي، أمراء البيان (القاهرة 1937م).
ـ محمد سليم الجندي، عبد الله بن المقفع (دمشق 1355هـ).
ـ طه حسين، من حديث الشعر والنثر (القاهرة 1936م).
- التصنيف : اللغة العربية والأدب العربي - النوع : أعلام ومشاهير - المجلد : المجلد التاسع عشر - رقم الصفحة ضمن المجلد : 276 مشاركة :