logo

logo

logo

logo

logo

القانون الدولي الإنساني

قانون دولي انساني

international humanitarian law - droit international humanitaire

 القانون الدولي الإنساني

القانون الدولي الإنساني

عامر الزمالي

التعريف والتطوّر التاريخي

مصادر القانون الدولي الإنساني

طبيعة أحكام القانون الدولي الإنسانـي

قواعد القتال في النزاعات المسلّحة الدّولية وغير الدّوليـة

نطاق حماية القانون الدولي الإنساني

بدء تطبيق القانون الدولي الإنساني وانتهـاؤه

آليات تنفيذ القانون الدولي الإنساني

 

أولاً ـ التعريف والتطوّر التاريخي:

1ـ التعريف: لئن كان مصطلح «القانون الدولي الإنساني» International Humanitarian Law حديثاً بالمقارنة بفروع القانون الأخرى؛ فإن مدلوله قديم قدم الحالات التي تتناولها أحكامه. ويمكن تعريف هذا الفرع من فروع القانون الدولي العام بأنّه مجموعة الأحكام الدولية العرفية والتعاهدية التي تستهدف في حالة نزاع مسلّح؛ حماية فئات من الأشخاص وفئات من الممتلكات ووضع ضوابط لاستخدام وسائل القتال وأساليبه. ومن خلال هذا التعريف يتّضح أن هذا القانون يتناول علاقات عدائية، أو بعبارة أخرى يتّصل بآثار الحروب في الأشخاص والممتلكات، وهذه العلاقات والآثار كانت تبحث في القانون الدولي العام تحت عنوان «قانون الحرب» أو «قانون الحرب والحياد»؛ في حين كانت العلاقات الدولية هي موضوع «قانون السّلْم». ولما أصبحت الحرب محظورة في العلاقات الدولية ـ من حيث المبدأ ـ بموجب ميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 1945 عقب الحرب العالمية الثانية؛ اتجه القانون الدولي إلى استعمال مصطلح «قانون النزاعات المسلّحة» أو «القانون الدولي الإنساني». ومع وجود بعض السّجال الفقهي بين علماء القانون الدولي يمكن القول إن المصطلحات الثلاثة («قانون الحرب»، «قانون النزاعات المسلّحة»، «القانون الدولي الإنساني») مترادفات، وإن كان الخبراء العسكريون يميلون إلى استعمال عبارة «قانون الحرب» أو «قانون النزاعات المسلّحة».

ويجب التفريق بين «قانون الحرب»، أي الأحكام الدولية التي تطبّق في أثناء النزاع المسلّح Jus in bello، وهو مجال القانون الدولي الإنساني؛ وقواعد القانون الدولي العام التي تخصّ مشروعية استخدام القوة Jus ad bellum أو حظر الحرب Jus contra bellum. وبصرف النظر عن مشروعية استخدام القوة أو عدمها تُطبّق أحكام القانون الدولي الإنساني من فور نشوب النزاع المسلّح؛ سواء أكان النزاع دولياً أم داخلياً، ولكلٍّ من هذين النوعين من النزاعات نظام قانوني خاص على ما سيتضح لاحقاً.

2ـ التطوّر التاريخي: الحرب ظاهرة لازمت البشرية منذ وجودها، وتختصّ بها أحكام تختلف عن أحكام علاقات السلّم في مختلف المجتمعات. ويحتفظ تاريخ الأمم والشعوب بالكثير ممّا يُعرف اليوم من عادات وأعراف وتقاليد وقواعد كانت سائدة في الحروب على مرّ العصور، أيّاً كانت النظرة إليها بمقاييس العصر الحديث. وتناولت الشرائع والأديان جميعها مسائل الحرب والسّلام، ولو اقتصر الأمر على ما جاءت به الشريعة الإسلامية الغرّاء من مبادئ إنسانية ملائمة لجميع الأحوال، لتبين أنها متكاملة متينة البنيان. وفي إطار هذا البحث لا يمكن إلاّ ذكر مراحل تدوين القانون الدولي الإنساني منذ أواسط القرن التاسع عشر، وهي حقبة قصيرة من حقب التاريخ البشري، كما يمكن الجزم بأنّ أُسس هذا القانون انطلقت من قيم تشترك فيها البشرية جمعاء بصورة أو بأخرى.

لقد كان مصير الأشخاص والممتلكات يخضع في الحروب القديمة لنُظُم الأطراف المتحاربة، وإذا ما عُقدت اتفاقات فغالباً ما كانت ثنائية مرتبطة بنتائج الحرب ومآلها؛ مقتصرة على حرب أو معارك محدّدة، وما ميّز القانون الدولي الإنساني الحديث هو تأسيسه على معاهدات متعدّدة الأطراف، يُعتد بها لدى جميع المتعاقدين وتنسحب أحكامها على ما يجدّ استقبالاً. ويُطلق علماء القانون الدولي وغيرهم من الخبراء على مواثيق القانون الدولي الإنساني اختصاراً تسميتي «قانون جنيـڤ» و«قانون لاهاي». وتشير التسميتان إلى المعاهدات الرّامية إلى حماية الضحايا والممتلكات المدنية في أثناء الحروب، المبرمة أساساً في جنيـڤ السّويسرية، والمعاهدات المتعلّقة بوسائل القتال وأساليبه؛ المعْقودة أساساً في لاهاي الهولندية. والحقيقة أنّ هذه التفرقة تاريخية وعفاها الزّمن، فقد أُبرمت معاهدات في جنيـڤ تتصل بوسائل القتال وأخرى في لاهاي تدعم حماية الضحايا، وصنف آخر من المعاهدات أقرّت في مدن أخرى غيرهما تتّصل بأحد الجانبين أو بكليهما. ويقترن تطوّر القانون الدولي الإنساني الحديث بتاريخ اللجنة الدولية للصليب الأحمر المنشأة في جنيـڤ عام 1863 والتي لها فضل السّبق إلى الدّعوة إلى إبرام معاهدة دولية لحماية الجرحى العسكريين في الجيوش البرّية، وكان ذلك منطلق حركة تدوينية تطوّرت باستمرار، وفيما يلي أهم المعاهدات التي يشتمل عليها القانون الدولي الإنساني:

ـ معاهدة جنيڤ، بتاريخ 22/8/1864 بشأن تحسين حال العسكريين الجرحى في الجيوش البّرية.

ـ إعلان سان بيترسبورغ بتاريخ 29/11ـ11/12/1868 بشأن حظر استعمال بعض القذائف وقت الحرب.

ـ معاهدات لاهاي، بتاريخ 29/7/1899، وخصوصاً الثانية بشأن قوانين الحرب البرّية وأعرافها، والثالثة بشأن ملاءمة الحرب البحرية لمبادئ اتفاقية جنيـڤ لسنة 1864.

ـ اتفاقية جنيڤ بتاريخ 6/7/1906 (مراجعة اتفاقية 1864 وتطويرها).

ـ اتفاقيات لاهاي بتاريخ 18/10/1907، وبالخصوص الاتفاقية الرابعة بشأن قوانين الحرب البرّية وأعرافها، والاتفاقية العاشرة بشأن ملاءمة الحرب البحرية لمبادئ اتفاقية جنيـڤ لسنة 1906.

ـ بروتوكول جنيـڤ، بتاريخ 17/6/1925 بشأن حظر استخدام الغازات الخانقة والسّامة أو ما شابهها والوسائل الجرثومية في الحرب.

ـ اتفاقيتا جنيـڤ بتاريخ 27/7/1929: الأولى بشأن تحسين حال الجرحى والمرضى من القوات المسلّحة البرّية، والثانية بشأن معاملة أسرى الحـرب [ر: معاملة الأسرى في النزاعات الدولية والداخلية].

ـ اتفاقيات جنيـڤ المؤرّخة في 12/8/1949: الأولى بشأن تحسين حال الجرحى والمرضى من القوات المسلّحة البرّية، والثانية بشأن تحسين حال الجرحى والمرضى والغرقى من القوات المسلّحة البحرية، والثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب، والرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب.

ـ اتفاقية لاهاي بتاريخ 14/5/1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلّح؛ وبروتوكولها الإضافي الصادر في التاريخ ذاته؛ وبروتوكولها الثاني بتاريخ 26/3/1999.

ـ اتفاقية 10/12/1976 بشأن حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأيّ أغراض عدائية أخـرى.

ـ بروتوكولا جنيـڤ بتاريخ 8/6/1977 الإضافيان إلى اتفاقيات جنيـڤ لسنة 1949: الأول بشأن حماية ضحايا النزاعات المسلّحة الدولية، والثاني بشأن حماية ضحايا النزاعات المسلّحة غير الدولية.

ـ اتفاقية الأمم المتحدة بتاريخ 10/10/1980 بشأن حظر أو تقييد استعمال أسلحة تقليدية معيّنة يمكن اعتبارها مفرطة الضرر أو عشوائية الأثر(المعدّلة في 21/12/2001)، والبروتوكولات الملحقة بها: الأول بشأن الشظايا التي لا يمكن الكشف عنها (1980)، والثاني بشأن الألغام والأشراك الخداعية والنبائط الأخرى (1980، والمعدّل في 3/5/1996)، والثالث بشأن الأسلحة المحرقة (1980)، والرابع بشأن أسلحة الليزر المسبّبة للعمى (ڤيينا/ 13/10/1995)، والخامس بشأن المتفجّرات من مخلّفات الحرب (28/11/2003).

ـ اتفاقية باريس بتاريخ 13/1/1993 بشأن حظر استحداث وصنع وتخزين واستخدام الأسلحة الكيمائية وتدميرها.

ـ اتفاقية حظر استعمال الألغام المضادّة للأفراد وتخزينها وإنتاجها ونقلها والعمل على تدميرها الصادرة في أوسلو بتاريخ 18/9/1997 (وفتح باب التوقيع عليها في أوتاوا في 3/12/1997 ولذلك تُعرف بـ«اتفاقية أوتاوا»).

ـ معاهدة روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية (النظام الأساسي) بتاريخ 18/7/1998.

ـ البروتوكول الثالث الملحق باتفاقيات جنيـڤ لسنة 1949 والمؤرّخ في 8/12/2005 بشأن شارة مميزة إضافية.

ـ اتفاقية دبلن بتاريخ 30/5/2008 بشأن حظر الذخائر العنقوديـة.

هذه فقط قائمة موجزة من سلسلة معاهدات طويلة لن تكون خاتمتها اتفاقية دبلن المذكورة، فضلاً عن المواثيق العالمية والإقليمية المتّصلة صراحة أو ضمناً بموضوع هذا البحث. وكفى بهذه القائمة دليلاً على تطوّر القانون الدولي الإنساني الحديث خلال قرن ونصف قرن من الزمن وشمول مواثيقه لجوانبه المختلفة، ومدارها حماية الضحايا وتقييد حرية المتحاربين في اختيار وسائل القتال وأساليبه ودعم آلية تنفيذ أحكامه كما سيتبيّن لاحقـاً.

ثانياً ـ مصادر القانون الدولي الإنساني:

1ـ العرْف: لا يختلف هذا القانون عن سائر فروع القانون في استقاء قواعده من العرف والمعاهدة، كما أشير إلى ذلك في التعريف الوارد في صدر هذا المقال. ويعكس «شرط مارتنز» (نسبة إلى الحقوقي والدبلوماسي الروسي الشهير ف. مارتنز (1845ـ1909)، وكان قد شارك في صياغة مواثيق القانون الدولي الإنساني الأولى في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن المنصرم) الذي تضمنّته اتفاقيات جنيـڤ ولاهاي بالخصوص إدراك واضعي هذه المعاهدات قيمة العرف في الحفاظ على كرامة ضحايا الحرب، وإن جاءت صيغة «شرط مارتنز» أعمّ من مجرد الإشارة إلى العرف؛ إذ بموجبها، وفي الحالات غير المنصوص عليها، «يظلّ المدنيون والمقاتلون تحت حماية وسلطان مبادئ القانون الدولي كما دأب عليها العرْف ومبادئ الإنسانية وما يمليه الضمير العام». وتبدو هذه الصيغة حتى في آخر المعاهدات المذكورة سابقاً، وتحديداً في ديباجة معاهدة دبلن (2008). ولئن بدت معظم أحكام القانون الإنساني اليوم تعاهدية؛ فإن جوهرها مستمّد من أعراف راسخة، ويُذكر على سبيل المثال قاعدة التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين والأهداف العسكرية والأعيان المدنية، وقاعدة التناسب بين آثار وسائل القتال وأساليبه في العمليات الحربية والهدف المقصود، ومبادئ معاملة أسرى الحرب، والتفرقة بين الحيل الحربية (الجائزة) وأعمال الغدر والخيانة وهي غير مشروعة. وقد اجتهدت منظمة دولية متخصّصة في مجال القانون والعمل الإنسانيين، وهي اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العمل مع خبراء يمثّلون مختلف النظم القانونية في العالم لإعداد دراسة شاملة عن قواعد القانون الدولي الإنساني العرْفية. وقد صدرت الدراسة عام 2005 وتوصّل المشاركون في المناقشات التي دارت حول مضمونها إلى إقرار مئة وإحدى وستين قاعدة قُسّمت على الأجزاء التالية:

ـ مبدأ التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين والأهداف العسكرية والأعيان المدنية.

ـ حماية الأشخاص والممتلكات.

ـ أساليب قتال محدّدة.

ـ استخدام الأسلحة.

ـ معاملة المدنيين والعاجزين عن القتال.

ـ وسائل تنفيذ القانون الدولي الإنساني.

وأيّاً كانت درجة تطوّر القانون الاتفاقي؛ فإن الحاجة إلى العرف تظلّ قائمة في علاقات الدول والشعوب، ومن بينها الأوضاع الناجمة عن الحروب. ولا تعني كثرة المعاهدات التزام جميع الدول بها، فهناك تفاوت في أعداد الأطراف المتعاقدة حسب كل اتفاقية على حدة؛ علاوة على أنّ المعارضة المسّلحة في النزاعات الدّاخلية ليست «طرفاً متعاقداً» بالمعنى القانوني، وإن كان لزاماً عليها احترام أحكام القانون الدولي الإنساني. وفي تطور القانون الإنساني التعاهدي ما يدلّ على وجود نقائص تتداركها مرحلة تدوينية معيّنة؛ من دون تلافي النقص جميعه في هذا الجانب أو ذاك. ولعل من حسن الحظّ أن يخضع استخدام السلاح النووي أو الحرب الجوّية ـ مثلاًـ لأحكام القانون الإنساني العرفي في غياب أحكام اتفاقية تتناولها حتى اليوم. وعلى الأقل لا بد من ملاحظة حصول اتفاقيات جنيڤ (حماية الضحايا) على تصديق جميع دول العالم اليوم، وهو ما لم تحظَ به أيّ معاهدة أخرى من معاهدات القانون الإنساني وغيره، مما يفسح المجال للقاعدة العْرفية فيما يخصّ جوانب القانون الإنساني الأخرى.

2ـ المعاهدة: ذُكر فيما سبق أهمّ اتفاقيات القانون الدّولي الإنساني متعددة الأطراف. ويدل تطورها على سعي الدّول إلى تدوين أحكامه في نصوص مكتوبة تراعي شروطاً شكلية وموضوعية محددة يحكمها قانون المعاهدات، ومع ميل القضاء الدولي إلى الاعتماد على العرف والمعاهدات عند النظر في حالات تتصل بانتهاكات القانون الدولي الإنساني؛ فإنه يمكن القول: إن المصادر الّتي أقرّ نظام محكمة العدل الدولية الأساسي وجوب تطبيقها أساسية كانت (المعاهدة، العرف، مبادئ القانون العامة) أم احتياطية (القضاء الدولي وفقه القانون الدولي) بحسب مادته (38)؛ هي ذاتها مصادر القانون الدولي الإنساني، بصفته فرعاً من فروع القانون الدولي، والفرع يتبع الأصل. وفي مجملها أصبحت أحكام القانون الدولي الإنساني مكتوبة. ولا تلغي المعاهدات العالمية ـ مثل اتفاقيات جنيڤ ـ المعاهدات الإقليمية التي قد تتصل بجانب أو بآخر من جوانب القانون الدولي الإنساني.

ثالثاً ـ طبيعة أحكام القانون الدولي الإنسانـي:

يشيع على ألسنة الكثير من الناس أن القانون الدولي الإنساني بل القانون الدولي جميعه ليس قانوناً، وأنه مجرّد قواعد أخلاقية أو مجاملات، إلى غير ذلك من المزاعم التي قد يكون مرجعها اليأس من مواقف بعض القوى العالمية من القانون الدولي؛ وإشهارها سلاح هذا القانون وفق هواها ومصالحها؛ لا وفق أسس القانون ومبادئه، وأبرزها الإنصاف والوقوف إلى جانب الحق لا مجانبته؛ والبحث عن المساواة في تطبيق أحكام القانون. ولدحض مثل هذه المزاعم لا بدّ من التشديد على عمق الصلة بين القانون والأخلاق وبين القانون والدّين على سبيل المثال. وما القانون ـ أيّاً كان نوعه ـ إلاّ انعكاس لمنظومة قيم ونظام علاقات يقبل بها مجتمع ما، فكم من ظواهر اجتماعية جائزة في دولة ممنوعة في أخرى. أمّا في شأن القانون الدولي الإنساني؛ فإن أحكامه تخضع في سريان مفعولها لقواعد القانون الدولي العام. فالعرفي منه يُعتدّ به تجاه جميع الدول Erga omnes والتعاهدي يلزم الأطراف المتعاقدة (نسبية أثر المعاهدات). وبسبب المقتضيات الإنسانية التي تعدّ منطلق هذا القانون ومآله؛ فإن جوهر أحكامه يعدّ من القواعد الآمرة Jus cogens؛ أي التي تقبل بها المجموعة الدولية كافة بصفتها قواعد لا تقبل الاستثناء ولا يمكن تغييرها إلاّ بقواعد جديدة من قبيلها. ومن خاصيات القانون الدولي الإنساني أن أحكامه الأساسية تستبعد المعاملة بالمثل، وينص صراحة على واجبات عينية (تلزم كل طرف متعاقد بعينه، بغض النظر عن موقف الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى)، ويمنع الأعمال الانتقامية Reprisals ضد الأشخاص المحميين والممتلكات المحمية والبيئة الطبيعية. وتمنع اتفاقيات جنيڤ صراحة الاتفاقات الخاصة الّتي تنتقص من حقوق الأشخاص المحميين، كما تمنع هؤلاء من التخلي عن حقوقهم المكفولة بموجب أحكامها. وسكتت هذه الاتفاقيات عن حق الأطراف المتعاقدة في إبداء تحفظات على بعض من بنودها؛ أي ما يجعل هذا الحق قائماً. وإذا عنّ لدولة إبداء تحفظ ما؛ فعليها احترام قانون المعاهدات، وهو يوجب ألاّ يخالف التحفظ موضوع الاتفاقية وغايتها.

رابعاً ـ قواعد القتال في النزاعات المسلّحة الدّولية وغير الدّوليـة:

1ـ نوعان من النزاعات: يفرّق القانون الدولي الإنساني بين نوعين من النزاعات المسلحة: النزاعات الدولية والنزاعات غير الدولية، وفي كلتا الحالتين ينبغي للأطراف المتحاربة أن تراعي في العمليات القتالية جملة من المبادئ والأحكام التي تترتب على انتهاكها مسؤولية قانونية. والتفرقة بين نوعين من النزاعات تنعكس على المنظومة القانونية التي تحكم كلاً منهما. وتختلف أحكام النزاعات المسلحة الدولية عن أحكام النزاعات المسلحة غير الدولية، وهو أمر طبيعي لأن النوع الأول من النزاعات يرتبط بعلاقات «مسلحة» بيْن الدّول، ويشمل ذلك حالات الاحتلال والحالات الّتي قد تخوض فيها منظمات دولية (عالمية أو إقليمية) عمليات مسلّحة، وألحق القانون الإنساني حروب التحرير الوطني بالنزاعات المسلحة الدولية. أما النوع الثاني من النزاعات فهو يتّصل بأوضاع داخلية، أياً كان شكل الدّولة الّتي يدور فيها النزاع (أحادية أم اتحادية) وأياً كان مصير الدولة بعد النزاع (وحدة أم انفصال)، وقد ينشب النزاع بين السلطة القائمة ومجموعة أو مجموعات مسلحة معارضة؛ أو بين مجموعات مسلّحة من دون أن تكون السلطة القائمة طرفاً في النزاع. وفي جميع الحالات يجب الالتزام بالقواعد ذات الصلة كما حددها القانون الإنسانـي.

2ـ قواعد أساسية:

لئن كان النظام القانوني المخصّص للنزاعات المسلّحة الدولية أكثر شمولاً وأغزر مادة من قانون النزاعات المسلحة الداخلية (وجدير بالذكر أنّ الدول هي واضعة الأحكام المتفق عليها في كلتا الحالتين)؛ فإن على الأطراف المتحاربة مراعاة الحدّ الأدنى من القواعد في أيّ نزاع مسلّح ويمكن إجمالها فيما يلي:

ـ وجوب التفرقة في جميع الأحوال بين المقاتلين وغير المقاتلين وبين الممتلكات المدنية والأهداف العسكرية؛ تفادياً من إلحاق الضرر بغير المقاتلين والممتلكات المدنية.

ـ ليس للمتحاربين حق مطلق في إلحاق الأذى بالخصم أو في اختيار وسائل القتال وأساليبه، ويجب الامتناع عن استخدام وسائل وأساليب عشوائية الأثر أو مفرطة الضرر.

ـ وجوب احترام من أصبحوا غير قادرين على القتال أو الذين لا يشاركون فيه مباشرة، في صون سلامتهم الجسدية والمعنوية، وحمايتهم ومعاملتهم إنسانياً من دون أي تمييز.

ـ الامتناع عن جرح من يستسلم أو يصبح عاجزاً عن القتال أو الإجهاز عليه.

ـ مراعاة التناسب في العمليات القتالية بين آثار وسائل القتال وأساليبه والنتيجة العسكرية المنتظرة؛ حماية للمدنيين والممتلكات المدنية.

ـ الاعتناء بالجرحى والمرضى وجمعهم في أماكن آمنة من قبل الطّرف الّذي يقعون تحت سلطته، وتشمل الحماية القائمين بالخدمات الإنسانية المطلوبة ووسائل النقل والعلاج وعلامات الحماية المعترف بها بموجب أحكام القانون الإنساني.

ـ وجوب احترام المحرومين من حريتهم بسبب النزاع مثل الأسرى والمحتجزين والمعتقلين المدنيين، وصون كرامتهم وسلامتهم الجسدية والمعنوية، والامتناع عن الانتقام منهم أو تعذيبهم أو إذلالهم بأي أسلوب من الأساليب. ويجب أيضاً تمكينهم من حق المراسلة مع أهلهم وذويهم.

ـ ليست الحرب مبرّراً أو عذراً لحرمان الأشخاص من الضمانات القضائية الأساسية المتعارف عليها عالمياً، ولا يمكن إدانة شخص بجريرة غيره، والمسؤولية فردية.

ـ حظر النهب وتجويع السكان المدنيين ومهاجمة الممتلكات التي لا غنى عنها لحياة السكان أو نقلها أو تدميرها.

ـ حظر أعمال الغدر والخيانـة.

خامساً ـ نطاق حماية القانون الدولي الإنساني:

تشمل الحماية التي يتضمنها القانون الدولي الإنساني الفئات التالية:

ـ الجرحى والمرضى والغرقى.

ـ أسرى الحرب.

ـ المدنيين.

ـ أفراد الخدمات الإنسانية.

ـ فئات أخرى.

1ـ الجرحى والمرضى والغرقى: سبق أن ذكر أن القانون الدولي الإنساني اقتصر في بدايته على فئة «الجرحى العسكريين» التابعين للقوات البرّية، وتطوّر بعد ذلك ليواكب آثار الحروب وما يستخدم فيها من وسائل وأساليب، ولاسيّما الأسلحة الفتّاكة المستعملة برّاً وبحراً وجوّاً. والمقصود الآن بالجرحى والمرضى هم الأشخاص العسكريون أو المدنيون الذين يحتاجون إلى مساعدة أو رعاية طبية بسبب الصدمة أو المرض أو أي اضطراب أو عجز بدني أو عقلي، ويحجمون عن أي عمل عدائي. ويشمل اللفظان أيضاً حالات الرّضع والأطفال حديثي الولادة والأشخاص الآخرين الذين قد يحتاجون إلى مساعدة أو رعاية عاجلة، مثل ذوي العاهات وأولات الحمْل الذين يحجمون عن أي عمل عدائي (انظر المادة 8 (أ) من البروتوكول الأول لسنة 1977 الإضافي إلى اتفاقيات جنيڤ)، وخُصّصت اتفاقية جنيڤ الأولى (لسنة 1949) لحماية المرضى والجرحى. أمّا اتفاقية جنيڤ الثانية فقد اهتّمت بضحايا الحرب البحرية. والمقصود بالغرقى أو المنكوبين في البحار هم الأشخاص العسكريون أو المدنيون الذين يتعرضون للخطر في البحار أو مياه أخرى نتيجة لما يصيبهم أو يُصيب السفينة التي تقلّهم من نكبات؛ والذين يحجمون عن أي عمل عدائي. وصفة «منكوبين في البحار» تلازم هؤلاء الأشخاص في أثناء عمليات إنقاذهم حتى حصولهم على وضع آخر بمقتضى الأحكام الدولية ذات الصلّة؛ شرط إحجامهم عن القيام بأي عمل عدائي.

وينطوي واجب تحسين حالة الأشخاص المذكورين آنفاً على احترامهم وحمايتهم في جميع الأحوال سواء في النزاعات الدولية أم في النزاعات غير الدولية.

2ـ أسرى الحرب: هذه الفئة من الضحايا الأحياء هي موضوع اتفاقية جنيڤ الثالثة (لسنة 1949)، وبموجبها تُطلق صفة أسير الحرب على الشخص الذي ينتمي إلى إحدى الفئات التالية:

(1) ـ أفراد القوات المسلّحة أو المليشيات أو الوحدات المتطوّعة الأخرى التي تشكّل جزءاً منها.

(2) ـ أفراد الميليشيات والوحدات المتطّوعة الأخرى وعناصر المقاومة المنظّمة الذين ينتمون إلى أطراف النزاع، سواء كانوا خارج أرضهم أم داخلها؛ وسواء كانت أرضهم محتلة أم لا، على أن تتوافر في جميع هؤلاء الأشخاص الشروط التقليدية الأربعة (قيادة مسؤولة، وعلامة مميزة، وسلاح ظاهر، واحترام قوانين الحرب وأعرافها).

(3) ـ أفراد القوات النظامية لحكومة أو سلطة لا تعترف الدولة الحاجزة بها.

(4) ـ العناصر التي تتبع القوات المسلّحة من دون أن تكون مباشرة جزءاً منها، مثل المدنيين العاملين في أطقم الطيران الحربي، ومراسلي الحرب والقائمين بالتموين والذين يمارسون الترفيه عن القوات المسلّحة؛ شرط أن يحمل جميع هؤلاء ترخيصاً من القوات التي يتبعونها.

(5) ـ عناصر أطقم البحرية التجارية والطيران المدني لأطراف النزاع ـ ومن ضمنهم النوتية والقادة ومساعدوهم ـ إذا كانوا لا يتمّتعون بمعاملة فضلى بموجب أحكام القانون الدولي الأخرى.

(6) ـ أهالي الأرض (التي لم يقع احتلالها بعد) الذين يهُبّون في وجه العدوّ المداهم أو ينفرون نفيراً عاماً على أن يراعوا شرطين من الشروط الأربعة المتقدّم ذكرها وهما: حمل السلاح بشكل ظاهر واحترام قوانين الحرب وأعرافها. وتضيف الاتفاقية الثالثة فئتين أخريين لهما الحقّ في معاملة أسير الحرب وليس في صفة أسير الحرب القانونية، وهما:

(آ) ـ الأشخاص الذين تعيد سلطات الاحتلال اعتقالهم (بعد أن كانت أفرجت عنهم) في حين لا تزال العمليات الحربية قائمة خارج الأرض المحتلة، وذلك لأسباب تعدّها ضرورية؛ خصوصاً بعد محاولتهم الالتحاق بقواتهم المحاربة أو رفضهم الاستجابة لأمر اعتقالهم.

(ب) ـ الأشخاص الذين ينتمون إلى إحدى الفئات المذكورة الذين يلتحقون بأرض طرف محايد أو غير محارب ويتمّ إيواؤهم من طرفه وفق أحكام القانون الدولي.

وانسجاماً مع إدراج حروب التحرير الوطني ضمن النزاعات المسلّحة الدولية طبقاً لأحكام البروتوكول الأول الصادر سنة 1977 والملحق باتفاقيات جنيڤ لسنة 1949؛ فإن لمقاتلي هذه الحروب الحقّ في صفة المقاتل القانونية وتبعاً لها في وضع أسير الحرب عند وقوعهم في قبضة الخصم إذا كان طرفاً في البروتوكول المذكور. وبدهيّ أنّ على حركة التحرير المعنية التزام تطبيق أحكام اتفاقيات جنيڤ والبروتوكول الأول الملحق بها. أمّا مقاتلو النزاعات الداخلية فلا تطلق عليهم قانوناً صفة المقاتل ولا صفة أسير حرب، لكن مبدأ المعاملة الإنسانية وما تعنيه من مقتضيات أساسية ينطبق عليهم؛ وفق ما أقرّته المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيڤ وما أضافه إليها البروتوكول الثاني الملحق بهذه الاتفاقيات، ويمكن لأطراف النزاع الداخلي الاتفاق على منح من يقعون في قبضتهم من مقاتلين حقوقاً أوسع ممّا ورد في المادة والبروتوكول المذكورين.

وكما هو الشأن بالنسبة إلى غيرهم من ضحايا الحروب يوجب مبدأ المعاملة الإنسانية على السلطة الآسرة حماية الأسرى واحترامهم، منذ وقوعهم في الأسر حتى انتهائه. وفي اتفاقية جنيڤ الثالثة تفاصيل معاملة الأسرى ماديّاً ومعنوياُ، ويشمل ذلك الضمانات القضائية الأساسية وتمكينهم من حقوقهم في حالات محاكمة أسير الحرب بسبب جرائم ارتكبها قبل الأسر. وتنتهي حالة الأسر بنهاية العمليات الحربية. وإعادة الأسرى إلى بلادهم التزام على عاتق كل طرف في النزاع تجب مراعاته من دون المعاملة بالمثل، ومن دون انتظار إبرام معاهدة سلام بين طرفي النزاع، ومعظم النزاعات المسلّحة الدولية المعاصرة لا تنتهي بإبرام معاهدات سـلام.

3 ـ المدنيون: طبقاً لأحكام القانون الدولي الإنساني فإن المدنيين هم الأشخاص الذين لا ينتمون إلى القوات المسلّحة، وهم موضوع اتفاقية جنيڤ الرابعة لسنة 1949 وما أُضيف إليها من أحكام دوليـة.

وتحمي الاتفاقية الرابعة «الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في لحظة ما وبأي شكل كان ـ في حالة نزاع مسلّح أو حالة احتلال ـ تحت سلطة طرف في النزاع ليسوا من رعاياه أو دولة احتلال ليسوا من رعاياها». والمعيار هو الجنسية لكن يمكن تصور وجود أشخاص من دون جنسية «تحت سلطة طرف في النزاع»، ولمّا كانوا من غير رعايا الأطراف المتحاربة؛ فإن حماية القانون الإنساني تمتّد إليهم أيضاً، ومع تقدير الفروق الواضحة بين الأسرى والمدنيين نسج واضعو الاتفاقية الرابعة على منوال الاتفاقية الثالثة في صياغة الأحكام الخاصّة بالضمانات والحقوق؛ نظراً لتقدّم تقنين شؤون أسرى الحرب وحداثة الاتفاقية الخاصة بالمدنيين.

وتقوم حماية المدنيين أيضاً على مبدأ «المعاملة الإنسانية». وعلى أساسه يُمنع في جميع الأحوال تعريض المدنيين لأعمال الإكراه والتعذيب والعقوبات الجماعية والانتقام واحتجاز الرهائن والترحيل. وكفلت الاتفاقية الرابعة حق الأجانب المقيمين في أراضي أطراف النزاع في مغادرة أرض العدوّ، وتلقّي مواد الإغاثة وممارسة الأعمال المسموح بها والإقامة، وبيّنت الاتفاقية ذاتها شروط الاعتقال وحدوده؛ ونقل الأجانب إلى أراضي دولة أخرى.

وفيما يتّصل بالأراضي المحتلة بيّنت الاتفاقية بدقة حقوق السكان التي لا يمكن النيل منها وواجبات دولة الاحتلال. ومن المبادئ المستقرّة في القانون الدولي أنّ الاحتلال لا يغيّر وضع الأراضي المحتلة القانوني، وحسب لائحة لاهاي الملحقة باتفاقية 1907 الرابعة بشأن قوانين الحرب البرّية وأعرافها «تُعدّ الأرض محتلة حين تكون تحت سلطة جيش العدو الفعلية، ولا يشمل الاحتلال إلاّ الأراضي التي يمكن أن تُمارس فيها هذه السلطة بعد قيامها». وإذا انتقلت سلطة القوة الشرعية فعلاً إلى أيدى قوة الاحتلال؛ يتعيّن على هذه الأخيرة قدر الإمكان ـ بحسب لائحة لاهاي ـ تحقيق الأمن والنظام العام وضمانه؛ مع احترام القوانين السّارية في البلاد، إلاّ في حالات الضرورة القصوى التي تحول دون ذلك.

ويخضع حرمان بعض المدنيين من حرّيتهم بسبب النزاع لإجراءات حّددتها اتفاقية جنيڤ الرابعة حرصاً على حقوق هؤلاء. وبموجب الاتفاقية يحقّ لأطراف النزاع إيقاف شخص يكون محلّ شبهة جائزة وملاحقته ومحاكمته بسبب أعمال تمسّ أمن الطرف المعني. والشخص الذي يقترف التجسّس أو التخريب في أرض محتلة أو يقوم بما يمسّ أمن دولة الاحتلال يمكن أن يفقد الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقية، لكن ذلك لا يلغي حق الموقوف أو المعتقل في الضمانات القضائية ومقتضيات العدالة كما نصّت عليها الاتفاقية. وممّا أضافه البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيڤ يمكن ذكر مادته (75)، وموضوعها الضمانات الأساسية الواجب توفيرها للأشخاص الذين يصبحون تحت سلطة أحد أطراف النزاع ولا يتمتعون بالحماية المنصوص عليها في الاتفاقية أو أحكام البروتوكول الأخرى، وهي ضمانات مهمة في المجال القضائي بالخصوص.

4ـ موظفو الخدمات الإنسانية

في إطار القانون الدولي الإنساني، يُقتصر الحديث على الفئات التالية: موظفي الخدمات الطبية والشؤون الدينية، وأفراد جمعيات الإغاثة التطوعية، وأفراد الدفاع المدني، وموظفي الأمم المتحدة.

أ ـ موظفو الخدمات الطبية والشؤون الدينية: تشمل فئة القائمين بالخدمات الطبية التابعة للقوات المسلّحة ثلاثة أقسام تتكون من:

ـ المتفرّغين تماماً للبحث عن المرضى والجرحى والغرقى أو نقلهم أو معالجتهم.

ـ المتفرّغين تماماً لإدارة الوحدات والمنشآت الطبية.

ـ العسكريين المدربين خصوصاً للعمل عند الحاجة ممرضين أو مساعدي حاملي الناقلات؛ وللقيام بالبحث عن الجرحى والمرضى والغرقى أو نقلهم أو معالجتهم.

أمّا القائمون بالشؤون الدينية الملحقون بالقوات المسلّحة فلا يُشترط فيهم أن يكونوا متفرّغين كلياً أو جزئياً لمساعدة الجرحى والمرضى معنوياً، ويشمل عملهم القوات المسلّحة جميعاً، ولا بدّ لهم ـ مثل الفرق الطبية ـ من رابطة قانونية  بالجيش، كما يجب أن تكون العلاقة رسمية بين متطوعي الخدمات الدينية والقوات المسلّحة ليتمتعوا بحماية مواثيق القانون الإنساني.

ب ـ العاملون في جمعيات الإغاثة التطوعية: تبين آنفاً الصلة المتينة بين ظهور حركة الصليب الأحمر والهلال الأحمر الدولية وتدوين القانون الدولي الإنساني. وفي طليعة العاملين في مجال الإغاثة يبرز أفراد جمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر، وعلاوة على الانتماء إلى هذه الجمعيات؛ فإنهم يحملون شارة تميّزهم وتحميهم. ولابدّ من الإشارة إلى موظفي اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تضطلع ـ منذ إنشائها عام 1863 في سويسراـ بمسؤوليات كبيرة في خدمة ضحايا الحروب وحمايتهم، وحدّدت مواثيق القانون الدولي الإنساني مهام اللجنة بصفتها وسيطاً إنسانياً محايداً في النزاعات المسلّحة، سواء استناداً إلى وضعها الخاص أم إلى كونها بديلاً للدولة الحامية (انظر لاحقاً هذه العبارة في الفقرة المخصّصة لآليات تنفيذ القانون الإنساني). وشرط حصانة العاملين في المجال الإنساني في أثناء النزاعات يتمثل بامتناعهم عن القيام بأي عمل عدائي تجاه أي من أطراف النزاع، وبالالتزام بالحياد المطلق، ولا يعدّ عملهم تدخّلاً في النزاع بأي حال، وإنما أساس عملهم تمكين الأشخاص المحميين من الحصول على المساعدة الإنسانية طبقاً للأحكام الدولية ذات الصلة.

ج ـ موظفو الحماية المدنية (الدفاع المدني): نظراً لمهام الدفاع المدني المتزايدة في مجالات الإغاثة أقرّ واضعو البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيڤ أحكاماً جديدة لحماية موظفي هذا الجهاز العام الذي لا يُستغنى عن خدماته في المجتمعات المعاصرة. وموظفو الدفاع المدني ـ في تعريف البروتوكول المذكور ـ هم الأشخاص الذين يخصّصهم أحد أطراف النزاع لأداء المهام الإنسانية التي ترمي إلى حماية السكان المدنيين من أخطار العمليات العدائية أو الكوارث، وتساعدهم على تجاوز آثارها المباشرة وتوفّر لهم الأحوال الملائمة للبقاء دون غيرها من المهام. ومن بينهم الأفراد العاملون في إدارة أجهزة الدفاع المدني فقط، وتمتد حماية أفراد الدفاع المدني إلى أرض أطراف النزاع والأراضي المحتلة وإلى المدنيين الذين يستجيبون لطلب السلطات ويشاركون تحت إشرافها في أعمال الدفاع المدني من دون أن يكونوا جزءاً من أجهزته.

وبصفتهم مدنيين يتمتّع أفراد الدفاع المدني بالحماية المقرّرة قانوناً للمدنيين، وتنطبق عليهم واجبات الامتناع عن المشاركة في الأعمال الحربية.

د ـ موظفو الأمم المتحدة والأفراد المرتبطون بها: تقوم منظمة الأمم المتحدة بعدّة مهام في السّلم والحرب وفق أحكام ميثاقها الصادر عام 1945، ويقتضي وجود ممثّليها وموظّفيها في مناطق النزاعات ضمان سلامتهم وأمنهم لأداء مهامّهم. وبعد تجارب طويلة أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1994 اتفاقية بشأن سلامة موظفي هذه المنظمة العالمية والأفراد المرتبطين بها (قرار الجمعية العامة 49/59 بتاريخ 9/12/1994). ولا تنطبق هذه المعاهدة على «أيّة عملية للأمم المتحدة يأذن بها مجلس الأمن بصفتها إجراءً من إجراءات الإنفاذ بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ويشارك فيها أي من الأفراد مقاتلين في مواجهة قوات مسلّحة منظّمة وينطبق عليها قانون النزاعات المسلّحة الدولية» (المادة 3، فقرة 2 من الاتفاقية). ولا تمسّ الاتفاقية تطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني ومراعاة أحكام حقوق الإنسان المعترف بها عالمياً. وأكّدت تعليمات الأمين العام للأمم المتحدة الصادرة في 10/8/1999 (بمناسبة مرور خمسين عاماً على إبرام اتفاقيات جنيڤ) تحت عنوان «احترام القانون الدولي الإنساني من قبل قوات الأمم المتحدة» أهمية التزام القوات التي تضعها الدول تحت قيادة الأمم المتحدة بتطبيق أحكام هذا القانـون.

هـ ـ      فئات أخــرى:

 (1) ـ دعماً لحماية المدنيين خصّ القانون الإنساني فئات محدّدة بأحكام إضافية، وذلك بسبب الجنس أو السّن أو الوظيفة أو الرابطة القانونية مع الدول. وهكذا فإن ثمة أحكاماً خُصّت بها أصناف كالنساء والأطفال والصحافيين واللاجئين وعديمي الجنسية.

(2) ـ لم يهمل القانون الإنساني شأن المفقودين والمتوفيّن بسبب النزاع، ومن واجب أطراف النزاع تسجيلهم وتبادل المعلومات والبحث عنهم وتمكين الأهل والأقارب من معرفة أوضاع أفرادهم الذين لم يسلموا من آثار النزاع. وسواء أُشير إلى المقاتلين أم المدنيين، والأراضي المحتلة أم أراضي أطراف النزاع، فإنه لابد من ذكر أنه يجب إجراء عمليات البحث والتسجيل من دون إبطاء، وتوفير الوسائل اللازمة لذلك. وتبذل وكالة البحث عن المفقودين التابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر جهوداً كبيرة في سبيل جمع المعلومات ونقلها إلى من يحقّ له الحصول عليها، وتعتمد اللجنة الدولية على التعاون في هذا المجال مع السلطات المختصة ومع جمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر.

سادساً ـ بدء تطبيق القانون الدولي الإنساني وانتهـاؤه:

1ـ بدء تطبيقــه:

إن القانون الدولي الإنساني هو بطبيعته قانون حالات استثنائية، وهي النزاعات المسلّحة، أي إنّ أحكامه لا تطبّق في الحالات الأخرى حتى إذا تخلّلها عنف مسلّح. ومع ذلك تحتوي مواثيقه على موادّ يتطلب تنفيذها اتخاذ إجراءات زمن السّلم.

ولمّا كان تطبيق القانون الدولي الإنساني مرتبطاً باندلاع النزاع لا بأسبابه أو بمشروعيته؛ فإن مفعوله يسري منذ بدء النزاع. وأكّدت اتفاقيات جنيڤ جميعها أن أحكامها «تنطبق في حالة الحرب المعلنة أو أي نزاع مسلّح آخر ينشب بين طرفين أو أكثر من الأطراف السامية والمتعاقدة، حتى إذا لم يعترف أحدها بحالة الحرب. وتنطبق الاتفاقية أيضاً في جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلّي لإقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة، حتى إذا لم يواجه هذا الاحتلال مقاومة مسلّحة» (المادة الثانية المشتركة بين اتفاقيات جنيڤ). ويستمر سريان مفعول القانون الإنساني طوال فترة النزاع أيّاً كانت مدّته. وإذا قرّرت دولة طرف في اتفاقيات جنيڤ التنصّل أو التحلّل من أي منها وهي في حالة نزاع؛ فإن قرارها لن يسري إلا بعد عقد صلح؛ وفي جميع الأحوال بعد انتهاء عمليات الإفراج عن الأشخاص المحميين وإعادتهم إلى أوطانهم، ولا أثر للتحلّل من المعاهدة إلاّ بالنسبة إلى الطرف الذي قرّره من دون مسّ القواعد العرفية (انظر أعلاه «شرط مارتنز»). ويضيف البروتوكول الأول أن التحلّل منه لا يكون نافذاً قبل نهاية النزاع المسلّح أو نهاية الاحتلال، وفي جميع الأحوال لا يكون قبل انتهاء العمليات الخاصة بالإفراج عن الأشخاص المحميين نهائياً أو إعادتهم إلى أوطانهم أو توطينهــم.

وخلافاً لاتفاقيات لاهاي استبعدت اتفاقيات جنيڤ شرط المشاركة الجماعية si omnes clause؛ أي تطبيق المعاهدة شرط ارتباط جميع الأطراف المتحاربة بها. وبموجب اتفاقيات جنيڤ، إذا لم يكن أحد أطراف النزاع طرفاً فيها أو في البروتوكول الأول؛ فإنها تظل سارية المفعول بين الأطراف المصدّقة عليها.

وفي النزاعات الداخلية لا يسري التحلّل من الالتزام بالبروتوكول الثاني الإضافي إلى اتفاقيات جنيڤ قبل نهاية النزاع بالنسبة إلى الطرف الذي قرّره، ويظل الأشخاص المحرومون من حرّيتهم أو المقيّدة حرّيتهم بسبب النزاع مستفيدين من أحكام البروتوكول حتى إخلاء سبيلهم نهائياً.

2ـ انتهاء التطبيق:

ينتهي تطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني بانتهاء النزاع المسلّح أو حالة الاحتلال، باستثناء ما يُنفّذ من أحكامه زمن السلم أو يقتضي اتخاذ إجراءات وتدابير معيّنة بعد النزاع. وتنصّ اتفاقية جنيڤ الرابعة على انتهاء تطبيقها في أراضي أي طرف من أطراف النزاع عند انتهاء العمليات الحربية بوجه عام. أمّا في الأراضي المحتلّة فإن تطبيقها ينتهي بعد عام واحد من انتهاء العمليات الحربية بوجه عام. إلاّ أن على دولة الاحتلال أن تلتزم طوال مدة الاحتلال ـ وما دامت تمارس السلطة الفعلية ـ التقيّد بالأحكام المتّصلة بالأمور التاليـة:

ـ احترام الاتفاقية وتنفيذها، ومراعاة حقوق الأشخاص المحميين، وقبول مهامّ اللجنة الدولية والدول الحامية (انظر هذا التعبير لاحقاً).

ـ احترام مبدأ المعاملة الإنسانية ومدلوله.

ـ المسؤولية عن حماية الأشخاص، ومراعاة الامتناع عن القيام بالأعمال المحظورة الضارّةّ بالأشخاص المحميين كما نصّت عليها الاتفاقية.

ـ احترام حقوق سكان الأراضي المحتلة ومنع الترحيل والإبعاد والنّفي.

ـ احترام حقوق العمّال في الأراضي المحتلة ومنع تجنيد أيّ من سكانها للخدمة في قوات الاحتلال أو معاونتها.

ـ حظر تدمير الممتلكات الخاصة والعامة في الأراضي المحتلة.

ـ وجوب تمكين السكان من الحصول على الإغاثة الإنسانية وتسهيل وصولها إليهم.

ـ مراعاة الضمانات القضائية في مختلف مراحل الاحتجاز والاعتقال وفق ما نصّت عليه الاتفاقية الرابعة.

ـ مراعاة عمل الدولة الحامية (انظر هذا التعبير في الفقرة التالية من هذا المقال) واللجنة الدولية للصليب الأحمر وحقّ مندوبيهما في أداء وظائفهم لمصلحة الأشخاص المحميين. وتظلّ الاتفاقية الرابعة سارية المفعول بالنسبة إلى الأشخاص المحميين الذين يُفرج عنهم أو يعادون إلى أوطانهم أو يتمّ توطينهم بعد آجال انتهاء تطبيق الاتفاقية المذكورة أعلاه (عند انتهاء العمليات الحربية بوجه عام، وفي الأراضي المحتلة بعد عام من انتهاء العمليات الحربية)، أي إنّ أثر الاتفاقية القانوني يمتد حتى تسوية أوضاع هؤلاء الأشخـاص.

سابعاً ـ آليات تنفيذ القانون الدولي الإنساني:

نصّت مواثيق القانون الدولي الإنساني على عدّة وسائل يتعيّن على الأطراف المتعاقدة اتخاذها، ويمكن إجمالها على النحو التالي:

1ـ التعهّد باحترام مواثيق القانون الدولي الإنساني وفرض احترامها: إن هذا الالتزام قاعدة أساسية بُنيت عليها اتفاقيات جنيڤ خصوصاً، وتمنح الدول المتعاقدة حقّ مطالبة الطرف الذي يُخلّ بالتزاماته بموجب الاتفاقيات بالوفاء بها، علاوة على إلزام الدولة المتعاقدة سلطاتها وممثلّيها المدنيين والعسكريين بمراعاة ما قبلت به دولتهم من أحكام دولية. وكثير من الواجبات المترتّبة على هذا التعهّد باحترام القانون الدولي الإنساني وفرض احترامه يتطلّب اتخاذ إجراءات عديدة زمن السّلم، ومنها نشر أحكام القانون الإنساني والتعريف بها وتدريسها، وإعداد الخبراء والمتخصّصين في هذا القانون، وتمكين القوات المسلّحة من الاستفادة من مستشارين قانونيين أكفاء، وسنّ التشريعات الداخلية الملائمة لتنفيذ القانون الإنساني وإصدار التعليمات والنشريات التفسيرية وغيرها. وما تقدّم من أمثلة وردت في مواثيق القانون الإنساني يدلّ على أن الإجراءات والتدابير المذكورة تشمل الخبرة العملية والعلمية والجهود التشريعية بالخصوص.

2ـ عمل بعض المؤسسات: أسند القانون الإنساني إلى مؤسسات محدّدة وظائف مهمة لتنفيذ أحكامه.

أ ـ الدولة الحامية وبديلها: تعني هذه العبارة الدولة المحايدة التي يعيّنها طرف في النزاع لرعاية مصالحه لدى خصمه. وللدولة الحامية وظائف إنسانية كثيرة عدّدتها اتفاقيات جنيڤ وبرتوكولها الأول، ونصّت هذه المواثيق على أن أحكامها تطبّق «بمساعدة الدول الحامية وتحت إشرافها». وإذا لم تتفق أطراف النزاع على تعيين دولة حامية؛ جاز لها الاتفاق على إسناد مهامّ الدولة الحامية إلى هيئة محايدة كُفأة، وإن تعذّر ذلك وجب على الدولة الحاجزة إسناد المهام إلى دولة محايدة؛ أو هيئة محايدة، أو إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر مثـلاً.

والحقيقة أن ما عاق نظام الدولة الحامية عن العمل هو استنكاف الدول المحايدة أو غير المتحاربة عن القيام بوظيفة الوسيط بين أطراف النزاع، ولم يُستعن بخدمات الدولة الحامية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلاّ في حالات نادرة وعلى نحو منقــوص.

ب ـ اللجنة الدولية للصليب الأحمر: يمكن للجنة الدولية للصليب الأحمر أن تكون بديل الدول الحامية كما ذهبت إلى ذلك اتفاقيات جنيڤ، ووجدت هذه المنظمة نفسها واقعياً تؤدّي مهام الدولة الحامية. ولئن مُنحت قانوناً صفة «بديل الدولة الحامية» فإنها تقوم بعملها استناداً إلى وضعها المعترف به في اتفاقيات جنيڤ وبروتوكوليها الإضافيين؛ بصفتها هيئة إنسانية محايدة مستقلّة.

ويتمتّع مندوبو اللجنة الدولية في أداء وظائفهم بالضمانات والتسهيلات المقرّرة لمندوبي الدولة الحامية أو ممثّليها. وبفضل معرفة اللجنة الدولية للأوضاع السائدة في مناطق النزاعات وعملها المباشر في مجال إغاثة ضحايا الحروب ومساعدتهم؛ فإنها توجد في موقع يمكّنها من التذكير بواجبات الدول نحو القانون الدولي الإنساني وبذل ما يمكن من مساعٍ لتحقيق غايات هذا القانون.

ج ـ اللجنة الدولية لتقصّي الحقائق: دعماً لآليات تنفيذ القانون الدولي الإنساني أضاف البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيڤ هذه المؤسسة إلى الوسائل التي يمكن للدول استعمالها للتحقيق في الوقائع المتصلة بانتهاكات أحكام المواثيق المذكورة (انظر نصّ المادة 90 من بروتوكول جنيڤ الأول لسنة 1977). وبعد موافقة عشرين دولة من الدول المصدّقة على البروتوكول الأول ـ وهو العدد المطلوب قانوناً ـ على قبول اختصاص اللجنة؛ أصبحت مُهيأة للعمل منذ عام 1992. ومع وجود هذه الهيئة واستعدادها لتقصّي الحقائق (وهي دون مستوى التحقيق)؛ فإن الدول لم تتقدم إليها بأي طلب حتى الساعة. وقد لوحظ إنشاء لجان تقصّي حقائق ولجان تحقيق في عدة حالات ترتبط بنزاعات مسلّحة نشبت في العقدين المنصرمين من دون الاستعانة بلجنة البروتوكول الأول.

3ـ الطرق الدبلوماسية: قد يُستغرب ذكر «الطرق الدبلوماسية» في إطار الحديث عن تنفيذ قانون يحكم النزاعات المسلّحة، لكن واضعي مواثيق هذا القانون اقتبسوا من قانون العلاقات الدبلوماسية بعض الطرق التي ظنّوها مفيدة لصيانة حقوق ضحايا الحروب. وأتاحت اتفاقيات جنيڤ للدولة الحامية بذل مساعيها الحميدة لحلّ الخلافات بين أطراف النزاع، خصوصاً ما اتصل منها بتطبيق الأحكام المنصوص عليها أو تفسيرها؛ والمساعدة على التوفيق بين الطرفين. والمساعي الحميدة هي أيضاً جزء من اختصاصات لجنة تقصّي الحقائق المذكورة آنفاً.

وإلى جانب التحقيق الذي يحقّ لطرف في النزاع مطالبة خصمه بإجرائه في حالات انتهاك الاتفاقيات تنصّ هذه المعاهدات على حلّ آخر هو التحكيم.

4ـ القضاء: إذا كانت الوسائل المُشار إليها آنفاً مهمّة في أثناء النزاع خصوصاً، وإذا كان لبعضها أثر وقائي قبل اندلاع الحروب؛ فإن القضاء يتلو أعمالاً تحدث في أثناء العمليات الحربية، ولا يمنع القانون الإنساني من محاكمة أشخاص من قبل أطراف النزاع بسبب جرائم ارتكبت قبل النزاع، شرط التقيّد بالضمانات والمبادئ القضائية التي نصّ عليها. ولو مكّنت الدول المتعاقدة أو الدول المتحاربة القضاء من أداء مهامّه على الوجه المطلوب لمعاقبة الجرائم المرتكبة في الحروب لكان مصير الضحايا أفضل حالاً ممّا يُعرف عن الحروب المعاصرة.

أ ـ القضاء الوطني: أقرّ القانون الإنساني صلاحية المحاكم الوطنية للنظر في الجرائم المرتكبة خلال الحروب خرقاً لأحكامه، وألزم الدول باتخاذ التشريعات الوطنية بملاحقة مجرمي الحروب أيّاً كانت جنسيتهم، وهو بذلك يقرّ قاعدة الاختصاص العالمي Universal jurisdiction. وطبقاً لمبدأ شرعية الجريمة والعقوبة (وجوب النصّ عليهما في القانون) لا يمكن للقاضي أداء واجبه من دون أن يتوافر له السند التشريعي لبتّ القضية أو إصدار الأحكام. ويتضح بذلك أنّ تنفيذ التزام سنّ التشريعات الوطنية الملائمة لأحكام القانون الإنساني هو أحد الأسس المتينة التي تحتاج إليها المحاكم الوطنية للإسهام في فرض احترام القانون الدولي الإنساني.

ب ـ القضاء الدولي: مع إقرار اختصاص المحاكم الوطنية ـ كما ذكر آنفاًـ فسح القانون الإنساني المجال أمام القضاء الدولي ـ سواء أكان استثنائياً أم دائماًـ لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب.

(1) ـ المحاكم الخاصة: أياًّ كانت النظرة إلى محكمتي نورمبرغ وطوكيو اللتين ألّفتهما دول الحلفاء لملاحقة كبار مجرمي الحرب من دول المحور في أوربا والشرق الأقصى إثر الحرب العالمية الثانية؛ فإنّ أحكامهما مثلت سوابق لا يُستهان بها في تأصيل قواعد القضاء الدولي الجنائي، وهما من قبيل القضاء الخاص بحالات معيّنة. ومن هذه الحالات المعيّنة الجرائم الشديدة الخطر التي ارتكبت في نزاعات العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من هذا القرن، وخُصّت بها محاكمات دولية. وعلى أساس قرارات اتخذّها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أُنشئت محكمتان، إحداهما خاصّة بيوغسلاڤيا السابقة والأخرى براوندا.

ويُلحظ ظهور نوع آخر من المحاكم المخصّصة لمعاقبة جرائم دولية ذات خطر شديد ومنها جرائم الحرب، وهي محاكم مختلطة؛ أي تجمع في تركيبها قضاة وطنيين وقضاة أجانب، وتستند إلى اتفاق بين حكومة البلاد المعنية ومنظمة الأمم المتحدة كما هو الشأن في حالات كمبوديا وسيراليون وكوسوڤا وتيمور الشرقية. أمّا المحكمة الخاصة بلبنان والمنشأة بموجب اتفاق بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة فلا صلة لها بالقانون الإنساني، وأما المحكمة العراقية التي حاكمت أركان النظام الذي أطاحته قوات احتلال أجنبي في 2003 فإنها أُنشئت بقرار من سلطة الاحتلال وهي محكمة داخلية. وبالنظر إلى هذه الأمثلة، يتبين أن «العدالة الدولية» اقتصرت على حالات من دون أخرى، ولم يبلغ ذبابُ سيفها الجرائم المرتكبة في حروب الشرق الأوسط منذ قرار تقسيم فلسطين حتى كتابة هذه السّطور، وربّ إشارة أبلغ من عبـارة.

(2) ـ القضاء الجنائي الدولي الدائم: بعد جهود دولية تعود بدايتها إلى أواخر القرن التاسع عشر تمخّض مؤتمر روما الدبلوماسي عن إبرام معاهدة دولية حملت عنوان «النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية» بتاريخ 18/7/1998، وأصبح هذا الميثاق نافذاً منذ 1/7/2002. ويقتصر اختصاص المحكمة الجنائية الدولية (مقرّها لاهاي الهولندية) على أربع فئات من الجرائم الدولية هي: جريمة الإبادة، الجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان متى تم الاتفاق على تعريفها.

ولا تحلّ المحكمة محلّ القضاء الوطني؛ بل إن اختصاصها مكمّل له، وفي شأن القانون الإنساني وسّع النظام الأساسي مفهوم «جرائم الحرب» متجاوزاً قائمة الأفعال التي جاءت تحت هذه العبارة في اتفاقيات جنيڤ وبروتوكولها الأول. وفي هذه المواثيق اقتصر مفهوم جرائم الحرب على النزاعات الدولية، لكن معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية أضفت هذا المفهوم على النزاعات الداخلية أيضاً.

ويمكن للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن يبادر إلى التحقيق في حالة تحيلها إلى نظره دولة طرف في النظام الأساسي (معاهدة روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية)، أو بطلب من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أو من تلقاء نفسه إذا وردت إليه معلومات من أشخاص أو منظمات عن جرائم من اختصاص المحكمة. وحتى كتابة هذه السطور أحالت ثلاث دول مصدّقة على معاهدة روما وقائع حدثت في أراضيها إلى المحكمة، وهي: أوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية إفريقيا الوسطى. وقرّر مجلس الأمن إحالة الوضع في دارفور إلى نظر المحكمة؛ مع أن السودان ليس طرفاً من أطراف نظامها الأساسي. وينتظر المدّعي العام قراراً من الدائرة الابتدائية الثانية في المحكمة لبدء تحقيق في الأوضاع في جمهورية كينيا بعد أن قرّرت رئاسة المحكمة في نوڤمبر/تشرين الثاني 2009 إحالة الموضوع إلى تلك الدائرة. وسيكشف المستقبل عن مدى إسهام المحكمة الجديدة في دعم احترام القانون الدولي الإنسانـي. والأمل أن تلاحق كبار مجرمي الحروب في جميع مناطق العالم، وألاّ تقتصر عنايتها على القارة الإفريقية، وأن تكون متطلّبات العدالة المنشودة رائدها من دون سواها من الأسباب.

5ـ المسؤولية المدنية: إلى جانب المسؤولية الجزائية الفردية المترتبة على انتهاك أحكام القانون الدولي الإنساني يتضمّن هذا القانون مبدأ المسؤولية المدنية؛ أي التعويض عن الأضرار الناجمة عن انتهاك قوانين الحرب وأعرافها. وبموجب القانون الإنساني لا يعفي أي طرف متعاقد نفسه أو غيره من المسؤوليات التي تقع عليه أو على طرف متعاقد آخر بسبب جرائم الحرب، كما أكّدت ذلك اتفاقيات جنيڤ وبروتوكولها الأول. وبناء على مبدأ مساواة المتحاربين أمام قانون النزاعات المسلّحة؛ فإن المسؤولية تقع على أي طرف يرتكب تابعوه وممثلّوه أعمالاً يحظرها هذا القانون من دون النظر إلى نتائج المعارك وتفضيل طرف على آخر.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر على شبكة الإنترنت حيث يمكن الاطّلاع على أهم مواثيق القانون الدولي الإنساني:

www.icrc.org/ara

 www.icrc.org/eng

ـ جان بيكتيه، القانون الدولي الإنساني ـ تطوره ومبادئه، معهد هنري دونان، جنيڤ (دار بيدون، باريس 1983) 117 ص (بالفرنسية، والإنكليزية والعربية).

ـ جون ماري هنكرتس/ لويز دوزوالدـ بك، القانون الدّولي الإنساني العرفي ـ المجلد الأول: القواعد (منشورات اللَجنة الدّولية للصّليب الأحمر، القاهرة 2007).

ـ شريف عتلم/محمد ماهر عبد الواحد، موسوعة اتفاقيات القانون الدّولي الإنساني (منشورات بعثة اللَجنة الدّولية للصّليب الأحمر في القاهرة، الطبعة الثامنة، 2008).

ـ عامر الزمالي، مدخل إلى القانون الدّولي الإنساني (منشورات المعهد العربي لحقوق الإنسان واللَجنة الدّولية للصّليب الأحمر، تونس 1997).

ـ محمد عزيز شكري (محرّر)، المحكمة الجنائية الدولية ـ تحدّي الحصانة (منشورات كلية الحقوق، جامعة دمشق،  ووفد اللجنة الدولية للصليب الأحمر، دمشق 2002).

ـ Knut DÖRMANN, Elements of War crimes under the Rome Statute of the International Criminal Court, (ICRC, Cambridge University Press, 2003).

ـ Charles ROUSSEAU, Le droit des conflits armés, (Pédone, Paris, 1983).

ـ Dietrich SCHINDLER and Jiri TOMAN, The Law of Armed Conflicts, (Martinus Nijhoff Publishers, Leiden/Boston, 2004).


التصنيف : القانون الدولي
النوع : القانون الدولي
المجلد: المجلد السادس: علم الفقه ــ المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان
رقم الصفحة ضمن المجلد : 215
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 556
الكل : 29657593
اليوم : 37603