المديح (فن-)
مديح (فن)
Panegyric - Panégyrie
المديح (فن ـ)
تعددت الأغراض والموضوعات التي حملها الشعر العربي قديمه وحديثه، إذ يجد الباحث فيه: الفخر والحماسة، والمدح، والهجاء، والغزل، والرثاء، والوصف، إلى جانب الحكمة، والتهديد والوعيد، والزهد، والشيب والشباب، وغير ذلك.
ويعدُّ المدح أحد أبرز الأغراض الشعرية في الشِّعر الجاهلي وما وليه من عصور الأدب، ويمكننا رصدُ نشأته الأولى في العصر الجاهليِّ في نمطين بارزين: يتجلَّى الأول في قصيدة الحمد والعرفان، ويتجلَّى الثَّاني في قصيدة الاعتذار. وقد نظم الشُّعراء الجاهليُّون مدائحهم في قصيدة الحمد والعرفان اعترافاً بالجميل ومكافأة عن يدٍ للممدوح يؤدون حقَّها بالشُّكر، ويعدُّ هذا الأمر الباعثَ الحقيقيَّ لنشأة قصيدة المدح في الشِّعر الجاهليِّ، ولذلك تكثر في قصائد المدح التي صُنعت للحمد والعرفان عبارات الثَّناء والشُّــكر من غير الرَّغبة في نوال الممدوح أو عطائه، فمن ذلك قول الطُّفيل الغَنوي:
جَزى اللَهُ عَوفاً من موالي جَنابَةٍ
وَنَكراءَ خَيراً كُـلُّ جَارٍ مُوَدَّعُ
ومنه قول طَرَفة بن العبد:
أَبلِغ قَتادَةَ غَيرَ ســــائِلـِهِ
مِنهُ الثوابَ وَعاجِلَ الشَّـكـمِ
أَنّي حَمِدتُكَ لِلعَشــــيرَةِ إِذ
جاءَت إِليــــكَ مُرِقَّةَ العَظمِ
وأبرز المدائح التي صُنعت في الحمد والعرفان مدائح زهير بن أبي سُلمى في هرم بن سنان والحارث بن عوف حين سعَيا بالصُّلح بين قبيلتي عبس وذبيان بعد حرب داحس والغبراء، وتحمَّلا ديات القتلى، من ذلك قوله في معلقته:
يَميناً لَنِعمَ الســـيِّدانِ وُجِدتُمـــا
عَلى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبرَمِ
تَدارَكتُما عَبســــاً وَذُبيانَ بَعدَمـا
تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشـِمِ
أما قصيدة الاعتذار فَتُعَدُّ شعبةً من قصيدة المدح، وأبرز الملامح الفارقة بينهما أنَّ قصيدة الاعتذار يصنعها الشَّاعر لإصلاح ما فسد بينه وبين ممدوحه بوشاية واشٍ أو لخلاف نشبَ بينهما أو استعطافاً له، وقد انصرفت قصيدة الاعتذار غالباً في العصر الجاهليِّ إلى بلاط اللَّخميِّين في الحيرة وإلى بلاط الغساسنة في حوران. ويمكننا القول إنَّ قصيدة الاعتذار ارتبطت ارتباطاً وثيقاً ببلاط الملوك، أمَّا من حيث البناءُ الفنيُّ فتبدو قصيدة المدح أكثر تشعُّباً ولها معان خاصَّة بها، وهي أقرب إلى النَّهج الذي حدده ابن قتيبة للمدحة العربيَّة في كتابه «الشِّعر والشعراء».
ويمكن أن نجد النسيب في مقدمات الاعتذاريَّات، وصور الظَّعن ووصف الرَّاحلة التي يقطعون بها ظهر الصَّحراء، وقد يمزجون ذلك بوصف الحيوان، ثم ينصرفون إلى الاعتذار والاستعطاف، والتعريض بالوشاة، والتبرّؤ مما اتُّهموا به، والحلفان على ذلك، ووصف ما بهم من قلق واضطراب نتيجة لذلك. وأبرز شعراء الاعتذار النابغة الذبياني، ومن اعتذارياته قوله:
أَتاني أَبَيتَ اللَّعنَ أَنَّكَ لِمتَني
وَتِلكَ الَّتي أُهتَمُّ مِنها وَأَنصَبُ
ولعل المدح من أبرز موضوعات الاعتذارية، إذ يعمد الشاعر إلى مدح المعتذر منه بأبرز معاني المدح المشهورة، ومثال ذلك قول النابغة:
بأنك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وتفتح اعتذاريات النابغة الحديث عن التكسب في شعرالمدح، إذ لم يكن شعراء الجاهلية أوَّلَ أمرهم يصنعون مدائحهم للتكسُّب بها، وظلَّت المدحة لديهم مقترنةً بغايتي الحمد والشُّكر للممدوح، إلى أن تكسَّب النَّابغة الذُّبياني بالمدح، فنشأ نمطٌ جديدٌ من المدائح هي مدائح التكسُّب؛ قال ابن رشيق في «العمدة» في سياق كلامه على التكسُّب بالشِّعر: «كانت العرب لا تتكسَّب بالشِّعر، وإنَّما يصنع أحدهم ما يصنعه فكاهةً أو مكافأةً عن يدٍ لا يستطيع أداء حقِّها إلا بالشُّكر إعظاماً لها، كما قال امرؤ القيس بن حجر … لسعد بن الضباب:
سأجزيكَ الَّذي دافعْتَ عنِّي
وما يجزيكَ عنِّي غيرُ شـُـكري
فأخبره أنَّ شكره هو الغاية في مجازاته كما قدَّمت، حتى نشأ النَّابغة الذُّبيانيُّ؛ فمدح الملوك، وقبـِل الصِّلة على الشِّعر، وخضع للنُّعمان بن المنذر، وكان قادراً على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته أو من سار إليه من ملوك غسَّان، فسقطت منزلته، وتكسَّب مالاً جسيماً، حتى كان أكله وشربه في صحاف الذَّهب والفضَّة وأوانيه من عطاء الملوك». ثمَّ جاء الأعشى فجعل الشِّعر متجراً يتَّجر به نحو البلدان، وبدأ بعض الشعراء يتكسبون بمدائحهم.
والتكسُّب بالمدح مرحلة متطورة في قصيدة المدح الجاهليَّة، إذ إنَّ احتراف المدح اقتضى بناء معاني المدح وفق هوى الممدوح وما يروق له منها، وليس وفق قناعة الشَّاعر في ممدوحه، وأخذت تظهر المبالغة في بناء معاني المديح وإعظام الممدوح، فالنَّابغة الذي خُيِّل إليه أنَّ النُّعمان بن المنذر كالليل يدركه حيث حلَّ وأينما ارتحل، كان في إمكانه أن يمتنع من النُّعمان بقومه لو شاء ـ وهم أهل المَنَعة والقوة في الجاهلية ـ غير أنَّ الطمع في عطاياه دفعه إلى الاعتذار إليه و مداومة مدحه واستعطافه.
بنية قصيدة المدح في العصر الجاهلي
شُغِل النُّقاد قديماً وحديثاً في بناء قصيدة المدح الجاهليَّة المتماسك، ويبدو أنَّ شعر المدح الجاهليّ لم يستقلَّ بقصيدة غالباً، إنما كان غرضاً في سياق أغراض أخرى تشتمل عليها القصيدة، إلا أنه الغرض الأبرز فيها غالباً. وتنبني المدحة في الشِّعر الجاهليِّ على أربعة عناصر رئيسة هي: المقدِّمة، والرِّحلة، والتَّخلُّص، والمدح.
أـ المقدِّمة: وهي إما أن تكون في وصف الأطلال، وإما في النسيب أو الغزل، وإما في ذكر الشيب والشباب، وإما في وصف الظعائن، وما إلى ذلك من المقدمات المعروفة. ولعل مطلع معلقة زهير بن أبي سُلمى التي مدح بها هرم بن سنان والحارث بن عوف من أشهر المطالع:
أمِن أم أوفى دِمنةٌ لم تَكلّـم
بحومانـةِ الدرّاج فالمتثلــّم
ودارٌ لها بالرقمتين كأنهـا
مراجيعُ وشْمٍ في نواشر مِعصم
(أم أوفى: زوجته. وحومانة الدرّاج، والمتثلم، والرقمتان: أماكن).
ولاحظ النقّاد دقَّة الجاهليِّين وبراعتهم في مناسبة المطالع لأغراض المدح وللوقوف بين يدي الممدوح، وامتدحوا مقدرتهم على ذلك، ثم راح النُّقاد عامَّة يعزون إخفاق بعض المدائح في العصور التاليَّة إلى خلل أصاب مطالع المقدِّمات، وإلى إهمال بعض الشُّعراء لهذا العنصر المهم ـ عنصر حسن الاستهلال ـ وساقوا لذلك أمثلة كثيرة من أخطاء الشُّعراء في العصور الأدبيَّة اللاَّحقة.
وتبدو اللوحة الطَّللية في مقدمة قصيدة المدح بارزة، وتقوم على ذكر المنازل الخالية من أهلها؛ ووصف أطلالها، وذكر أسماء المواضع والإكثار منها، والوقوف على الأماكن والبكاء عندها، وسؤالها والسَّلام عليها، والسُّؤال عن أهلها، والإشارة إلى طول مدة خلوِّ الدار من أهلها، ومخاطبة الصَّاحب أو الصَّاحبين، وذكر المطر والبرق والرِّياح، وبيان أثرها في الطَّلل، وذكر الحيوان الطَّائف بالأطلال، وكأن الشَّاعر يُسكنها المكانَ بدلاً من أهلها الرَّاحلين عنها، والدُّعاء للدار واستنزال الرَّحمة عليها، وهذا كله جزء أساسيٌّ من مشهد الطَّلل في بناء المدحة الجاهليَّة، وإذا كان الشُّعراء العباسيُّون المجدِّدون قد عزفوا عن ذكر الأطلال؛ فإن بعض الشُّعراء الجاهليِّين أدركوا عدم الجدوى من بكاء الطَّلل على سبيل إنكار ذلك على الشَّيخ والكبير، ومنه قول الأعشى:
ما بكاءُ الكبير بالأطلالِ
وسؤالي فما يردُّ سؤالي؟!
فقوله «ما بكاء الكبير» استفهامٌ على سبيل الإنكار على نفسه.
ويعد النَّسيب جزءاً مهمًّا في مقدمة قصيدة المدح، ويوكل إليه ترقيق طبع الممدوح واستنداء يديه، وهذا مذهب الجاهليِّين ومن سار على سننهم من المحافظين على عمود الشِّعر في القصيدة العربيَّة، ويذهب ابن قتيبة إلى أنَّ النَّسيب أقرب ما يكون إلى الصَّنعة؛ وربما لم يكن تعبيراً أصيلاً عن تجربة وجدانية معيشة، ولذلك يرى شكري فيصل في كتابه «تطور الغزل» أنَّ الشَّاعر «لا يجعل غاية الشِّعر أهواءَه وصباباتِه؛ بل يجعل غاية هذا الشِّعر السامعَ الذي يتوجه إليه الشَّاعر»، والشَّاعر الجاهلي يوازن بين النَّسيب والمدح، غير أنَّ بعض من سار على نهج الجاهليِّين في بناء قصيدة المدح أكثر من المدح وقلل من النَّسيب، وهذا يعدُّ من عيوب قصيدة المدح لدى النُّقاد الأقدمين، قال ابن رشيق: «ومن عيوب هذا الباب أن يكون النَّسيب كثيراً والمدح قليلاً، كما يصنع بعض أهل زماننا».
ويمثِّل مشهد وصف ظعائن المحبوبة ساعة الرحيل جزءاً مهمّاً من اللَّوحة الفنيَّة التي تتشكَّل منها المقدِّمة الطَّللية، إنَّه حلقة الوصل بين وصف الطَّلل والنَّسيب، ويتعلق مشهد الظَّعائن أساساً بالفراق، ثم يبرز اهتمام الشَّاعر بالمرأة الظَّاعنة حال الرَّحيل، وفي وصفها وصفاً دقيقاً مع ساعات الصَّباح الأولى، ثم ينتقل الشَّاعر إلى النَّسيب، ويقوم هذا المشهد على تصوير الحالة النَّفسيَّة للشَّاعر لحظة الرحيل وما تركته من أثر في نفسه وشرخ في وجدانه، وقد يُرى الشَّاعر مماشياً الرَّكبَ واقفاً معه عند معالم الطَّريق إلى المنازل الجديدة، وتفتح رحلة الظَّعن باب الذِّكريات أمام الشَّاعر؛ فيطرح شكواه من الفراق، ويبث حنينه إلى المحبوبة الهاجرة، ويصعِّد الشَّاعر الجاهلي في رحلة الظَّعن أسلوب الخطاب كما يبرزه في المقدِّمة الطَّللية كلها، ويعمد إلى كثرة التَّساؤل والإخبار في ثنايا ذلك، وقد تصبح رحلة الظَّعن مدخلاً لدى بعض الشُّعراء الجاهليِّين لوصف رحلة أخرى هي الرِّحلة إلى الممدوح.
ب ـ الرِّحلة إلى الممدوح: هذا الجزء من قصيدة المدح يصور فيه الشُّعراء الجاهليُّون معاناتهم في الرِّحلة إلى الممدوح، ومشقَّات الطَّريق إليه، وما وردوه من الماء الآسن الآجن الذي تعافه الإبل، ولهذا أثره النَّفسيُّ لدى المتلقي (الممدوح)، ولاسيَّما قبل الشُّروع في مدحه، فالرِّحلة في قصيدة المدح لها وظيفة جماليَّة تتجلَّى في المهارة الفنيَّة في الوصف، ولها وظيفة خاصَّة بالشَّاعر تتجلَّى في التَّأثير في الممدوح الذي شُدَّت إليه الرِّحال وكانت في سبيله الرِّحلة، ومثل هذا يدلُّ على مبلغ الوعي الذي وصل إليه الجاهليُّون في بناء قصيدة المدح على نحو تؤثر في الممدوح أبلغ تأثير؛ فتقع لديه موقعاً حسناً فتطيب نفسه وتندى يده. وتبرز في الرِّحلة إلى الممدوح مشاهد وصف الصحراء ووصف الحيوان فيها، مع مشهد الصيد، وتستمرُّ الرِّحلة في وصف هذه المشاهد الجزئية إلى حين الشُّروع في التَّخلُّص والانتقال إلى الموضوع الأساسي وهو المدح .
ج ـ التَّخلُّص إلى المدح: يدل هذا الجزء من قصيدة المدح على تماسك بنيانها في الشِّعر الجاهليِّ، وعلى وعي الشُّعراء الجاهليِّين ضرورةَ توافر عنصر التَّماسك في بنية القصيدة الشِّعريَّة؛ فلا تبدو منفصلة العناصر مفكَّكة البنيان، وفي هذا الجزء يخلص الشَّاعر إلى المدح ببيت أو أكثر ليصل إلى الغرض الرئيسي في القصيدة.
د ـ المدح: أسّست قصيدة المدح الجاهليَّة لجملة من المعاني والقيم الأخلاقيَّة الرَّاسخة في الأدب العربيِّ عامَّة، كالكرم والنَّجدة والشَّجاعة والعفَّة والإباء والمَنَعة من النَّاس، وقد أسَّست هذه القيم لأساليب البناء التصويريِّ لها، فالكرم مثلاً مرتبط بصورة البحر وصورة السُّحب وصورة الرِّياح التي تحمل السُّحب الممطرة إلى الأرض القاحلة، وهكذا.
واستمر المدح في العصور الأدبية التي تلت العصر الجاهلي، ولكن طرأ عليه بعض التغيير في الشكل والمضمون، ففي صدر الإسلام برزت بعض معاني المدح الجديدة المنطلقة من قيم الدين الإسلامي، إضافةً إلى بروز بعض الموضوعات الجديدة. فمن المعاني الإسلامية ما نراه في شعر حسان بن ثابت:
إنَّ الذَوائِبَ مِن فِهــرٍ وَإِخوَتِهُِم
قَد بَيَّنوا سُــنَّةً لِلناسِ تُتَّبَعُ
يَرضى بِها كُلُّ مَن كانَت سَريرَتُهُ
تَقوى الإِلَهِ وَبِالأَمرِ الَّذي شَرَعوا
ويُذكر للمدحة في صدر الإسلام ترسيخها لمعاني التقوى وطاعة الله ورسوله، والالتزام بما جاء به الإسلام، وما إلى ذلك.
- وعلى الرغم من بقاء الشكل الجاهلي في قصيدة المدح الأموية، كالذي نراه في شعر الأخطل والرَّاعي النميري وذي الرّمّة والعجّاج وولده رؤبة، وجرير والفرزدق وكثيّر عَزّة، إلا أننا نرى شيئاً من التجديد في الشكل؛ كالتخلي عن مراعاة ترتيب بناء المدحة وفق نسقها الجاهلي، وترك المقدمات أو التقليل من أبياتها أحياناً، أما من حيث المضمون فبرزت بعض المعاني التي تأثرت بالخلافات السياسية التي دارت حول الخلافة، كقول كثير عزة يمدح عبد الملك بن مروان:
أَحاطَت يَداهُ بِالخِلافَةِ بَعدَما
أَراد رِجالٌ آخَرونَ اِغتِيالَها
فَما تَرَكوها عَنوَةً عَن مَوَدَّةٍ
وَلَكِن بِحَدِّ المَشرِفِيّ اِستَقالَها
- ومما طرأ على قصيدة المدح في الشعر العباسي أن بعض هذه القصائد استقلت بغرض المدح ولم تشرك معه موضوعاً آخر، ومن هنا كانت الثورة على المقدمة الطللية عند بعض الشعراء كأبي نواس وابن المعتز، وغيرهما، ونجد في قصيدة المدح العباسية مقدمات جديدة تتناسب مع الغرض والتطور الحضاري للمجتمع، كما في مدحة أبي تمام للمعتصم في فتح عمورية التي بدأت بتكذيب المنجِّمين والثَّناء على أنباء السُّيوف التي حملت النَّصر المبين:
السَّــــــيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ
في حَـدِّهِ الحَدُّ بَيـــنَ الجِـدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سـودُ الصَحائـِفِ فـي
مُتونِهِـنَّ جَلاءُ الشَّــــكِّ وَالرِيَـبِ
وَالعِلمُ في شُـــــهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً
بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُــهُبِ
أَينَ الرِّوايـَــــةُ بَل أَينَ النُجومُ وَمـا
صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيهـا وَمِن كَـذِبِ
يُضاف إلى ذلك بروز معاني المدح الإسلاميَّة، وهذا شواهده كثيرة مطَّردة في قصيدة المدح العربيَّة في عصورها القديمة جميعاً بعد ظهور الإسلام .
ومما يميز المدحة العباسيَّة بروز عنصر الخاتمة فيها، إذ لا تقلُّ أهميَّةُ خاتمةِ قصيدة المدح عن أهمية مطلعها. أما المعاني المدحية فبقيت كسابق معاني المدح، مع ظهور واضح للمعاني الإسلامية والمعاني التي تتصل بقضايا الخلافة.
- ولم يختلف غرض المدح وقصيدته في الأندلس شكلاً ومضموناً كثيراً عما كان يطرأ عليهما في المشرق، ولاسيما تلك التجديدات في الشكل من حيث محاولة التخلي عن المقدمات وتنويعها، أما المعاني فظلت كما هي لأن هذه المعاني من القيم التي يختص بها زمن دون آخر، مع إضافةٍ للمعاني الجديدة التي ظهرت بفعل التطور الحضاري والاجتماعي.
- واستمر غرض المدح على ما كانت عليه منزلته في شعر العصر المملوكي والعصر العثماني، وإن كان تأثر قليلاً بأمور قللت من هذه المنزلة، فظهرت موضوعات شعرية جديدة، واتجه الشعراء إلى عوام الناس؛ بعد أن فقدوا من يتجهون إليه من الخواص والولاة الذين كان معظمهم من غير العرب، وهؤلاء نادراً ما كان يحركهم الشعر أويطربون لسماعه، وكثر شعر المدح الموجه إلى العلماء والأصدقاء، أي إلى الأشخاص، من ذلك قول محمد بن يوسف التلعفري (ت 675هـ) يمدح صديقه عز الدين بن أمسينا:
بأبي أنت، يا خليلي، وأمي
أنت قوسي إذا رميتُ وسهمي
أنت والله سيدي لي حسام
فيه للنائبات أعظـمُ حســم
وقول الأمير منجك اليوسفي (ت1080هـ) يمدح أحد أصدقائه:
محمد السامي الجناب ومن غدا
له كرمُ الأخلاقِ دون التكرّم
همام لقد أضحت مآثر فضلـه
على جبهة الدنيا كغرة أدهم
ولم يكن اختلاف غرض المدح كبيراً من حيث الشكل والمضمون عند شعراء عصر النهضة، وقد تجلَّت قصيدة المدح في شعرهم بالعناية بديباجة القصيدة العربيَّة التَّقليديَّة، كالذي نجده عند الشعراء الإحيائيين وفي مقدمتهم محمود سامي البارودي، ولا تخرج معاني المدح لديهم عمَّا نجده في القصيدة العربيَّة على اختلاف عصورها، ففيها القيم الأخلاقيَّة العامَّة كالكرم والشَّجاعة والنَّجدة والأنفة، وفيها قيم دينيَّة كالتَّقوى والصَّلاح وإقامة الشَّعائر، وفيها قيم معرفيَّة كسعة العلم والحرص على نشره، وإبراز فضل الممدوح في هذا المجال، من ذلك قول البارودي:
عَبَّاسُ يا خَيْرَ المُلُوكِ عَدَالَــــةً
وَأَجَلَّ مَنْ نَطَقَ امْرُؤٌ بِثَنَائِــهِ
أَوْلَيْتَنِـي مِنْكَ الرِّضَا وجَلَوْتَ لِـي
وَجْهاً قَرَأْتُ البِشْرَ في أَثْنَائِـهِ
يا أَيُّها الصَّادِي إِلى نَيْـــلِ الْمُنَى
رِدْ بَحْرَ سُـــدَّتِهِ تَفُزْ بِوَلائِهِ
الْعَدْلُ مِنْ أَخْلاقِهِ والْعِـــلْمُ مِنْ
أَوْصافِهِ والْحِلْمُ مِنْ أَسْــمَائِهِ
ويعدّ أحمد شوقي تلميذ البارودي الأبرز بين شعراء المدح، و لشوقي مدائح جرت على فنِّ المعارضة.
وقد بدأ غرض المدح يخبو بريقه في الشعر الحديث، واتجه الشعراء إلى أغراض أخرى فرضتها طبيعةُ الحياة، واختلاف وجهات النظر في كثير من القضايا، وغلبة الطابع السياسي والاجتماعي على باقي موضوعات الشعر، إضافة إلى بعض المواقف من طبيعة الشعر وغاياته، فأصبح غرض المدح ثانوياً قياساً إلى باقي الأغراض الشعرية.
المديح النبوي
وقد انبثق من غرض المدح قسم مستقل اتجه إلى مدح النبي[، ويُفردون هذا القسم عن غرض المدح العام لأمور؛ منها: أنه مستمر في عصور الأدب المختلفة، وأن ما قيل فيه كثير جداً، وأن للمدحة النبوية منهجاً خاصاً بها، ولذلك يميزون أحياناً بين القسمين في التسمية، فيقولون: (المدح) للغرض العام، و(المديح) للمدح النبوي.
وعندما يؤرخون للمديح النبوي يذكرون بداياته التي كانت في قصيدة الأعشى الدالية، وفي قصيدة أبي طالب، وفي لامية كعب بن زهير التي يُطلق عليها اسم «البُردة» لأن النبيr ألقى عليه بردته عند سماعها منه؛ ومطلعها:
بانت سعادُ فقلبي اليومَ متبول
متيّمٌ إثرَها، لم يُفدَ، مكبول
وفيها يقول:
إن النبي لنورٌ يُستضاءُ به
مهندٌ من سيوفِ الله مسلول
ثم تأتي مدائح حسان بن ثابت وغيره من شعراء الإسلام.
وبدأت مدائحُ النبيr تتجه نحو الاستقلالية والنضجِ الفني منذ القرن الرابع الهجري، ووجدت سيرورة وانتشاراً ولاسيما في العصر المملوكي وما تلاه، وأصبح المديح النبوي «فناً شعرياً مستقلاً له أصوله وقواعده، وله شعراؤه الذين وقفوا شعرهم عليه». وكانت قصيدة البوصيري محمد بن سعيد (ت697هـ) مَعْلَم تحول في قصيدة المدح النبوية، ومحط أنظار الشعراء بعده؛ للسير على نهجها ومعارضتها، ومطلعها:
أمن تذكّـر جيرانِ بذي سَلـَم
مزجتَ دمعاً جـرى من مقلـةٍ بدم
أم هبّتِ الريحُ من تَلقاءِ كاظمةٍ
وأومض البرقُ في الظلماء من إضم
(ذوسلم، وكاظمة، وإضم: أماكن في الحجاز).
وهي قصيدة طويلة تقع في اثنين وثمانين ومئة بيت، تسمّى (البُرأة: لأن الشاعر برئ من مرضه بعد أن نظمها وأنشدها، وربما قالوا في اسمها: «البُردة»، نسبة إلى البردة التي ألقاها عليه النبيr كما رأى في نومه.
بدأت القصيدة بالنسيب الموجه إلى أرض الحجاز، ثم تلاه التحذير من هوى النفس، ومدحُ النبيr، وذكرُ مولده ومعجزاته، والقرآن والإسراء والمعراج، وجهاده، ثم التوسل والمناجاة، ومن توسله:
يا أكرم الخلقِ مالي مَن ألوذُ به
سواك عند حلولِ الحادثِ العَمَم
ولن يضيقَ رسولَ الله جاهُك بي
إذا الكريم تحلّى باسمِ مُنتقم
فإنّ من جودِك الدنيا وضَرّتَهـا
ومن علومك علمُ اللوحِ والقلم
وحظيت هذه القصيدة بمعارضاتٍ لا يمكن حصرها، ولعل أشهر معارضاتها قصيدة محمود سامي البارودي، وتقع في (447) بيتاً ومطلعها:
يا رائدَ البرقِ يمّم دارةَ العلمِ
واحْدُ الغمامَ إلى حيٍّ بذي سَلَم
وقصيدة أحمد شوقي التي أسماها «نهج البردة» ومطلعها:
ريمٌ على القاعِ بين البان والعلم
أحلّ سفكَ دمي في الأشهر الحُرُم
ويحمل مضمون المدحة النبوية معاني كثيرة، أبرزها: المدح بالقيم التقليدية المعروفة في المدح العام، والمدح بالقيم الدينية، والحديث عن فضائل النبيr، ومحبته، وهدْيه، وسيرته، ومعجزاته، وتفضيله على سائر الخلق، والحقيقة المحمدية، والتوسل به والصلاة عليه، وذكر آثاره وأصحابه.
أما شكلها فتبدأ المدحة النبوية بذكر الأماكن المقدسة في الحجاز، والغزل الذي وضعوا له شروطاً ليناسب الموضوع والممدوح، ثم الرحلة ووصف الطبيعة، فالوعظ والدعاء والمدح والتوسل.
وكان للمدائح النبوية آثارٌ واضحة في المجتمع والثقافة والأدب والشعر، ويبدو أثرها الواضح في فن شعري جديد نبت فيها واتخذ مساراً جديداً له وهو فن «البديعيات»، الذي تأثر بقصيدة البوصيري شكلاً، وبالمدائح النبوية مضموناً، ويُعدّ صفي الدين الحلي أول من نظم قصيدة بديعية، وقصيدته مطلعها:
إن جئتَ سلعاً فسلْ عن جيرةِ العلمِ
واقْرِ السلامَ على عُرْبٍ بذي سَلَم
والبديعية «قصيدة طويلة في مدح النبي محمدr، على بحر البسيط، وروي الميم المكسورة، يتضمن كل بيت من أبياتها نوعاً من أنواع البديع، يكون هذا البيت شاهداً عليه، وربما وُرِّي باسم النوعِ البديعي في البيت نفسه في بعض القصائد».
وتجدر الإشارة في ختام الحديث عن المديح النبوي إلى مدائح آل البيت التي هي فرع من فن المدح ومن المدائح النبوية، ويذكر في هذا المجال هاشميات الكميت، ومدائح دعبل الخزاعي ومهيار الديلمي وغيرهم. ومن هاشميات الكميت قوله:
بل هواي الذي أُجنُّ وأُبدي
لبني هاشـم فروع الأنام
وقوله:
إلى النفر البيض الذين بحبهم
إلى الله فيمـا نالنــي أتقـرّب
بني هاشم رهط النبي فإننـي
بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
كما نشأ موضوع شعري جديد يختص بالتشوق إلى أرض الحجاز التي كانت مهبط الوحي وموطن قبر النبي[، وعُرف باسم «الحجازيات»، وأشهر هذه الحجازيات قصيدة الشريف الرضي:
يا ظبية البانِ ترعى في خمائله
لِيَهْنِكِ اليوم أن القلبَ مرعاك
الماء عندك مبذول لشاربــه
وليس يرويك إلا مدمعي الباكي
(ظبية البان: مكة، والماء: ماء زمزم).
وخلاصة القول أن المدح أحد أبرز الأغراض في الشعر العربي على مر العصور، ولذلك فإن قصيدة المدح في الشِّعر العربي تُعد فرعاً نضيراً يستحقُّ العناية، لأنها لا تشكّل وثيقة فنيَّة فحسب ، بل هي وثيقة اجتماعيَّة وتاريخيَّة وسياسيَّة، لأنَّه من خلالها أمكن رسم صورة لتطور المجتمعات العربيَّة عبر العصور، ورصد بعض ظروفها السِّياسيَّة في مراحل مختلفة من التَّاريخ العربي، إذ إنها تجسِّد الظُّروف التَّاريخيَّة التي نُظمت فيها، ناهيكَ عن قيمتها الفنيَّة وما حملته من دلالات عن قيم المجتمع العربي.
علي أبو زيد
مراجع للاستزادة: |
ـ علي أبو زيد، البديعيات في الأدب العربي (عالم الكتب، بيروت 1983).
ـ عبد الله التَّطاوي، قصيدة المدح العبَّاسيَّة بين الاحتراف والإمارة (دار قباء، القاهرة 2000م).
ـ عبد الله التَّطاوي، قضايا الفنِّ في قصيدة المدح العباسية (دار الثقافة، القاهرة 1981م).
ـ وهب روميَّة، قصيدة المدح حتَّى نهاية العصر الأموي (وزارة الثقافة، دمشق 1981).
ـ محمود سالم محمد، المدائح النبوية حتى نهاية العصر المملوكي (دار الفكر، دمشق 1996).
ـ زكي مبارك، المدائح النبويَّة في الأدب العربي (دار الكاتب العربي، القاهرة 1935).
التصنيف : اللغة العربية والأدب العربي
النوع : عمارة وفنون تشكيلية
المجلد: المجلد الثامن عشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 273
مشاركة :اترك تعليقك
آخر أخبار الهيئة :
- صدور المجلد الثامن من موسوعة الآثار في سورية
- توصيات مجلس الإدارة
- صدور المجلد الثامن عشر من الموسوعة الطبية
- إعلان..وافق مجلس إدارة هيئة الموسوعة العربية على وقف النشر الورقي لموسوعة العلوم والتقانات، ليصبح إلكترونياً فقط. وقد باشرت الموسوعة بنشر بحوث المجلد التاسع على الموقع مع بداية شهر تشرين الثاني / أكتوبر 2023.
- الدكتورة سندس محمد سعيد الحلبي مدير عام لهيئة الموسوعة العربية تكليفاً
- دار الفكر الموزع الحصري لمنشورات هيئة الموسوعة العربية
البحوث الأكثر قراءة
هل تعلم ؟؟
الكل : 59401463
اليوم : 33773
المجلدات الصادرة عن الموسوعة العربية :
-
المجلد الأول
-
المجلد الثاني
-
المجلد الثالث
-
المجلد الرابع
-
المجلد الخامس
-
المجلد السادس
-
المجلد السابع
-
المجلدالثامن
-
المجلد التاسع
-
المجلد العاشر
-
المجلد الحادي عشر
-
المجلد الثاني عشر
-
المجلد الثالث عشر
-
المجلد الرابع عشر
-
المجلد الخامس عشر
-
المجلد السادس عشر
-
المجلد السابع عشر
-
المجلد الثامن عشر
-
المجلد التاسع عشر
-
المجلد العشرون
-
المجلد الواحد والعشرون
-
المجلد الثاني والعشرون