logo

logo

logo

logo

logo

الموحدون

موحدون

Monotheists - Monothéistes

الموحدون

(541 ـ 668هـ/1146 ـ 1269م)

 

أتباع حركة دينية سياسية، قامت على أنقاض دولة المرابطين وإمارات أخرى، وكانت أطول عمراً من دولة المرابطين وأكثر اتساعاً، إذ ضمّت كل الجزء الباقي كله من الشمال الإفريقي، وفي حين كانت حركة المرابطين حركة فقيه مالكي مثَلُها الأعلى تطبيق الشرع وفق أحكام هذا المذهب الفقهي، كانت حركة الموحدين تجمع بين تيارات الفكر الإسلامي المعاصر.

ارتبطت نشأة الحركة ونشر مبادئها الدينية والسياسية بمحمد بن تومرت[ر] الذي ولد في إيجليز Igiliz الواقعة على منحدرات الأطلس الصغير، ونشأ في وسط قبيلة «هرغة» ومايجاورها من القبائل المصمودية التي تعمر كل الأطلس.

في سنة 500هـ/1106م ارتحل تومرت إلى الأندلس ومنها إلى مصر والشام والديار المقدسة والعراق، حيث كان يأخذ العلم ويلتقي المفكرين أينما حلّ، وفي رحلة العودة سنة 510هـ/1116م عبر مصر ثم طرابس وبعدها تونس ثم قسنطينة ومنها إلى بجاية، وأخيراً في ملالة وعلى مقربة منها التقى عبد المؤمن بن علي[ر] مؤسس دولة الموحدين.

بعد مغادرة ابن تومرت ملالة برفقة عبد المؤمن تدخل رحلة عودته مرحلة جديدة، إذ ستدخل في الأراضي الخاضعة لسلطان المرابطين، وأصبح المضمون السياسي واضحاً في تصرفاته ممتزجاً  بعمله آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر؛ لأنه أخذ يتعرض للحكام المرابطين والسلاطين، فطُرد من فاس بأمر من حاكمها إثر تحريض مجموعة من الفقهاء عليه، وفي مرّاكش تعرّض لكبار الموظفين المرابطين، ومن بعدهم لأفراد الأسرة الحاكمة بل للأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين، فأُجبر على مغادرة مراكش، فتوجه نحو جبال الأطلس ليستقر في مسقط رأسه إيجليز، وفي أثناء تنقله كان يجمع بعض الأتباع من المصامدة لعلّ أشهرهم أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي، الذي كان له دور بارز في بناء دولة الموحدين، وعندما حاول أن ينتقل من ضم الأفراد إلى ضم قبائل مصمودية كاملة عن طريق إرسال المبعوثين، أدرك المرابطون خطر هذه الدعوة الدينية عليهم، فحاولوا القضاء عليه وكادوا ينجحون في ذلك، فانتقل ابن تومرت إلى قلب الأطلس الأعلى ونزل في قرية تينمل التي كانت غاية في المنعة والحصانة، وفي هذا الحصن نظّم دعوته التي قامت على مبادئ دينية في الأصل ولكنها ذات أهداف سياسية تهدف إلى تحطيم سلطان المرابطين.

ولعل أكمل صورة لهذه المبادئ نجدها في كتاب «أعز ما يطلب» الذي جمع فيه عبد المؤمن بن علي خليفة المهدي بن تومرت كل تعاليمه، وأول ما يميز هذه التعاليم كونها خليطاً متنافراً غير متجانس من الأفكار، تجتمع منه كل المذاهب والتيارات التي سار معها ابن تومرت كلياً أو جزئياً في إطار السنة، وجعل مبدأ تنزيه وحدانية الله حجر الزاوية بالنسبة إلى مبادئه حتى سُمي الذين آمنوا بدعوته بالموحدين، ولكنه خالفها بأجمعها ودفعة واحدة بقوله بعقيدة الإمامة والمهدوية على الطريقة الشيعية، وعدّ الإمامة ركناً من أركان الدين، وعدّ اعتقادها والعمل بها والتزامها ديناً، ومن مقتضيات هذا الالتزام، الهجرة إلى الإمام، كما عدّ أن الإمام لايكون إلا معصوماً من الباطل لهدم الباطل.

ظل محمد بن تومرت يعمل في تينمل مع أصحابه على نشر عقيدته، وتنظيم المجتمع  الموحدي، ومحاربة المرابطين، وفي سنة 524هـ/1130م هُزم الموحدون بقيادة ابن تومرت في هجومهم على مراكش وخسروا كثيراً من أتباعهم مع عدد من قوادهم واضطروا إلى الهروب إلى جبالهم من جديد، وتوفي ابن تومرت بعد ثلاثة أشهر من السنة نفسها.

فقدت حركة الموحدين بوفاة ابن تومرت الإمامَ المعصومَ بكل ما ينتج من هذه العقيدة في العصمة من طاعة له بين هذه القبائل المتنافرة وتوحيد لكلمتها ولجهودها، ولذا فإن خمسة من كبار أتباعه، دخلوا معه داره لآخر مرة وعرفوا بوفاته فكتموها عن جمهور الناس مدة ثلاث سنوات كاملة، وكان من بقي من الجماعة يتناوبون قيادة الناس بالغزو في أثنائها ويعزون العمليات لأمر المهدي.

في سنة 527هـ انتخبت الجماعة عبد المؤمن لخلافة المهدي الذي يعود إليه الفضل في تحول حركة الموحدين إلى دولة خضع لها المغرب الأقصى كله والأوسط بعد صراع مع المرابطين انتهى بالقضاء على دولتهم، ودخول عاصمتهم مراكش التي سقطت عام 541هـ/1146م. وفي أواخر سنة 541هـ وأوائل سنة 542هـ أرسل عبد المؤمن قوة موحدية دخلت الأندلس تلبية لطلب أحد كبار الثائرين وهو ابن قُسّي، واستطاعت هذه القوة أن تسيطر على غربي الأندلس كله بما فيه المدينة الكبرى إشبيلية، ولكن عبد المؤمن انشغل بعد ذلك ببسط سلطانه على بقية أنحاء الشمال الإفريقي، فابتدأ بدولة الحماديين الذين تركز سلطانهم في بجاية فاستسلمت من دون مقاومة ثم احتل قلعة بني حمّاد وقسنطينة، وأتبع ذلك بعد عدة سنوات بالتوجه نحو إفريقية (تونس) حيث قضى على بقايا الزيريين، وسلالة آل خراسان المنشقة عنهم في مدينة تونس، وأخيراً حارب النورمانديين براً وبحراً واستخلص منهم المهدية سنة 555هـ/1160م وما احتلوه من بقاع أخرى في المغرب.

توفي عبد المؤمن سنة 548هـ/1153م بعد أن هيأ جيوشاً ضخمة وأساطيل أراد توزيعها إلى جيوش أربعة، يهاجم كل منها دولة من الدول الإسبانية: البرتغال وليون وقشتالة وأراغون، ولكنه توفي قبل أن يحقق مبتغاه.

تولى الحكم بعد عبد المؤمن ابنه يوسف الأول أبو يعقوب (558 -580هـ) الذي اضطر إلى إخماد العديد من الثورات سواء أكانت في المغرب الأقصى أم الأدنى، ولكن جُلّ اهتمامه صُرف إلى الأندلس، حيث اضطر إلى المحاربة على جبهتين؛ ضد المسلمين الذين بقوا خارج طاعة الموحدين في الشرق؛ وضد الدول الإسبانية وخاصة ليون وقشتالة والبرتغال.

كان ابن مردنيش صاحب مرسية والشرق عموماً، ولكنه لم يكتف بما تحت يده، بل أخذ يهاجم المدن الكبرى كقرطبة وجيان وغرناطة أواخر عهد  عبد المؤمن، فلما تحالف مع الفرنج لدرء الخطر عن ممتلكاته، وتخلق بأخلاقهم ومارس عاداتهم، واضطر أن يبتكر ويبتدع في أنواع الضرائب لكي يسد متطلباته منه، وقع الخلاف بينه وبين الرعية، كما وقع الخلاف بينه وبين أقاربه، وتوفي وهو في صراع معهم تاركاً ابنه هلال الذي استسلم لأبي يعقوب يوسف الذي عفا عن العائلة وتزوج هو وبعض أفراد أسرته من نساء ابن مردنيش سنة 570هـ/1174م.

وإذا كان الحظ قد حالف أبا يعقوب يوسف مع ابن مردينتش، فقد غلب عليه الإخفاق مع الإسبان، فقد حاول احتلال وبذه (Huete) فأخفق، في حين نجح القشتاليون باستخلاص قونقه Cuenca من المسلمين، وعندما حاول أن يستخلص مدينة شنترين من الإسبان أُصيب بجراح قاتلة في المعركة وتوفي على إثرها في ربيع الآخر سنة 580هـ/تموز/يوليو 1184

ارتقى أبو يوسف يعقوب عرش الخلافة ونال البيعة من دون معارضة مع أنه لم يعيَّن ولي عهد من قبل والده وتلقب بالمنصور، واستمرت خلافته خمس عشرة سنة (580- 595) تعدّ الذروة في الحكم الموحدي؛ إذ تتميز بغناها سواء في المشكلات الداخلية التي واجهته أم في الانتصارات الخارجية أم في المنجزات الحضارية.

واجه أبو يوسف يعقوب المنصور في أول عهده خطر انتقاض على نطاق واسع في شرقي دولته تزعمه بنو غانية[ر]، ومع تسخيره لإمكاناته الواسعة للقضاء عليه؛ إلا أنه لم يستطع إبعاده إلا لأمد وتسكين ثائرته لمدة، ولم يقض الموحدون على ثورة بني غانية إلا والدولة على وشك الانهيار، وكان على الخليفة بعد ذلك أن يواجه مصاعب متعددة من تآمر بعض أقربائه عليه مما اضطره إلى الخلاص منهم بالقتل، ولم يكد ينتهي من هذا الأمر حتى فوجئ بهجوم ملك البرتغال على شَلَب المهمة براً وبحراً سنة 585هـ؛ مستغلاً وصول سفن إلى موانئه تحمل فلمنكيين وألماناً متوجهين إلى فلسطين لنجدة الصليبيين إثر سقوط القدس بيد صلاح الدين، وفي الوقت نفسه قام ملك قشتالة بالإغارة على الأراضي الإسلامية المجاورة له، واحتل أحد الحصون.

اضطرت هذه الأمور يعقوب المنصور إلى توجيه اهتمامه بالأندلس، وقام بعدة عمليات فيها، استرجع شلب في إحداها بعد سقوطها بسنتين، وتوجت عملياته هناك بانتصاره في موقعة الأرك الفاصلة في 9 شعبان 591هـ/18تموز/ يوليو 1195م على ملك قشتالة وحلفائه من الإسبان والتي أحدثت كثيراً من الخسائر في صفوف القشتاليين، وصار المؤرخون القدماء يقارنونها بالزلاقة، ولكن نتائجها كانت أعمق من نتائج موقعة الزلاّقة، فبينما عاد يوسف بن تاشفين إلى المغرب من دون أن يقطف ثمرة انتصاره، تقدم يعقوب المنصور إثر موقعة الأرك في أرض عدوه، واحتل عدداً من المواقع والمراكز كالأرك وقلعة رباح، وفي العام التالي توغل بغاراته التأديبية في أراضي عدوه إلى مسافات بعيدة، وصل فيها إلى مقربة من طليطلة ولم يتجرأ ألفونسو الثامن أو حليفه ملك أراغون على اعتراضه.

توفي يعقوب سنة 595هـ/1199م، وتولى محمد الناصر بن المنصور الخلافة أمداً يقرب من مدة خلافة أبيه، ولكن بينما مثلت خلافة أبيه الذروة في العصر الموحدي سياسياً وعسكرياً، كانت خلافة الناصر ميلاً نحو الانحدار، وأهم أعماله كانت عدا عن إخماد الثورات التقليدية المتكررة في عهد كل خليفة؛ موجهة نحو العملين الكبيرين اللذين شغلا والده قبله، وهما توطيد سلطان الموحدين في إفريقية ضد عصيان بني غانية، وكذلك محاربة الإسبان في شبه الجزيرة الإيبرية، وقد أحرز نجاحاً ملموساً في المجال الأول مقارنة بالكارثة التي حلت بدولته في المجال الثاني، فقد استغلت الدول المسيحية الإسبانية غياب الخليفة في إفريقية لتهاجم الأراضي الإسلامية وقد بدأت أراغون بإظهار العداء وتلتها قشتالة، فرد الناصر على ذلك وهو في مراكش إثر عودته من إفريقية، بإعلان الجهاد، وجمع جيشاً ضخماً عبر به المضيق، ثم حاصر شلبطرة الحصينة مدة تقرب من ثمانية أشهر حتى احتلها في حين احتل القشتاليون قلعة رباح، ولم يتقدم جيش الناصر إثر ذلك بل تحصن بشعاب سييرامورينا في موقع العقاب، حيث حدثت المعركة التي اشتعل فيها القتال بين الطرفين في 15صفر سنة 609هـ/16تموز 1212م والتي دارت فيها الدائرة على المسلمين وأصبحوا بين هارب ومقتول، بما في ذلك الخليفة نفسه الذي هرب على فرس أحد العرب. عاد الخليفة إلى مراكش بعد المعركة لا ليستعد لتعويض ما فات بل ليعيش في خمول مدة سنة، أدركه الأجل بعدها سنة 610هـ، واختلف الرواة حول ظروف الوفاة فمن قائل إنه سمّم؛ ومن قائل إن عبيده السود قتلوه؛ وغيرهم يدَّعون أن الوفاة نتجت من ورم في دماغه.

بدأت بوادر الفتنة في عهد يوسف ابن محمد الملقب بالمنتصر الذي بويع وهو في السادسة عشرة من عمره سنة 610هـ إثر وفاة أبيه، ولم يكن له من الأمر شيء، بل انقضّ على السلطة والدولة أولئك الذين حرموا منها في الداخل والخارج؛ في الداخل حُرم أشياخ الموحدين من السلطة منذ أن استأثر بها عبد المؤمن وأسرته، وتبعهم في طريق الحرمان منها القرابة فيما بعد، وقام الجميع حينها يصرفون الأمور على هواهم من دون الخليفة في المركز. وبينما كان أفراد أسرة عبد المؤمن يقتتلون في الداخل على عرش الدولة، وحول كل منهم جماعة من أشياخ الموحدين في الأندلس والمغرب أو قبيلة من القبائل العربية، كان هذا العرش المتنازع عليه يفقد قيمته تدريجياً، فالدولة في إفريقية تتجزأ وتنفصل عن المركز بقعة إثر أخرى؛ بدأ ذلك الحفصيون[ر] في تونس وبسط بنو زيان الزناتيون سلطانهم على تلمسان، وبدأ سلطان المرينيين بعد خروجهم من الصحراء ينبسط شيئاً فشيئاً على المغرب الأقصى. أما في الأندلس، فقد بدأ النصارى الإسبان عمليات توسعهم العظمى، أراغون في الشرق؛ قشتالة في الوسط؛ والبرتغال في أقصى الغرب، وتجاه عجز الموحدين عن حماية الأندلس بل تحالف بعض الموحدين معهم كالمأمون (624-630هـ)؛ قام بالمهمة زعماء محليون كان أوسعهم نفوذاً ابن هود وبعده ابن الأحمر، وخلعوا سلطان الموحدين وحاربوهم، مما زاد في تعقيد وضع الإسلام في الأندلس، فاستغل الإسبان هذا الوضع ليطووا الجزيرة طي السجل حسب تعبير المؤرخين القدماء، وسقطت حواضر الإسلام الكبرى في أيديهم، قرطبة وإشبيلية وفلنسيا وجيان، وكاد الإسلام أن ينتهي نهائياً من شبه الجزيرة لولا تشبث بقية باقية منهم بالشعاب الوعرة لسييرا نفادا؛ أي سلسلة الجبال الثلجية في أقصى الجنوب حيث قامت دولة بني نصر[ر] في غرناطة.

الازدهار السياسي والحضاري في فترة الاستقرار

تعدّ الفترة التي دامت قرابة 50 عاماً بين وفاة باني الدولة عبد المؤمن بن علي سنة 558هـ وبين معركة العقاب سنة 609هـ فترة الاستقرار والازدهار، فترة استقرار لاستطاعة الخلفاء الثلاثة الذين توالوا على الحكم في أثنائها الحفاظ على هذه الامبراطورية المترامية الأطراف، ثم توسيع حدودها في الأندلس ببسط سلطانهم على شرقها الذي ظل متعنتاً في عداء عبد المؤمن، وفترة ازدهار يُعثر فيها على مظاهر متعددة له؛ منها كثرة الأموال المنصّبة في خزائن الخلفاء، ويضرب المراكشيّ مثلاً على ضخامة ما تحصل عليه الدولة من خراج بقوله: «كان يُرتفع إليه (أي الخليفة) خراج إفريقية وجملته وِقْرُ مئة وخمسين بغلاً هذا من إفريقية وحدها خلا بجاية وأعمالها وتلمسان وأعمالها والمغرب ومدينة سلا وأعمالها وسبتة وأعمالها وجزيرة الأندلس مضافاً إلى مراكش وأعمالها». وقد مكنهم هذا الغنى من تجنيد المرتزقة على نطاق واسع سواء أكان من العرب، أم باستقدام جند من الغز المشارقة الذين استهووهم من دون شك بالأرزاق الواسعة، ودفعها بانتظام، ممّا ساعد على الحفاظ على هذه الدولة الواسعة بالقوة.

ساعد الاستقرار والوحدة السياسية التجارة؛ لأن كل خطوط تجارة الذهب وبضائع السودان شرقاً وشمالاً أضحت خاضعة لسلطة واحدة، ويؤكد ذلك مايذكره ابن أبي زرع عن أيام الخليفة المنصور، إذ يقول: «وكانت أيامه أيام دعة وأمن ورخاء… صنع الله عزّ وجلّ في أيامه الأمن بالمشرق والمغرب والأندلس، فكانت الظعينة تخرج من بلاد نول لمطة (بإقليم أغادير اليوم) حتى تصل برقة وحدها لاترى من يعارضها ولامن يكلمها».

ضمن هذا الإطار من النشاط التجاري في منطقة شاسعة، انتشرت الزراعات الجديدة ذات المردود العالي والطلب في السوق التجارية، وهكذا وصلت - إضافة إلى  الأترج- زراعة قصب السكر إلى السوس في أقصى المغرب، وأقيمت مصانع التكرير له. ويورد الحميري وصفاً له وللتجارة فيه، وأنه من السوس يجلب السكر إلى بلاد المغرب والأندلس وإفريقية ويرسل منه إلى الآفاق ويصل فاضله إلى أقصى خراسان.

وفي مجال التعدين نشط في هذه الفترة إضافة إلى استخراج الحديد المعروف منذ قرون في أماكن متعددة بالمغرب، استخراج معدن الفضة الثمين،ومعدن النحاس الخالص الذي يدخل في لحام الفضة كما يذكر الحميري في كتابه «الروض المعطار»، ويذكر ابن عذاري أنه عندما علم الخليفة أبو يعقوب يوسف سنة 578هـ؛ أن المعدن الذي بجبل السوس على مقربة من بلاد هرغة يستخرجه أهل ذلك المكان وأنهم اغتصبوه لأنفسهم من دون حق منه للخليفة، خرج من مراكش لتحصين المكان وتحصيله، فوصل إلى المعدن المذكور وقرر بناء حصن عليه وأسكنه الأجناد.

من هذه الموارد المتعددة التي نالها الموحدون استطاعوا أن ينفقوا بسخاء على العلماء في بلاطهم وعلى الصناع والعمال في أعمالهم العمرانية .

يتجلى الازدهار الفكري في عهد الخليفة يوسف بن عبد المؤمن وابنه يعقوب بن يوسف اللذين كانا من المشاركين فيها، وقد هيأتهما لذلك حياتهم في ربوع الأندلس وفي إشبيلية على وجه الخصوص، ويؤثر عن الأول أنه كان أعرف الناس بكلام العرب وأحفظهم لأيامهم ومآثرهم وأخبارهم في الجاهلية والإسلام، وكان مبرزاً في العلوم الدينية من ناحية والفلسفية بجميع فروعها من ناحية ثانية، وقد جمع كتب هذه العلوم من كل جهة حتى توفر له منها عدد يقرب مما كان لدى الحكم المستنصر[ر] الخليفة الأموي الشهير، كما استقدم العلماء المشاهير في هذا الباب، واستصحب محمد بن الطفيل[ر] الفيلسوف الشهير الذي عمل في ميدان الجمع بين الحكمة والشريعة، ولم يقتصر دور ابن الطفيل على مصاحبة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، بل كان يدل على العلماء من جميع الأقطار، فكان الوساطة لجلب أبي الوليد محمد بن رشد[ر] الذي اتصل منذ ذلك الوقت ببلاط الموحدين، وقام بترجمة كتب أرسطو الفلسفية إلى العربية بعنوان «كتاب الجوامع»، ثم لخصها بعد ذلك وشرح أغراضها بناء على طلب الخليفة.

أما في مجال العمران فقد تجلت فيه الضخامة والتأثر بالفن المعماري الأندلسي الذي امتد ليشمل شمالي إفريقيا كله بعد أن أصبح خاضعاً بأجمعه للموحدين، وطغى بذلك الأثر الأندلسي على تأثيرات الأساليب المشرقية في القسم الشرقي من المغرب.

تعددت المنشآت العمرانية في هذه الفترة وأغلبها مازال قائماً حتى اليوم، ويأتي على رأسها الأعمال العمرانية بمدينة الرباط التي بدأت من أيام عبد المؤمن وتابعها ابنه يوسف ثم حفيده يعقوب المنصور الذي أتمّ بناء أسوارها، واتسع مسرح أعماله العمرانية ليشمل نواحي متعددة في المغرب والأندلس، ففي الرباط شرع ببناء مسجد ضخم يبدو كأنه بني ليتسع لجيش كامل في الصلاة، وقد توفي قبل إتمامه فتوقف العمل به، ولازال قائماً من بقاياه، العديد من الأعمدة والدعامات، ومن البقايا المنارة المعروفة بمنارة حسان وميزتها الأساسية ليست في علوها بقدر ما هي في طريقة الصعود إلى أعلاها بوساطة سطوح مائلة لا بوساطة أدراج. ويعود الاهتمام بالبناء في هذه المدينة لا لكونها عاصمة أو مقراً؛ بل لأنها مركز حشد للقوات سواء أكانت المتوجهة منها إلى الأندلس أم إلى ولاية إفريقية.

ومن الطبيعي أن يحظى البناء في العاصمة مراكش بنصيب كبير من الاهتمام، وكان أول عمل للموحدين بها بناء قصورهم ومسجد خاص بهم لعدم رغبتهم في الصلاة بمسجد المرابطين. وفي عهد المنصور بنيت مدينة كاملة لبلاطه وخدماته الإدارية تعرف اليوم بالقصبة، كما بُني بيمارستان ضخم، رأى المراكشي أنه فريد في نوعه في الدنيا لإتقان بنائه، ونفاسة فرشه وجمال حدائقه، وجودة الخدمات المقدمة فيه للمرضى من ملابس وطعام ودواء وعناية.

وكانت إشبيلية مركزاً آخر اهتم الموحدون بالبناء فيه، بدأ بذلك أبو يعقوب يوسف في عام 567هـ عندما أمر ببناء قنطرة على واديها بينها وبين الشرق، كما أمر ببناء مدينة ملكية له خارج الأسوار ، عرفت بقصر البحيرة على مساحات واسعة، اتسعت لبناء عدة قصور للأمراء إضافة إلى مساحات واسعة من الأراضي خضعت لزرع الغراس فيها من الزيتون والفواكه التي جُلبت من أراضٍ مجاورة وأخرى بعيدة كأراضي غرناطة، ثم قام مهندسوه بإصلاح قناة رومانية تحمل الماء إليها من جهات قلعة جابر Guadaira حالياً، ثم أكمل مد القناة إلى داخل إشبيلية لشرب الناس، ثم أمر ببناء مسجد ليصلي فيه الموحدون بعدما كثر عددهم، ثم بدأ ببناء سور المسجد ومنارته مع سور المدينة،  لكن أبا يعقوب يوسف توفي واستكمل ابنه أبو يوسف يعقوب المنصور بناء المنارة، وتم صنعها من غير أدراج؛ إنما يُصعد إليها في طريق واسعة للدواب والناس والسدنة، ولم يلبث المسجد الجديد أن أصبح مركزاً للمدينة.

استمرت حركة الموحدين كدعوة ودولة ما يزيد على قرن، ومجموع الأعمال التي قامت بها والأساليب التي نفّذت بها هذه الأعمال، تركت آثاراً معينة بالنسبة إلى تاريخ المغرب العربي.

استمرت في ظل الموحدين عملية اصطباغ المغرب بالصبغة العربية الموحدة التي تمثلت باستمرار التمازج عرقياً بين عناصر السكان والقبائل العربية، وسار الموحدون بهذه العملية إلى نهايتها في المغرب بنقل بعض القبائل حتى الأطلسي في المغرب الأقصى.

كذلك بقيت حية لدى الموحدين فكرة المثل الأعلى السياسي المتعلق بوحدة المشرق والمغرب متمثلة بوحدة الخلافة والإمامة، فقد أعلن الخليفة يعقوب المنصور(580 - 595هـ) عزمه على تغيير المنكر في مصر والسير إليها، واستمرت في عهدهم عملية استمرار سيطرة الثقافة العربية الموحدة لجناحي المشرق والمغرب متمثلة بانتقال التيارات من منطقة إلى أخرى، على الرغم من أن حركة الموحدين تعد تجديداً من ناحية عدم اقتصارها على تغليب تيار واحد، بل إنّ صاحبها ابن تومرت مزج تيارات فكرية وفقهية ودينية سياسية في عقيدته التي جمع فيها عنصر التشيع مع الأشعرية الغزالية والمذهب الفقهي الظاهري. فازدهرت في أيامهم الفروع التي كانت مكروهة في أيام أسلافهم. كالفلسفة التي ازدهرت ازدهاراً كبيراً، ولمعت في سمائهم نجوم عمّ إشعاعها ديار الإسلام كلها وتجاوزها إلى أوربا ليستمر إشعاعها عليها عدة قرون، ولعلّ في أسماء ابن الطفيل وابن رشد دليل على ذلك.

جدول بأسماء خلفاء الموحدين

أبو عبد الله محمد بن تومرت

515-524هـ/1121-1128م

عبد المؤمن بن علي

527-558هـ/1132-1163م

أبو يعقوب يوسف الأول

558-580هـ/1163-1184م

أبو يوسف يعقوب المنصور

580-595هـ/1184-1199م

محمد الناصر لدين الله

595-610هـ/1199-1213م

أبو يعقوب يوسف الثاني

610-620هـ/1213-1224م

أبو محمد عبد الواحد المخلوع

620-621هـ/1224م

أبو محمد عبد الله العادل

621-624هـ/1224-1227م

المأمون

624-630هـ/1227-1230م

أبومحمد عبد الواحد الرشيد

630-640هـ/1230-1242م

أبو الحسن علي السعيد المقتدر بالله

640-646هـ/1242-1248م

أبو حفص عمر المرتضى

646-665هـ/1248-1266م

أبو العلاء أبو دبوس الواثق بالله

665-668هـ/1266-1269م

(ثم استولى بنو حفص، وبنو زيان، وبنو مرين)

نجدة خماش

 

الموضوعات ذات الصلة:

 

الأرك ـ ابن تومرت ـ ابن رشد ـ عبد المؤمن بن علي ـ بنو غانية ـ ابن الطفيل ـ المرابطون.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد العريان ومحمد العلمي (القاهرة 1949).

ـ ابن أبي زرع، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب ومدينة فاس (الرباط 1973).

ـ الزركشي، تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية، تحقيق محمد ماضور (تونس 1966)

ـ السلاوي، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (الدار البيضاء 1954).

ـ أحمد بدر، تاريخ الأندلس، التجزؤ، السيادة المغربية، السقوط والتأثير الحضاري (دمشق 1982).


التصنيف : التاريخ
النوع : أعلام ومشاهير
المجلد: المجلد التاسع عشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 845
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 590
الكل : 31905153
اليوم : 25183

جيرومسكي (ستيفان-)

المزيد »