logo

logo

logo

logo

logo

عمر بن الخطاب

عمر خطاب

Umar ibn al-Khattab - Umar ibn al-Khattab

عمر بن الخطاب

(40ق.هـ ـ 23هـ/584 ـ 644م)

 

أبو حفص، عمر بن الخطاب بن نُفَيل العدوي القرشي، وبنو عدي بطن من بطون قريش اشتهروا بالشرف والمجد، ويجتمع نسبه مع الرسولr من جهة أمه حَنْتمة بنت هشام بن المغيرة المخزومي في الجد السادس (وهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة) وخاله أبو جهل، عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي،  كناه الرسول بأبي حفص، لما رأى فيه من الشدة والحزم في الحق.

ولد بمكة قبل حرب الفجار الأعظم بأربع سنين، وبعد الرسولr بثلاث عشرة سنة وكانت تلك الحرب قبل البعثة النبوية بست وعشرين سنة بين قريش وكنانة، وبين هوازن، سميت بالفجار لإشعالها في الأشهر الحرم.

نشأ عمر في البيئة العربية الجاهلية الوثنية على دين قومه، كأمثال أبناء قريش، في بيت عرف بالحزم والشدة والصلابة وقسوة العيش، قال عمر: كان أبي الخطاب فظاً غليظاً يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وتميز عمر من أمثاله لتعلمه القراءة والكتابة، وكان القراء والكتاب في عصره قلائل جداً، فكانوا عند إسلامه سبعة عشر رجلاً من قريش، وكان في شبابه يرعى الإبل لوالده، كغيره من شبان مكة ورجالها، وكان مغرماً بالخمر والنساء، حذق المصارعة وركوب الخيل والفروسية، فكان من أبطال قريش وأشرافهم، وتذوق الشعر ورواه، وكان سفيراً حاذقاً لقريش في المفاوضة بينهم وبين غيرهم في وقائع الحرب، ينافر عنهم وينذر الأعداء، وكان شديد القسوة على المسلمين كبقية المشركين، واشتغل بالتجارة لكنه لم يفلح فيها، وأكسبته رحلاته التجارية في الجاهلية ثقافة في ملاقاة أمراء العرب، وكان له تجارة بين الشام والحجاز.

عرف الرسولr مكانة عمر وهيبته في قريش واعتداده بنفسه، فدعا الله أن يُعز به الإسلام أو بخاله عمرو بن هشام « أبو جهل»، فقال: «اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام» أو «اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل أو بعمر…» فجعل الله دعوة رسوله لعمر، قال ابن عمر: وكان أحبَّهما إليه ـ أي إلى النبي ـ عمر. وكان الرسولr يعلم أنه لم يكن بين القرشيين من يجرؤ على معارضة عمر.

أسلم عمر في مكة، في السنة الخامسة من النبوة، وهو ابن تسع وعشرين سنة، وكان قد أسلم مع رسول اللهr تسعة وثلاثون رجلاً، وامرأة، فصاروا بعمر أربعين، كما ذكر ابن عباس.

وقصة إسلامه مشهورة رواها ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق، موجزها: أنه توشح يوماً بسيفه يريد رسولr، فثناه نعيم بن عبد الله عن مهمته إلى صهره ابن عمه سعيد بن عمرو وأخته فاطمة، لأنهما أسلما، فطرق عليهما الباب وعندهما خبَّاب ابن الأرت معه صحيفة فيها سورة [طه] يُقرئهما إياها، فاختفى خبَّاب، وأخفت فاطمة الصحيفة، فطالبهما بمعرفة الصوت الخفي «الهينمة» ورؤية الصحيفة، فلم يعطياها، فبطش بصهره «خَتَنه» وبأخته، ثم قالا له: نعم لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فقال لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفاً، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، فامتنعت أخته عن تسليمها له حتى يغتسل، لأنه لا يمسها إلا الطاهر، فاغتسل، فلما قرأ منها صدراً، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه فذكّره خبَّاب بدعاء الرسول له بالإسلام، فقال له عمر: دلّني يا خبَّاب على محمد حتى آتيه فأُسلم، فقال له: هو في بيت عند الصفا «أي بيت الأرقم بن أبي الأرقم» معه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول اللهr وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته، قام رجل من الصحابة وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحاً بالسيف، فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه، فأذن له، ونهض الرسول حتى لقيه بالحجرة، فأخذ بمجمع ردائه، ثم جَبَذه «هزه» جبذة شديدة، وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى يُنزل الله بك قارعة، فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، فكبر الرسولr تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب الرسول أن عمر قد أسلم.

ولما وافق إسلام عمر إسلام حمزة، اطمأن المؤمنون، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول اللهr، وينصفانه من عدوه، وبعد إسلامهما صارت الدعوة إلى الله جهرية، فخرج الرسول في صفَّين: عمر في أحدهما، وحمزة في الآخر، حتى دخل المسجد، فأصاب قريشاً كآبة لم تصبهم قط، وسماه رسول اللهr يومئذ الفاروق. قال الرسولr: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، فرق الله به بين الحق والباطل» ذكره ابن الجوزي عن أيوب ابن موسى.

وهاجر عمرt من مكة إلى المدينة المنورة علناً، وكان المسلمون يهاجرون سراً. قال عليt: «ما علمت أحداً هاجر إلا متخفياً إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همًّ بالهجرة تقلّد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتقى في يده أسهماً، وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها، فطاف سبعاً، ثم صلى ركعتين عند المقام «مقام إبراهيم» ثم أتى حلَقهم واحدة واحدة، وقال: شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكُله أمُّه، ويُؤتم ولده، ويُرملَ زوجتَه، فليلقني وراء هذا الوادي. قال علي: فما تبعه أحد».

روى ابن الأثير عن عبد الله بن مسعود قال: «كان إسلام عمر فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمة، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي في البيت، فلما أسلم عمر، قاتلهم حتى تركونا، فصلينا».

وقال عكرمة بن أبي جهل: لم يزل الإسـلام في اختفاء حتى أسـلم عمر.

تميز عمر ببطولته وجرأته، وحكمته وعقله الكبير، وهيبته، وشدته وحزمه والتزامه بالحق، ونفاذ بصيرته وفراسته ورؤيته المستقبلية، مع رحمته ولينه وعدله في الحق أيضاً، واشتهر بمواهبه العديدة، وإلهاماته النادرة، وغيرته على العرض والشرف والحرمات الدينية والإنسانية كلها، وكان العدل تاج خصاله بالوراثة، لذا كانت له منزلة عالية في الأمة وعند الرسولr الذي قال فيه عدة أقوال، منها: «اتقوا غضب عمر، فإن الله يغضب لغضبه».

ومنها ما تقدم عن أيوب بن موسـى، ومنها ما رواه الطبري عن النبيr أنه قال: «عمر معي، وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر حيث كان» وفي شدته وحزمه قال عنه أيضاً: «ومثلك يا عمر مثل نوح قال: )وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا( (نوح: 26)، ومثلك كمثل موسى قال: )رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ( (يونس: 88) وفي هيبته قال عنه: «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر» وقالت عائشة رضي الله عنها: «فما زلت أهاب عمر لهيبة الرسولr إياه» وفي عبقريته قال عنه كما ذكر ابن الجوزي: «لم أر عبقرياً يفري فريه» وذكر أيضاً ما في الصحيحين وسنن أبي داود عن أبي هريرة، قال رسول اللهr: «إنه قد كان فيمن مضى قبلكم من الأمم ناس مُحَدَّثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم أحد، فإنه عمر بن الخطاب» وروي ذلك عن عائشة أيضاً، (المُحَدَّث: الرجل الصادق الظن)، وقد نزل القرآن مؤيداً رأي عمر في بضع وثلاثين مسألة، منها الحسم في تحريم الخمر، وحجاب أمهات المسلمين، وعدم أخذ الفداء من أسرى بدر، قال علي بن أبي طالبt: «خير الناس بعد رسول اللهr أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما»، وقال: «ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر».

لم يوص الرسولr لأحد من أصحابه بالخلافة من بعده، بل ترك مسألة الخلافة والشورى بينهم، فلما شاع نعي النبي، اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة في المدينة المنورة، وأرادوا أن يبايعوا بالخلافة رجلاً منهم، هو سعد بن عُبادة، سيد الخزرج، فحضر إليهم نفر من المهاجرين، وكاد يقع بينهم خلاف شديد، لولا أن قام إليهم أبو بكر خطيباً، وأورد حديثاً هو أن «الأئمة من قريش» وحذّر من تنافس الأوس والخزرج، وتجدُّد العداوة بينهم، فعَرَض عليهم مبايعة عمر أو أبي عبيدة بن الجراح، فخشي عمر من استحكام الاختلاف بين الصحابة فقام إلى أبي بكر وبايعه بالخلافة، كما ذكر ابن هشـام، وقال لـه: «ألم يأمر النبي بأن تصلي أنت يا أبا بكر بالمسلمين؟ فأنت خليفته، ونحن نبايعك، فنبايع خير من أحب رسول الله منا جميعاً» فبايعه من بعده بشير بن سعد وأبو عبيدة، ثم تتابع المهاجرون والأنصار يبايعونه، وتسمى بيعة السقيفة بالبيعة الخاصة، لأنه لم يبايعها إلا نفر قليل من المسلمين هم الذين حضروا السقيفة، فلما كان الغد، جلس أبو بكر على المنبر في المسجد، وبايعه الناس البيعة الكبرى أو العامة. ثم بايعه الزبير، ثم علي بعد موت فاطمة.

لما مرض أبو بكر سنة 13هـ/634م خشي إن هو قبض، ولم يعهد بالخلافة إلى أحد يوحد كلمة المسلمين، عاد الاختلاف على الخلافة بينهم سيرته الأولى، فيتمكن منهم العدو، فنظر أبو بكر في أصحابه، ليتخير من بينهم رجلاً يكون شديداً في غير عنف، وليّناً في غير ضعف، فوجد أن «من توفرت فيه هذه الصفة من الصحابة أحد رجلين: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، إلا أن الأول ربما يريد الأمر، فيرى في طريقه عَقَبة فيدور إليه، والثاني يرى الاستقامة لايبالي بالعقبة تقوم بين يديه، فهو بهذا إلى الشدة أميل منه إلى اللين».

فوقع اختياره على عمر، وجعل يستشير فيه كل من دخل عليه من الصحابة، مثل عبد الرحمن بن عوف، وعثمان ، وأُسيد بن حضير الأنصاري، ثم دعا أبو بكر عثمان بن عفان فأملاه كتاب عهده لعمر، ونصه: « بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد عند آخر عهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن برَّ وعدل، فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن جار وبدّل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب: )وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ( (الشعراء: 227)».

ثم بايعه الناس في المسجد النبوي على الخلافة يوم وفاة أبي بكر، بطلب من عثمان على ما في كتاب العهد، وبايعه أبو بكر بموافقة أصحاب الرأي في الاختيار قبل تسميته.

كان لصفات عمر المتقدمة وأهمها نفاذ بصيرته والتزامه قمة العدل البشري أثر كبير في نجاحه الخارق في إدارة الدولة الإسلامية في عهده، وكان أول من لقَّب بأمير المؤمنين باقتراح عمرو بن العاص.

فسار بأحسن سيرة، وأنزل نفسه من مال الله بمنزلة رجل من الناس، وفتحت في أيامه الفتوحات الكبرى في الشام، والعراق وفارس، ومصر، فافتتحت القدس ودمشق والمدائن في عهده، وهو الذي دوَّن الدواوين في العطاء، ورتّب الناس فيه على سوابقهم في الإسلام، كان لا يخاف في الله لومة لائم، وجمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد، وهو أول من أرّخ التاريخ الهجري، وكان العرب قبل ذلك يؤرخون بالوقائع.

واتخذ بيت مال للمسلمين، وأمر ببناء البصرة والكوفة والفسطاط، وكتب إلى عماله: إذا كتبتم لي فابدؤوا بأنفسكم. قال الزهري: كان عمر إذا نزل به الأمر المعضل دعا الشبان فاستشارهم، يبتغي حدة عقولهم، وكان نقش خاتمه: «كفى بالموت واعظاً يا عمر».

كان عمر ذا عبقرية فذة في تنظيم الجيوش وتسييرها، واختيار القادة والأمراء، ووضع الخطط الحربية، وفتح جبهات متعددة في الشمال والشرق والغرب، حتى تغلب على الروم والفرس أقوى دولتين في عصره، فكان الأمراء في الأمصار أبا عبيدة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وخالد بن الوليد في الشام، وسعد بن أبي وقاص في القادسية ومحاربة الفرس، والمغيرة بن شعبة وسراقة بن عمر في فارس وبلاد الترك، وعمرو في فتح مصر، وغيرهم من قادة الفتح العظام، وأنشأ الجيش الإسلامي وأعده إعداداً جيداً ومتميزاً، ورغب في نظام التجنيد، وأغرى بالمرتبات، ورهّب من التقاعس والتقصير في أداء المهام، وأمد الجيوش بالعدة والعدد، وكان يقود العمليات العسكرية من مقر خلافته بالمدينة.

ونظم عمر شؤون الدولة الإسلامية الإدارية والسياسية، فقسم البلاد إلى أقاليم وولايات، وأحسن اختيار العمال والولاة فيها، يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وأنشأ ديوان العطاء الذي عرف في العصر الأموي بديوان الجند، ومنذ أن أسس عمر ديوانه في المدينة وجد في الكوفة والبصرة والشام ومصر ديوانان، أحدهما بالعربية لإحصاء الناس وأعطياتهم، والآخر لوجوه المال بالفارسية في العراق والرومية في الشام، والرومية مع القبطية في مصر. ونظم الحياة الجديدة في الأقاليم للمسلمين وغيرهم، فساد النظام، وعم الأمن والسلام، وشمل العدل كل الناس، وانتعشت التجارة والكسب المشروع، وكثرت الأرزاق، وضمن للناس النقود الشرعية لمزاولة أعمالهم، وعين القضاة لفصل الخصومات والمنازعات بين الناس بالعدل ودون إبطاء. وربط الأقاليم المفتوحة بالمدينة المنورة عاصمة الدولة، وكان من سُنَّة عمر وسيرته أن يأخذ عماله بموافاة الحج في كل سنة للسياسة، وليحجزهم بذلك عن الرعية وليكون لشكاة الرعية وقتاً وغاية ينهونها فيه إليه، فكان عمر رجل الدولة الإسلامية من حيث التنظيم والإدارة والعدالة الاجتماعية من الناحية المدنية، كما كان القائد العسكري الأعلى، فاجتمع في شخصيته المجالان: المدني والعسكري معاً. وعني بمرافق الدولة في المدن والثغور ونحوها.

وكان يعتمد على الشورى فهو أول من منع الصحابة من مغادرة المدينة، لاستشارتهم، ويخضع للحق ويذعن لـه، ويقول على المنبر: «امرأة أصابت وأخطأ عمر» حين أراد تحديد المهور، وكان يطوف في الأسواق منفرداً، ويقضي بين الناس إذا أدركه الخصوم، ويتفقد الرعية ليلاً، ويقمع الغش، ويطارد الجناة، ويفضّل في الأعطيات بحسب ما يقدم المسلم للأمة، ويسوّي بين الناس في القضاء؛ كحادثة القصاص من جبلة بن الأيهم الذي لطم الأعرابي في الطواف وهشم أنفه، ويرفع الجزية عن الشيخ المعاهد الكبير وأمثاله، ويعاقب الشعراء الذين يقذعون في الهجاء، وقد أجلى اليهود من جزيرة العرب ما لم يكن لهم عهد من رسول اللهr، لحديث «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» وأجلى أهل نجران بناءً على طلبهم.

وكان عمر شديداً على ولاته، يشاطرهم ما لديهم، فهو أول من وضع قانون «من أين لك هذا؟» واقتص من عمرو بن العاص والي مصر ومن ابنه الذي ضرب قبطياً، وترك تقسيم أراضي العراق ومصر والشام المفتوحة عنوة، ووضع الخراج عليها ليكون مورداً عاماً لجماعة المسلمين، ووضع العشور على الحربيين، وكانت الدراهم في عصره فارسية زاد في بعضها: «الحمد لله» أو «لا إله إلا الله وحده».

ورسالته لأبي موسى الأشعري في القضاء مشهورة محكمة، وكانت اجتهاداته الفقهية كثيرة، وآراؤه في الأخذ بمقتضى السياسة الشرعية حكيمة.

دامت خلافته عشر سنين وخمسة أشهر أو ستة، وكان شديداً في الحق ولما أسلم أصبح أشد المسلمين مجاهرة برأيه ودفاعاً عن دينه، وكان شديداً على ولاته وعلى كرامة المسلمين وعزة نفوسهم، وأحرص الناس على أموال المسلمين ومصالحهم. طعنه أبو لؤلؤة فيروز الفارسي «غلام المغيرة بن شعبة» غيلة، بخنجر في خاصرته له رأسان، في صلاة الصبح في المسجد النبوي، فعاش بعد الطعنة ثلاث ليال ثم قضى. وذلك يبين مبلغ الاستياء والسخط  الذي استولى على الفرس بعد زوال سلطانهم. توفي ودفن في الحجرة النبوية في المدينة مع أبي بكر.

وهبة الزحيلي

 

 الموضوعات ذات الصلة:

 

الخراج ـ الصحابة ـ القضاء ـ أهل الذمة.

 

 مراجع للاستزادة:

 

ـ ابن سعد، الطبقات الكبرى (ليدن 1322هـ).

ـ ابن الجوزي ، تاريخ عمر بن الخطاب (دار إحياء علوم الدين ،دمشق).

ـ ابن الأثير الجزري، أسد الغابة في معرفة الصحابة (طبع كتاب الشعب بمصر 1390هـ/1970م).

ـ علي الطنطاوي وأخوه ناجي، سيرة عمرة بن الخطابt (المكتبة العربية في دمشق (عبيد إخوان) مطبعة الترقي، دمشق ، 1355هـ).


التصنيف : التاريخ
النوع : دين
المجلد: المجلد الثالث عشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 489
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1118
الكل : 40244578
اليوم : 67431

الإنكماش الإقتصادي

الانكماش الاقتصادي   الانكماش الاقتصادي deflation حالة تنتاب الحياة الاقتصادية نتيجة سياسة متعمدة في غالب الأحيان، يميل معها مستوى الطلب الكلي ليغدو أدنى من مستوى العرض الكلي، مما يؤدي إلى تقليص الفاعليات والتداول النقدي، وارتفاع قيمة العملة الوطنية وكلفة القروض، مع ميل مستوى الأسعار والأجور نحو الانخفاض. ومهما بدا هذا التعريف شاملاً فإنه لا يستطيع أن يحيط وحده بجميع أوجه الانكماش الاقتصادي. التطور التاريخي لمفهوم الانكماش إن مصطلح الانكماش حديث في الفكر الاقتصادي مثل مصطلح التضخم[ر] inflation. ففي المرحلة التي غلبت فيها المدرسة الكلاسيكية كان الانكماش ملحوظاً بوصفه نوعاً من الكساد الاقتصادي depression يحدث مؤقتاً بانتظار عودة التوازن العفوي بين العرض والطلب، أي بين الإنتاج والاستهلاك إلى حالته الطبيعية. لكن دخول الاقتصاد الرأسمالي في أزمات دورية منذ عام 1825 لفت النظر إلى ظاهرة الانكماش بوصفها وجهاً من أوجه الأزمة يظهر قبل الركود. وكان التضخم الذي لحظه الاقتصادي جان بودان في القرن السادس عشر قد غدا في القرن التاسع عشر مألوفاً. ولما دخل التضخم في الأدبيات الاقتصادية باسمه الإنكليزي المشار إليه أعلاه باتت كلمة الانكماش تعني عملية مقصودة لإزالة التضخم. وقد ارتبط مفهوم الانكماش بمفهوم التضخم ارتباطاً وثيقاً، لكنه بقي ارتباطاً وحيد الطرف، فالانكماش حلٌ للتضخم، في حين لا يقول أحد بأن الانكماش يجد حلّه في التضخم، بل في عودة التوازن. مع ذلك، فإن الانكماش حالة يمكن أن تصيب الاقتصاد على نحو عفوي. وهو يثير في الفكر الاقتصادي جملة من التعاريف، وتكمن صعوبة تحديده في طبيعته، وفي كونه مقصوداً أو غير مقصود، وخاصة عندما يختلط بغيره من الظواهر النقدية والاقتصادية. مهما يكن الأمر فإن الحدود التي يمكن حصر الانكماش فيها هي حدود العرض والطلب الكليين: كلما نزع الأول نحو الارتفاع نسبة إلى الثاني كان هناك انكماش، والعكس في التضخم، بغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى ذلك. ومن هنا أيضاً كان الانكماش أمراً ملحوظاً في كل الاقتصاديات، رأسمالية كانت أم اشتراكية أم نامية. ففي الرأسمالية يمكن ملاحظة الانكماش، مثلاً، عندما يفقد اقتصاد السوق توازنه بعد بلوغه نقطة التشغيل الكامل بمفهوم الاقتصادي البريطاني كينز Keynes، كما يظهر كلما ارتسمت علامات التشاؤم على الحياة الاقتصادية نتيجة لإلغاء احتمالات الربح أو الإفلاس في المشروعات أو تعطيل عوامل الإنتاج أو زيادة نفقات الإنتاج. وفي الاشتراكية، يظهر الانكماش نتيجة تحديد أهداف للخطط الاقتصادية قاصرة عن استخدام جميع الموارد المتاحة أو لأن الإنفاق الإجمالي أقل من قيمة الناتج الإجمالي. أما في البلدان النامية، فيمكن أن يظهر الانكماش ردة فعل للسياسة الهادفة إلى رفع معدلات التنمية بأساليب تضخمية، مما لا تستجيب له البنية الاقتصادية الاجتماعية، فيقع الانكماش. الانكماش والركود يختلف الانكماش عن الركود Stagnation في أن الأول، وإن اتسم بتباطؤ الفاعليات، ينتظم في مجموعة من التدابير التي من شأنها إعادة التوازن إلى الاقتصاد، أمّا الركود فهو حالة تجتاح الاقتصاد فيصاب بانخفاض الإنتاج فارتفاع الأسعار ووقوع البطالة، وتنعكس آثار  ذلك كله على الحياة الاجتماعية. وقد يختلط الركود بالتضخم فيدعى آنذاك بالركود التضخمي Stagflation وهي الحالة التي تسيطر اليوم على اقتصاديات الدول الرأسمالية، إذ يقترن التضخم النقدي بالركود الاقتصادي. وإذا كان الانكماش هو الوجه الآخر للتضخم، فإن الركود هو الوجه الآخر للازدهار Prospérité. لكن لابد من الإشارة أيضاً إلى أن الانكماش، حينما يستوطن، يؤدي إلى الركود ومن هنا جاءت بعض الالتباسات في تحديد كل منهما. الانكماش النقدي باستثناء بعض الحالات النادرة التي كانت تقع فيما يعرف بالاقتصاديات الاشتراكية، إذ قد يحصل الانكماش النقدي نتيجة لتقديرات خاطئة غير مقصودة تقلل من تدفقات الكتلة النقدية مقارنة بالتدفقات السلعية، فإن الانكماش النقدي لا يكون إلا نتيجة لسياسة نقدية متعمدة تهدف إلى تقليص الكتلة النقدية المتداولة وتصل إلى حدود ما يسمى بالبزل النقديPonction Monétaire. وهذا البزل النقدي هو بقصد كبح جماح الأسعار أو إجبارها على الانخفاض بفعل التقليص القسري للكتلة النقدية. وتملك الدولة، من أجل ذلك، عدداً من الوسائل أهمها: الإقلال من الإصدار النقدي وسحب بعض فئات العملة من التداول، مما يرفع، في كل الأحوال، من قيمة العملة الوطنية وينعكس في انخفاض الأسعار. وتقوم التغطية في ضبط الإصدار النقدي وتعريف الوحدة النقدية بطريقة سليمة لتحقيق الاستقرار النقدي. لذلك تحرص الدولة على هذه التغطية حرصها على استقرار أسعار عملتها. قامت بلجيكة في الأعوام 1944-1946 بعملية انكماشية جمدت بها الأوراق النقدية والحسابات المصرفية، وقد أدى ذلك إلى استقرار التداول النقدي وازدياد القوة الشرائية بنسبة نمو الإنتاج وإلى انخفاض الأسعار. وأجرت ألمانية الاتحادية عام 1948 إصلاحاً نقدياً حدّت به من التدفقات النقدية المرتفعة في اقتصادها بتحويل المارك، عملة الرايخ القديمة، إلى دوتش مارك بنسبة: 1 إلى 10. وتظهر العلاقة بين الكتلة النقدية والأسعار بسهولة: فالأسعار = الكتلة النقدية/ كتلة المنتجات أو نسبة الكتلة النقدية إلى كتلة المنتجات فإذا نقصت الكتلة النقدية (مع بقاء كتلة المنتجات على حالها) أدى ذلك إلى انخفاض الأسعار. لكن هذه السياسة الانكماشية ما كان لها أن تنجح، كما يقول ريمون بار، لولا أن بلجيكة استطاعت تحقيق استيرادات مكثفة سمحت بها موجوداتها من القطع الأجنبي (الدولار)، ولولا أن ألمانية كان عليها أن ترد إلى الشعب عملته. وسياسة الانكماش النقدي تنطوي كذلك على محاذير اجتماعية وخاصة ما له علاقة بخسارة المدينين وتقوية مركز المدخرين، وقد تعجز وحدها عن تخفيض الأسعار، وقد اعتمدت أمريكة على هذه السياسة، في عهد نيكسون في السبعينات، غير أن الحدّ من السيولة النقدية في الاقتصاد الأمريكي أدى إلى تقليص الفاعليات الاقتصادية واستمرار الأسعار في الارتفاع، نتيجة للتضخم الناجم عن زيادة الكلفة، وكان لابد من مزج التدابير النقدية المقترحة من مدرسة شيكاغو بتدابير أخرى. وتفرض سياسة الانكماش النقدي نفسها على البلدان النامية، بيد أن نمط الإنتاج الغالب في معظمها يملك آلية يستحيل معها تطبيق هذه السياسة لمعالجة التضخم، وهذا النمط نفسه ينتقص من مسألة التغطية ويضرب عرض الحائط بكل المعايير لدى إصداره النقدي المكشوف، فيخلق بذلك توترات تضخمية تجبر السلطات النقدية على السير في اتجاه سياسة معاكسة. إن ارتفاع أسعار السلع الضرورية والفاخرة في هذه البلدان، نتيجة لنقص الإنتاج من جهة وانخفاض قيمة العملة الوطنية من جهة أخرى، يحدث نوعاً من الادخار الإجباري بالكف عن الاستهلاك، لكنه ادخار يذهب جله إلى الاكتناز والمضاربات والمتاجرة بالعملات الأجنبية وتهريبها فيستشري التضخم، وبذلك تتبخر رغبات «التقشف» المعلنة. الانكماش التسليفي وهو جانب من سياسة متعمدة للتسليف تلجأ إليها الدولة من أجل توجيه عملية توافر النقود وتحقيق الأهداف الاقتصادية والمالية في مرحلة التضخم. وقد تلجأ الدولة إلى تحقيق نوع من التنمية من دون تضخم، يتسم معه الاعتدال في السياسة التسليفية بنوع من الانكماش. وأهم التدابير في إطار الانكماش التسليفي هو تحكم مصرف الإصدار بالسيولة النقدية ورفع كلفتها، تارة عن طريق سعر إعادة الحسم مما يجبر مصارف الودائع على رفع معدلات الحسم لديها والإبطاء  في العمليات التي من شأنها إيجاد وسائل الدفع وطوراً عن طريق منح الاعتمادات، وذلك بالتأثير في معدلات الفائدة في السوق المالية، وسلوك سياسة السوق المفتوحة open market فتبيع الدولة ما لديها من أوراق مالية تمتص بفضلها جزءاً من الودائع لدى البنوك مقلصة بذلك السيولة لدى هذه الأخيرة مما يحدّ من قدرتها على التسليف. وتعمد السلطات المالية إلى تدابير متممة منها تطبيق نظام الاحتياطي الإلزامي على المصارف، بحملها على إيداع نسبة من الأموال لدى المصرف المركزي معادلة لجزء من ودائع الزبائن، كما تفرض رقابة صارمة على السيولة النقدية يحظر بموجبها على المصارف تجاوز الاعتمادات، التي تمنحها، للمعدل الوسطي لمجموع المبالغ المودعة لديها. ويمكن أن يضاف إلى ذلك ترشيد تخصيص الاعتمادات للمشروعات وفئاتها بطريقة اصطفائية ومنع منح هذه الاعتمادات لغايات المضاربة، وذلك بتحديد سقف الاعتماد الممنوح لبعض المشروعات. وتلجأ أكثر الدول النامية إلى سياسة الانكماش التسليفي لمجابهة التضخم ومنها سياسة سعر الفائدة، لكن هذا الإجراء الأخير محكوم عموماً بأسعار الفائدة في الأسواق المالية الدولية. كما أن أسلوب التمويل بعجز الميزانية المنتشر في هذه الدول يستدعي الاقتراض من المصارف، إذ تلجأ الدولة إلى ذلك مقابل أذونات خزينة، وغالباً من دونها، مما يعرقل سياسة الانكماش ويفتح الباب لضدها. الانكماش في الإنفاق حين يقع الخلل بين حجم الإنتاج وحجم الإنفاق من تزايد هذا الأخير واتساع «الفجوة التضخمية»، تبدو سياسة الحدّ من الإنفاق الخاص والعام (حين لا يمكن زيادة الإنتاج) مسألة لابدّ من حلها وتأخذ الصور التالية: 1ـ في مجال الإنفاق الخاص: أول ما يخطر على البال هو تخفيض الأجور. والمعلوم أنه ليس لتخفيض الأجور والرواتب مكان واسع في الفكر الاقتصادي ولا هو مستحب في مراحل التطور الاقتصادي الاجتماعي. وأمام قضية ربط الأجور بالأسعار وتثبيت الأجور، وربط الأجور بالإنتاجية اختفت نغمة تخفيض الأجور. وقد يمكن تصور سياسة لتخفيض الأجور في الاقتصاديات الاشتراكية لدى زيادة فوائض الكميات المنتجة وانخفاض الأسعار. لكن هذا يبقى غير مستحب من الناحية النفسية، ولذلك تستعيض الدولة عن تخفيض الأجور بزيادة الضرائب لامتصاص القوة الشرائية الزائدة. وتفضل الضرائب الشخصية المباشرة بشرط أن تصيب جميع الدخول المعلنة التي كان من السهل التهرب من إعلانها. أما الضرائب غير المباشرة فهي، لاشك، تحدّ من الاستهلاك لكنها تؤدي أيضاً إلى ارتفاع الأسعار نتيجة ثقل عبئها، مما يقود إلى نوع آخر من التضخم. لذا فإن استعمال الضرائب غير المباشرة لا يكون على العموم مجدياً إلا إذا أصاب سلع الاستهلاك الترفي. 2ـ في مجال الإنفاق العام: تلجأ السلطات المعنية إلى السياسة الانكماشية في الموازنة العامة وذلك بالإقلال من النفقات من جهة وتحقيق وفر في الموازنة من جهة أخرى. وهو أمر يمكن أن ينجح في الاقتصاديات الرأسمالية والاشتراكية. أما في الاقتصاد المتخلف، والمعلوم هنا أن نسبة كبيرة من النفقات العامة الحكومية تميل إلى الارتفاع، كالرواتب والنفقات الإدارية والدفاعية والأمنية، فإن الحد من الإنفاق العام مهما تصدت له السلطات المعنية لا يذهب إلا إلى الإنفاق الاستثماري. ومن هنا كانت المفارقة؛ فالتنمية تتطلب زيادة في الإنفاق الحكومي لزيادة كمية المنتجات، والانكماش (التقشف) يعمل، بتخفيض هذا الإنفاق، على تخفيض إنتاج البضائع والخدمات الضرورية. ولذا كان لابد لهذه السياسة من أن تأخذ بالحسبان صعوبة تقليص النفقات والتعويض منها بالحصول على الموارد. ولا ينجح ذلك إلا في مرحلة يتهيأ فيها الاقتصاد المتخلف للانتعاش. وفي هذه البلدان المتخلفة ذاتها لابد لسياسة الانكماش في الإنفاق من أن تعمل على امتصاص القوة الشرائية الإضافية لدى ذوي الدخول العالية لردها إلى الدولة وتوجيهها نحو الاستثمار وزيادة التراكم. كما أن استقرار الأسعار، ولو بصورة نسبية، يبقى ضماناً لنجاح سياسة الانكماش في الإنفاق، إضافة إلى أن هذا الاستقرار يساعد على الاستقرار في أسعار الصرف وتحسين مركز البلد النسبي في التصدير. ومن ثم لابد من إخضاع أسعار الخدمات للمراقبة وإلا فإن الفعاليات الخدمية تنشط على حساب الفعاليات السلعية، مما يوجد خللاً يصعب إصلاحه، يسير في خط التضخم نفسه الذي يراد كبحه. الانكماش والاقتصاد الوطني درج الفكر الاقتصادي على دق ناقوس الخطر كلما سار الاقتصاد الوطني في طريق الانكماش. لأن الانكماش يؤدي إلى الكساد وهذا يحمل أسوأ العواقب على العمالة والفعاليات الاقتصادية. ولعل أكبر سابقة من هذا النوع كانت أزمة الثلاثينات (1929 وما بعدها). هذه الأزمة وضعت الفكر الاقتصادي أمام حالة من الانكماش أدت إلى الكساد إذ اجتاحت البطالة الولايات المتحدة وبريطانية وأكثر الدول الأوربية. مما دعا الاقتصاديين إلى التفكير بالوسائل الضرورية للخروج من الأزمة. أسهمت التدابير الكينزية إسهاماً تاريخياً حين طالبت برفع الأجور الاسمية لرفع مستوى الطلب الفعال، وحين اشتركت الدولة في هذا وفي حل مشكلة البطالة عن طريق زيادة الإنفاق الحكومي وتمويل عناصره، ولاسيما «التمويل بعجز الموازنة» إذ تخطت الاقتصاديات الرأسمالية أزمتها بفضل هذه التدابير منتقلة إلى مرحلة من الازدهار، ثم عاشت بعدها في نشوة زيادة الإنتاج والاقتراب من مستوى التشغيل الكامل حتى بداية السبعينات حين اندلعت الأزمة الرأسمالية الجديدة، وهي أزمة جديدة اجتمع فيها التضخم والركود، فكان من الطبيعي أمام الركود التضخمي أن تفقد التدابير الكينزية مسوغاتها، وأن تعود الرأسمالية إلى تدابيرها التقليدية (الكلاسيكية) لمعالجة التضخم بتوازن الموازنة والاستقرار النقدي وضغط الإنفاق، مكتشفة أهمية السياسة الانكماشية، أي أن تعود إلى تدابيرها التقليدية لمكافحة الركود ومن أهمها الاتجاه بقوة نحو الأسواق الخارجية وجبهات القتال لتصريف فائض الإنتاج ولاسيما فائض إنتاج «العهد الصناعي الثالث» الذي تمخضت عنه الأزمة نفسها. لكن التدابير الكينزية مازالت تجد تطبيقاتها في البلدان النامية والمنطقة العربية منها خاصة في شروط لم تخطر على بال كينز، مما يؤجج التضخم ويقضي على التضامن الاجتماعي في هذه البلدان، حيث العمالة ذات دلالات مختلفة عما هي عليه في البلاد الرأسمالية، يتعايش التضخم الجامح مع البطالة بمختلف صورها، ولكن ليس لأسباب انكماشية قادت إلى الركود، بل لأسباب تضخمية سابقة، هي على العموم من منشأ نقدي (تواتر الإصدار النقدي الكينزي بلا تغطية) ولوجود آلية تخريبية في نمط الإنتاج الغالب تعطل الفعاليات السلعية لصالح النشاطات الخدمية الطفيلية. ولذلك، فإن الإمعان في استعمال «الوسائل الكينزية»، لأنها أسهل الوسائل، يؤدي إلى توفير سيولة نقدية تفوق المقدرة الإنتاجية الحقيقية، مما يطلق التضخم ولا يسمح لأي سياسة انكماشية أن تعمل بأي حال من الأحوال. في هذه البلدان النامية لابد إذن من إحداث «الانعكاس» في الآلية المذكورة للتصدي بحزم للتضخم،) لأن البطالة في عوامل الإنتاج ليست بسبب الانكماش). ويجب أن تعمل سياسة الانكماش في هذه البلدان للتأثير في العرض والطلب الكلي معاً، ويكون ذلك حتماً بالحدّ من زيادة الكتلة النقدية للحدّ من جموح الطلب الاستهلاكي، وبالعمل على ساحة العرض لزيادة إنتاج السلع الزراعية والصناعية، وفي هذا المجال يجب إعادة هيكلة الجهاز الإنتاجي واتخاذ جميع التدابير للتركيز على زيادة الإنتاجية وتنمية الموارد. وهكذا يؤمل الحصول على توازن في مستوى معين من الأسعار يتعامل مع مستوى معين من الأجور والرواتب. إن عدم أخذ السياسة الانكماشية لمسألة الطلب الكلي في الحسبان هو كعدم مراعاة «سياسات التنمية بالتضخم» لقضية العرض الكلي في البلدان النامية. ولذا فإنه من أجل الحد من القوة الشرائية المتزايدة لابد من التعرض للريوع السهلة والأرباح الناشئة عن الوضع الاقتصادي الاجتماعي المتخلف ويكون ذلك بالضرائب المباشرة. إن تعقيم القوة الشرائية المتراكمة بين أيدي فئات المستغلين والمضاربين والعابثين بمؤسسات الدولة يستدعي توجيه الفوائض إلى حساب خاص في الخزينة يخصص لزيادة الإنتاج. إلى ذلك كله يضاف ما له علاقة بمراقبة الاستيراد والتصدير ومعدلات الصرف ومكافحة التهريب وتسرب العملات إلى الخارج. ولعل ذلك يستدعي بالضرورة تغيير نمط الإنتاج الغالب.    إسماعيل سفر   الموضوعات ذات الصلة:   التضخم.   مراجع للاستزادة:   ـ إسماعيل سفر، محددات السياسة الاقتصادية العربية المعاصرة (1983)، أزمة الرأسمالية وعاملها الخارجي (1984)، النظرية الكينزية والمأساة الاقتصادية ـ الاجتماعية (1985): منشورات جامعة الدولة بمونص (بلجيكة) مركز الدراسات والبحوث العربية (CERA). -PR.R. BARRE , Economie politique (PUF, Paris 1964).
المزيد »