logo

logo

logo

logo

logo

الأمان في الإسلام (نظام-)

امان في اسلام (نظام)

Al-Aman (Peace, pledge) - Al-Aman

الأمان في الإسلام (نظام ـ(

 

الأمان في الإسلام نظام جاءت به الشريعة الإسلامية لتنظيم علاقة غير المسلمين الذين يفدون من بلاد لا تدين بالإسلام (دار الحرب) إلى دار الإسلام للإقامة  فيها والتعايش مع أهلها. ويرى بعض الفقهاء فيه واحداً من أصول «المركز القانوني للأجانب[ر]» في التشريع الوضعي.

دار الإسلام ودار الحرب

مع أن النزعة العالمية للإسلام، هي اتجاهه إلى مجتمعٍ إنسانيٍ واحدٍ بنظام قانوني هو «الشريعة الإسلامية"، فإنه لم يمتد إلى جميع أرجاء العالم، لذا أوجد الفقهاء المسلمون في الماضي تقسيماً نظرياً للعالم إلى مجتمعين مختلفين، هما دار الإسلام ودار الحرب.

ـ أمَّا دار الإسلام أو دار التوحيد أو دار العدل، فهي الأقاليم والأقطار التي للمسلمين عليها ولاية. وتضمُّ دار الإسلام، إلى جانب المسلمين، أشخاصاً من غير المسلمين هم أهل الذمة والمستأمنون. فأما أهل الذمة، فهم أهل الكتاب الذين فضلوا البقاء على دينهم الأصلي، والعيش في كنف الحكم الإسلامي في أمانٍ مؤبد. وأمَّا المستأمنون، فهم رعايا دار الحرب الذين يأتون دار الإسلام لتجارة أو مصلحة، ويتمتعون من أجل ذلك بأمان محدّد. وبين الذميين والمستأمنين فوارق جوهرية. فالذميون رعايا في الدولة الإسلامية، يتمتعون بما للمسلمين من حقوق «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» وهم ينقادون لحكم الإسلام، ويدفعون ضريبة اصطلح على تسميتها الجزية[ر] لقاء حماية الحاكم المسلم لهم حمايةً تامةً شاملةً مع احتفاظهم بديانتهم، «فإذا تشاجر أهل الذمة في دينهم لم يُعارضوا فيه، وإذا تنازعوا في حقٍ ارتقوا فيه إلى حاكمهم لم يُمنعوا فيه، وإن ترافعوا فيه إلى الحاكم المسلم حكم  بينهم بموجب الإسلام، وتقام عليهم الحدود إذا أتوها». وهذا ليس وضع المستأمن كما سيأتي.

ـ أمَّا دار الحرب أو دار الشرك أو دار المخالفين، فهي البلاد التي ليس للمسلمين عليها ولاية، ولا تقام فيها شرائع الإسلام. ولهذه البلاد أنظمة قانونية متعددة. ولقد كانت علاقات دار الإسلام بدار الحرب تخضع لنظام يهدف إلى الدفاع عن الإسلام، مع مراعاة مبادئ التسامح واحترام العهد. وهذا يعني إمكانية دخول المسلمين مع غيرهم في معاهدات ومفاوضات وعلاقات دبلوماسية رتب لها الفقه الإسلامي قواعد وأصولاً تعرف «بالِسّير» تعدّ جزءاً لا يتجزأ من هذا الفقه.

يستخلص مما تقدم: أنّ ما يسمى بالشرع الدولي اتسم في الإسلام  بالطابعين الإقليمي والشخصي معاً. فهو إلى جانب تنظيمه لعلاقات دار الإسلام بدار الحرب بصفتهما كيانين إقليميين منفصلين، يتناول أمر المستأمنين أو ما يعرفه الفقه الدولي المعاصر بالمركز القانوني للأجانب. وهكذا فالشرع الإسلامي، سبق القانون الدولي المعاصر الذي يُؤرّخُ له بدءاً من صلح وستفالية لعام 1648م، بإقراره بمركز قانوني واضح للفرد، بل بعدّه الفردَ شخصاً له حقوق، وعليه التزامات في ظل نظام الأمان.

الأمان وسنده الشرعي

الإسلام، كما يرى فقهاؤه، لا يعارض طبيعة الحياة، فلا يفرض على جماعة ما أن تعيش وراء ستار حديدي منقطعة الصلات، أو منعزلة عن الجماعات الأخرى في أنحاء العالم. وإنما يقرُّ بوجود علاقات شتى مع مختلف البلاد في حالتي السلم والحرب.

وإذا كان لكل نظامٍ أو عصرٍ أسلوبُه في حمايةِ شخص الأجنبي، فإن الإسلام جرى على منح الأجنبي في دار الإسلام أو دار الحربِ ما يسمى بالأمانِ، سواء أكان بطريق شفاهي أم كتابي، ولأي غرض ديني أو دنيوي، حتى يسهل امتزاج الشعوب، وانتقال المعارف وتمحيص فكرة الدين.

ونظام الأمان في  الإسلام يتسع لكل أنواع الحماية والرعاية المعروفة حديثاً لشخص الأجنبي وماله في بلاد الإسلام، أو لعقد الصلات السلمية بين المسلمين وغيرهم؛ ولو أن الفقهاء القدامى أو بعضهم يرى في أن أصل العلاقات مع غير المسلمين هي الحرب وليس السِّلْم. وقد كانت فكرة الأمان من الأسس المهمة لتدعيم السلام فكان إعطاء الأمان للوفود المسيحية في الحروب الصليبية، نتيجة التسامح الإسلامي، أساساً للمعاملات الدولية.

وبعبارة مختصرة فإن مناط الأمان أن العربي، إذا دخل دار الإسلام مستجيراً لغرض شرعي، كسماع كلام الله، أو دخل بأمان للتجارة، وجب  تأمينه، ليكون محروساً في نفسه وماله إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها. وإذن ففي ظل نظام الأمان، تستمر العلائق غير العدائية مع أهل الحرب، ولو كانت الحرب مستعرة، وهذا ما لم يقره القانون الدولي المعاصر حتى اليوم. ويذهب بعضهم إلى أن الأمان في دار الإسلام، ليس فقط بمنزلة جواز سفر لدخول دار الإسلام، وإذنٍ بالإقامة يتمكن به المسلمون وغيرهم، من تبادل المنتجات، وتقوية أواصر التعاون، وزيادة التفاهم والمودة فيما بينهم؛ وإنما الأمان معاهدة لفرد أو أكثر يصبح فيه المستأمن، كالذمي في الأمان، مع أنه لا يلتزم دفع ضرائب الدولة الداخلية كالجزية مثلاً. وقد ظل نظام الأمان مطبقاً في تاريخ المسلمين على مختلف العصور.

والأمان فيما يرى فقهاء المسلمين، إما عامٌ وإما خاص.

فالعام: ما يكون لجماعة غير محصورين، كأهل ولاية، ولا يعقده إلا الإمام أو نائبه كما في الهدنة، وعقد الذمة، لأن ذلك من المصالح العامة التي من شؤون ولي الأمر النظر فيها على وجه صحيح.

والخاص: ما يكون للواحد، أو لعدد محصور لعشرة فما دون، ويصح من كل مسلم مكلّف.

والعام: إمّا مؤقت أو مؤبد؛ فالمؤقت هو الهدنة، والمؤبد هو عقد الذمة.

أمَّا الاستئمان: فهو طلب الأمان من العدو، حربياً كان أو مسلماً. وقال ابن عرفة: الاستئمان، وهو المعاهدة، تأمين حربي ينزل لأمر ينصرف بانقضائه. والمستأمن، هو من يدخل دار غيره بأمانٍ مسلماً كان أو حربياً، أي هو اللاجئ بمصطلح عصرنا.

أما السند الشرعي للأمان بصفته نظاماً قانونياً كامل المعالم فهو بإجماع الجمهور كما يلي:

القرآن الكريم:  يقول تعالى: )وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ( (التوبة 6). والنص هنا عام يشمل كل مسلم، وإن اتجه الفقه الإسلامي المعاصر إلى تخصيصه بالرسول، ثمّ بالحاكم بعده.

السّنة:  قال رسول الله r: «ذِمة المسلمينَ واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفرَ مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صِرفاً ولا عدلاً». وقد أقر رسول الله r لأمان ابنته زينب وأم هانيء. قال الصنعاني: «والأحاديث دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، مأذون أم غير مأذون، لقوله r: «يسعى به أدناهم»، فإنه شامل للكافة.

ومع أن أدلة الجمهور هي التي تفيد جواز الاستئمان لطالبه من كل مسلم، فإن بعضهم يرجح منع الأمان الفردي في الأحوال الدولية الحاضرة، لتكاثر الناس واختصاص الحكومات الحديثة بتحمل المسؤولية في مثل هذه الأمور.

موضوع الأمان

الأمان يعني: أن يتعهد المؤمن فرداً أو حاكماً توفير الأمن والطمأنينة لشخص أو أكثر ولو أهل بلدة أو حصن أو إقليم أو قطر، لأن لفظ الأمان يدل على ذلك، وهو قوله «أمنت» ويُحرِّمُ رخصة القتل والسبي والاستغنام للرجال والنساء والذراري والأموال، وكذلك يُحرّمُ الاسترقاق. ولا يجوز ضرب الجزية على المستأمن، وفعل شيء من ذلك غدر، والغدر حرام. ويؤكد الماوردي أن أمان الحربي، أمان لماله الذي هو معه إذا أطلق الأمان عن التقييد بنفس أو مال. أما إذا كان الأمان، أمان الإمام أو رئيس الدولة فالمال مؤمن كالنفس والأهل.

وإذا أودع المستأمن ماله عند مسلم أو ذمي، أو أقرضه إياه ثم عاد هو للإقامة في دار الحرب، أو نقض الأمان، فيبقى ماله في حكم الأمان، ما دام حياً، ويرد  لورثته بعد وفاته. وفي «السير الكبير» للشيباني أنه لو مات المستأمن في دار الإسلام أو في دار الحرب أو قتل في الميدان محارباً المسلمين لا تذهب عنه ملكية ماله بل تنتقل إلى ورثته عند الجمهور.

كذلك إذا انتقض أمان المستأمن، فلا ينتقض أمان ذراريه، كالنساء والصبيان والمجانين، حتى يبلغوا أو يفيقوا أو يطلبهم مستحق الحضانة، ذلك لأن النقض وُجّهَ منهُ دونهم، فاختص حكمهُ بهِ.

هذا ما يشمله الأمان للمال والأهل حقاً للمستأمن. ويلتزم المسلمون حماية أشخاص المستأمنين وأموالهم، ولو خمراً أو خنزيراً. ويضمن المسلم قيمتها إذا أتلفها، لقوله e: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه». وتقطع يد من يسرق من مال المستأمن؛ لأنه فيما يروى عن الشيباني مال محترم بالأمان.

ويرى جمهور الفقهاء أنه يمكن على العموم تحديد مركز المستأمن في دار الإسلام وهو ما له من حقوق وما عليه من التزامات بسبب الأمان على النحو التالي:

ـ للمستأمن في دار الإسلام حق الانتفاع بالمرافق العامة الضرورية حتى القضاء، فإنه إذا التجأ إلى القاضي المسلم في نزاع بينه وبين ذمي أو مستأمن أو مسلم، وجب على القاضي أن يحكم في النزاع في حقوق الآدميين من ديون ومعاملات، ويُخيّر الحاكم بين الحكم والإعراض لقوله تعالى: )فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ( (المائدة 42). على أنه يجب منحهم حق التقاضي عموماً لأن الآية السابقة منسوخة بقوله تعالى: )وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ( (المائدة 49). وهذا يتفق مع ما قررته اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م من منح رعايا الدولة المعادية حق التقاضي سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم بعدما كان هذا الحق مسلوباً منهم مدة طويلة في العالم الغربي.

ـ وللمستأمن كذلك الحق في ممارسة الأعمال التجارية في حدود الشرع. ولا يجوز له مثلاً شراء الأسلحة والعبيد وتعاطي الربا. ويحرم على المسلم أن يبيعه بيعاً فاسداً. وتفسخ مبايعات المستأمن كما تفسخ مبايعات المسلمين الفاسدة بينهم. وبدهي أنه لا يقبل من المستأمن كما لا يقبل من غيره الجهل بالأحكام.

ـ وللمستأمن أيضاً حرية التملك والتمليك.

ويمنع المستأمن في حالة الحرب الفعلية من الدعاية لقومه لرفع قواهم المعنوية أو إضعاف الروح العامة لدى خصومهم. وهذا عدل حتى للاجئ اليوم.

ـ وللمستأمن أن يتزوج ذمية، ويعود بها إلى دار الحرب. فإن تزوجت المستأمنة ذمياً صارت لذلك ذمية، لأنها التزمت حينئذ المُقام تبعاً للزوج بعكس الرجل لو تزوج امرأة، فليس فيه دلالة التزامه المُقام في دار الإسلام، إذ بيده طلاقها والمضي عنها. وهذه الأحكام شبيهة بأحكام كسب الجنسية وفقدها في عدد من القوانين الحديثة. أضف إلى ذلك حكماً هو غاية في احترام حرية المستأمن، ومفاده أنه لا يجوز فرض جنسية الدولة الإسلامية على المستأمن مهما طال مكوثه فيها ما لم يطلب التجنس. وهذا ما ذهب إليه عدد من فقهاء أيامنا، والقاعدة عندهم: أنه إذا تجاوز مكوث المستأمن المدة المحددة للأمان، وجب خروجه من دار الإسلام ما لم يطلب تجنساً ويمنحه بإرادة الحاكم.

ويلاحظ أن هذه الحقوق التي مُنِحَها المستأمن، ما كان يتمتع بها أحد من الرومان واليونان. إذ كانت القاعدة في المدنيات القديمة، أن الأجنبي مجرد ضيف لا يصلح أن يكون صاحب حق. وقانون المدنية ليس خطاباً له فلا يستطيع أن يتزوج، أو أن يتملك مالاً، أو أن يطلب لدى القضاء تعويضاً عن ضرر لحقه، أي أنه هو والرقيق سواء فهو يصلح موضوعاً للحق لا صاحباً له، أي إنه كان مجرداً من الشخصية القانونية.

أمّا التزامات المستأمن فهي أن يخضع للأحكام المتعلقة بالأمن والنظام العام في دار الإسلام ولاسيما العقوبات الشرعية في الحدود التي يخضع لها الذمي، أي إنه يعاقب على جرائمه التي تمس حق الفرد، كالقصاص والسرقة والقذف وإتلاف الأموال. وبعبارة أخرى يساءل المستأمن عن كل ما فيه حق العباد. أمّا ما يتعلق بحق الله تعالى كشرب الخمر والزنا بمستأمنة والسرقة فلا تقام عليه حدودها. وإن كان من الممكن معاقبته بعقوبة تعزيرية، أو بإخراجه من البلاد. ومسؤولية المستأمن مدنية وجزائية فيما يمس حق الأفراد فهي هكذا كمسؤولية المسلمين والذميين المواطنين لما في ذلك من صلاح الجماعة وزجر الجاني.

ومع أن هذا التسامح الإسلامي في حق المستأمن فيما يتعلق بحقوق الفرد، اتخذ في مرحلة ضعف المسلمين ذريعة لما سمي بالامتيازات الأجنبية capitulations التي عانت منها البلاد الإسلامية كثيراً إلا أن الشرع شرع واجب الاحترام، مع مخالفة بعض المذاهب الإسلامية للإطلاق السابق، كالأوزاعي والزيدية.

وتوفيقاً لما تقدم يرى بعضهم أن مقتضى الأمان يحدده العرف والعادة في الزمان والمكان. ومن المنطقي أن يسري الأمان على المال والأهل للحاجة، وإلا لم يكن للأمان معنى. أما التزام المستأمن تحمل مسؤولية فعله فإن ذلك تحتمه ضرورة منع الإخلال بالنظام العام للأمة، ودفع الضررعن حقوق الأفراد.

وفي القانون الدولي المعاصر تقليد لما ذهبت إليه الشريعة الإسلامية قبله بقرون. ففي المادة 32 من اتفاقية لاهاي الرابعة، أنه إذا قبل قائد الجيش المفاوضة، مفاوضة الخصم، ترتب على ذلك صون ذاته وتمتع بالحصانةِ كلُ من يصحبُه.

ولكن ما مقتضى أمان الحربي وقت نشوب القتال، وهل يُجيز له الأمان دخول دار الإسلام ؟.

إن مجرد طرح هذا السؤال، الذي جاء به الفقهاء المتقدمون، يؤكد مقولة إنه مع انقسام العالم إلى دارين: دار إسلام ودار حرب فإن الأصل في العلاقات بين الدارين هو السلام، وإن الحرب حالة استثنائية لا تصح إلا دفاعاً عن العقيدة أو نصرة للمظلوم.

ويقول الشيباني: إنه لا تميّز بين الحربي (المنتمي إلى دار الحرب بجنسيته) والمحارب (المقاتل تحت راية الدولة المعادية). وإطلاق عبارة الشيباني يدل على جواز دخول الحربي دار الإسلام في أثناء القتال بأمان ما دام ذا غرض سلمي. وإذا صدر الأمان هنا عن ولي الأمر شمل المستأمن وآله وماله.

وعلى هذا ذهب الشافعية. وأكثر من هذا إذا دخل الحربي الأمان ثم خرج من دار الإسلام فحارب في صفوف الحربيين وقتل، لم يصادر ما له من مال ومتاع  في دار الإسلام، بل يرد إلى أهله وورثته.

صفوة القول هنا أن الأمان على الشيء أمان على مثله وعلى ما فوقه ضرراً، ولا يكون أماناً  على ما دونه. «فإذا قالوا مثلاً أعطونا على ألا تحرقوا زرعنا فلا ينبغي لنا أن نغرقه.

ولو قالوا أمنونا حتى نفتح لكم الحصن، فتدخلوا على أن تعرضوا علينا الإسلام فنسلم، ثم أبوا أن يسلموا فهم آمنون.  وعلى المسلمين أن يخرجوا من حصنهم ثم ينبذوا إليهم عهدهم».

والأمان بصفته عقداً من العقود لا بد له من اتفاق إرادتين على إنشائه. وإرادة  المرء في إنشاء عقد تستلزم رغبته فيه، وقصده عليه، ورضاه به متى تمّ ووجد فعلاً. وإذن فلا بد من أن هذه الإرادة خالية من عيوب الرضا، وهي: الإكراه والغلط والتدليس  والغبن والتغرير.

وإذن فشروط المؤمّن هي: الإسلامُ والبلوغُ والعقلُ والاختيارُ والرضا وعدم الخوف من المستأمن.

المستأمن: هو من دخل دار غيره بأمان مسلماً كان أم حربياً. وقد غلب إطلاقه على من يدخل دار الإسلام بأمان. جاء في الفتاوى الهندية يجوز الأمان للواحد والجماعة وأهل الحصن والمدينة. وقال الحنابلة: يصح الأمان من الإمام لجميع المشركين وآحادهم، ومن الأمير لمن جعله بإزائه. ولا يمنع الأمان عن غير المسلم من أهل الكتاب، فالآية الدالة عليه ذكرت منحه للمشركين، لذا فإجماع الفقهاء على أنه إذا جاز أمان الوثنيين فأهل الكتاب به أولى.

الأسير في رأي الجمهور لا يؤمنه إلا ولي أمر المسلمين. وهناك حالة ثانية لا يجوز فيها الأمان إلا من الإمام، وهي حالة ما إذا أشرف المسلمون على فتح قلعة مثلاً، فلا يجوز لأحد من جنود المسلمين أن يؤمن أحداً من القلعة إلا الإمام، لما في ذلك من إضرار بحق المسلمين وسياسة الفتح ونشر الدعوة. والواحد من المسلمين لا ولاية له على بقية المسلمين فكيف يُبْطلُ حقاً ثابتاً لهم أو ينزل ضرراً بالجيش؟ والإسلام يقرر أن «لا ضرر ولا ضرار».

ثمَّ مسألة مهمة في هذا الصدد لا بد من محاكمتها. ما حكم المسلم اليوم في بلد غيره؟ هل يعدّ مستأمناً أم مواطناً؟ وما هو القانون الواجب التطبيق إذا عدّ المسلم مستأمناً في بلد إسلامي، وأي الحكمين أنسب مع التقسيم لدار الإسلام الحالي.

أصبح من المتفق عليه جواز تعدد الحكومات الإسلامية في دار الإسلام بشرط وحدة الأهداف والتزام الشريعة الإسلامية. والأصل المعتمد عند الفقهاء في ذلك أن كل مسلم من أي بلد لا يعد أجنبياً في أي بلد آخر في دار الإسلام. فهو يتمتع بجميع الحقوق السياسية والمدنية من دون تمييز بين المسلمين. وعلى هذا الأساس الفقهي لا يصح شرعاً لدولة إسلامية أن تمنع المسلم من دخول أرضها أو أن تبعد من إقليمها رعايا دولة إسلامية أخرى سواء كانوا مسلمين أو ذميين، وعليها أن تعاملهم كرعاياها في الحقوق والواجبات.

لكن واقع التعامل العربي والإسلامي في وقتنا لا يسير على هذا المنحى لغلبة القوانين الوضعية، وعلى هذا فالسوري، ولو كان عربياً مسلماً بالولادة والممارسة، يعدّ أجنبياً في أندونيسية والعكس صحيح، مما  يفسح في المجال لمعاملته معاملة أمريكي، أو هولندي قَدِمَ دار الإسلام في سورية أو أندونيسية. وهكذا فموضوع اللجوء إلى «دار إسلام» أي إلى دولة مسلمة، سواء كان اللجوء من مسلم أو غير مسلم، عربي أو غير عربي لا تحكمه في أيامنا قواعد الأمان، بل قواعد اللجوء التي جاءت عليها الاتفاقيات الخاصة بذلك إعمالاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تبعه من اتفاقات خاصة باللجوء واللاجئين [ر. اللجوء وحقوق الإنسان].

حكم الأمان

إذا انعقد الأمان بالشروط التي ذكرت فهل يلزم المسلمين البقاء عليه أم لا يلزمهم؟ بعبارة ثانية: هل الأمان عقد لازم أو غير لازم؟.

يرى الجمهور من زيدية ومالكية وشافعية وحنابلة وإمامية أن الأمان عقد لازم من جانب المسلمين. ويبقى اللازم مع بقاء عدم الضرر، لأن الأمان حق على المسلم فليس له نبذه إلا لتهمة أو مخالفة. فإن وجدت التهمة أو المخالفة، نبذه الإمام والمؤمن.

وبالمقابل فالاتفاق بين الفقهاء جميعاً، مستقر على أن الأمان عقد جائز من جانب المستأمنين، فلهم أن ينبذوه متى شاؤوا.

مكان الأمان وأجله

المكان الذي يقر فيه المستأمن هو دار الإسلام إذا كان المؤمّن أمير المؤمنين أو أمير الجيش، وذلك مبني على أن المسلمين جميعاً، بحسب الأصل، يجب أن يكونوا تحت إمرة واحدة، وسلطة موحدة، فمكان الأمان هو كل البلاد الإسلامية إلا إذا قيد الأمان في موطن معين، أو كان القيد وارداً من قبل الشرع فهو قيد عام.

ومن المقرر أن للدول اليوم أن تقيد إقامة الأجنبي في إقليمها بقيود تتعلق بالمدة أو المكان أو بقيامه ببعض الإجراءات مما يحد من حريته. [ر. المركز القانوني للأجانب].

وبسبب تعدد السلطات في الدول الإسلامية، وتجزؤ دار الإسلام إلى دول مستقلة في أيامنا فلا ينفذ الأمان ـ إن وجد بمعناه الإسلامي الصحيح ـ إلا في وطن المؤمِّن بالمعنى الجغرافي دون بقية البلاد الإسلامية، سواء أكان المستأمن مسلماً أم غير مسلم.

وأما أجل الأمان: فهو تحديد بدء عقد الأمان وانتهائه، فيبدأ الأمان بعلم المستأمن. أما وقت انتهاء الأمان، فقد اختلف فيه الفقهاء.

فالشافعية حددوه بما لا يزيد على أربعة أشهر، ما لم يكن المستأمن سفيراً أو رسولاً فيمتد الأمان ما امتدت مهمة المستأمن.

والمالكية قالوا: إن الأمان المطلق، أو الذي تحدد مدته بأقل من أربعة أشهر، تكون مدته أربعة أشهر، لكنهم قالوا: إن حُدد الأمان بأمد معين، كان موقوفاً على أمده ما لم ينقض العهد، كما هو صريح القرآن )فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ( (التوبة 4).

أمَّا الحنفية والزيدية فأجازوا الأمان لسنة على الأكثر، في حين وسع الحنابلة أكثر من بقية المذاهب، فأجازوا عقد الأمان من دون جزية لكل من المستأمن والرسول، مطلقاً أو مقيداً بمدة، طالت أو قصرت. يقول الإمام أحمد: إذا أمّنته فهو على أمنَته. وقد حدث في التاريخ الإسلامي أن امتد أجل الأمان إلى ثلاث سنوات أو أربع للسفراء في عهد الخليفة المنصور والخليفة الرشيد.

والراجح في الرأي أمام صراحة نص القرآن الكريم في الآية السابقة أنه يجوز للدولة اليوم أن تمد في أجل الأمان ما طاب لها مادام المستأمن أي المستجير أو اللاجئ محافظاً على عهده، مخلصاً في عقده، ففي ذلك عدل، والإسلام دين عدل، وفي ذلك منطق، والإسلام دين منطق. وفي عصر تشابكت فيه العلاقات السلمية بين دار الإسلام بمختلف دولها، ودار الحرب بمختلف دولها، لا يعقل أن يجعل الأمان محصوراً بأشهر أو بسنة أو بما شابه، بل يترك أمره لولي الأمر، وهو الدولة التي لها إثبات الأمان عند الخلاف.

وبعد فمن الراجح أنه استناداً إلى نص القرآن الكريم بضرورة إبلاغ المستأمن مأمنه لا يمكن رد المستأمن إلى حيث لا أمان له، بل يخيّر بين عقد الذمة إن كان أهلاً له أو أن يرحّل إلى مكان آخر إذا قرر ولي الأمر إنهاء أمانه في دار الإسلام.

محمد عزيز شكري

 

الموضوعات ذات الصلة

 

أهل الذمة ـ الجزية ـ الجنسية ـ الجهاد ـ حق العباد ـ حق الله ـ حقوق الإنسان ـ دار الحرب ودار الإسلام ـ اللجوء.

 

مراجع للاستزادة

 

ـ وهبة الزحيلي، آثار الحرب في الفقه الإسلامي، «دراسة مقارنة» (دار الفكر، دمشق 1962).

ـ صبحي المحمصاني، القانون والعلاقات الدولية في الإسلام (دار العلم للملايين، بيروت 1982).

ـ محمد بن الحسن الشيباني، كتاب السير الكبير، تحقيق صلاح الدين المنجد، 13 جزءاً (القاهرة 1957).

ـ ظاهر القاسمي، الجهاد والحقوق الدولية في الإسلام (دار العلم للملايين، بيروت 1982).

- MAJID KHADDURI, War And Peace in the law Of  Islam (Baltimre 1955).


التصنيف : السياسة
النوع : دين
المجلد: المجلد الثالث
رقم الصفحة ضمن المجلد : 459
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 610
الكل : 31634431
اليوم : 69286

ابن مرزوق (محمد بن أحمد بن محمد)

ابن مرزوق (محمد بن أحمد بن محمد ـ) (710 ـ 781هـ/1311 ـ 1380م)   محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي التلمساني، يُكنى أبا عبد الله، ويلقب بشمس الدين. أحد وجهاء تلمسان وعلماء الفقه فيها، وهو شاعر وناثر وخطيب. ارتحل مع والده إلى الشرق سنة 713هـ، ولما جاور أبوه الحرمين رجع إلى القاهرة، فأقام فيها وطلب العلم والرواية على يد علمائها، ورجع سنة 733هـ إلى المغرب، وفي تلمسان لقي السلطان أبا الحسن المريني (731- 749هـ) يحاصر مدينة تلمسان، وقد أقام بناحية منها يقال لها «العبّاد» مسجداً عظيماً، فخطب ابن مرزوق فيه، وسمعه السلطان فأُعجب به وقرّبه، ثم صار يلتقي الأفاضل والأكابر، ويرافق السلطان في حروبه، ثم أرسله السلطان في مهمة إلى الأندلس،

المزيد »