logo

logo

logo

logo

logo

البنيوية وما بعد البنيوية

بنيويه وما بعد بنيويه

Structuralism and poststructuralism - Structuralisme et post-structuralisme

البنيوية وما بعد البنيوية

 

البنيوية Le structuralisme تيار فكري انبثق في أوربة في بداية القرن العشرين، وبلغ أوج ازدهاره في ستينات القرن العشرين، وشمل العلوم والفنون والآداب واللغة.

وأساس هذا التيار نظرية مفادها، أن العالم لا يتألف من عناصر أو وحدات ذات وجود مستقل أو منفرد، وإنما من وحدات توجد ضمن بنية أو نسق عام يضبط علاقاتها المتبادلة لتكتسب معنى وقيمة، إضافة إلى خاصيتها الفردية. وتفقد هذه الوحدات معانيها وأهميتها خارج إطار هذا النسق أو البنية. ولا يبحث البنيويون في خصائص الوحدات والأجزاء أو محتواها، وإنما في علاقة الأجزاء فيما بينها بقصد الكشف عن وحدة العمل الكلية أو النسق. وتعتمد هذه النظرية التي طبقت في جميع المجالات، وخاصة في العلوم الإنسانية والفيزيائية، على ثلاث مقولات رئيسية هي: الكلية والتحول والضبط الذاتي. والكلية نظام شامل من العلاقات المتبادلة بين جميع الوحدات التي تنتمي إليه، وتستمد منه معناها وقيمتها. فاللغة بنية كليّة، أو نسق من العلاقات الدلالية والصرفية والنحوية، يحدد معاني الكلمات ووظائفها. فكلمة mouse، وهي وحدة في بنية اللغة الإنكليزية الكليّة، تعني «فأراً» في هذه اللغة وحدها، بمقارنتها بالكلمات التي تنتمي إلى المجموعة الوظيفية ذاتها، كالكلب والبقرة والقطة؛ فإذا أخرجت من هذه البنية تفقد هذا المعنى، ما لم يكن لها معنى آخر في نسق لغوي آخر، إذا كان صوتها يوحي بهذا المعنى؛ وهذا نادر، ولا يكون إلا مصادفة.

أما التحول فهو نظام تتمتع به البنية، على ثباتها، ليساعد في إيجاد معاني وتركيبات متجددة دائماً، لكن ضمن قواعدها الثابتة والضبط الذاتي لكل وحدة فيها. فمثلاً إن أي كلمة في اللغة لها وظيفة ثابتة ضمن البنية الكلية، كأن تكون اسماً، أو فعلاً أو نعتاً، ولكن يمكن أن ترد هذه الكلمة في عدة تشكيلات وتركيبات تحول معناها بشرط أن تحافظ على وظيفتها. فكلمة cat في الإنكليزية وهي اسم، ولا يمكن أن تأتي بوظيفة فعل إلا بخرق القانون العام للبنية، ولكنها تأتي في عدة تركيبات. وضمن هذا التحول أيضاً، يمكن لهذه الكلمات أن تكتسب معاني جديدة حسب تبدل العلاقات بعضها ببعض وحسب التغيرات التي تطرأ على استخدام اللغة في مجتمعاتها لتكسبها مدلولات جديدة. وهنا يأتي الضبط الذاتي ليحافظ على وظيفة الوحدات وعلاقتها ببعضها ضمن ضوابط ثابتة داخل النسق العام.

البنيوية في اللغة

يعد اللغوي السويسري فرديناند دي سوسور[ر] F. de Saussur واضع الأسس العملية للبنيوية الألسنية. ففي «محاضرات في الألسنية العامة» (1915) Cours de linguistique générale  ميز دي سوسور اختلافاً بين ثلاثة مستويات داخل النشاط اللغوي: اللسان Langue وهو المظهر الأوسع للنشاط اللغوي لأنه يشمل المقدرة الإنسانية على الكلام؛ واللغة Language وهي نظام يستخدمه الناس لتوليد المحادثة؛ والكلام Parole وهو الشكل الفردي الخاص في استعمال اللغة. ويعد تعريف دي سوسور للّغة بأنها «نظام لا يعرف إلا ترتيبه الخاص» أول توصيف للّغة كبنية. وقد وضع دي سوسور مجموعة من الأدوات المفهومية أسهمت في وصف ذاك النظام، وكان لها الأثر الكبير في تطوير المنهج البنيوي بوجه عام.

 1ـ التزامن synchronie والتزمّن diachronie: التزامن هو دراسة حال اللغة والعلاقة بين عناصرها في مرحلة زمنية محددة من دون الاهتمام بتطورها التاريخي، ويقوم على اعتبار اللغة كلاً متماسكاً إلى حد ما. أما التزمّن فهو دراسة اللغة في تطورها من خلال التغيرات التي تطرأ عليها. فالحاجة قائمة في العلوم إذن للتفريق بين محورين: محور أفقي (محور المعيّة) الذي يهتم بالعلاقات القائمة بين عناصر تتواجد في الوقت نفسه، ومحور شاقولي (محور التعاقب)  الذي يهتم بتغير العناصر والعلاقات بينها في أوقات متعاقبة. وقد اهتم دي سوسور بالتزامن لدراسة اللغة، وليس بالتزمن.

2ـ العلاقات التركيبية syntagmatique والعلاقة التبادلية paradigmatique: العلاقات التركيبية هي تلك التي تقيمها وحدة ألسنية ما مع الوحدات الأخرى في المستوى نفسه لتشكل تركيباً (مثل العلاقات التي تقيمها الكلمات لبناء جملة)؛ أما العلاقات التبادلية فهي تلك التي توجد بين وحدات تقوم بالوظيفة نفسها ويمكن إبدالها فيما بينها.

3 ـ العلامة signe: رأى سوسور أن اللغة نظام «علاماتي» وليس منتوجاً تاريخياً، وأعاد تعريف العنصر الرئيس للبنى اللغوية فأطلق عليه تسمية علامة ثم بيّن أن لهذه العلامة ماهية مزدوجة، أي أنها كلٌّ مركب يربط بين صورة سمعية (الدالّ) وتصور ذهني (المدلول)  ولا يسبب أحدهما وجود الآخر، ولكن يعتمدان  على بعضهما في تشكيل علامة تعد عنصراً في بنية اللغة ككل. أما العلاقة التي تربط بينهما فهي علاقة خطية واعتباطية، أي إن اختيار هذه الصورة السمعية حاملاً لذاك التصور الذهني هو أمر مفروض على مستخدمي اللغة نفسها في إطار بنية اللغة التي تسهم في حياة الناس في مجتمعاتهم.

تطورت البنيوية الألسنية تطورا كبيرا بعد دي سوسور، وذلك في ثلاثة مناح أساسية هي:

 1ـ مدرسة براغ[ر]: تركزت التوجهات الأساسية لهذه المدرسة حول المظاهر الصوتية للّغة. وكان من أشهر أقطابها الروسيان نيكولاي تروبتسكوي[ر] N.Trubetskoï ومن أشهر كتبه «مبادئ التصويتية»، ورومان ياكوبسون[ر] R.Jakobson الذي اشتهر إلى جانب دراساته في الألسنية بدراساته في الشعرية La poétique التي شرح فيها نظريته حول العلاقات الديالكتيكية في اللغة وفي اللسان، وعرضها بشكل محدد في دراسته المشتركة مع كلود ليفي شتراوس[ر] C.Levi-Strauss حول قصيدة «الهررة» لبودلير[ر]، وكذلك في كتابه «مسائل في الشعرية» (1973) Questions de poétique وقد كان لشتراوس كبير الأثر في إرساء قواعد التحليل اللغوي.

 2ـ المدرسة الوظيفية الفرنسية: وأهم ممثليها أندريه مارتينيه A.Martinet الذي ركز دراساته على التصويتية في «اقتصاد التغيرات التصويتية» (1955) ، و«مبحث في التصويتية التزمنية» (1955) وعلى مفهوم «التمفصل المزدوج». وإيميل بنفينست[ر] Benveniste في كتابه «مسائل في الألسنية العامة» (1966) Problèmes de linguistique générale.

3ـ  مدرسة كوبنهاغن: وأهم أعلامها لويس يلمسليف  (1899 - 1965) L.Hjelmslev  الذي طوّر مفاهيم دي سوسور وسعى إلى تأسيس علم للدلالة sémiotique قائم على وجود تشابه في بنية الشكل والمضمون.

البنيوية في الأدب

تطورت مناهج التحليل البنيوي في الأدب انطلاقاً من النظرة إلى النص الأدبي كمظهر من مظاهر اللغة، ما يجعل بالإمكان دراسته بوساطة الشبكات أو البنى المستعملة في دراسة اللغة: بنى نحوية، خطابية، صوتية، ليصبح بذلك نسق اللغة نموذجاً للنقد. وقد طبق البنيويون التحليل البنيوي على الأجناس والأشكال والأساليب الأدبية لمعرفة كيف تعمل وكيف تركب ضمن نسق لغوي ذي نظام ثابت ومتغير في الوقت نفسه ضابط النصوص الأدبية، وطبق هذا النظام على بنية  الرواية، ولم يكن التطبيق على المعنى الذي يقدمه النص الأدبي بل على البنية التي يخضع لها النص ليولد المعنى. وذهب البنيويون إلى إظهار العمل الأدبي نموذجاً أو منتجاً يمثل هذه البنية. وكان لدراسة ليفي شتراوس للأسطورة وبنيتها أكبر الأثر في تطوير نظرية النقد البنيوي في الأدب، إذ سلط الضوء على أسطورة أوديب مثلاً، بأن تناولها وقسّمها إلى أحداث صغيرة épisodes mythèmes تتكرر، ويعاد تركيبها وتشكيلها ضمن شبكة ذات بعدين متضادين ليستخرج منها التقابلات المهمة ذات الدلالة التي يُفترض أن الأسطورة تدور حولها، ليس حسب التسلسل الزمني أو التراكم الحدثي وإنما الدلالي البنيوي لها. فأحداث الأسطورة مهما كان عددها تُصنف حسب البنية التي تحكمها إلى أعمدة أربعة تبعاً للمعايير التالية: الإفراط في تقدير صلات القرابة (أوديب يتزوج يوكاستا)، الحط من قدر صلات القرابة (أوديب يقتل أباه)، قتل الوحوش (أوديب يقتل الهولة)، صعوبة الوقوف بانتصاب (لايوس أعسر، لابداكوس أعرج). وهكذا فجميع الأساطير تتبع نظاماً بنيوياً واحداً ولكن تظهر في أشكال متعددة ومتكررة.

وهكذا يوظف النص الأدبي نموذجاً يوضح البُنى والمعايير التي تحكمه، ويعتمد في هذا على مبدأ القطبية الثنائية أو الثنائيات الضدية binary oppositions التي يُبنى على أساسها الإطار الذي يولد المعنى ويُحصر ضمنه مثل: الطبيعة/ الحضارة، الذكر/ الأنثى، الحياة/ الموت، المفتوح/ المغلق، الخير/ الشر.

وقد أسهم ياكوبسون أيضاً في دراسته للنص الأدبي واللغة المستخدمة للكتابة باكتشاف قوانين جديدة تحكم النص، فعارض النظرة السائدة حول معايير الرواية الأدبية التي تقول بأن الرواية الأدبية تتقدم زمنياً من خلال تطور الأحداث فيها، وبأنها لاتخضع لقانون التزامن وإنما التزمن فقط؛ وقدم طرحاً جديداً بأن اللغة الأدبية موجودة في فضاء محدد ترتبط فيه عناصرها ببعضها أفقياً، كما العلاقة بين المركبات والكلمات التي تؤلف جملة؛ وشاقولياً بعلاقة تبادلية تسمح للكلمات التي تنتمي إلى الفئة الوظيفية نفسها بأن تحل محل بعضها في الجملة. فهناك إذاً محور شاقولي يختار فيه الأديب الكلمات ثم يركبها حسب المحور الأفقي في فضاء بنيوي يولد النص الأدبي الروائي الذي تضبطه معايير وقوانين بنية هذا الفضاء. وفقاً لهذا يظهر النص تبعاً لنظامه اللغوي وليس لإرادة المؤلف، وعلى الباحث أن يسبح في فضاء النص ليكشف البنية الحقيقية عن طريق التناص[ر] intertextualité، وما يضعه المؤلف هو نصوص مكتوبة سلفاً لنظام أو نسق للكتابة مسبق الصنع.

  ولقد أجريت أولى المقاربات البنيوية للأدب في روسية. فهناك من جهة دراسة فلاديمير بروب  (1895-1970) V.Propp عن الحكايات الشعبية في روسية: «مورفولوجية الحكايات الشعبية» (1928) Morphology of the Folktale، وفيها يعالج مئة حكاية من الحكايات الشعبية ويدرس كل حكاية على حدة بصفتها بنية متفردة، ليستنتج أن شخصيات الحكايات متغيرة لكن وظائفها «أي ما تفعله الشخصية من وجهة نظر أهميتها في مجرى الحدث» تبقى ثابتة ومحدودة، ونجد من جهة أخرى الدراسات التي كتبت في المدة الممتدة بين 1915 و1930 ولم تعرف في أوربة إلا في الستينات تحت اسم الشكلانية Formalisme الروسية. ومن بين واضعي هذه الدراسات تتميز أسماء توماشفسكي (1890-1957) B.V.Tomasjevski، وآيخنبوم (1886-1959) B.M.Eichenbaum ، وشكلوفسكي (1893ـ) V.V.Chklovski، وتينيانوف (1894-1943) V.V.Tynyanov، وفينوغرادوف (1895-1969) V.V.Vinogradov، كما تدخل في سياق هذه المقاربات كتابات الناقد ميخائيل باختين[ر] M.Bakhtin «فرانسوا رابليه[ر] والثقافة الشعبية إبان النهضة» (1965) ، و«شعرية دستويفسكي» (1929)، و«علم جمال الرواية ونظريتها» (1965)، و«جمالية الإبداع اللغوي» (1979)، و«الماركسية وفلسفة اللغة» (1929). وقد وجدت دراسات بروب ورثة لها في النقد البنيوي الفرنسي لدى كل من الجيرداس جوليان غريماس (1917- 1986) A.J.Greimas وكلود بريمون (1929-) Cl.Bremond  وتزفيتان تودوروف  (1939-) T.Todorov.

 اهتم الناقد الليتواني الأصل غريماس، بوجه خاص، بعلم الدلالة في مؤلفاته «علم الدلالة البنيوي» (1966) و«أبحاث في علم الدلالة» (1970)، و«علم الدلالة والعلوم الاجتماعية» (1976)  فوضع مجموعة من المفاهيم التي تسمح باستشفاف البنية الأساسية للمعنى. وقد نظم هذه المفاهيم في مخطط نمطي قابل للتطبيق على أي نص سردي. وتابع بريمون في «منطق الحكاية» (1973)  الارتباط المنطقي للوظائف التي تتضمنها كل حكاية ليحدد الإمكانات البنيوية لترابط السرد تبعا لمنظومة ارتقاء وانحطاط، مما يسمح له بوضع تصنيف للمقاطع السردية. أما تودوروف فقد استخلص من دراساته للأدب العجائبي في «مدخل إلى الأدب العجائبي» (1970) Introductionla littérature fantastique الهيكلية البدئية العميقة التي تُبنى عليها نصوص هذا الجنس الأدبي.

إلى جانب هذه التصديات البنيوية لقضايا عامة في الأدب هناك مقاربات ترد على ما أخذه نقاد البنيوية على منهجيتها من عدم صلاحيتها لقراءة النصوص الفردية. ومن أهم ما أنتج في هذا المضمار أعمال رولان بارت[ر] R.Barthes مثل دراسته «اس/ زد» (1970) S.Z التي يقدم فيها قراءة نقدية عملية لقصة «العربي» لبلزاك[ر]، ودراسة تزفيتان تودوروف «قواعد ديكاميرون» (1969) Grammaire du Décaméron عن كتاب بوكاتشو[ر]، وجيرار جينيت (1930ـ) G.Genette في الجزء الثالث من كتاب «أشكال 3» (1972) Figures III الذي يقدم فيه دراسة منهجية لرواية «البحث عن الزمن المفقود»A la recherche du temps perdu لمارسيل بروست[ر]، ويعد هذا الكتاب المرجع الأساسي للدراسات السردية. وبهذه المقاربات وصلت البنيوية إلى مرحلة ما بعد البنيوية.

البنيوية في العلوم الإنسانية

سبق نجاح البنيوية في مجالات العلوم الإنسانية نجاحها في مجالي الأدب واللغة وخاصة في علم الإناسة Anthropology، إذ بيّن الإناسي الفرنسي كلود ليفي ـ شتراوس أن الرفع التفصيلي للممارسات الاجتماعية يسمح باستخلاص البنى الخفية التي تحدد هذه الممارسات، وهذا ما أثبته في عديد من كتبه مثل «علم الإناسة البنيوي» (1955) Anthropologie Structurale، «النيئ والمطبوخ» (1964) Le cru et le cuit، «من العسل إلى الرماد» (1966) Du miel aux cendres. ومن المحطات المهمة في مقاربة البنيوية للعلوم الإنسانية أعمال لوي آلتوسير (1918-1990) L.Althusser الذي ينطلق في كتابيه «من أجل ماركس» و«قراءة رأس المال» الصادرين عام 1965 من البنى الاقتصادية والاجتماعية التي يدرسها ماركس في «رأس المال» ليصل إلى نظريته في التطبيق العملي «البراكسيس» Praxis سيرورةً للتحولات المستقلة، وأعمال ميشيل فوكو (1926 - 1984) M.Foucault «الكلمات والأشياء» (1966) Les mots et les choses و«أحفوريات المعرفة» (1969) L’Archéologie du savoir وفيها يرى أنه لتطور العلوم الإنسانية يجب التخلي عن تراكمات الأنظمة الإنسانية التي تدل على انحطاط الإنسان أكثر من رقيه، وعلى جهله أكثر من وعيه، وتدمر هذا الإنسان وما حوله، بسبب الإيديولوجيات التي هي مجرد أوهام وأباطيل يخلقها فتقيده.

ما بعد البنيوية

بدأت البنيوية في الانهيار في أوائل السبعينات من القرن العشرين، وظهر مكانها في فرنسة ما اصطلح على تسميته «ما بعد البنيوية» Post-structuralisme. وكان رولان بارت وجاك ديريدا Jacques Derrida أهم فلاسفتها. وكان بارت قد تحول عن البنيوية إلى ما بعد البنيوية، وانتقل في دراسته من أهمية الكاتب في تركيب النص الأدبي باعتماد معايير وبنى جاهزة الصنع إلى دور قارئ النص في توليد معاني جديدة لا نهاية لها. وجاء هذا في مقالته «موت كاتب» (1968) La mort d’un auteur التي أعلن فيها استقلالية النص وحصانته ضد أي تقييد له بمعايير أو بحدود مضمونة أو بحدود ما قصده الكاتب منه، فيصبح القارئ بهذا هو المنتج للنص ولمعان متجددة فيه. يؤكد بارت في كتابه «متعة النص» (1975) Le plaisir du texte أنه في غياب الكاتب تصبح عملية إيجاد تأويلات للنص عملية عبثية لا نهاية لها، لكنها ممتعة، وتأتي المتعة من امتلاك النص  لإمكانات «اللعب» بالمعاني. ولكن هذا لا يعني تخلياً فوضوياً عن كل القيود، وإنما تفكيكاً déconstruction وهدماً منظمين لإنتاج معان أخرى، وكأن القارئ يعيد كتابة النص، فيصبح منتجاً له وليس مستهلكاً، وهذا أساس المذهب التفكيكي، الذي طوره ديريدا، وهو أساس «مابعد البنيوية».

كان لمقالة ديريدا الشهيرة «البنية والدال واللعب في خطاب العلوم الإنسانية» (1966)  أكبر الأثر في الخطاب ما بعد البنيوي، إذ شكك فيها بأسس البنيوية بقوله: «لكي لا تنهار يجب أن يكون لها مركز خارج هذه البنى»، ووجود هذا المركز يدحض فكرة البنيوية ويظهر تناقضها من الداخل. وهو يرى أن هذا المركز غير ثابت، فمثلاً إذا نظرنا إلى المتضادات الثنائية على أنها الأحجار التي تشكل البنى، نرى أنها تعمل بصورة نسقية هرمية Hiérarchique إذ تسيطر واحدة على الأخرى وتتمايز عنها (مثل ثنائية ذكر/ انثى)، ولكن إذا قلبت علامة التمايز هذه يتولد منطق تفكيكي يهدم البنية ويهز استقرارها ليعيد خلق معان جديدة دائمة التغير.

وإضافة إلى ديريدا كان فوكو[ر] Foucault ولاكان Lacan، في مجال التحليل النفسي، ناشطَين في حركة مابعد البنيوية على الرغم من أنهما كانا في البداية بنيويين، إذ طرح فوكو في كتاباته نظريته بأن أي نظام علاماتي لا يمكن أن يعمل بمعزل عن علاقات السيطرة التي تربط المفاهيم ببعضها L’inconscient، وطرح لاكان أن اللاوعي وليد اللغة وليس العكس.

وفي حين يرى البنيويون أن الإنسان لا يملك وسيلة للوصول إلى الحقيقة إلا عبر اللغة وبنيتها وليس العكس، فإن ما بعد البنيويين يرون أنه من المستحيل الوصول إلى الحقيقة، حتى عبر اللغة، فكل شيء تابع «لميتافيزيقية الوجود» والدال الكلامي مائع يسبح دائماً بعيداً ومتحرراً عن المدلول. وبهذا تصبح اللغة مائعة قابلة «للانزلاق» و«للانسكاب»، والعلامات تتركب عشوائياً، لأنها تملك ديناميكية لا تظهر إلا في النص المكتوب، حيث تعيد تشكيل وخلق معان جديدة ضد المعنى الظاهر، ولاسيما أن النص يبقى بعد موت الكاتب، فيعمل النص ضد ذاته. وهكذا لا يمكن لمعاني الكلمات أن تكون ثابتة، فالكلمات مشوبة بعكوساتها، مثلاً: لا يمكن إدراك «الليل» إلا بالرجوع لمفهوم «النهار». وقلب العلامة بين المتضادات يؤدي إلى عدم استقرار اللغة الذي هو أساس فلسفة «ما بعد البنيوية» التي تركز على قراءة النص ضد نفسه، والبحث عن «لاوحدته» بدل وحدته، وعما كتب فيه في «اللاوعي» بدل الظاهر السطحي.

وقد تأثر ما بعد البنيويين بفلسفة نيتشه[ر] وهايدغر[ر] فرويد[ر] الذين رأوا فقدان «المركز» في عالمنا الفكري، بالمقارنة مع عصر النهضة Renaissance الذي كان الإنسان فيه هو المركز به يقاس كل شيء؛ فإنسان القرن العشرين فقد هذا «المركز» في عملية عدم تمركز Décentralisation، بسبب الأحداث السياسية مثل الحرب العالمية التي كانت نهاية الوهم  بأن أوربة هي مركز الحضارات والثقافات، أو بسبب ثورة الاكتشافات العلمية مثل التوصل إلى نظرية النسبية[ر] Relativité التي قضت على مفهوم أن الوقت والزمان مطلقان مركزيان، أوبسبب الثورة الفكرية والفنية مثل حركة الحداثة[ر] في الفن والأدب التي رفضت الانسجام في الموسيقى والسرد الزمني ووحدة النص في الرواية. ففي العالم ما بعد البنيوي لا يوجد مركزية ثابتة للأشياء ولا نقاط ثابتة مطلقة، فالكون الذي نعيش فيه لا تمركزي ونسبي في طبيعته، وهذا يعطي حرية «اللعب» بخلق مراكز جديدة متغيرة باستمرار إلى مالا نهاية. وهكذا لا توجد حقائق أكيدة، وإنما تفسيرات وتأويلات، لا يمكن لأي منها أن يدعي الصحة  أو السيطرة أو الثبات. ولا يزال هناك جدل كبير حول إذا ما كانت «ما بعد البنيوية» امتداداً للبنيوية أم ثورة عليها، ومع أن ما بعد البنيوية سيطرت وتفوقت على البنيوية إلا أنها يمكن أن تُعد مجرد مراجعة وصياغة جديدة لها.

 

حسان عباس، ريما حكيم

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ جان ماري أوزياس وآخرون، البنيوية، ترجمة ميخائيل مخول (وزارة الثقافة، دمشق 1972) .

ـ جون ستروك، «البنيوية وما بعدها ـ من ليفي شتراوس إلى ديريدا»، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة 206 (الكويت 1996).

ـ روبيرت شولز، البنيوية في الأدب، ترجمة حنا عبود (اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1984).

ـ ليونارد جاكسون، بؤس البنيوية ـ الأدب والنظرية البنيوية، ترجمة ثائر ديب (وزارة الثقافة، دمشق 2001).

ـ وليم راي، المعنى الأدبي ـ من الظاهراتية إلى التفكيكية، ترجمة يوئيل يوسف عزيز (دار المأمون، بغداد 1987).

- JEAN PIAGET, Le Structuralisme, PUF (Paris 1968).

- JEAN-MARIE AUZIAS, Clefs pour le structuralisme, Seghers ( Paris 1971).

- OSWALD DUCROT et autres, Qu‘ est-ce que le structuralisme, Seuil ( Paris1968).

- TERENCE HAWKES, Structuralism and Semiotics ( London, 1997).


التصنيف : الأدب
المجلد: المجلد الخامس
رقم الصفحة ضمن المجلد : 424
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1001
الكل : 58712420
اليوم : 144120

الزراعات (آفات-)

الزراعات (آفات ـ)   الآفة الزراعية، هي كل كائن حي أو عامل بيئي يمكن أن يؤثر تأثيراً سيئاً في جودة المنتجات الزراعية، ويؤدي إلى خفض مردودها وقيمتها الاقتصادية أو تدهور نوعيتها، أو إلى إحداث خلل في التوازن البيئي الطبيعي، إضافة إلى آثارها الضارة في صحتي الإنسان والحيوان. تتعرض المحاصيل الزراعية المختلفة إلى عدة أنواع من الآفات الحشرية والمرضية بدءاً من زراعة البذور أو العِقل أو الشتول وفي مراحل نموها وحتى بعد حصادها.
المزيد »