logo

logo

logo

logo

logo

الطب النفسي الجسدي

طب نفسي جسدي

psychosomatic medicine - médecine psychosomatique



الطب النفسي الجسدي

 

حسان المالح

الطب النفسي الجسدي الاضْطِرابات التَفارُقِيَّة أو الانشقاقية
اضطرابات النوم الاضْطِرابات جَسَدِيّة الشَّكْل
اضطرابات الأكل اضْطِرابُ الأَلَمِ الجَسَدِيِّ الشَّكْل المُسْتَديم
الطب النفسي الجنسي الاضطرابات العصابية الأخرى
الطب النفسي المهني الاضطرابات المفتعلة والتمارض
 

 

يشمل هذا البحث "الاضطرابات العصابية" التالية:

1-الاضْطِرابات التَفارُقِيَّة أو الانشقاقية (اضْطِرابُ التَّحْوِيْل).

2-الاضْطِرابات جَسَدِيّة الشَّكْل.

3-اضْطِرابُ الأَلَمِ الجَسَدِيِّ الشَّكْل المُسْتَديم.

4-اضطرابات عصابية أخرى: الوَهَن العَصَبِي neurasthenia، ومتلازمة تَبَدُّدِ الشَّخْصِيَّة، والغُرْبَةُ عن الواقِع.

توضح هذه الاضطرابات العلاقة بين الأعراض الجسدية والحالة النفسية، وهي تظهر العلاقة الوطيدة والتكاملية بين الجسد والنفس؛ فالجسد البشري يتأثر بالتكوين النفسي للإنسان وباضطراباته النفسية، كما يؤثر الجسد والتكوين العضوي للجسم في التكوين النفسي على نحو واضح. ولا تقتصر الأعراض الجسدية التي ترتبط بعوامل واضطرابات نفسية على الاضطرابات المذكورة أعلاه، بل هي أوسع من ذلك بكثير؛ لذلك سيعرض في هذا البحث أيضاً الاضطرابات المفتعلة والتمارض، والطب النفسي الجسدي، واضطرابات النوم، واضطرابات الأكل، والطب النفسي الجنسي، والطب النفسي المهني.

تضاف إلى ذلك أعراض جسدية ترافق اضطرابات نفسية محددة ذُكر كل منها في البحث المخصص له، مثل الأعراض الفيزيولوجية للاضطرابات القلقية، ونقص الشهية وفقدان الوزن في الاضطراب الاكتئابي، وغير ذلك.

أولاً- الاضْطِرابات التَفارُقِيَّة أو الانشقاقية (اضْطِرابُ التَّحْوِيْل) :dissociative (conversion) disorders

اضْطِرابات التَّحْوِيْل: هي حالات يشكو فيها المريض من أعراض توحي بالإصابة بمرض عصبي أو طبي عام، ويعتقد أن هذه الشكاوى تحدث بوصفها استجابة لمصاعب في حياة المريض، ويصنف ICD-10 الاضطرابات التحويلية ضمن الاضْطِرابات التَفارُقِيَّة أو الانشقاقية، في حين يصنف DSM-IV اضطراب التحويل بوصفه اضطراباً جسدياً نفسياً.

تعد الاضطرابات التحويلية (أو هستيريا التحويل) من الاضطرابات جسدية الشكل المهمة والشائعة، وهي معروفة منذ القدم، وقد ارتبطت بالهستيريا عبر العصور. وكلمة هستيريا مشتقة من اللغة اليونانية وتعني الرحم؛ إذ كان يعتقد أن الرحم يتجول في جسم المرأة ويغادر موقعه بسبب الامتناع عن الجنس مما يسبب حدوث أعراض جسدية مرضية غريبة. وقد اتسع استعمال هذا المصطلح ليشمل عدداً من الاضطرابات النفسية المختلفة مثل وصف الشخصية الهستيرية وهي الشخصية الاستعراضية التي تحب الظهور ولفت الانتباه، وتتميز بانفعالاتها المبالغة والمتغيرة. كما يشمل هذا المصطلح حالات يشكو فيها المريض أعراضاً جسدية متعددة ومزمنة من دون سبب عضوي، وحالات من الاضطراب الذهاني العابر قصير الأمد وغير ذلك. وقد قل استعمال مصطلح "هستيريا" في اللغة الطبية المعاصرة، وتستعمل بدلاً عنه  مصطلحات أخرى أكثر تحديداً ووضوحاً؛ أهمها الاضطراب التحويلي والاضطراب التفارقي، ويحدث كلاهما نتيجة التعرض لكرب يولد صراعاً داخلياً فيتم تخفيف القلق المرافق لذلك الصراع عن طريق تحويله إلى أعراض جسدية في الاضطراب التحويلي، أو عن طريق حدوث نساوة أو شرود في الاضطراب التفارقي.

تشتمل فقرة الاضْطِرابات التَفارُقِيَّة أو الانشقاقية (اضطراب التحويل) في التصنيف العالمي للأمراض على اضطرابات شائعة تتصف بظهور أعراض مرضية أو بفقدان وظائف طبيعية حركية أو حواسية، مثل الخدر أو العمى أو الشلل أو النوب الاختلاجية، من دون أسباب طبية مرضية أو تغيرات فيزيولوجية تفسر وجود الأعراض الجسدية. وتصنف هذه الاضطرابات إلى:

1-النساوة الانشقاقية .dissociative amnesia  

2-الشُرُوْد الانشقاقي .dissociative fugue 

3-الذُهول الانشقاقي .dissociative stupor 

4-اضطرابات الغَيْبَة والاستحواذ .trance and possession disorders 

5-الاضطرابات الانشقاقية الحركية .dissociative motor disorders 

6-الاختلاجات الانشقاقية .dissociative convulsions 

7-الخدر وفقد الحس الانشقاقي .dissociative anesthesia and sensory loss 

8-اضطرابات انشقاقية (تحويلية) مختلطة.

9-اضطرابات انشقاقية (تحويلية) أخرى:

أ- متلازمة غانسر .Ganser’s syndrome 

ب- اضطراب تعدد الشخصية .multiple personality disorder 

10-اضطرابات انشقاقية عابرة في الطفولة واليفع.

الأعراض الانشقاقية:

تعرف الاضطرابات الانشقاقية وفقاً لمعايير التشخيص الحالية بأنها ظهور عرض أو أعراض مرضية جسدية، أو تغير الوظائف الطبيعية للجهاز العصبي الحركي الإرادي أو الحواس أو فقدها، مما يشير إلى الإصابة بمرض عصبي أو عضلي دماغي، أو مرض طبي عام، وترتبط هذه الأعراض بعوامل نفسية وكروب وصراعات في نشوئها أو اشتدادها. وهي لا تظهر بإرادة المريض وليست مُتَعَمدة، ولا يمكن تفسيرها بوجود مرض عضوي يمكن تشخيصه سريرياً أو بعد إجراء الفحوص اللازمة.

والانشقاق أو التفارق dissociation هو خلل جزئي أو تام في وعي الشخص أو في ذاكرته أو هويته أو إدراكه، وقد يكون استجابة لرضح trauma أو لتعاطي عقار، وقد يكون الهدف منه السماح للعقل بإبعاد نفسه عن تجارب يصعب على النفس التعامل معها في ذلك الوقت، ولأنه يحدث على نحو غير متوقع فإنه يزعزع طرق استجابة الشخص أو أدائه ويصيبه بالذهول؛ فلمختلف الاضطرابات الانشقاقية علاقة بالكرب وبالرضح، ويشترط لتشخيص اضطراب انشقاقي (أو تحويلي) وجود أعراض لا يمكن عدها دليلاً على مرض جسدي ما (ولكنها قد تزامن الإصابة بمرض جسدي يبدي أعراضاً أخرى)، مع ترافق ظهور الأعراض الانشقاقية لمتطلبات أو حوادث أو مشاكل مكربة. إذ يُثار كل من النساوة الانشقاقية (أو النساوة نفسية المنشأ) والشُرُوْد الانشقاقي (أو الشرود نفسي المنشأ) بالكروب الحياتية التي لا تبلغ شدة الرضح.

- والنساوة الانشقاقية هي نسيان تام أو جزئي لحوادث أو مشاكل حديثة مازالت تسبب رضحاً أو كرباً، وهي من الشدة بحيث لا يمكن عدها نسياناً عادياً أو تظاهراً مقصوداً.

- والشرود الانشقاقي هو ابتعاد غير متوقع عن المنزل وعن المحيط المعتاد للعمل وللنشاطات الاجتماعية، على الرغم من أن السفر يبدو منظماً على نحو طبيعي، مع نساوة تامة أو جزئية للرحلة.

- أما الذهول الانشقاقي فهو نقص الكلام والحركات الإرادية والاستجابة الطبيعية للضوء والضجيج واللمس أو غيابها، مع الحفاظ على مقوية عضلية طبيعية ووضعة جامدة وتنفس طبيعي، وأحياناً على حركات عينين متناسقة محدودة.

- والغيبة هي تغير عابر في مستوى الوعي يتظاهر إما بفقد حس الهوية الشخصية المعتاد، وإما بتضيق إدراك الوسط المحيط بالشخص والتركيز الانتقائي الضيق على بعض المنبهات البيئية، وإما باقتصار الحركة والكلام على تكرارات محدودة.

- أما اضطراب الاستحواذ فهو الاقتناع بأن الشخص خاضع لسيطرة الجن أو السحر أو غيرهما.

- تتظاهر الاضطرابات الانشقاقية الحركية (اضطراب التحويل) بأعراض عصبية حركية، مثل الشلل النصفي أو شلل أحد الأطراف أو صعوبة القيام بحركات تقع تحت السيطرة الإرادية بما في ذلك الكلام، أو فقدان التوازن الحركي في المشي، أو صعوبة الوقوف من دون مساعدة.

- أما الاختلاجات الانشقاقية فتشبه نوبات الصرع؛ وتتصف بحركات تشنجية مفاجئة وغير متوقعة من دون أن يليها فقد الوعي ومن دون عض اللسان، أو انفلات البول أو إيذاء النفس في أثناء السقوط.

- تكون الأعراض حسية في حالات الخدر وفقد الحس الانشقاقي، إذ تفقد على نحو تام أو جزئي الأحاسيس الجلدية الطبيعية في كامل الجسد أو بعض أجزائه، ومن المعتاد فقد حس اللمس والوخز والارتجاج والحرارة والبرودة. كما قد تفقد أحياناً حاسة النظر أو السمع أو الشم فقداً تاماً أو جزئياً.

- متلازمة غانسر، هي ظاهرة الأجوبة التقريبية [ر. الفحص والتشخيص في الطب النفسي.[

- اضطراب تعدد الشخصية: هو تناوب الشخص نفسه بين شخصيتين متباينتين أو أكثر. تكون شخصية واحدة فقط ظاهرةً في أي وقت، ولكل شخصية ذكرياتها وخواصها ونماذج سلوكها الخاصة بها.

هناك عديد من الملاحظات السريرية  التي تساعد على تشخيص الحالات الانشقاقية يستطيع الطبيب اكتسابها من خلال الخبرة والممارسة الطبية التي تعرفه بمظاهر الأمراض الجسدية والعصبية وأعراضها والتي تجعله قادراً على التفريق بين الحالات الانشقاقية والحالات العضوية في كثير من الأحيان. فعند فحص المريض المصاب بالشلل الانشقاقي مثلاً، قد يجد الفاحص في أثناء الحوار مع المريض ومن طريقة حديثه ومظاهر التعبير الانفعالي لديه أنه غير مبالٍ، وقد يبتسم ويضحك؛ وهذا ما يعرف باللامبالاة الجميلة la belle indifference، ولكن لا يرافق هذا العَرَض جميع الحالات. وفي حالات الشلل أيضاً يجد الفاحص أن المريض يسحب الطرف المشلول ويجره جراً من دون حدوث التأرجح الذي يحدث في حالات الشلل الحقيقي، وعند محاولة تحريك العضو المشلول يجد الفاحص أن العضلات المعاكسة للحركة يزداد توترها وشدها كي تمنع الحركة، ولا يحدث هذا أبداً في حالات الشلل الحقيقي، وتكون المنعكسات الوترية طبيعية تماماً في حالات الاضطراب الانشقاقي وكذلك تخطيط العضلات الكهربائي.

ظهور الاضطرابات الانشقاقية وانتشارها وسيرها:

تظهر الاضطرابات الانشقاقية في سن المراهقة والشباب، ولا يظهر الاضطراب للمرة الأولى بعد سن 35 سنة، كما لا يظهر قبل سن الرابعة، ويجب حين ظهوره المتأخر بحث الأسباب العضوية بالتفصيل؛ لأن الأسباب هنا تكون طبية وعضوية في أغلب الحالات. وتكثر الاضطرابات الانشقاقية عند المرأة مقارنةً بالرجل بنسبة خمسة أمثال على الأقل، وهي تحدث في ثلاثة بالألف من الناس وفقاً للإحصائيات الغربية، ومن المؤكد أن نسبة انتشاره في الدول النامية  أعلى من ذلك بكثير، وتقدر نسبة الاضطرابات الانشقاقية بـ 8% من مرضى المستشفيات العامة و2% من مرضى العيادات الخارجية النفسية في الدول المتقدمة، وهي أكثر انتشاراً في البلدان النامية والبيئات الريفية والأوساط الثقافية المتدنية، ووفقاً لبعض الإحصائيات في العالم الثالث تشكل الاضطرابات الانشقاقية 10% من حالات العيـادات الخـارجية.

تظهر الأعراض الانشقاقية على نحو سريع وفجائي عادةً، وتزول في أيام أو أسابيع، وقد تظهر الأعراض ذاتها ثانية أو تظهر أعراض انشقاقية أخرى فيما بعد. ويحدث النكس بنسبة 25% في السنة الأولى، وتصبح بعض الحالات مزمنة وتستمر سنوات عديدة ما لم تُعالج معالجة فعّالة، وبعض هذه الحالات المزمنة قد تشفى فجأة بحدوث أحداث طارئة ذات أهمية خاصة مثل حدوث حريق في المنزل في حالة مريض مشلول، إذ يتمكن من الجري فجأة هرباً من الحريق. وفي الحالات المزمنة تضمر العضلات المشلولة؛ ويسمى هذا "ضمور عدم الاستعمال" .disuse atrophy  

لبعض الأعراض الانشقاقية إنذار أسوأ من حيث عدم استجابتها للعلاج وإزمانها وتكرارها؛ مثل الرجفة والاختلاجات الانشقاقية، وتختلف نتائج متابعة هذه الحالات باختلاف مكان تشخيصها. فمتابعة الأعراض الانشقاقية طويلة الأمد في المراكز العصبية تبين أن نسبة كبيرة من المرضى يصابون لاحقاً بأمراض عصبية وعضوية أو بأمراض نفسية أخرى، في حين تظهر دراسات مماثلة في المستشفيات النفسية أن التشخيص لا يتغير في أغلب الحالات، ولا تظهر أي أمراض عصبية أو جسدية أو نفسية أخرى، وقد يعود اختلاف نتائج الدراسات هذا إلى اختلاف عينات المرضى المدروسين، ولكن يبقى ضرورياً الانتباه إلى احتمال وجود أمراض عصبية وجسدية في حالات الاضطرابات الانشقاقية، وضرورة التأكد من نفيها  وضرورة متابعة هؤلاء المرضى عموماً.

وتجدر الإشارة إلى أن عدداً من الدراسات الحديثة بَيَّنَ نسبة كبيرة تصل إلى 25% من حالات شخصت وعولجت على أنها حالات صرع هي حالات اختلاج انشقاقي وليست صرعاً حقيقياً.

أسباب الاضطرابات الانشقاقية:

بينت الدراسات أن الأعراض الانشقاقية تظهر بعد ضغوط نفسية محددة وترتبط بها زمنياً، كما يمكن إحداث هذه الأعراض وإزالتها بالإيحاء؛ مما يدل على أهمية العوامل النفسية والاجتماعية في حدوث الاضطرابات الانشقاقية، وتتناقض الآراء وتتنوع حول أسباب هذه الاضطرابات بين نظريات عصبية وأخرى نفسية أو اجتماعية.

يرى بعضهم أن الاضطرابات الانشقاقية هي نتيجة اعتلال في الجهاز العصبي والدماغ، ويفسر بعضهم الشلل الانشقاقي على أنه نتيجة اضطراب عصبي فيزيولوجي يتعلق بتثبيط الإشارات العصبية الحركية في الجهاز الشبكي مما يؤدي إلى عدم وصول أوامر الحركة إلى الجهاز العضلي، ولكن الدراسات المخبرية والوراثية لم تدعم هذا التفسير.

أما النظريات النفسية فمتنوعة؛ إذ يشير مصطلح "تحويل" إلى أن المشاعر والانفعالات تتحول إلى أعراض جسدية وفقاً لآليات الدفاع النفسية، ولكن لا تتوافر معرفة كافية حول طبيعة هذا التحول وكيفيته من الناحية الفيزيولوجية، وأكد بعض العلماء أن هذا التحويل إلى الأعراض الجسدية له بعد رمزي، وقد لاحظ فرويد أن المرضى يتحسنون حين يتحدثون عن ذكريات محددة في أثناء التنويم الإيحائي مما جعله يتابع البحث عن هذه الذكريات الخاصة الممنوعة والمكبوتة واستخلاصها من خلال التحليل النفسي مما يسهم في تفريغها من الشحنات العاطفية والانفعالية المرتبطة بها، ويؤدي إلى التبصّر والشفاء، وترتبط هذه الذكريات الخاصة بالرغبات والأفكار والاندفاعات الجنسية المكبوتة، وبما يعرف بالمرحلة الأوديبية والثبات عندها. وقد بينت عدة دراسات حديثة أن هناك ازدياداً في حدوث المشكلات والاضطرابات الجنسية في حالات الاضطرابات الانشقاقية، وحدوث سوء المعاملة الجنسية في الطفولة في ثلث الحالات.

تؤكد النظريات الأخرى على أهمية المشاعر العدوانية والرغبات الاعتمادية الناجمة عن الحرمان والإحباط في أثناء الطفولة، وأن الصراعات والعقد النفسية المرتبطة بذلك تبقى وقتاً طويلاً في تركيبة الإنسان، وأن بعض الضغوط الخاصة التي يواجهها الشخص تثير مثل هذه الصراعات فتظهر الأعراض الانشقاقية حلاً وسطاً بين التعبير عنها وبين الخوف من التعبير عنها؛ إذ يمكن للأعراض الانشقاقية أن تمثل عقاباً ذاتياً على رغبات الشخص واندفاعاته وانفعالاته السلبية الممنوعة، ويمكن لها أيضاً أن ترضي حاجات الاعتماد على الآخرين بتمثيل دور المريض، وكذلك الهروب والخروج من أزمة ضاغطة ومهددة مع وجود المسوغات النفسية والاجتماعية، وهي حدوث المرض الذي يخفف من المسؤولية ويستخلص العون من الآخرين، ويمكن القول إن تمثيل دور المريض يرافقه كسب أولي أو أساسي يتلخص في إبعاد الصراع النفسي والحاجات النفسية الذاتية والانفعالات المؤلمة بعيداً عن ساحة التفكير والوعي، وأما المكسب الثانوي فهو الحصول على فوائد متعددة مثل انتباه الآخرين ورعايتهم، والتخفّف من الأعباء والتبعات، والمحافظة على الزوج والأصدقاء وغير ذلك.

ومن الناحية السلوكية يمكن أن تُعد الأعراض الانشقاقية نوعاً من التكيف المرضي الناجم عن تجربة حياتية مؤلمة ومحبطة، ونتيجة للتفاعل بين شخصية محددة لها قدرات وإمكانات محدودة وبين ظروف اجتماعية وثقافية خاصة؛ إذ يتعلم المريض أن يكسب انتباه الآخرين وعطفهم ودعمهم، ويتجنب عقابهم ونقدهم وعدوانيتهم من خلال الأعراض المرضية الجسدية، لأن تصرفات الأهل والمربين والقيم الاجتماعية العامة تثبت مثل هذه الأنماط السلوكية وتدعمها.

ومن ناحية أخرى يؤكد بعض العلماء أن الأعراض الانشقاقية هي أسلوب تعبيري بدائي، وهي أسلوب رمزي يعتمد على الحركة والشكل بدلاً من التخاطب والتعبير اللفظي الواضح. ويدعم هذه النظرية أن الأعراض الانشقاقية أكثر انتشاراً في الأشخاص والمجتمعات الأقل ثقافة والأقل ذكاءً، وفي الأشخاص المقيدين والمحصورين ضمن قواعد صلبة خاصة.

ومن الناحية العملية تبين الدراسات أن الأعراض الانشقاقية قد تتزامن مع اضْطِرَاب الجَسْدَنَة المزمن، وأن تكون جزءاً منه، وما تزال أسبابه غير واضحة، كما أنها تحدث لمن تعرض لمرض جسدي سابق أو مع من يعيش ويقابل أشخاصاً لديهم مرض جسدي عضوي، وهو ما يسمى تقليد النموذج، وترافق الأعراض الانشقاقية مختلف اضطرابات الشخصية ولاسيما الشخصيات ذات الصفات الهستريائية والاتكالية والمضادة للمجتمع.

 يبدو مما سبق أن الأعراض الانشقاقية ترتبط بمزيج من العوامل الشعورية واللاشعورية الفاعلة في كل حالة على حدة؛ ما يستدعي النظر إليها من منظار شامل متعدد الجوانب  يساعد على تفهمها والتعامل معها على نحو أفضل.

التشخيص التفريقي: لابد من التفريق بين  الاضطرابات الانشقاقية وبين عدد من الأمراض العصبية والاضطرابات العضوية الأخرى مثل مرض غيلان باريه Guillain Barré  والوهن العضلي الوخيم myasthenia gravis والتصلب  المتعدد multiple sclerosis والذئبة الحمامية الجهازية systemic lupus erythematosus، وقد يحدث التباس في تشخيص هذه الأمراض ولاسيما في مراحلها الأولى المبكرة نظراً لتغير الأعراض وتحسنها التلقائي، ولكن تتوضح صورتها السريرية أكثر مع سير المرض وتقدمه، ويفيد في التشخيص الفحص الجسدي والعصبي الدقيق وإجراء عدد من الفحوص إضافة إلى متابعة الحالة.

ويجب التفريق بين الاضطراب الانشقاقي والصرع بأشكاله المتعددة (الصرع الكبير والصرع الصغير والصرع الجزئي) (الجدول رقم1)، ومرض باركنسون ولاسيما الشكل الشبابي منه والشكل الدوائي الناجم عن استعمال أدوية محددة، والتأثيرات الجانبية الحركية الحادة أو المتأخرة الناجمة عن استعمال مضادات الذهان أو مضادات القياء الحاصرة لمستقبلات الدوبامين.

الأعراض

الاختلاج الانشقاقي

النوبة الصرعية

الشخصية

هستريائية، اعتمادية، مضادة للمجتمع، شخصية مضطربة

 

الصرخة

متكررة في أثناء النوبة

وحيدة في بداية النوبة

الكلام

قد يكون مترابطاً

كلام متقطع

العض

عض الفم والآخرين

عض اللسان

التبول والتبرز

نادر

شائع

مدة النوبة

طويلة وقد تستمر ساعات

دقائق

بعد النوبة

المريض واع انفعالي وقد لا يتذكر النوبة

تغيم وعي، آلام، نوم، نساوة للنوبة

فحص العينين

تتجه العينان بإصرار للأعلى

غياب منعكس القرنية (وبابنسكي)

تخطيط الدماغ أثناء النوبة

طبيعي

مرضي

تخطيط بعد النوبة

طبيعي

مرضي

مستوى برولاكتين بالدم

طبيعي

يرتفع في أثناء النوبة وبعدها

النوبة دون وجود آخرين

نادرة جداً

شائعة

(الجدول رقم 1) التفريق بين الاختلاج الانشقاقي وبين نوبة الصرع

 

قد يلتبس تشخيص العرض الانشقاقي "عسر البلع" أو ما يسمى "اللقمة الهستريائية" globus hystericus  بتشخيص عدد من اضطرابات الجهاز الهضمي مما يستدعي فحص البلعوم والتنظير الهضمي؛ لنفي وجود اضطرابات عضوية كالأورام وغيرها، وفي حالات آلام الوجه الحادة يجب الانتباه إلى تشخيص ألم العصب مثلث التوائم trigeminal neuralgia.  كما يجب التفريق بين الاضطرابات الانشقاقية وغيرها من الاضطرابات جَسَدِيّة الشَّكْل، والاضطراب المفتعل وغير ذلك من الاضطرابات النفسية الأخرى إذا توافرت الأعراض اللازمة لتشخيصها.

معالجة الاضطرابات الانشقاقية: تحتاج معالجة الاضطرابات الانشقاقية إلى أخذ التفاصيل الدقيقة عن الحالة المرضية وكيفية ظهور الأعراض، وإلى بناء علاقة إيجابية علاجية مع المريض، ولابد من الفحص الجسدي الطبي والعصبي وإجراء الفحوص والاستقصاءات اللازمة، ومن المفيد إتاحة الفرصة للمريض للتعبير عن مشكلاته ومشاعره وصراعاته الحالية.

تبقى المعالجة الأساسية التوجه نحو إزالة الأعراض، وهو يعتمد على الأساليب الإيحائية العامة، ويمكن استعمال عدد من الأدوات والتقنيات لزيادة الإيحاء مثل التنبيه الكهربائي والحقن العضلية والأساليب الدينية كأن يطلب من المريض الذي فقد صوته قراءة الفاتحة أو الاستغفار على نحو متكرر والإصرار على ذلك إلى أن ينطق بالكلام. ويفيد إعطاء أحد المهدئات من زمرة بنزوديازبين (مثل  diazepam أو (lorazepam على شكل حقنة وريدية بطيئة يجري في أثنائها تأكيد زوال الأعراض وشفائها على نحو إيحائي، إضافة إلى فائدتها في إطلاق التعبير الانفعالي عن الذكريات الخاصة والصراعات النفسية والانفعالات المؤلمة، ويستعمل لهذا الغرض أميتال الصوديوم ، ونسبة الشفاء وزوال الأعراض تصل إلى أكثر من 85% من الحالات. كما يفيد التنويم الإيحائي غير الدوائي (التنويم المغنطيسي (hypnotherapy والعلاج النفسي الداعم قصير الأمد.

ولابد من تقدير حالة المريض والضغوط الحالية التي يُواجهها، والرضوض النفسية والآلام التي يعيشها قبل محاولة علاج الأعراض بالقوة الإيحائية للشفاء منها؛ لأن هذه الأعراض قد تخدم المريض وقد تكون ضرورية مؤقتاً. ومن الممكن تأجيل الأساليب الإيحائية التي تهدف إلى الشفاء الفوري عدة أيام، والاتفاق مع المريض على ضرورة بحث المشكلات الشخصية والنفسية التي يعانيها بأسلوب مفيد وتعاوني ومن ثم مواجهة الأعراض المرضية إيحائياً.

أما مواجهة المريض بأن أعراضه ليست عضوية وأنه سليم تماماً فلا يفيد، بل يزيد من الدفاع والكبت، والأفضل إعطاء تفسيرات مفهومة ومبسطة مثل حدوث تشنج مؤقت في البلعوم والحنجرة واللسان بسبب الإرهاق والتعب العصبي في حالات فقد الصوت، وأن ذلك سيزول حتماً وبسرعة.

ومن الملاحظ أن كثيراً من حالات الاضطراب الانشقاقي في هذه البلاد تجد تفسيراتها في المفاهيم الشعبية عن العين والجن والحسد وغير ذلك، وأن كثيراً من هذه الحالات يتم علاجها من قبل المعالجين الشعبيين بأساليب عديدة وغريبة، وبعض هذه الحالات تتحسن بتأثير الإيحاء وبعضها الآخر لا يستجيب. ومن المفيد تطبيق مبادئ العلاج الطبيعي والتأهيلي بالسرعة الممكنة في حالات الشلل والضعف العضلي والتشنج وغيرها، وعدم استعمال العكاز والكرسي المتحرك في حالات الضعف العضلي والشلل، والبدء الفوري بتحريك الأطراف وتدريبها بالتدريج مما يساعد على تقصير مدة الأعراض ويمنع إزمانها، وتفيد بعض الأساليب السلوكية مثل الاسترخاء العضلي والتنفس العميق والعلاج التنفيري aversion therapy وأساليب الثواب والعقاب.

ويجب الانتباه إلى المكاسب الثانوية التي يجنيها المريض، ومعرفة سلوك الأهل والمحيطين بالمريض وتعديل الأساليب المؤكدة للمرض والداعمة له من قبل المحيط، وإذا كان ذلك صعباً فمن المفيد عزل المريض عن بيئته وإدخاله المستشفى مؤقتاً، ثم تكرار الجهود مع الأهل والمحيط لتعديل تلك الأساليب الخاطئة وإتاحة الفرصة لحل المشكلات ومواجهتها في البيئة المحيطة بالحوارات والجهود الفعالة والأساليب الصحية مما يسهم في منع إزمان الأعراض وفي التخفيف من الانتكاسات. وفي بعض الحالات يحتاج المريض إلى علاج نفسي طويل، وإلى علاج الحالات الاكتئابية المتوسطة والشديدة التي قد ترافق 10-30% من حالات الاضطراب الانشقاقي.

ويمكن القول على نحو عام إن الاضطرابات الانشقاقية ذات إنذار جيد، وشفاؤها تام إذا كانت حديثة الظهور، وإذا رافقتها ضغوط نفسية وبيئية طارئة، وإذا كان أداء المريض وتكيفه جيداً قبل ظهور الأعراض، وحين غياب الاضطرابات النفسية واضطرابات الشخصية الشديدة.

ثانياً- الاضْطِرابات جَسَدِيّة الشَّكْل :somatoform disorders 

تشتمل الاضْطِرابات جَسَدِيّة الشَّكْل على الجَسْدَنَة، والاضطرابات المُراقِيّة (اضطرابات تَوَهُّمِ المَرَض)، والخَلَل الوَظيفِيّ المُسْتَقِلِّي جسدي الشكل.

1-الجَسْدَنَة :somatization

هي اضطراب يبدأ قبل سن الثلاثين عاماً، ويتميز بظهور أعراض جسدية متعددة تستمر سنوات وتؤدي إلى تعويق المريض مهنياً أو اجتماعياً أو شخصياً. يصيب اضْطِرَابُ الجَسْدَنَة النساء أكثر من الرجال بنسبة 5-1، وربما وصل معدل انتشاره عند النساء إلى 2-3%، وله أسباب وراثية، كما يرتبط بعوامل نفسية وبتطور الشخصية وظروفها. يشخص الشكل التام من هذا الاضطراب حين يعاني المريض أو المريضة أربعة أعراض ألمية على الأقل، مثل آلام الرأس والبطن والظهر والمفاصل والصدر ومواضع أخرى، إضافةً إلى اثنين من الأعراض الهضمية مثل الغثيان والقياء والإسهال، وأحد الأعراض الجنسية التناسلية مثل عدم انتظام الدورة الشهرية أو قياءات الحمل أو غيرها، مع أحد الأعراض العصبية غير الحقيقية. تظهر كل هذه الأعراض في أثناء سير المرض، والشكل التام من هذا الاضطراب شديد، وهناك شكل مخفف منه أقل شدة، وربما يكون أكثر شيوعاً.

2-الاضطرابات المُراقِيّة (اضطرابات تَوَهُّمِ المَرَض) :hypochondriacal disorders

هي اضطرابات شائعة، وتعني اعتقاد المريض أن لديه مرضاً جسدياً خطراً؛ ولذلك فهو يتفحص جسده باستمرار، ويفسر بعض الأعراض العادية أو الفيزيولوجية على أنها خطرة وتدل على احتمال الإصابة بأحد الأمراض الخطيرة، مثل الأورام الخبيثة أو متلازمة نقص المناعة البشري المكتسب أو غيرها. ولا يقتنع المريض عادةً بطمأنته ولا بنتائج الفحوص المخبرية السليمة إلا على نحو مؤقت؛ إذ يعاوده القلق والتفكير في مرض جسده ويراجع عدداً من الأطباء. وتشخص الإصابة باضطراب مراقي حين وجود اعتقاد راسخ - مدة ستة أشهر على الأقل - إما بما لا يزيد على مرضين (يُسمي المريض أحدهما على الأقل)، وإما انشغال مستمر بتشوه جسدي مفترض (اضطراب خلل البنية body dysmorphic disorder). واضطراب خلل البنية يعني قلق المريض المستمر واهتمامه بشكل أعضاء الجسد الظاهرية، مثل شكل الأنف والوجه والأذنين والأعضاء الجنسية، وأن فيها عيباً شكلياً، وهذا القلق والاهتمام مبالغ فيه، ويسيطر على تفكير المريض وعلى حياته، ويراجع هؤلاء المرضى أطباء التجميل والجلدية والأنف والأذن لإصلاح العيوب وإجراء الجراحات من دون ضرورة. يظهر هذا الاضطراب في سن المراهقة وبداية الشباب، وفي سن الضهي عند النساء، ويشاركه كثيراً الرهاب الاجتماعي وتجنب العلاقات الاجتماعية والاكتئاب، وهو يأخذ شكلاً وسواسياً مسيطراً على تفكير المريض، وقد يبلغ درجة الضُلال. ويشترط لتشخيص هذا الاضطراب ألا يكون جزءاً من اضطراب فصامي أو اضطراب مزاجي.

3-الخَلَل الوَظيفِيّ المُسْتَقِلِّيُّ جسدي الشكل :somatoform autonomic dysfunction 

هو وجود تغيرات فيزيولوجية في عدد من أعضاء الجسد وأجهزته التي ترتبط تشريحياً بالجهاز العصبي المستقل غير الإرادي، مثل القلب والمعدة والأمعاء والمثانة. ويقسم التصنيف العالمي للأمراض هذا الاضطراب بحسب الشكاوى المرافقة له إلى اضطراب:

أ- في القلب والجهاز القلبي الوعائي.

ب- في السبيل الهضمي العلوي.

ج- في السبيل الهضمي السفلي.

د- في الجِهاز البَولِيّ التَّناسُلِيّ.

هـ- في أعضاء أو أجهزة أخرى.

وللعوامل النفسية شأن مهم في إحداث اضطرابات وأعراض جسدية محددة في هذه الأعضاء، مثل تسرع القلب الجيبي sinus tachycardia واضطرابات نظم القلب السليمة الأخرى، وانقباض المعدة، وازدياد حموضتها، والفواق  hiccough، والإسهال العصبي، والأسر البولي والبوال، وغير ذلك. يعد بعض الباحثين هذه الاضطرابات اضطرابات مستقلة، في حين  تصنف أحياناً ضمن الاضطرابات جسدية الشكل إذا رافقتها أعراض نفسية محددة.

ثالثاً- اضْطِرابُ الأَلَمِ الجَسَدِيِّ الشَّكْل المُسْتَديم :persistent somatoform pain disorder 

هو اضطراب شائع جداً، يشكو فيه المريض ألماً في موضع محدد من الجسد أو في عدة مواضع، مما يسبب له معاناةً واضحة وتأثيراً في أدائه العملي والاجتماعي. وترتبط الشكاوى الألمية بالعوامل النفسية في منشئها أو في زيادة شدتها أو في استمرارها، وقد يكون الألم حاداً أو مزمناً، كما قد يتزامن مع عوامل نفسية واضحة إضافة إلى عوامل عضوية، وأهم مواضع الألم هي البطن والوجه والحوض والرأس والصدر.

رابعاً- الاضطرابات العصابية الأخرى:

1-يعتمد تشخيص الوَهَن العَصَبِيّ  neurasthenia على وجود شكاوى مزعجة ومستمرة إما من الشعور بالإنهاك بعد جهد عقلي بسيط، وإما من الشعور بالتعب والضعف الجسدي بعد جهد جسدي خفيف. ويرافق ذلك الهيوجية وواحد على الأقل من الأعراض التالية: أوجاع عضلية، ودوار وصداع توتري واضطراب النوم وعدم المقدرة على الاسترخاء، مع عدم تراجع هذه الشكاوى بالراحة المعتادة أو بالاسترخاء أو باللهو، وشريطة أن تستمر الشكاوى  ستة أشهر على الأقل، وعلى ألا تحدث الشكاوى في سياق اضطرابات أخرى مثل اضطرابات المزاج أو الهلع أو القلق المعمم.

2-تثار متلازمة تَبَدُّدِ الشَّخْصِيَّة والغُرْبَة عن الواقِع  depersonalization-derealization syndrome أحياناً بالرضح، ولكنها قد تلي أحياناً الكرب أو تعاطي العقاقير الفعالة نفسياً، أو تحدث من دون كرب محدد. وهي حالة يشعر فيها الفرد أنه منفصل عن ذاته وعن محيطه، فيشعر أنه "خارج نفسه"، أو أن سيطرته على حاله ناقصة، أو أن المحيط غير واقعي ، مع الحفاظ على وعيه أن ذلك مجرد مشاعر فقط وليس حقيقياً. وتشخص هذه المتلازمة عند وجود تَبَدُّدِ الشَّخْصِيَّة أو الغُرْبَةُ عن الواقِع  [ر. الفحص والتشخيص في الطب النفسي]، ونادراً ما تحدث وحدها، بل يغلب أن تكون جزءاً من اضطراب آخر، ويجب عدم القول إنها التشخيص الرئيس أو الوحيد حينما تحدث في سياق اضطرابات نفسية أخرى، مثل الحالات الوهامية أو التسمم بالكحول أو بالعقاقير أو الفصام أو اضطرابات المزاج أو الاضطرابات القلقية، أو حالات أخرى مثل التعب الشديد أو نقص سكر الدم أو قبل نوبة الصرع أو بعدها مباشرةً.

الخلاصة:

لابد من التشديد على فحص المريض جسدياً وإجراء الفحوص والاستقصاءات الضرورية قبل القول إن الأعراض هي نفسية المنشأ. ويوضح كثير من الأطباء للمريض أنه سليم ولا يوجد لديه مرض عضوي، إلا أن  ذلك لا يرضي المريض عادةً لأن الأعراض الجسدية موجودة فعلاً وليست خيالية أو مصطنعة، وهذا ما يجعل المريض غاضباً أو غير متعاون؛ لذلك من الأفضل تقديم الشروح والتفاصيل حول تعريف المرض الجسدي، وتوضيح أن المريض يشكو من التوتر والإجهاد الذي يؤثر في أعضاء الجسد وفي أدائها الطبيعي، وأن هذا الاضطراب هو اضطراب واقعي وهو يحتاج إلى العلاج المناسب.

أما علاج هذه الحالات فإن مضادات الاكتئاب الحديثة تفيد في عدد منها، وتعمل هذه الأدوية بوصفها مضادة للقلق والتوتر، إضافة إلى أنها مضادة للاكتئاب. وكذلك تفيد مضادات الاكتئاب من زمرة حاصرات استرداد السيروتونين الانتقائية في الاضطرابات المُراقِيّة  بما فيها اضطراب خلل البنية؛ لأن هذه الحالات مرتبطة بطيف الاضطراب الوسواسي القهري. كما تفيد المهدئات في بعض الحالات الأخرى، وللعلاج النفسي الداعم والمشاورة النفسية والعلاج السلوكي تأثير مفيد في عدد من هذه الاضطرابات، كما يفيد العلاج التأهيلي والإيحائي في الاضطرابات الانشقاقية.

ولابد من الإشارة إلى أن الاضْطِرابات جَسَدِيّة الشَّكْل وغيرها من الأعراض الجسدية المرتبطة بالعوامل النفسية قد تكون أكثر انتشاراً في البلاد الشرقية وفي المجتمعات النامية مقارنة مع الدول الأكثر تطوراً، وسبب ذلك الاستعمال الشائع للجسد بوصفه لغة تعبيرية عن الإحباطات والآلام والمعاناة وطلب العون. ولعل لغة الشكوى الجسدية هي اللغة الأساسية للتفاهم بين الطبيب والمريض، وبين المريض ومن حوله من الأهل والأصدقاء؛ إذ لا تزال اللغة النفسية والتعبير عن المشاعر وتفصيلها من الأمور غير الشائعة لأنها ترتبط بدرجة الوعي، وبعدد من الممنوعات التربوية والاجتماعية والثقافية، ويوضح هذا صعوبة التعامل مع هذه الحالات في كثير من الأحيان، ويبين أيضاً حجم المعاناة والآثار السيئة الكثيرة الناجمة عن حرمان هؤلاء المرضى من التشخيص المناسب ومن العلاج المناسب، مما يوضح ضرورة زيادة الوعي النفسي في المجتمعات العربية وتعميقه.

الاضطرابات النفسية الأخرى:

أولاً- الاضطرابات المفتعلة factitious disorders والتمارض :malingering

الاضطرابات المفتعلة هي حالات يقوم فيها الشخص على نحو إرادي بإحداث أعراض مرضية تقلد أعراضاً طبية جسدية أو نفسية معروفة، من دون أن تكون الغاية من ذلك جني أي مكسب سوى اتخاذه دور المريض. أما في حالات التمارض (أو ادعاء المرض) فيجني المريض عادةً بعض الفوائد والمكاسب. وقد يصعب التفريق بين هذين الاضطرابين المتميزين بالإثارة والغرابة.

عُرِفَ الاضطراب المفتعل سابقاً باسم متلازمة مونشهاوزن Munchhausen syndrome، وهو اضطراب ليس نادراً، تبدو أعراضه بأشكالٍ غريبة ومثيرة ومحيرة في كثير من الأحيان، إلى أن يتوصل الطبيب أو أحد مساعديه أو أحد المقربين من المريض إلى كشف حالة المريض المفتعلة، وأن المريض نفسه هو من يسبب لنفسه الأعراض المرضية؛ إذ إن الأعراض الغريبة المرضية الجسدية أو النفسية هي أعراض مصطنعة وغير حقيقية أو تلقائية الظهور. ويميز هذا الاضطراب من التمارض (أو ادعاء المرض) بعدم وجود غاية واضحة أو مكسب مادي أو معنوي مباشر عند المريض كما في حالات التمارض، بل إن الهدف الرئيسي من إحداث الأعراض المرضية الجسدية هو تبني موقف المريض "أنا مريض أو أنا مريضة" لأسباب نفسية وتربوية واجتماعية معقدة.

تنتشر الاضطرابات المفتعلة بنسب قريبة بين الذكور والإناث، ويراجع هؤلاء المرضى عدداً كبيراً من الأطباء والمستشفيات. وقد تتظاهر بعض الحالات بأعراض نفسية شديدة، في حين يتظاهر بعضها بأعراض جسدية، أو بمزيج من الأعراض النفسية والأعراض الجسدية، وقد يشترك المريض وقريب له في إحداث الأعراض مثل أمه أو أخته أو غيرهما. ولا يوضع التشخيص الصحيح في كثير من الحالات، بل يصبح عدد منها مزمناً وتتكرر الأعراض المرضية بأشكال أخرى غير التي ظهرت في المرات السابقة، وتشفى بعض الحالات ولا تتكرر بعد اكتشافها وتشخيصها من قبل الأطباء. ومما لاشك فيه أن هذه الحالات مثيرة وعجيبة وصعبة في كثير من الأحيان، ومن المهم في علاجها مواجهة المريض ومصارحته بالتشخيص وبأنه مسؤول عن إحداث الأعراض المرضية. وتشمل المرحلة الثانية من العلاج دراسة ظروف المريض وذكرياته وبيئته والضغوط النفسية التي يتعرض لها، وتقديم العون له كي يتخلى عن الاستمرار في دور المريض بمساعدته على النمو النفسي والنضج الانفعالي والسلوكي وتحمل المسؤوليات الاعتيادية على نحو تدريجي. والعلاج صعب في كثير من الحالات، ويبقى الانتباه لها وتشخيصها على نحو صحيح ضرورياً لما في ذلك من أهمية وفائدة  للأطباء والأهل والمريض نفسه.

ثانياً- الطب النفسي الجسدي:

الاضطرابات النفسية الجسدية psychosomatic disorders (التي تسمى في الطبعة العاشرة للتصنيف العالمي للأمراض «العوامل النفسية المؤثرة في حالات عضوية» psychological factors affecting physical (conditions هي مجال خصب لتعرف العلاقة القائمة بين النفس والجسد، وهي علاقة يكتنفها غموض كبير، ولكن الاهتمام يتزايد في هذا الميدان الذي يبحث في عدد من الأمراض الجسدية وعلاقتها بالعوامل النفسية وحجم تأثيرها وكيفيته، مما يوفر في الوقت الحاضر كمية هائلة من المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بعدد من الأمراض الجسدية الشائعة التي تشمل: أمراض القلب والأوعية الدموية (ومنها ارتفاع ضغط الدم وأمراض شرايين القلب وانسدال الدسام التاجي)، والأمراض التنفسية (وأهمها الربو والحساسية الصدرية وفرط التهوية)، والأمراض الهضمية (مثل تشنج القولون وتهيجه (القولون العصبي) وداء كرون والتهاب القولون التقرحي والقرحة الهضمية)، والاضطرابات الجلدية (مثل الحكة وفرط التعرق والحساسية)، وأمراض الغدد الصم (مثل الداء السكري وهبوط سكر الدم وفرط نشاط الغدة الدرقية والدريقات أو نقصه)، وغير ذلك من الاضطرابات مثل متلازمة ما قبل الطمث وألم أسفل الظهر وغيرهما.

تختلف الدراسات حول تحديد الأمراض الجسدية التي يمكن للعوامل النفسية أن تؤثر فيها، ويعد بعضهم العديد من الأمراض المناعية ضمن هذا المجال، مثل داء المفاصل الرثواني وداء الصداف الجلدي. وتضمنت الدراسات الحديثة أبحاثاً عديدة حول السرطانات وأثر العوامل النفسية في اضطراب المناعة المؤدي إلى ظهور الأورام الخبيثة، وحول أثر العوامل النفسية في تحسنها واختفائها، ولا تزال الدراسات في بداياتها.

لا يتسع المجال لمناقشة أهمية العوامل النفسية في كل هذه الأمراض الجسدية؛ لذلك سيكتفى فيما يلي بمراجعة أهمية العوامل النفسية في الداء السكري، وفي العقم.

1-ترافق الاكتئاب وفرط سكر الدم واضطرابات استقلابية أخرى:

تتدرج البراهين على ارتباط الاكتئاب بفرط سكر الدم من تقارير حالات وسلسلة حالات إلى دراسات مقطعية فتجارب سريرية معشاة، فقد وصفت عدة تقارير عدم الاستجابة المحيطية للإنسولين وفرط الإنسولين في أفراد يعانون من الاكتئاب، ووجد في أحد التقارير أن المصابين بالاكتئاب غير المصابين بالسكري لديهم انخفاض في الحساسية للإنسولين مقارنة مع أشخاص غير مصابين بالاكتئاب ولا يشكون من داء السكري. وتمت في دراسة أخرى دراسة 20 شخصاً مصاباً بالاكتئاب وغير مصاب بداء السكري أجري لكل منهم اختبار تحمل الغلوكوز المتكرر قبل تناول مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات وبعد تناولها، وكانت النتيجة أن حالات الاكتئاب التي لا تشكو من داء السكري لديها انخفاض في الحساسية للإنسولين مقارنة مع عينة المقارنة المؤلفة من أشخاص غير مصابين بالاكتئاب ولا يشكون من مرض السكري، وأظهر المرضى المصابون بالاكتئاب تحسناً واضحاً في الحساسية للإنسولين بعد علاج الاكتئاب. وفي تحليل بعدي لبحث العلاقة بين الاكتئاب وبين ضعف ضبط سكر الدم وجد أن 25 دراسة نشرت خلال الـ 25 سنة الماضية تدل على أن علاج الاكتئاب في المصابين بالسكري قد يحسن ضبط سكر الدم بما يعادل من 41-58% من الحالات. ولسوء الحظ لا توجد معلومات كافية حول الأحداث التي تؤدي إلى وجود علاقة بين الاكتئاب وداء السكري وكيف يتم ذلك.

يرافق الاكتئاب اضطراب الهرمونات في المحور الوطائي - النخامي - الكظري، بما في ذلك فرط كورتيزول المصل، مما دفع إلى افتراض أنّ الاكتئاب قد يرتبط بمقاومة الإنسولين نتيجة لفرط الكورتيزول، وقد اعتمد هذا الافتراض على ملاحظة ترافق الاكتئاب لكل من زيادة الهرمونات القشرية في مصل الدم ونقص الحساسية للإنسولين.

والحقيقة أن المعلومات قليلة حول العوامل السلوكية والبيئية المرتبطة بالاكتئاب والتي قد ترتبط باحتمال زيادة السكر مثل الحالة الاجتماعية الاقتصادية ونمط حياة الكسل (أي قلة الحركة، والإفراط بالطعام، والتدخين، وغير ذلك)، ولمعلومات من هذا النوع أهميتها في تقييم مساهمة الاكتئاب نفسه، والعوامل السلوكية المرتبطة به، والعوامل البيئية في حدوث فرط سكر الدم في بعض الحالات أو زيادته. والملاحظة التي توضح أن حالات نفسية شديدة أخرى مثل الفصام ترتبط هي أيضاً بزيادة احتمال الإصابة بداء السكري وبالأمراض القلبية الوعائية المميتة مقارنة مع النسب عند عامة الناس تدل على أهمية العوامل العامة، مثل تغيرات التغذية، ومستوى النشاط البدني، والحالة الاجتماعية الاقتصادية، ومدى توافر الرعاية الصحية.

علاج الاكتئاب قد يؤدي إلى نقص مخاطر السكري ومضاعفاته: يمكن القول اعتماداً على ما سبق إن للاكتئاب تأثيرات سيئة في داء السكري، مثل سوء ضبط سكر الدم وزيادة مضاعفات داء السكري، إضافة إلى زيادة احتمال الإصابة بالسكري عند المصابين بالاكتئاب، ومن المهم تعرف إمكانية تعديل هذه المخاطر المترتبة على الاكتئاب إذا عولج الاكتئاب على نحو ناجح دوائياً أو من دون أدوية. وقد بينت دراسات عديدة فائدة المعالجة السلوكية المعرفية لحالات الاكتئاب؛ ففي تجربة سريرية معشاة أجراها لوستمان Lustman عام 1998 تبين أن العلاج بجلسات العلاج المعرفي السلوكي قد يفيد المصابين بالاكتئاب من المصابين بالسكري من النوع الثاني. والحقيقة أن أعراض الاكتئاب، مثل نقص الدافعية ونقص النشاط وفقدان الأمل واضطراب النوم والشهية والأفكار التشاؤمية واليأس وأفكار الانتحار تؤثر تأثيراً سيئاً في نمط الحياة اليومية الصحي، ويتعاظم تأثيرها في المرضى المصابين بداء السكري؛ لأن داء السكري يتطلب مراقبة المريض لنفسه وترتيب مواعيد أدويته وجرعاتها وتعديل عاداته الطعامية والقيام بالتمرينات البدنية مدة طويلة.

ومن جهة أخرى فإن التغييرات المطلوبة من المريض في نمط حياته قد يكون لها أثر سيئ في حياته الاجتماعية والمالية والمهنية ما قد يجعله مستعداً على نحو خاص للإصابة بالاكتئاب نتيجة لداء السكري. ومن الممكن للأساليب العلاجية النفسية الاجتماعية التي تطبق على نطاق واسع أن تقلل من نسب حدوث الاكتئاب، وأن تشجع الاختيارات الصحية في نمط الحياة؛ مما قد يخفض نسب حدوث مرض السكري من النوع الثاني.

الاكتئاب يزيد من خطر الإصابة بداء الشرايين الاكليلية في الداء السكري: بينت دراسات سكانية استهلالية لأفراد ليس لديهم داء إكليلي أن الإصابة بالاكتئاب تزيد من خطر الإصابة باحتشاء العضلة القلبية ومن خطر الوفاة من أمراض قلبية وعائية، مقارنة مع آخرين لا يشكون من الاكتئاب. وبينت إحدى الدراسات الحديثة أن للاكتئاب دوراً مشابهاً في التطور السريري لأمراض شرايين القلب الإكليلية في المصابين بالسكري، وقد اختيرت السيدات للدراسة بسبب الانتشار الواسع والمسار الشديد للداء الإكليلي عند السيدات المصابات بالسكري، وشملت الدراسة 76 امرأة تم اختيارهن ومتابعتهن منذ العام 1982م لدراسة العلاقة بين السكري والاضطرابات النفسية. شُخِّصَ الاكتئاب في أثناء المقابلة البدئية في 16 مريضة (22.1%) ولوحظ أن المصابات بالاكتئاب كُنّ أكثر بدانةً. وبعد متابعة كل المريضات مدة عشر سنوات، تبين حدوث داء الشرايين القلبية الإكليلية في 11 مريضة من العينة العامة (14.5%)، وكانت الإصابات القلبية الإكليلية أكثر حدوثاً في المريضات المصابات بالاكتئاب. ونتيجة ذلك يمكن القول إن الاكتئاب عامل خطورة لداء القلب الإكليلي من الممكن تعديله، ولاسيما في الحالات المرافقة للسكري. وتتضح أهمية تشخيص الاكتئاب وعلاجه عند هؤلاء المرضى من أن الاكتئاب قابل للعلاج في هؤلاء المرضى الذين يعانون من ارتفاع خطر الأمراض القلبية الإكليلية ومن تزايد معدلات الوفيات.

الاكتئاب مرض مزمن ومحطم، وقد احتل المركز الرابع بين أسباب الإعاقة عالمياً عام 1990م، ويتوقع أن يشغل الاكتئاب في العام 2020م المركز الثاني في ترتيب أسباب الإعاقة. وفي الداء السكري ترتفع نسبة الإصابة بالاكتئاب إلى ضعفي نسبتها في الانتشار العام، كما يشخص الاكتئاب بوصفه مرضاً مرافقاً في 30% من المصابين بالداء السكري من النمط I أو من النمط  II، ويرافق الاكتئابَ المرافق للداء السكري ارتفاعُ معدلات حدوث المضاعفات، مع احتمال إحداثه عجزاً أكبر مقارنةً مع النسب العامة؛ وذلك بمعزل عن تأثير عوامل الخطورة التقليدية.

وعلى الرغم من علاقة الاكتئاب بالإنذار الطبي في حالات الداء القلبي الإكليلي، فإنه قليلاً ما يُشخص، وقليلاً ما يعالج في هذه الحالات؛ فقد بينت إحدى الدراسات مثلاً أن 23% فقط من المصابين بالاكتئاب قد عولجوا من أجله.

من المهم استخلاص الآليات التي يسرع فيها الاكتئاب الأساسي ظهور الداء القلبي الإكليلي الذي يعد سبب الموت الرئيس في المصابين بالسكري؛ مما يوضح أهمية الاكتئاب ليس بوصفه عامل خطورة فحسب، بل بوصفه أيضاً هدفاً علاجياً، وعلاج الاكتئاب مهم بذاته لأنه يخفف العجز الناجم عن نقص الكفاءات العقلية والوظيفية الناجمة عن المرض. وأخيراً فإن ربط الاكتئاب مباشرة بالمرض القلبي التاجي سيؤكد أهمية تعرف الاكتئاب وعلاجه، مما سيحسن الإنذار الطبي للمرضى المصابين بالسكري.

الطريق الطويل المتعرج في علاج داء السكري: للعوامل النفسية شأن مهم في التعايش مع الداء السكري في حياة المريض، وفيما يلي العوامل النفسية التي تسهم في فهم صدمة التشخيص وكيف يتعامل الناس مع مرضهم بما في ذلك طرائق تعديل السلوك والدافعية والتداخلات العلاجية، والنتيجة أن الصحة النفسية تؤلف الأساس الذي يُمكِّن من الوصول إلى النتائج العلاجية المرجوة للمصابين بالسكري، ولما كان اضطراب الصحة النفسية عامل خطورة لحدوث المضاعفات المرافقة للسكري فإن التطرق إلى الحالة النفسية يجب أن يصبح ممارسة منوالية في رعاية المصابين بالسكري.

يمثل تشخيص الداء السكري بداية رحلة علاجية طويلة تمر بطريق طويل متعرج فيه مآزق وتحديات كثيرة. ويجب في البداية إعطاء التشخيص بطريقة يمكن للناس أن تتقبلها؛ إذ يصاب بعض الأشخاص بالصدمة، وتراوح ردود فعل بعضهم بين الغضب والقلق والخوف والاكتئاب. والحقيقة أن الاشخاص يبدؤون رحلتهم مع المرض بمعلومات مختلفة وأساليب متنوعة للتعامل معه، لاختلاف مستويات ذكائهم وثقافتهم ووضعهم الاجتماعي، ويؤثر كل ذلك في إنذار المرض ومضاعفاته؛ إذ بينت الدراسات - على الرغم من التطور الكبير في علاج مرض السكري - أن إنذار المرض لا يزال أسوأ في الأقليات العرقية وعند كبار السن ذوي الثقافة الصحية المتدنية وفي الطبقات الفقيرة.

وتتضمن الرحلة مع المرض التعامل مع الأشخاص الذين يعيشون مع المريض مثل الشريك الزوجي أو الأهل، كتقديم العون والنصح بما يساعد على دعم المريض والتخفيف من الضغوط عليه، ومن المطلوب أن يشارك الطبيبَ فريقٌ علاجي متعدد الاختصاصات بما فيهم الخبير النفسي، كل يحمل جزءاً من الأعباء.

التعامل الناجح مع داء السكري: يقوم أساس التعامل الناجح مع السكري على فكرة الإحساس بالسيطرة الذاتية عليه. وتنقسم طرائق التعامل مع المرض على نحو أساسي إلى قسمين؛ قسم يعتمد على التجاهل أو الإنكار، ويتمثل بجهود متنوعة لنسيان المرض، مثل عدم أخذ الدواء وتقبل القدر على نحو سلبي والانسحاب الاجتماعي ولوم الآخرين، ويمثل هذا الأسلوب تكيفاً ضعيفاً مع المرض وترافقه درجات عالية من الألم النفسي. في حين يعتمد القسم الآخر على المواجهة بالمشاركة الفعالة في علاج المرض وتعديل نمط الحياة مثل تغيير نوعية الطعام والنشاط البدني وتناول العلاج الدوائي والبحث عن المعلومات الطبية وغير ذلك، ويرافق هذا الأسلوب تكيف ناجح مع المرض، ودرجات أقل من الألم النفسي.

ويبدو أن فهم المريض للدواء على أنه "دواء مفيد" وليس "دواءً ضاراً" له أهمية كبيرة في علاقته بالدواء الموصوف وبالتالي بخطة العلاج، وكذلك فإن اتجاه المريض لأن ينظر إلى مرضه على أنه أقل شدة من غيره  أو أنه لن تصيبه مضاعفات المرض مثل الآخرين يؤثر في التزامه بالسلوكيات الصحية الوقائية على المدى الطويل.

الاكتئاب  في داء السكري: ينتشر الاكتئاب عند المصابين بالسكري بنسبة ثلاثة أمثال مقارنة بالأشخاص العاديين، ومع ذلك لا يشخص ولا يعالج على نحو كافٍ، وقد بينت الدراسات أن الاكتئاب يسهم في زيادة مضاعفات السكري لعدم إخبار الطبيب عن الأعراض المرضية للسكري، وعدم الالتزام بالخطة العلاجية، وضعف السيطرة على مستوى السكر بالدم، وزيادة مخاطر تلف أعضاء الجسد المختلفة.

وعلاج الاكتئاب فعال، وله آثار جيدة في المزاج وفي ضبط السكر وفي نوعية الحياة، كما يحسن الإنذار العام للمرض في نسبة كبيرة من المرضى؛ مما يؤكد أهمية الكشف عن الاكتئاب والبحث عنه - ولاسيما في النساء والأشخاص غير المتزوجين والأشخاص الذين تجاوزوا 65 سنة من العمر وحالتهم الصحية العامة سيئة - والبدء بخطة علاج هجومية مع متابعة مناسبة. ولما كانت الأعباء المالية لعلاج السكري ومضاعفاته تزيد بآثار الاكتئاب في السكري سيؤدي علاج الاكتئاب إلى خفض هذه الأعباء المالية.

التدابير الذاتية في علاج داء السكري: من المؤكد أن المريض ليس مستقبلاً سلبياً لما يطرحه الطبيب من تعليمات وآراء، ومن المطلوب مشاركة المريض مشاركة فعالة في العلاج بآرائه وبتنمية الحوار معه حول مختلف تفاصيل العلاج وحول التغييرات المطلوبة. والحقيقة أن الأشخاص الذين يصارعون أنفسهم لتغيير سلوكيات معينة يتعرضون لتقلبات إيجابية وسلبية في جهودهم وفي دافعيتهم، والتغيير ليس سهلاً، وهذا الصراع الداخلي جزء طبيعي منه ولابد من طرحه ومناقشته؛ فمن المفيد تعرف دافعية المريض للتغيير وحماسته لذلك، والسعي إلى تطويرها وتنميتها باستمرار وإعطاء التعليمات والنصائح المناسبة لها.

الخطة العلاجية لداء السكري: بينت الدراسات نجاح الخطة العلاجية السلوكية التي تهدف إلى تعديل نمط المعيشة اليومي من خلال التدابير الذاتية، تضمنت هذه الخطة تسجيل النشاط الجسدي اليومي والسلوك الطعامي للمريض ومعلومات المريض وأفكاره الذاتية حول السكري ومعلوماته عن علاج السكري، ودرجة استعداده ودافعيته للتغيير، كما تضمنت مشاركة المريض في الاتفاق على الأهداف القريبة المحددة التي يجب الوصول إليها، واختيار أساليب فردية معينة لمواجهة العقبات والمتابعة والدعم للوقاية من الانتكاس. وظهرت النتائج الإيجابية في الحفاظ على وزن مقبول وتقليل تناول الطعام الدسم وزيادة مستوى النشاط البدني، ويمكن لهذه الخطة العلاجية الناجحة أن تطبق ضمن مجموعات علاجية، وأن تشمل جلسات تثقيفية جماعية.

2-العقم والطب النفسي:

حالات العقم هي من المشكلات الطبية الشائعة في جميع المجتمعات، ويحتاج زوج واحد من كل ستة أزواج إلى مراجعة الاختصاصي بالعقم في فترة الزواج؛ إذ تقدر نسبة انتشار العقم بنحو10-15% من الناس، وتتعدد الأسباب العضوية التي تؤدي إلى عدم الإنجاب في المرأة والرجل، ويقل احتمال الإنجاب كلما طالت فترة العقم، وإذا كانت الأسباب غير قابلة للعلاج. وتدل الإحصاءات على أن نحو 30% من الحالات يحدث فيهـا الحمل والإنجاب في السنوات الثلاث الأولى بعد تشخيص العقم.

مازالت الفرضية التي تقول إن الآلام النفسية والتعب النفسي هي أحد العوامل المسببة للعقم موضوعاً للجدل والنقاش في الأوساط العلمية؛ فقد أوضح بعض الأطباء أن معدلات الحمل تزداد بعد أن يحدث التبني والاستقرار النفسي الناجم عنه، ولكن أبحاثاً أخرى لم تؤكد ذلك، كما بينت دراسات أخرى على حالات فردية أن البحث في العقد النفسية المرتبطة بالأمومة والأسرة في أثناء العلاج النفسي قد أدى إلى الخصوبة والحمل.

البحث عن ذنب قديم: من الملاحظ أن بعض الأزواج والزوجات ينظرون في ماضيهم الشخصي بحثاً عن ذنب أو عمل قد ارتكبوه كي يفسروا حالة العقم عندهم، وقد يرتبط ذلك ببعض الأمور النفسية مثل تأنيب الضمير وعقدة الذنب. كما أن المجتمع وقيمه العامة تنظر إلى فشل الزوجين في إنجاب الأطفال نظرة سلبية، إذ يعد ذلك نوعاً من عدم الكفاءة الشخصية، ويعد العقم نوعاً من الوصمة، وأبسط دليل على تأثير العوامل النفسية في وظيفة الإنجاب هو اضطراب الوظائف الجنسية المتعلقة بالجماع الناجمة عن أسباب نفسية، ولكن هذه الحالات قد لا تتجاوز نسبتها 5% من مجموع المصابين بالعقم.

ومن المعروف أن هناك العديد من الهرمونات والنواقل العصبية تتأثر بالحالة النفسية عند الإنسان، ويمكن  لبعض هذه الهرمونات أن يؤثر في مطلقات موجهات الغدد التناسلية gonadotropin- releasing factor  في منطقة الوطاء hypothalamus في الدماغ البشري، وتؤثر هذه المطلقات بدورها في الهرمونات التناسلية التي تنظم عمل المبيض.

آلام العقم: لتشخيص العقم وحده وقع نفسي كبير، وهو يسبب آلاماً وعذاباً، ويشبه الوقع النفسي لهذا التشخيص ردود الفعل الناجمة عن موت أحد الأقرباء وغير ذلك من تجارب الفقدان والحداد، تتميز عادة بالشعور بالصدمة والمفاجأة والذهول وإنكار التشخيص وعدم تصديقه، إضافة إلى الانزعاج والغضب والميل إلى الانطواء والوحدة وظهور مشاعر الذنب والحزن، ثم تلى ذلك مرحلة التقبل والتسليم والرضا بالواقع.

ويعد العقم أزمة حياتية معقدة تهدد كيان الإنسان وتسبب ضغطاً انفعالياً شديداً، وتتنوع ردود الفعل النفسية، فتظهر عند بعضهم أعراض القلق والتوتر والاكتئاب والقنوط واليأس والشعور بالإخفاق والفشل، وقد يؤدي في حالات أخرى إلى اضطراب العلاقة الزوجية التي قد تصل نسبتها إلى 37% من مراجعي عيادات العقم في الدول الغربية، كما يؤدي إلى تأثيرات سيئة في صورة الإنسان عن نفسه بما فيها هويته الجنسية. وترتبط الأساليب الحديثة في علاج العقم مثل الإلقاح بالزجاج (طفل الأنبوب) بدرجات متفاوتة من التوتر والضغوط النفسية بسبب الفحوص العديدة ومتطلبات العلاج الجراحية وضرورة الانتظار وتكرار المحاولات. وترتبط ردود الفعل النفسية بدرجة التكيف في مرحلة ما قبل إجراء العمليات، إذ تبين أن النساء اللاتي كان تكيفهن ضعيفاً كانت ردودهن النفسية سلبية وشديدة بعد إخفاق المرحلة الأولى من العلاج، وقد اتصفت طريقة تفكيرهن بشدة التعلق بضرورة تحقيق الوظائف الأنثوية ومتطلبات الأنوثة من حيث الإنجاب وغير ذلك. وقد أوضح الأطباء النفسيون أنه يجب التذكر دائماً حين علاج حالات العقم أنه يُعالج الأشخاص الذين لديهم مشكلة العقم ولا يُعالج العقم نفسه.

التوتر النفسي والعقم: يعتقد بعض الأطباء أن التوتر النفسي وما يتعلق به من اضطرابات قد يكونان سبباً في إخفاق المحاولات العلاجية للعقم، وأجريت بعض الدراسات لبيان مدى فعالية تضمين بعض أساليب العلاج النفسي في برامج علاج العقم الطبية والجراحية، وكانت النتائج مشجعة؛ إذ تبين أن معدلات الخصوبة والحمل قد ازدادت. فقد أدى العلاج النفسي الجنسي والأسري الموجه نحو القلق إلى تحسن الحياة الزوجية مما جعل الأزواج أكثر راحة واطمئناناً، كما أدى إلى ازدياد نسبة حدوث الحمل في الأشهر التالية للبرنامج العلاجي. وقد تضمنت الأساليب العلاجية الأخرى أساليب سلوكية، مثل التثقيف الطبي النفسي، والاسترخاء وتمارين التنفس العميق، وحل الصراعات النفسية المرتبطة بالأمور الجنسية والحمل والمشكلات الزوجية أو التخفيف منها، وتصحيح طرائق التفكير الخاطئة باستخدام الأساليب المعرفية وزيادة تقدير الذات والتوافق معها والإيحاء الذاتي، إضافة إلى الغذاء المتوازن والتمارين الرياضية. وتتضمن الموضوعات التي يتطرق إليها العلاج النفسي في مثل هذه الحالات الضغوط والمشاكل الاجتماعية المحيطة، والحزن والاكتئاب، واللوم ومشاعر الذنب، والخوف من الاختبارات والاستقصاءات الطبية والعلاجات المتنوعة، وكذلك مشاعر الغضب والنقص واضطرابات الوظيفة الجنسية. كما تجري مناقشة الأساليب الأخرى التي يمكن بها تحقيق الأبوة والأمومة عن غير طريق الإنجاب كرعاية الأيتام وتربية الأطفال وغير ذلك.

يتبين مما سبق أن شأن العوامل النفسية المتعلقة بمشكلة العقم قد لاقي مزيداً من الاهتمام في الآونة الأخيرة، وقد أوضح «كيفان» في مراجعة شاملة للموضوع أنه لا توجد دراسات دقيقة حول الأساليب النفسية المستعملة ونتائجها، كما أن كثيراً من الدراسات لم تستعمل عينة مقارنة من مرضى لم يتلقوا العلاج النفسي، وأكد ضرورة إجراء مثل هذه الدراسات بشكل دراسات متابعة استباقية، إضافة إلى دراسة الأساليب التكيفية الناجحة التي يمكن أن يتبناها الأزواج للسيطرة على مشاعرهم السلبية الناجمة عن العقم وتجعلهم يتخذون القرارات المناسبة في أمور العلاج وبما يتعلق بعلاقتهم الزوجية والطرائق الأخرى البديلة عن الإنجاب الطبيعي. كما بين ضرورة تفهم المؤسسات الطبية والأجهزة الصحية للمساهمات الممكنة من قبل المختصين النفسيين ومختصي التوجيه والإرشاد النفسي وغيرهم في تفهم حالات العقم والعلاج. وعلى نحو عام يمكن في الوقت الحالي القول إن العوامل النفسية ربما تسهم في نشوء حالات العقم الغامضة التي لا يوجد لها تفسير طبي واضح، وأنه من الأكيد أن أموراً نفسية عديدة تنجم عن تشخيص العقم. ولكن تبقى أسئلة مهمة تحتاج إلى مزيد من الإجابات؛ هل يؤدي التوتر والضغط النفسي والاضطرابات النفسية الأخرى إلى التأثير في عملية الإباضة نفسها؟ أو في نقل البويضة أو تثبيت الجنين أو إنتاج الحيوانات المنوية؟ ربما يكون ذلك بوساطة الطريق العصبي الهرموني، وإذا كان الأمر كذلك فما هو شأن الأساليب العلاجية النفسية، وأساليب تخفيف التوتر والقلق، وأساليب العلاج الجنسي والأسري في هذا المجال؟

ثالثاً- اضطرابات النوم:

النوم والأحلام من النواحي النفسية:

 النوم والأحلام التي تحدث فيه هي من وظائف الدماغ الأساسية، وعلى الرغم من تطور فهم وظائف النوم والأحلام في العقود الماضية بتطور أساليب دراسة الدماغ تشريحياً ووظيفياً وتقنياتها، ما تزال أمور عديدة مرتبطة بالنوم والأحلام مبهمة. ويشكل موضوع النوم والأحلام مادة خصبة وجذابة يستفيد منها الخيال الشعبي وتغذيها أفكار شائعة ونظريات خاطئة وموروثات قديمة بعيدة عن المنطق العلمي. وقد حاول الإنسان منذ القدم أن يطرح تفسيرات لظاهرتي النوم والأحلام، وارتبطت تلك التفسيرات بالقوى الغيبية والسحر والشياطين، وفي عقائد بعض قبائل الأسكيمو أن الروح تترك الجسد في أثناء النوم وتعيش في عالم آخر خاص بها، وأن إيقاظ الحالم من نومه يسبب خطراً كبيراً يهدد بضياع روحه وعدم قدرتها على العودة إلى جسده مرة أخرى، وكذلك فإن بعض القبائل الهندية القديمة التي لديها الاعتقاد نفسه كانت تعاقب بشدة كل من يوقظ نائماً، وكان المصريون القدماء أول من اعتقد أن الأحلام إيحاء مقدس، وكانوا يسمونها الرسل الغامضة إلى النائم للإنذار بالعقاب أو المواساة والتعزية والتبصير. ويذكر هيرودوت أن بلاد الإغريق كانت تحتوي في وقت من الأوقات على نحو 600 معبد مخصص للأحلام وتلمس الشفاء عن طريقها.

وفي التراث العربي يعتقد أن الأحلام المرعبة هي بسبب تأثيرات شيطانية شريرة أو ناجمة عن الحسد والسحر، في حين تنجم الأحلام السعيدة عن تأثيرات غيبية صالحة، كما يتبين أيضاً أن عدداً من الأشخاص يعتقدون بتأثير الأحلام في حياتهم الشخصية والعملية والزوجية وهم يحاولون البحث عن تفسير هذه الأحلام ودلالتها، وهم يتخذون قرارات مهمة استناداً إلى هذه التفسيرات.

النوم من النواحي الطبية النفسية:

النوم من النواحي الفيزيولوجية والطبية النفسية ضروري جداً، وهو بمنزلة وقود ضروري للجسم والعقل والنفس، والحرمان منه يؤدي إلى أعراض جسدية ونفسية متنوعة. وتتلخص الوظائف الأساسية للنوم بما يلي:

1-يسهم النوم في ازدياد المناعة وتحسينها، والأشخاص الذين لا ينامون جيداً تضعف مناعتهم، كما يحدث للطلبة في أثناء الامتحانات ما يجعلهم عرضة للإصابة بالإنفلونزا وغيرها، ويبدو أن تأثيرات النوم في جهاز المناعة ترتبط بإفرازات الهرمونات الدماغية التي تحافظ على المناعة.

2-يسهم النوم في تجديد الطاقة الجسدية والعقلية والنفسية التي تصرف في أثناء الصحو، والأشخاص الذين لا ينامون جيداً يشكون من التعب الجسدي والذهني ومن التوتر النفسي وسوء المزاج.

3-يسهم النوم في عملية تثبيت المعلومات التي تدخل الدماغ من خلال تنشيط العمليات التي تحول المعلومات في مناطق الذاكرة المختلفة وتثبتها.

4-يسهم النوم في عمليات حل المشكلات التي يواجهها الإنسان في حياته اليومية؛ إذ يقوم الدماغ بإعادة برمجة المعلومات الداخلة وإعادة تنظيم هذه المعلومات، وهو يقوم بطرد المعلومات غير النافعة ويبقي على المعلومات المهمة المؤثرة، ويعني ذلك أن العقل لا يتوقف عن العمل نهائياً في أثناء النوم بل يقوم بعمليات عقلية انتقائية مفيدة ومتنوعة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن النوم عند الأطفال يرتبط بالنمو الطبيعي للجسم والعقل من خلال الإفرازات الهرمونية المرتبطة بالنمو، ويؤدي حرمانهم من النوم إلى مشكلات متنوعة في النمو، ويحتاج الأطفال الرضع إلى ساعات نوم طويلة تصل إلى 18 أو 20 ساعة يومياً، ثم تقل مع النمو والتقدم في العمر لتصبح نحو 6 - 9 ساعات عند البالغين، ثم تقل في مرحلة الشيخوخة إلى 4-6 ساعات.

وقد يؤدي عدد من الأمراض الجسدية إلى اضطرابات في النوم، مثل قصور القلب والكلية والكبد وحالات التسمم المختلفة والأمراض الجسدية التي ترافقها الآلام الجسدية، وغير ذلك. كما ترتبط اضطرابات النوم بعدد من الاضطرابات النفسية المحددة، مثل القلق المعمم والاكتئاب والاضطراب الهوسي الاكتئابي والحالات الذهانية الحادة واضطرابات الكرب النفسي والضغوط والصدمات والإدمان بمختلف أنواعه وغيرها. وهناك اضطرابات خاصة بالنوم، مثل الأرق الأولي والثانوي ونوبات النوم المفاجئ ونوبات الرعب الليلي والمشي في أثناء النوم ونوبات انقطاع التنفس والشخير وغير ذلك. ويعد الأرق أكثر مشكلات النوم شيوعاً، وهو يصيب المرأة أكثر من الرجل، في حين يصاب الرجال بالشخير أكثر من النساء، ومن الفروق بين الجنسين أن المرأة على نحو عام  تنام أكثر مما ينام الرجل.

ويمر النوم الطبيعي بعدة مراحل وفقاً للدراسات العلمية وتخطيط الدماغ الكهربائي، وهي:

أ-المرحلة الأولى: وهي مرحلة الدخول إلى النوم، ويتباطأ فيها النشاط العضلي وكذلك حركة العينين، ويقل معدل حركات التنفس ونبضات القلب، ويحدث فيها الإحساس بأن الإنسان يهبط أو يطفو، وفيها موجات ثيتا، وهي أبطأ من موجات بيتا وألفا التي ترتبط بحالة الصحو، وهذه المرحلة قصيرة تستغرق عدة دقائق، ويمكن للإنسان أن يستيقظ منها بسهولة.

ب-المرحلة الثانية: وهي مرحلة النوم الخفيف، وفيها تتوقف حركة العينين وتتناقص حرارة الجسد وحركات التنفس ونبضات القلب، كما ينقص التوتر العضلي العام، وفيها تنتشر موجات ثيتا بكميات أكثر مع ظهور اندفاعات سريعة متلاصقة من النشاط الكهربائي تسمى مغازل النوم sleep spindles، وفي هذه المرحلة تساعد هذه الموجات المتلاصقة -وفقاً للدراسات الحديثة- على برمجة المهارات العضلية البسيطة والمعقدة التي تعلمها الإنسان في أثناء النهار.

ج-المرحلة الثالثة: وهي مرحلة انتقالية تبدأ فيها موجات دلتا بالظهور، وهي موجات بطيئة وكبيرة، وعندما يزداد ظهور هذه الموجات تصل المرحلة الرابعة.

د-المرحلة الرابعة: وتسمى مرحلة النوم العميق، وفيها يكون الجسد مسترخياً تماماً، وتقل حركات التنفس ونبضات القلب وحرارة الجسد بدرجة واضحة، كما يقل تدفق الدم إلى الدماغ، ويفرز في هذه المرحلة هرمون النمو، ويبدو أن مرحلة النوم العميق هذه هي مرحلة الحفاظ على الجسد وصيانته وإعادة ترميمه، ومرحلة تقوية ما تعلمه الإنسان في الذاكرة وتثبيته، ويصعب إيقاظ النائم في هذه المرحلة، وإذا حدث الاستيقاظ فيها فقد يحدث للإنسان نوع من التخليط الذهني أو صعوبة التوجه في المكان والزمان على نحو مؤقت.

ه-مرحلة حركة العينين السريعة: وهي تتظاهر بحركة سريعة للعينين على نحو أفقي جانبي وإلى المركز ثانية، ويمكن أن يلاحظ ذلك من وراء الأجفان أو بعد فتحها، وهي تحدث بعد مرحلة النوم العميق، وفيها ينشط الدماغ بوضوح ويرافقها ازدياد حركات التنفس ونبضات القلب وعدم انتظامها، وازدياد تدفق الدم إلى الأعضاء الجنسية، وقد يحدث الانتصاب عند الذكور، ولكن التوتر العضلي العام ينخفض كثيراً ما يجعل الأطراف مسترخية تماماً وشبه مشلولة، وتكون موجات الدماغ الكهربائية سريعة وصغيرة تشبه موجات الدماغ في حالة الصحو. وترتبط هذه المرحلة بحدوث الأحلام على نحو وثيق، وتدل بعض الدراسات على أن الحرمان من هذه المرحلة قد يؤدي إلى ضعف الانتباه في حالة الصحو وإلى نسيان معلومات مهمة تعلمها الإنسان في أثناء النهار، ولم تؤكد دراسات أخرى ذلك، ولكن البحث لا يزال جارياً لمعرفة طبيعة العلاقة بين مرحلة حركة العينين السريعة وبين وظائف الذاكرة المتنوعة.

تتكرر مراحل النوم بدورات مدة كل منها نحو90 دقيقة، وتستمر مرحلة الأحلام نحو 15-20 دقيقة في كل دورة أي إن النائم يقضي 20% من نومه وهو يحلم، ويتميز الأطفال بأنهم يقضون وقتاً أطول من البالغين في مرحلة الأحلام. وهكذا يحلم كل الناس يومياً، ولكنهم لا يتذكرون إلا جزءاً قليلاً من أحلامهم، وبعض الأشخاص يظنون أنهم لا يحلمون أبداً، ولكنهم يحلمون ولكنهم لا يتذكرون، حتى الأعمى يحلم أيضاً وليس الحلم صوراً بصرية فقط بل هو نشاط عقلي تخيلي يتضمن الصور والصوت والانفعال والخيال، والنائم يرى بعقله لا بعينيه، وكثير من الأحلام تظهر باللون الأبيض والأسود وبعضها ملون، وقد تدور حوارات أو تلفظ كلمات بلغة أجنبية في الحلم. ومن الأحلام ما يعرف باسم الكابوس nightmare وهو من الأحلام المزعجة ويدل على القلق، وإذا كان متكرراً فإنه يتطلب العلاج المناسب.

لا يحتاج الأرق إلى العلاج إذا كان عارضاً أو مؤقتاً، وقد يكفي اتباع بعض النصائح العامة للتغلب عليه (الجدول رقم 2)، أما حين يتطلب الأمر العلاج فإن بعض العلاجات المهدئة مفيدة جداً إذا استعملت مدداً قصيرة، كما يمكن استعمال الأدوية الحديثة التي تعالج القلق والاكتئاب لعلاج الأرق. ولابد من بحث أسباب الأرق بالتفصيل؛ لأن أموراً عديدة يمكن أن تسببه، وأكثرها شيوعاً تناول المنبهات التي تحتوي الكافيين مثل القهوة والشاي الأحمر والشاي الأخضر وشراب المته والكولا والشوكولا وغيرها، وعدم تنظيم أوقات النوم والسهر ليلاً، وكذلك التوتر النفسي والضغوط المهنية والأسرية والآلام العضلية، ومن المعروف أن آلام الحب ومشكلاته تؤدي إلى الأرق وتمتلئ الأغاني العاطفية بشكوى عدم النوم تفكيراً بالمحبوب.

1- ضرورة الانتباه إلى تنظيم أوقات النوم كي يستعيد المريض دورة نومه الطبيعية وذلك بتحديد وقت محدد للاستيقاظ صباحاً وهو الأساس في إعادة تنظيم النوم وليس ساعة الدخول في النوم.

2- الانتباه إلى فترات النوم في أثناء النهار وتقليلها لأنها قد تؤدي إلى الأرق، وتحديد وقت الدخول في النوم تقريباً.

3- استبدال وتعديل جميع العقبات والمؤثرات التي تقف في وجه النوم المريح مثل: غرفة النوم الهادئة والسرير المريح والأغطية الملائمة  والحرارة المناسبة وثياب النوم المريحة والوسادة المناسبة غير المرتفعة.

4- تجنب العشاء المتأخر أو الثقيل، لأن المعدة الممتلئة تسبب الأرق.

5- تجنب الأنف المسدود بتنظيفه تنظيفاً كافياً.

6- الابتعاد عن التدخين وعن تناول المنبهات مساء مثل القهوة والشاي العادي أو الأخضر والمتّة والكولا والشوكولا، وكل ما سبق يحتوي على مادة الكافيين المنبهة التي تسبب الأرق.

7- يمكن تناول عصير الفاكهة أو كأس من الحليب الدافئ أو قليلٍ من العنب، وقد يفيد قليل من العسل مع نصف ليمونة معصورة، والجبنة البيضاء والخبز والرز والبطاطس والبيض واللبن والموز والخس والملفوف، وتناول كأس من مشروب اليانسون الساخن وغيره من الأعشاب المهدئة.

8- الحمام الدافئ والتدليك.

9- قراءة كتاب ممل.

10- تمارين الاسترخاء المتنوعة والإيحاء الذاتي بالنوم.

11- العلاج الدوائي المؤقت مثل مركبات بنزوديازبين أو مضادات الاكتئاب المتنوعة.

(الجدول رقم2) ملاحظات عامة مفيدة للتعامل مع حالات الأرق الشائعة

 

 

ولابد من تنظيم النوم الذي يعيد للجسم انتظام دورته البيولوجية، وساعة الاستيقاظ هي الأهم في تنظيم النوم، أي يجب الاستيقاظ في ساعة محددة صباحاً مما يساعد على الدخول في النوم من دون أرق في الليالي القادمة، ووفقاً لأسباب الأرق يكون العلاج المناسب، وفي الحالات النفسية المختلفة التي تتظاهر باضطرابات النوم لابد من فحص طبي نفسي كامل لتقدير الحالة والبدء بالعلاج.

تفسير الأحلام:

هناك عدة نظريات علمية لتفسير الأحلام، منها:

1-النظرية التحليلية النفسية: التي طرحها فرويد الذي قال إن «الأحلام هي الطريق الملكي إلى اللاشعور»، وهو يعني أن البحث في الأحلام وفي تفسيرها يعطي معلومات مهمة عن مكونات اللاشعور لدى الفرد وعن الموضوعات المكبوتة والصراعات النفسية التي يعيشها، وقد عدَّ الأحلام تعبيرات عن المكونات الداخلية، وهي تظهر بسبب غياب الرقيب الواعي الذي يعمل عادة في حال الصحو، وعند النوم تظهر المكونات الداخلية على نحو صريح أو ملتو أو رمزي. وهناك محتوى ظاهر للحلم، كما أن هناك محتوى باطناً وغامضاً، وذلك بسبب عمليات التكثيف والإزاحة وغيرها من العمليات النفسية الدفاعية وكل ذلك مسؤول عن ظهور الأحلام بشكلها الغريب أو الغامض أو غير المترابط، وهي ترتبط بتحقيق الرغبات والذكريات المكبوتة، وأن الأحلام وفقاً لذلك هي صمام أمان يعبر به عن الصراعات الداخلية والمخاوف والرغبات المتنوعة الجنسية والعدوانية وغيرها في أثناء النوم. وطبعاً فإن التحليل النفسي يعتمد في تقنياته العلاجية على التداعي الحر للأفكار أو على الحوار المباشر في الأساليب التحليلية الحديثة، ومن خلال الجلسات العلاجية  يتم تحليل مختلف التعبيرات الكلامية التي تصدر عن الشخص، ويجري أيضاً تحليل بعض الأحلام كي يصل المريض إلى فهم أفضل لما يدور في داخله.

2-نظرية التعامل مع المشكلات: وفيها أن الأحلام هي استمرار للتعامل العقلي الواعي مع المشكلات في الحياة اليومية في أثناء النوم، وأن الأحلام تدور حول موضوعات وقضايا وأمور لها أهميتها الخاصة، وهي تمثل التجارب الحياتية التي تتطلب التعامل معها وتتطلب حلولاً وتعليقات ومراجعات بهدف هضمها واستيعابها وإيجاد الأطر المناسبة لفهمها، ومن ثم القيام بالتصرف المناسب تجاهها. وقد أوضحت التجارب وخبرات عدد من الأشخاص والمبدعين في مختلف المجالات أن مشكلات محددة قد عولجت في أثناء النوم والأحلام وتم عند الاستيقاظ إيجاد الحل المناسب لها.

3-نظرية الذاكرة: وهي تؤكد أن الأحلام يتم في أثنائها تثبيت المعلومات المفيدة والضرورية والتخلص من المعلومات غير المفيدة، وهي تعد الأحلام وظيفة من وظائف الذاكرة، وهذه النظرية حديثة نسبياً، وهناك دراسات متنوعة حولها ولا يزال البحث جارياً فيها.

4-نظرية وقاية النوم: وهي تعد الأحلام نوعاً من الوقاية للنوم، وأن ظهورها يهدف إلى استمرار النوم، وأن بعض المثيرات الخارجية التي يتعرض لها النائم قد تثير حلماً معيناً كأن يسمع ساعة المنبه ولكن هذا المثير الخارجي يتحول إلى منبه مقبول ضمن نسيج الحلم مما يؤدي إلى استمرار النائم في نومه من دون أن يستيقظ، وكذلك الأمر في حال انزياح غطاء السرير عن النائم وانكشاف ساقه مثلاً مما يجعله يشعر بالبرد وربما يستيقظ نتيجة لذلك، وهنا يأتي الحلم والشعور بالبرد ضمن نسيج الحلم فيستغرق النائم في تفاصيل عن رحلة باردة وأحداث متنوعة كي يبقى نائماً ولا يستيقظ. وكذلك فإن بعض المثيرات الداخلية الجسدية قد تثير حلماً معيناً مثل تناول وجبة ثقيلة، أو ارتفاع الحرارة بسبب مرضي، أو امتلاء المثانة وغير ذلك. وهذه النظرية منطقية وتفسر بعضاً من الأحلام، وقد عدَّها فرويد جزءاً من نظريته حول الأحلام، وأوضح أن المحتوى الظاهري للحلم الذي يكون رد فعل يهدف إلى استمرار النوم يكشف في الوقت نفسه عن معانٍ عميقة تتطلب التفسير والتحليل من خلال المحتوى الكامن للحلم نفسه.

5-نظرية التهديد وإثارته في الأحلام: وترى أن الحلم يساعد على التعامل مع الأمور المقلقة المهددة للشخص، فالأحداث المقلقة والتهديدات التي يتعرض لها الشخص يجري التعامل معها من خلال أحداث الحلم وتفاصيله التي تهدف إلى التخفيف من القلق والسيطرة على التهديد والتعامل معه على نحو أفضل ضمن عمليات عقلية متنوعة، ولكن هذه النظرية لا تفسر أنواع الأحلام الأخرى التي لا تتضمن القلق والتهديد.

6-نظرية النشاط العشوائي للدماغ: وهي تعد الأحلام نشاطاً عشوائياً غير منضبط يؤدي إلى تفريغ شحنات انفعالية وكهربائية عصبية تهدف إلى إعادة التوازن العصبي الكهربائي للدماغ وأنه ليس للحلم معنى محدد أو منطقي أو رمزي، ولا يوجد لذلك أي جدوى من محاولة فهم الحلم وفك رموزه.

ويمكن القول إنه لا يوجد اتفاق واضح في الأوساط العلمية حول تفسير الأحلام، وبعض النظريات أكثر قبولاً من بعض، ولا يزال البحث مستمراً حول ذلك.

أمثلة عملية من تفسيرات الأحلام:

- يحلم الولد النائم أنه عاد للمنزل ولم يجد فيه أحداً من أهله. هذا الحلم مقلق ومزعج، وقد يؤدي إلى الاستيقاظ، وقد يكون مفهوماً من خلال أحداث اليوم السابق للحلم إذ سافر الأب في رحلة قصيرة، والمعنى الظاهري اعتيادي ويدل على درجة من القلق بسبب سفر الأب، وأما المعنى الكامن والرمزي فهو يدل على الخوف من الإهمال وعدم الرعاية الذي تعرض له في طفولته ولا يزال يحمله في أعماقه.

- يحلم الطالب أنه تأخر عن الامتحان أو أنه لم يجد مكانه في قاعة الامتحان أو أن قلمه قد ضاع. وهذه الأحلام شائعة وتدل على قلق الامتحان، وهو مفهوم ظاهرياً، ويمكن أن تدل بعض تفاصيل الحلم على مضمونات أعمق لها بعد رمزي، مثل القلم الضائع أو الذي يتوقف عن الكتابة وارتباط ذلك برمز جنسي ذكوري يظهر قلق إثبات الذات من الناحية الجنسية مثلاً.

وعند تفسير الأحلام لا ينصح بتقديم التفسير للشخص على أنه حقيقة أكيدة بل يطرح ذلك على أنه احتمال، ويشجع الشخص نفسه على إيجاد العلاقات بين مكونات الحلم وأفكاره الخاصة التي تتوارد إليه، مما يساعده على الوصول إلى فهم ذاته وصراعاته المتنوعة. وكل ذلك يجري ضمن علاقة علاجية آمنة، وفيها حوارات عديدة ومحاولات للتبصر والفهم وهي مشتركة بين المريض والمعالج وقابلة للتعديل والتغيير وفقاً للمعلومات المتوافرة عن الشخص وعن سيرته الذاتية. ويختلف ما سبق عما هو شائع عن تفسير الأحلام عند العامة، إذ يبحث الناس عادة عن تفسير حلم معين على طريقة البصارة أو قارئة الفنجان، ويسألون عن معنى حلم محدد، وهذا بعيد عن الفهم العلمي للأحلام وتفسيراتها. وهناك عدد من الكتب التي تصنف مدلولات عناصر من الحلم ومعانيها، مثل أن ترى في الحلم ذهباً أو امرأة جميلة أو قبيحة، أو أن يحدث موت في الحلم أو حوار مع شخص متوفى. ومن الشائع تفسير مكونات الحلم بعكس معناها الظاهري، فالموت هو حياة، والسفر هو وصول من كان مسافراً أو غائباً، وهناك أمور غريبة وعجيبة في هذا الميدان. والنظرة العامية تؤكد قدرة الحلم التنبئية للمستقبل؛ إذ يتوجس بعضهم شراً من حلم مزعج رآه وهو يعتقد بأن الحلم  سوف يتحقق وأن مصيبة ستحدث وهذا بعيد عن النظرة العلمية. وبعض الأشخاص الذين يتعاملون مع الأحلام بوصفهم مفسرين يوحون إلى من يسألهم عن التفسير إيحاءات قد تكون سيئة وخطرة في ميدان العمل أو الزواج أو غيره من القرارات المهمة، كأن يقول المفسر للسائل إن هذه الفتاة غير صالحة للزواج أو أن طلاقها ضروري بسبب حلم معين، وكل ذلك ضرره واضح وفيه جهل وتجهيل، وبعض المفسرين يستقرئ من الحلم ما هو إيجابي ومطمئن للسائل وما يرضي ذاته ونرجسيته، وهذا مفيد عموماً.

خلاصة:

النوم ضروري جداً للصحة الجسدية والنفسية وكذلك الأحلام، ولابد من الابتعاد عن التفسيرات المؤذية للأحلام أو التفسيرات التنبئية. والحلم هو نشاط طبيعي للدماغ يسهم في التخلص من توترات الحياة اليومية، ويسهم في التنفيس عن رغبات الناس ومكبوتاتهم، أما الرؤيا فهي موضوع مختلف عن الأحلام الاعتيادية، وهي ترتبط بالغيب وتمنح لأشخاص معينين ومحدودين.

ولا يفيد السعي إلى فهم الأحلام الشخصية إلا للمثقفين نفسياً أو لمساعدة الاختصاصيين أو ضمن إطار علاجي. والحلم المزعج أو السيئ أو الغامض يجب تجاهله ونسيانه وإهماله بدلاً من التشديد عليه واستخلاص نتائج وقرارات متسرعة بسببه، وهو ما يفعله القلقون والمكتئبون والمرضى، وبعضهم يتعامل مع الأحلام كنوع من التسلية الذكية أو الهزل الذي يمكن أن ينقلب إلى جد وخوف، كما أن بعض الشخصيات الوسواسية أو الحديّة borderline أو الزورية paranoid أو الشخصيات شبه الفصامية تتعلق بظاهرة الأحلام وتهتم بها كثيراً، وقد يؤثر ذلك في هذه الشخصيات تأثيراً مرضياً. وأخيراً لابد من الحلم ولابد من السعي إلى تحقيق الأحلام الجميلة، يقول المثل : «إذا أردت أن تحقق أحلامك، فعليك أن تستيقظ أولاً».

الكلام في أثناء النوم:

لا يعد الكلام في أثناء النوم ظاهرة مرضية، وهو يدل على نوع من القلق تجاه موضوع معين يحمله النائم معه من أحداث النهار أو أحداث قديمة أخرى، ويتم التعبير الكلامي في النوم من خلال الأحلام وما يجري فيها، ويكون الكلام عادة غامضاً ومتقطعاً وغير مفهوم، وقد يكون صرخةً أو تأوهاً أو تكرار كلمة محددة، ويكون الكلام في بعض الأحيان واضحاً وجميلاً متعدد الكلمات.

ومما لاشك فيه أن كلام النائم موضوع مثير للاهتمام؛ إذ يعتقد كثير من الناس أن الأسرار الشخصية تظهر في أثناء النوم وهو غير صحيح، والمعلومات التي تجنى من كلام النائم هي جزء من تركيبة الحلم الذي يحلم به ولا يعطي أحداثاً واقعية  بل هو تركيب وتكثيف لكثير من الانفعالات والرغبات على نحو رمزي مُقنَّع. أما الأحلام التي تظهر أحداثاً واقعية فتحدث في حالات الصدمات النفسية الشديدة كوقوع حادث مؤلم مروع أو أحداث في أثناء الحرب وغيرها من الكوارث، وقد يستعيد النائم في هذه الحالات هذه الأحداث على نحو واقعي أو قريب من الواقع، وهي تعد من الأحلام المفزعة أو الكوابيس التي تتكرر عادة وتكون جزءاً من تشخيص متلازمة الكرب التالي للرضح. ومما لاشك فيه أن النائم لا يحاسب على أحلامه وليس مسؤولاً أخلاقياً أو قانونياً أو شرعياً عن مضمونها، وقد يحلم النائم بأشياء مخزية أو جنسية، أو يتلفظ بألفاظ غير مؤدبة، أو يذكر أسماء أشخاص ذكور أو إناث ولا يعني ذلك أنه يكشف أسراره وعما يجول بخاطره من حب سري أو غيره، ولابد من تأكيد أن النائم لا يمارس إرادته، وهو غير واعٍ في أثناء النوم، وكل ألفاظه ليست دليلاً أو حجة ضده. وبعض الزوجات تقضي ساعات جوار زوجها النائم تحاول أن تفهم ما يقوله في أثناء نومه لعلها تعرف عن أسراره المالية أو العاطفية أو غير ذلك، وقد يؤدي ذلك إلى مشكلات زوجية متنوعة وينمو الشك والحذر بين الزوجين، وبعض الزوجات تسجل كلام الزوج في أثناء نومه وتعد ذلك دليلاً ضده.

المشي في أثناء النوم :sleep walking 

أحد الاضطرابات الشائعة، وهو ينتشر عند الأطفال خصوصاً، وتحدث في 10-30% منهم نوبة واحدة على الأقل، ويكون لدى 1-5% منهم نوبات متكررة ذات آثار سيئة، وقد يبدأ في أي عمر بعد سن المشي ولا سيما في عمر 4-8 سنوات، وتبدأ أكثر الحالات في سن 12 سنة، وجدت بنسب واحدة في الذكور والإناث. وهو اضطراب محدد وحميد، ولا ترافقه اضطرابات نفسية أخرى ويتحسن مع تقدم العمر ويختفي في سن المراهقة ولا سيما نحو سن 15 سنة، إلا أن نسبة من هذه الحالات تستمر إلى مرحلة الرشد والشباب، أو أنها تختفي ثم تعود في مرحلة الشباب وتستمر عدة سنوات بين اشتداد وهجوع. ونسبة حدوث نوبة واحدة على الأقل من المشي في أثناء النوم عند الكبار هي 1-7%، وترافقها عندئذٍ حالات القلق أو الاكتئاب أو اضطرابات الشخصية.

الأعراض: يتميز هذا الاضطراب بأنه يحدث في الثلث الأول من الليل في مرحلة النوم العميق حين يصحو المريض جزئياً ويقوم ببعض التصرفات والحركة والمشي، ومنهم من يذهب إلى الحمام للتبول أو ينزل على السلم أو يذهب إلى المطبخ ويأكل، أو يفتح خزانة الملابس وقد يخرج خارج المنزل، وفي حالات نادرة قد يقوم بأعمال معقدة مثل استعمال أحد الأجهزة أو فتح القفل بالمفتاح، وفي حالات أخرى قد يتصرف تصرفاً مؤذياً وعنيفاً إذا كان خائفاً أو هارباً، كما قد يتعرض للأذى والسقوط والكدمات والجروح. وليس صحيحاً أبداً أن المريض قد يمشي في أماكن خطرة من دون إصابة (كما يتكرر ذلك في أفلام الكرتون مع امرأة باباي). والمريض عندما يمشي في أثناء نومه يتميز وجهه بفراغه من التعبير، وهو لا يستجيب لكلام من حوله ولا يتحدث إلا نادراً، ويكون حديثه خافتاً ومحدوداً وليس مسترسلاً، كما أن انتباهه يكون ناقصاً، وقد يستجيب لكلام من حوله بأن يعود إلى سريره ويتابع نومه وعندها تنتهي النوبة التي قد تستغرق عدة دقائق إلى نصف ساعة. ويصعب عادة إيقاظ المريض من نوبة المشي في أثناء النوم، وقد تنتهي النوبة بالاستيقاظ بعد عدة دقائق من اختلاط الوعي  والتوهان في الزمان والمكان ثم يصحو المريض تماماً وهو لا يتذكر ما جرى، وقد يتذكر بعض الأمور العامة ولكنه لا يتمكن من تذكر التفاصيل.

الأسباب: تبين من دراسة هذا الاضطراب أن هناك عاملاً وراثياً وراء عدد من الحالات، إذ ينتشر الاضطراب في العائلة نفسها، وعندما يصاب أحد أفراد الأسرة فإن نسبة 10-20% من أقرباء الدرجة الأولى يظهر لديهم هذا الاضطراب، ولا يزال العامل الوراثي غير محدد، كما أن هناك عدداً من المثيرات لنوبات المشي في أثناء النوم، ومنها القلق والتوتر والخوف وامتلاء المثانة والضجيج والحرمان من النوم وارتفاع الحرارة، ونوبات الصداع النصفي واستعمال الكحول وبعض الأدوية النفسية.

التشخيص التفريقي: لابد من التفريق بين اضطراب المشي في أثناء النوم ونوبات الرعب الليلي night terror، التي يقوم فيها الطفل من فراشه بحالة ذعر وخوف شديدين وتتزايد ضربات القلب ويحدث التعرق وغير ذلك، وهو ما لا يحدث في اضطراب المشي في أثناء النوم، كما يجب التفريق بينه وبين الكابوس nightmare أو الحلم المزعج المخيف، وفيه يتذكر الطفل أو البالغ تفاصيل عن الحلم الذي أزعجه، كما أنه يحدث عادة في آخر الليل. وقد تتشابه حالات تعويق التنفس والشعور بالاختناق مع اضطراب المشي في أثناء النوم؛ إذ يقوم المريض من فراشه ولكن ذلك يتميز بالشخير وانقطاع النفس والنوم المتكرر في النهار. ويشبه بعض حالات الصرع الدماغي هذا الاضطراب، وفيها يكون تخطيط الدماغ ضرورياً حيث يظهر اضطراباً في كهربائية الدماغ، في حين يظهر التخطيط في المشي في أثناء النوم موجات بطيئة هي موجات النوم إضافة إلى الموجات الأخرى. كما يفرق بين هذا الاضطراب وحالات الشرود fugue states التي تحدث بنوبات تبدأ في أثناء النهار وتستمر أياماً أو أسابيع يكون فيها المريض بحالة اعتيادية من الصحو والكلام. أخيراً يجب التفريق بين هذا الاضطراب والتمارض أو ادعاء المرض بالأعراض الوصفية له التي يصعب تمثيلها أو اصطناعها.

العلاج: لابد من التشديد أولاً على أن كثيراً من الحالات تعد عادية ولا تسبب مشكلات إضافية، وأما الحالات الأخرى - التي يتجنب المريض فيها النوم خارج المنزل ويتجنب الرحلات والمخيمات الصيفية والزيارات التي تحتاج إلى نوم خارج المنزل - فتتطلب العلاج. ويتدرج العلاج من الابتعاد عن المثيرات كالحرمان من النوم والتخفيف من القلق والضغوط الاجتماعية قدر الإمكان، ويفيد إعطاء دواء مهدئ في توقيف النوبات، كما يجب الانتباه إلى حماية الطفل وترتيب مكان نومه على نحو لا يتسبب في الكدمات والأذى. وأما حالات الكبار فلا بد من دراسة حالاتهم بالتفصيل والتفريق بينها وبين سوء استعمال بعض الأدوية أو استعمال الكحول وغيره، كما لا بد من وضع خطة تفصيلية علاجية من مختلف الجوانب النفسية والاجتماعية والطبية.

رابعاً- اضطرابات الأكل:

البدانة والعوامل النفسية:

لا شك أن البدانة مشكلة صحية متعددة الأسباب والأشكال، ولها جوانب وراثية وعضوية وكيميائية، وجوانب اجتماعية ونفسية وسلوكية. ومن المعروف أن الطعام والشراب من المتع واللذات الكبيرة، والجوع تجربة مؤلمة ومنفرة يهرب منها الإنسان دائماً. وللعادات الغذائية في الطفولة شأن مهم في البدانة، وكثير من الأطفال يتناول الحلويات من دون حساب؛ مما يؤدي إلى البدانة المبكرة، وكثير من الأمهات لا يُتقنّ من مبادئ التربية والرعاية سوى إطعام الأطفال أكثر من حاجاتهم وتسمينهم. وفي مرحلة المراهقة والشباب وما يليها من مراحل يتعلم الإنسان أن يخفف ألمه النفسي وإحباطاته المتنوعة بتناول الطعام الذي يجلب له لذة فورية، وكلما زادت الإحباطات زاد الإقبال على الطعام ومن ثم البدانة. وعموماً إن القلق وعدم الاطمئنان والإحباط قد تؤدي إلى الشره الطعامي واعتماد الطعام وسيلة للتخفيف من هذه المشاعر السلبية. وفي حالات الحرمان المختلفة في الطفولة أو ما بعدها مثل الإهمال الوالدي أو التفكك الأسري وغيرهما قد يكون الطعام والشراب بمختلف أنواعهما وسائل تعويضية عن الحرمان مما يؤدي إلى الإفراط والبدانة. وفي بعض الحالات الاكتئابية المرضية قد يكون الإفراط في الطعام وزيادة الوزن أحد أعراضها، في حين يظهر الاكتئاب عند أشخاص آخرين بأعراض نقص الشهية وانخفاض الوزن. وهذه الأعراض المرضية للاكتئاب تكون نتيجة للخلل والاضطراب العصبي الكيميائي داخلي المنشأ، كما قد تكون نتيجة المعاني الرمزية للطعام من حيث المتعة واللذة والإشباع والبحث عنها للتخفيف من الاكتئاب. وفي حالات أخرى تعرف باسم النهام العصابي الذي يأتي بشكل نوبات من فرط الأكل يتلوها التقيؤ، وهي حالات قد تؤدي إلى مخاطر عديدة طبية، يكون السلوك الطعامي اندفاعياً ويعقبه ندم وشعور بالذنب ويؤدي عادة إلى السمنة. وهناك حالات طبية مثل نقص إفراز الغدة الدرقية الذي يؤدي إلى البدانة، كما أن نمط الحياة المعاصرة من حيث الراحة الجسدية وعدم استعمال العضلات والحركة الجسدية كل ذلك يؤدي إلى انخفاض استهلاك السعرات الحرارية (الحريرات)؛ مما يؤدي إلى تراكم الشحوم في الجسد وبالتالي البدانة.

وأخيراً لابد من تأكيد ضرورة الاهتمام بالصحة العامة وأسلوب الحياة الصحية من حيث نوعية الغذاء وكميته ومن حيث الرياضة والاهتمام بالجسد والابتعاد عن كل ضار من مأكول أو مشروب. ولابد من مواجهة القلق والإحباط بأساليب مفيدة وفعالة، وأيضاً التدرب على التحمل والاحتمال والصبر وتربية النفس وتطويع رغباتها بدلاً من الانجراف وراء رغباتها من دون حدود أو ضوابط، والمشاعر السلبية تحتاج إلى طرائق أخرى للتعامل معها، ومنها الحوار والتفكير الإيجابي وغير ذلك.

القهم العصابي :anorexia nervosa 

القهم العصابي (أو فقد الشهية العصابي) هو اضطراب طعامي يتميز بالاهتمام الزائد بوزن الجسد والطعام وسلوكيات متنوعة لإنقاص الوزن. وفيه خوف شديد من زيادة الوزن إضافة إلى اضطراب في صورة الجسد؛ إذ يشعر المريض بأن وزنه زائد مع أنه شديد النحول. ويرافقه توقف الدورة الشهرية عند الإناث وسلوكيات وسواسية متنوعة. وهو ينتشر في الإناث بنسبة عشرة أمثال انتشاره في الذكور، وتصل نسبة انتشاره في المجتمعات الغربية إلى 1% من الفتيات في سن 16-18 سنة. وماتزال أسبابه غير معروفة، وهناك تفسيرات نفسية متعددة ومنها الرغبة بعدم النمو والبقاء في مرحلة عمرية أصغر أو الخوف من النضج والنمو، والتناقض العاطفي تجاه الأم ورفضها، وعوامل الضغوط والشدات النفسية المتكررة والمرافقة لازدياد الرغبة في إنقاص الوزن وفي ضعف الشهية، والتأثر بالنجوم وعارضات الأزياء والرغبة في الاحتفاظ بجسد مغرٍ، وهناك دراسات حول اضطراب كيميائي عصبي في منطقة الوطاء، وعوامل عائلية ووراثية.

العلاج: تتضمن خطة المعالجة العلاج الطبي الذي يهدف إلى تعديل الاضطرابات الجسدية الناجمة عن النقص الشديد في الوزن مثل إعادة توازن السوائل والشوارد في الدم، وكثير من الحالات تتطلب الدخول إلى المستشفى والتغذية عن طريق الوريد والفم. كما تتضمن الخطة العلاج المعرفي السلوكي الذي يهدف إلى تعديل نظرة المريض عن نفسه وزيادة كمية تناول الطعام تدريجياً، وتتضمن الخطة أيضاً العلاج الأسري وتعديل تركيبة الأسرة ونمط تواصلها وتخفيف الضغوط على المريضة.

النهام العصابي :bulimia nervosa 

يعني نوبات من الشره الطعامي والتهام كميات كبيرة من الطعام، يرافقه الشعور بالذنب ومحاولات التقيؤ بعد ذلك، وقد يرافق الاضطراب حالات القهم العصابي أو يكون مستقلاً عنه.

تتميز حالات النهام العصابي بفترات من نوبات الشره وفترات أخرى من الصيام وتخفيف الطعام، وترافق الاكتئاب كثير من هذه الحالات، وكذلك السلوك الاندفاعي واضطرابات العلاقات الشخصية، ويؤدي القياء واستعمال الملينات والمدرات إلى اضطراب شوارد الدم وإلى حماض دموي وتأكل في الأسنان وإلى اضطراب نظم القلب وتوقفه. نسبة انتشار هذا الاضطراب نحو 1-4% من الإناث، وهي أكثر بنحو 6-10 أمثال عما هي في الذكور، وهو أكثر انتشاراً من القهم العصبي.

ماتزال أسباب هذا الاضطراب غير واضحة، وغالباً ما تبدأ نوبات الشره بعد حمية طعامية قاسية، وهناك تفسيرات نفسية متنوعة، وبعض الدراسات العضوية تدل على اضطرابات كيميائية عصبية في مناطق الوطاء، وتدل دراسات أخرى على صعوبات في التكيف في جميع المجالات المهنية والاجتماعية والأسرية، وعلى وجود نمط من صفات الشخصية الذي يتميز بالاندفاعية والقلق والغضب والاكتئاب والانسحاب الاجتماعي والتفكير الذاتي.

ويتضمن العلاج تعديل الأفكار التلقائية الشخصية بوساطة العلاج المعرفي والسلوكي، كما بينت الدراسات أن العلاج الدوائي له فوائده في هذه الحالات ولاسيما الأدوية المضادة للاكتئاب التي تزيد من السيروتينين.

خامساً- الطب النفسي الجنسي:

1-الضعف الجنسي النفسي:

تدل الدراسات الحديثة في موضوع الاضطرابات الجنسية والضعف الجنسي عند الذكور على أن أسباب نحو 60-70% منها نفسية غير عضوية، وهي تختلف من حالة إلى أخرى، ويتوقف نجاح العلاج على شدة هذه الأسباب ونوعيتها. وقد شهد مجال الطب الجنسي تطورات عديدة في العقود الثلاثة الماضية سواء في دراسة الاضطرابات الجنسية وتشخيصها أم في ميدان علاجها، وقد استبدلت ببعض المصطلحات القديمة مثل العنانة أو الضعف الجنسي impotence مصطلحات أخرى حيادية لا تحمل معنى الإهانة والتحقير، إذ وجد الباحثون أن ذلك يساعد على فهم هذه الاضطرابات على نحو أفضل كما يساعد المريض عملياً وعلاجياً. وقد حددت المصطلحات الجديدة نوعية الاضطراب وصفاته من النواحي الفيزيولوجية الجسدية والتشريحية، فهناك مثلاً اضطراب الانتصاب erectile disorder واضطراب نقص الرغبة الجنسية hypoactive sexual desire disorder واضطراب الإرجاز (أو هزّة الجماع) عند الذكور inhibited male orgasm. وتحدد هذه الاضطرابات وما يرافقها من أسباب نفسية فقط، أو أسباب عضوية فقط، أو أسباب عضوية ونفسية معاً، وما إذا كانت مكتسبة بعد مدة من الأداء الطبيعي أو أنها مزمنة من دون فترات طبيعية، وما إذا كانت عامة generalized أو في مواقف معينة .situational

وهناك عدد من الأمور التي تؤدي إلى اضطراب الوظيفة الجنسية المتعلقة بالانتصاب، يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات:

أ- العوامل المؤهبة :predisposing factors كالأفكار والأوهام المرتبطة بالوظيفة الجنسية التي تتردد في أذهان المراهقين وغيرهم، وقد وجدت الأبحاث أن لدى كثير ممن يصابون بهذه الاضطرابات قناعات وأوهاماً خاطئة كالقناعة بأن الرجل الحقيقي يجب أن تكون له قدرة شخصية على أداء العمل الجنسي دائماً وفي كل الأوقات والظروف، وهذا وهم غير صحيح وغير علمي، ولا يناسب طبيعة الإنسان الروحية والعاطفية والنفسية، وتؤثر طبيعة الموقف الذي يتعرض له الشخص تأثيراً كبيراً في ردود فعله الجسدية وفي أداء الجسد لوظائفه الطبيعية. وبعض الشبان يلجؤون إلى المومسات ويصابون بالإحباط في أثناء إحدى المناسبات الجنسية بسبب عدم الانتصاب وتتثبت عندهم هذه المشكلة بعد ذلك. والرجل الطبيعي قد يرفض الابتذال والمحرمات شعورياً أو لا شعورياً، ولا تحدث لديه استثارة جنسية طبيعية في مثل هذه المواقف وهذا أمر طبيعي وليس مرضياً. ثم إن للجهل بالأمور الجسدية والطبية المتعلقة بالجنس شأناً مؤهباً في المشكلة، مثال ذلك ما يحدث لشخص في ليلة الزفاف من قلق واضطراب وهو لا يعرف ماذا يفعل، وذهنه ممتلئ بمعلومات غريبة وخاطئة، وقد يخفق في القيام بالوظيفة الجنسية في تلك الليلة، وفيما بعد تتدخل عوامل أخرى في تثبيت المشكلة والاضطراب؛ لذلك ينصح المقبلون على الزواج من الذكور والإناث بضرورة الاطلاع على بعض المعلومات الصحيحة والعلمية من الأطباء وغيرهم أو من المراجع الطبية والمجلات الصحية كي يواجهوا الموقف على نحو طبيعي وواقعي.

ب- العوامل المثيرة :precipitating factors  وهي تضم عدة أمور، منها العوامل العضوية كالمرض الجسدي العام والتعب والإرهاق وتناول بعض الأدوية والكحول والآلام الجسدية المتنوعة، وتكون هذه العوامل عادةً مؤقتة مالم يكن المرض الجسدي مزمناً. ومنها العوامل النفسية الانفعالية كالاكتئاب والقلق العام والخوف من الحمل وعدم وجود الراحة والاطمئنان في أثناء الممارسة الجنسية، وكل ذلك قد يكون مؤقتاً، ولكن بعد حدوث اضطراب الانتصاب ولو مرة واحدة قد تتدخل العوامل التي تساعد على استمرار المشكلة  مما يؤدي إلى تكرار الأعراض وإزمان الاضطراب. وهناك أيضاً الصدمات النفسية والحياتية والتعلم الخاطئ بسبب صدمات جنسية، والعقد الجنسية المرتبطة بالشعور بالنقص وضعف الثقة بالنفس من ناحية القدرات العامة والجنسية، وعقد الشذوذ الجنسي، والعقد النفسية المرتبطة بالعدوانية العامة أو العدوانية تجاه المرأة، إضافة إلى عقد الذنب المختلفة. يضاف إلى ما سبق وجود مشكلات تتعلق بحالة الزوجة، مثل استئصال الثدي أو الرحم أو الحمل والولادة والألم الشديد في أثناء الجماع وفقد الرعشة الجنسية والكراهية الظاهرة أو المبطنة وغير ذلك.

ج- العوامل المثبتة  :perpetuating factorsومنها فقد الثقة بالنفس والشعور بالذنب والعار من اضطراب الوظيفة الجنسية والإحباط والغضب. وهناك ما يسمى قلق الأداء  performance anxiety، وهو من العوامل المهمة التي يمكن تعديلها مباشرة، وهو يعني ازدياد شدة التوتر والقلق ومحاولة زيادة القوة الجنسية بكل الوسائل وبتوتر بالغ لأداء العمل الجنسي، وقد وجد الباحثون أن تخفيف هذا القلق وتعديله هو ركن أساسي في العلاج؛ لأنه يضمن عودة ردود الفعل الفيزيولوجية العصبية والدموية إلى حالتها الطبيعية. والعوامل التي تساعد على استمرار المشكلة عند الزوجة هي الضغوط لأداء العمل الجنسي والانتقاد والتصغير وإنكار المشكلة أصلاً، والتعاطف الزائد مع الزوج. ومن الأمور المهمة التي لا تلقى نصيباً كافياً من الانتباه طبيعة العلاقة الزوجية واضطرابها على نحو عام، ودرجة التوافق والتعاون، والمشكلات الزوجية المختلفة، لأن العلاقة الزوجية السيئة ينجم عنها اضطرابات جنسية متعددة.

يمكن القول إن جميع العوامل السابقة الذكر تؤثر بدرجات متفاوتة في كل حالة، وينجم عنها اضطراب الانتصاب نفسي المنشأ، ثم تحدث حالة نفسية خاصة هي توقع الفشل anticipation of failure، وهذه الحالة لها جوانبها النفسية والسلوكية، وتوقع الفشل وحده يؤدي إلى تكرار المشكلة مرات أخرى مما يؤدي إلى حلقة مفرغة مستمرة. ويعتمد العلاج على نحو أساسي على كسر هذه الحلقة بتعديل بعض هذه العوامل المتشابكة أو تغييرها.

أما الأسباب العضوية المؤدية إلى اضطراب الوظيفة الجنسية عند الرجل فنسبتها قليلة ولاسيما في الشباب، وفي مقدمة هذه الأسباب داء السكري وتصلب الشرايين والعمليات الجراحية في منطقة الحوض، وتناول بعض الأدوية كأدوية ارتفاع ضغط الدم وبعض الأدوية النفسية، واضطراب الغدد والهرمونات، وبعض الالتهابات مثل التهاب الحويصلات المنوية والموثة والالتهابات الزهرية، إضافة إلى بعض الأمراض العصبية كالتصلب المتعدد والشلل وقصور الكلية أو الكبد المزمنين والرضوض على منطقة العانة أو النخاع الشوكي. ويؤدي علاج بعض هذه الأمراض العضوية إلى تحسن الوظيفة الجنسية وبعضها الآخر صعب العلاج، ولكن يمكن معالجة الوظيفة الجنسية موضعياً كما سيأتي. ولابد من الإشارة إلى أن العوامل النفسية وتوقع الفشل يزيد من المشكلة في كثير من الحالات العضوية ويجعلها أكثر صعوبة على العلاج، ما يعني أن العلاج العضوي قد لا يكفي وحده.

الوقاية والعلاج: هناك بعض الملاحظات حول الوقاية والعلاج، منها الاطلاع على معلومات طبية وعلمية عن الوظائف الجنسية الطبيعية للإنسان، لأن لتبني المعلومات الصحيحة شأناً وقائياً قد يمنع حدوث الاضطراب أو انتكاسه، كما تسهم هذه المعلومات في تخفيف القلق الجنسي والشعور بعدم الاطمئنان في أثناء العمل الجنسي وهذا هو أساس العلاج الجنسي الحديث. والابتعاد عن المحرمات الجنسية أمر مفيد للصحة الجسدية والنفسية والجنسية، والتربية الصالحة والوقاية من الصدمات الجنسية والإيذاء الجنسي أمر مطلوب ومفيد دائماً.

ويوجد للعلاج عدد من الأساليب التي تهدف إلى تخفيف القلق والتوتر وإعادة الثقة بالنفس من الناحية الجنسية، مثل الاسترخاء العضلي والنفسي والتحكم بالتنفس، والتدريبات الزوجية الخاصة التي تتضمن المداعبات الجنسية على نحو تدريجي لمناطق الجسد المختلفة ثم المناطق الجنسية مما يساعد على إزالة الحساسية السلبية وردود الفعل الفيزيولوجية المضطربة، إضافة إلى زيادة الحوار بين الشريكين وتحسين العلاقة الزوجية وحلِّ مشكلاتها بالتفاهم والحوار في الأمور العامة وفي الأمور الجنسية، كما يفيد التشجيع والتطمين والدعم النفسي، وكل ذلك يعطي نتائج جيدة في فترات قصيرة. وفي حالات أخرى يحتاج المرضى إلى علاج نفسي أطول مدةً، وبعض الحالات تحتاج إلى بعض الأدوية الخاصة التي تحسن من وظيفة الانتصاب مثل فياغرا وغيرها، أو استعمال أجهزة طبية، أو حقن مواد دوائية داخل القضيب، أو عمليات جراحية موضعية ولاسيما في الحالات العضوية المنشأ أو الحالات التي لم تستفد من العلاجات الأخرى، ولا تزال الأبحاث مستمرة لتطوير أساليب علاجية دوائية وغير دوائية فعالة. ولابد من الإشارة إلى أن استعمال بعض العلاجات الشعبية والمواد الغذائية قد يفيد في بعض الحالات، ولكن تأثيرها قد لا يتعدى الإيحاء، كما أنها قد تكون مضرة في حالات أخرى.

ومن ناحية أخرى يراجع المرضى في المجتمعات العربية الأطباء العامين أو أطباء الجراحة التناسلية أو أطباء الجلدية والتناسلية وكثير منهم تتحسن حالته إذا ما عولجت الأسباب العضوية أو النفسية المرافقة. ويتردد كثير من المرضى في مراجعة الأطباء النفسيين من دون مسوّغ علمي، مع أنه من الضروري القيام بالفحص النفسي وتقديم العلاج النفسي والنصائح الأسرية والزوجية لهذه الحالات، ومن المفيد تعاون الأطباء من مختلف الاختصاصات المرتبطة بالاضطرابات الجنسية مع الأطباء النفسيين وتطمين المرضى وتبديد مخاوفهم مما يوفر علاجاً طبياً ونفسياً متكاملاً وصحيحاً لمعظم هذه الحالات.

أدوية الضعف الجنسي من النواحي النفسية:

اضطرابات الوظيفة الجنسية من الاضطرابات الشائعة في جميع المجتمعات، ويسهم الطب النفسي مع عدد من فروع الطب الأخرى مثل الجراحة التناسلية وطب الأمراض النسائية وطب الأمراض الجلدية والتناسلية في ميدان الاضطرابات الجنسية. وبالحديث عن الضعف الجنسي عند الذكور يتبين أن «هاجس الداء الجنسي والقوة الجنسية» قديم في تاريخ البشرية، وهناك عشرات من الطرائق المتنوعة التي فكر فيها الإنسان وابتكرها لتحسين أدائه الجنسي وتأكيد قوته، منها تناول أعشاب خاصة أو طعام معين أو القيام بأشكال من الطقوس والرقصات، واستعمال جلود بعض الحيوانات أو أجزاء منها، وغير ذلك كثير وغريب. وفي الطب الحديث هناك عدد من العمليات الجراحية التي تسهم بإعادة الوظيفة الجنسية المضطربة إلى طبيعتها، أو تساعدها على ذلك، كما أن هناك عدداً من الأدوية التي تختلف في فعاليتها وكيفية استخدامها والحالات التي توصف لها. وهناك حالياً عدد من الأدوية التي تعالج صعوبة الانتصاب منها (فياغرا)، وتعد هذه الأدوية كشفاً علمياً مهماً يساعد كثيراً من المرضى، والمعلومات الحالية عن فياغرا تفيد بأنه دواء فعال ومفيد وآثاره الجانبية قليلة، ويجب أن يوصف بإشراف الطبيب لأنه يتعارض مع بعض الأدوية القلبية وأدوية أخرى، وله جرعات محددة وهي 50 ملغ تؤخذ قبل نحو ساعة من المناسبة الجنسية مرة واحدة على الأكثر في اليوم (وفي بعض الحالات تستعمل عيارات أقل أو أكثر بإشراف الطبيب)، وهو يفيد في حالات صعوبة الانتصاب الناجمة عن إصابات النخاع الشوكي والاكتئاب وارتفاع ضغط الدم وداء السكري وغير ذلك. وتتفاوت نسبة الاستجابة للدواء من حالة إلى أخرى وفقاً للتشخيص ونوعية الاضطراب، وهذا الدواء وافقت عليه هيئة الدواء الأمريكية بعد إجراء التجارب والدراسات العلمية الضرورية من حيث الفعالية والأمان والتأثيرات الجانبية وغير ذلك، ولكن يبدو أن استعماله قد تجاوز المعايير الطبية المعروفة، مما أدى إلى مخاطر ومشكلات طبية واجتماعية وشائعات متنوعة.

ولابد من تأكيد أهمية العوامل النفسية في نشوء الاضطرابات الجنسية عند الذكور وعند الإناث، وتذكر الإحصائيات القديمة أن 90% من صعوبات الانتصاب سببها نفسي، وتؤكد الدراسات الحديثة أن نسبتها نحو50-65%، والأسباب النفسية عديدة منها المشكلات الزوجية والقلق والاكتئاب والعقد الجنسية والخوف من الفشل والشعور بالذنب، إضافة إلى ضعف الثقة بالنفس والتجارب الجنسية الخاطئة وغير ذلك. ويعتمد العلاج الجنسي على تبديد المخاوف وتعديلها، وتصحيح المعلومات الخاطئة حول الأمور الجنسية، وعلى إزالة الحساسية السلبية المرتبطة بالأداء الجنسي، وعلى عدد من التدريبات المشتركة مع الشريك الزوجي بهدف إعادة الثقة والأمان بينهما وإعادة الاستجابة الطبيعية. كما أن العلاج الأسري والفردي يسهم في تخلص الفرد من عقده الخاصة وقلقه الجنسي، ويسهم في تشجيع التعامل الصحيح والسلوك الناضج والمتوازن مع زوجه، مما يضمن تحسن الاضطراب الجنسي وتحسن العلاقة الزوجية أيضاً. ويستفاد في الطب الجنسي النفسي من أساليب أخرى. منها بعض الأدوية، ودواء «فياغرا» وغيره يمكن الاستفادة منه في النواحي النفسية إذا استعمل مؤقتاً؛ إذ يسهم  «تحسن الأداء» في تعديل نظرة المريض إلى نفسه، وفي تشجيعه على التخلص من عقده وقلقه وغير ذلك.

ولابد من تأكيد أن الطب الحديث يقدم فوائد عديدة للإنسان، ومن المتوقع أن يزداد الاهتمام بالمشكلات الجنسية وعلاجاتها. ولابد من النظر إلى الوظيفة الجنسية ضمن إطارها الصحيح المتكامل من النواحي العضوية والنفسية والاجتماعية، ولا يمكن أن تصلح حبة دواء تركيبة الإنسان النفسية، أو مشكلته الزوجية. ومن المتوقع ازدياد سوء استعمال الأدوية التي تعالج اضطراب الوظيفة الجنسية من قبل أشخاص لا يحتاجون إليها، مما قد يؤدي إلى مشكلات جديدة قد تكون خطرة، إضافة إلى القلق والإحباط، وإلى الاضطراب الجنسي.

2-اضطراب الهوية الجنسية عند المراهقين والأطفال:

يُسمع أو يُقرأ بين فترة وأخرى في كل مجتمعات العالم عن شاب تحول إلى فتاة بعد عملية جراحية، ويرافق هذه الأخبار تضخيمات إعلامية وآراء متنوعة مثيرة، كما قد يُرى بعض الذكور من الأطفال ذوي أشعار طويلة لا يمكن تمييز جنسهم من شكلهم أو تصرفاتهم. ومن الناحية الطبية النفسية هناك اضطراب نفسي سلوكي يسمى "اضطراب الهوية الجنسية" لا يكون فيه المريض (أو المريضة) راضياً عن هويته الجنسية الطبيعية التي ولد بها، وهو يحاول أن يتمثل باستمرار وبأساليب متعددة شكل الجنس الآخر وصفاته وسلوكياته، وهذا الاضطراب نادر عموماً، وهو يصيب الذكور أكثر من الإناث بعدة أضعاف.

 يبدأ هذا الاضطراب في سن مبكرة، من عمر سنتين إلى أربع سنين، فيميل الطفل الذكر إلى اللعب بألعاب الإناث مثل الدمى (باربي وغيرها)، والاهتمام بمظهر شعره وثيابه بما يشبه الإناث بالتسريحة والشرائط وغير ذلك، إضافة إلى تقليده حركات الإناث وأساليبهن وتصرفاتهن المتنوعة. أما الطفلة الأنثى التي تعاني هذا الاضطراب فتميل إلى الألعاب الجسدية الخشنة والمضاربات واللعب بألعاب الذكور مثل المسدسات والسيوف وغير ذلك، والظهور بمظهر ذكوري في الشكل والسلوك والاهتمامات. وجوهر هذا الاضطراب هو انحراف في تمثل الطفل لهويته الجنسية الطبيعية، وهو لا يتقبل جسده وأساليب السلوك العامة المرتبطة بجنسه، وهو غير راضٍ عن جسده وهويته الطبيعية، ويسعى باستمرار إلى تقليد الجنس الآخر وتمثل صفاته ورغباته وأساليبه. وفي مرحلة البلوغ والمراهقة والشباب يستمر الاضطراب في نسبة كبيرة منهم، وتزداد معاناتهم داخل الأسرة وفي المجتمع، ويلجأ بعضهم إلى استعمال أدوية هرمونية للتأثير في جسده ومظهره بما يتناسب مع شكل الجنس الآخر، كما يلجأ بعضهم إلى طلب تغيير الجنس جراحياً. وتزداد في هذه الفئة الخيالات الجنسية المثلية وكذلك الممارسات الجنسية المثلية.

الأسباب: ما تزال أسباب هذا الاضطراب غير واضحة، وتحدثت النظريات القديمة عن خلل هرموني، ولكن الدراسات الحديثة أثبتت عدم وجود اضطراب في مستوى الهرمونات الذكرية في حالات الأطفال أو الكبار الذكور الذين يعتقدون ويشعرون أنهم إناث، ومستويات هرمون الذكورة لديهم طبيعية عادة، وكذلك في حالات الإناث اللاتي يشعرن أنهن ذكور، ومستويات الهرمونات الأنثوية والذكرية ضمن الحدود الطبيعية عادة. وقد قالت إحدى النظريات بشأن عزلة الطفل أو الطفلة وعدم توافر أقران في أعمار مشابهة من الجنس نفسه مما يؤدي إلى نقص في تمثل الصفات والسلوكيات المناسبة لجنس الطفل. وتؤكد نظريات التعلم أن اضطراب الهوية الجنسية ينجم عن سوء تمثل للجنس الموافق، أو تناقض في التشجيع على التمثل الصحيح للجنس الموافق وعدم ثباته، ويبدو أن للأهل وللبيئة المنزلية الأولى شأناً مهماً في تطور نظرة الطفل عن نفسه وتمثله لهويته الجنسية الطبيعية على نحو صحيح وسليم. ويمكن للأهل أن يشجعوا سلوكاً جنسياً لا يتفق مع جنس الطفل، عندما يلعب الطفل الذكر بدمية أو يلبس ثوباً نسائياً أو حذاء نسائياً ويجد الضحكات الإيجابية والابتسامات ممن حوله فإن هذا السلوك قد يتكرر ويصبح سلوكاً مرغوباً فيه. وهناك تفسيرات عديدة لسلوك الأهل الخاطئ، منها بعض المعتقدات الشعبية المتوارثة والغريبة والمرتبطة بقضايا العين والحسد في حال الطفل الذكر؛ فيلجأ الأهل إلى إطالة شعره وإظهاره بشكل أنثوي خوفاً من الحسد. ويمكن للأم أن تسهم في اضطراب ابنها الذكر من خلال علاقتها الخاصة به؛ وهي تشجعه على أن يكون مثلها بدلاً من أن يشبه أباه بعلاقة اندماجية مَرَضيّة، وذلك بسبب الصراعات الزوجية والأسرية وتشكيل المحاور والجبهات داخل الأسرة. ومن الأسباب كذلك ابتعاد الأب عن الأسرة في حالات السفر المتكرر أو الانفصال أو غيره من الأسباب، وكذلك في ضعف شخصية الأب أو اضطرابه وإخفاقه المهني أو الاجتماعي مما يسيء إلى طريقة تمثله من قبل أبنائه الذكور؛ وطبعاً فإن الأساس الطبيعي لنمو الهوية الجنسية السليمة وتطورها هو تمثل النماذج الموافقة جنسياً بدءاً من الاسم إلى الشكل والمظهر والسلوكيات والاهتمامات والصفات العامة.

العلاج: يعتمد العلاج في حالات الأطفال على ضبط السلوك المضطرب ومنعه وعقابه، وعلى التوقف عن تشجيع السلوك المضطرب على نحو واضح وحازم من قبل الجميع في بيئته، كما يفيد أسلوب المكافأة والتشجيع المتكرر على السلوك الطبيعي المتناسب مع الجنس وعلى نحو تدريجي وفقاً لتفاصيل كل حالة. ومن الضروري التنبه للصراعات داخل الأسرة ومشكلات الأم النفسية والعملية، وتفيد الجلسات الأسرية للتخفيف من مشكلات الأسرة وتوجيه الجهود على نحو صحيح وبناء.

وفي الكبار يفيد العلاج النفسي والسلوكي في تعديل نظرة الفرد عن نفسه وفي تبنيه لهويته الجنسية الطبيعية وتمثل الجهود العلاجية نوعاً من إعادة التعلم تدريجياً، وينصح بمعالج رجل في حالة الشاب الذي يعاني من الاضطراب مما يسهم في تبنيه لصورة إيجابية متفهمة من الجنس نفسه، وفي حالة الشابة الأنثى ينصح بمعالجة أنثى مما يسهل عملية إعادة تمثل الهوية الجنسية الطبيعية.

وفي عدد من الحالات الشديدة يمكن إجراء عملية جراحية، ولكن بعد زيادة أعداد الحالات التي تم علاجها جراحياً لتغيير الجنس تبين أن هناك مشكلات نفسية واجتماعية كبيرة؛ منها ازدياد حالات الانتحار والاكتئاب لدى المرضى المتحولين جنسياً، وازدياد المشكلات الإدمانية ومشكلات الطلاق وغيرها، وبعضهم لم يستطع أن يتكيف مع جسده الجديد وطلب إعادته لوضعه السابق، وهو غير ممكن طبعاً بعد استئصال الأعضاء الجنسية الخارجية للذكر وتكوين أعضاء جسدية شبيهة بالأعضاء الأنثوية في حالات الذكور.

خلاصة:

مما لاشك فيه أن الوقاية خير من العلاج دائماً، وحالات اضطراب الهوية الجنسية الشديدة ليست سهلة في علاجها والتعامل معها. وهناك حالات مختلفة من عدم الثقة بالنفس من الناحية الجنسية في الجنسين وهي واسعة الانتشار ويجب التفريق بينها وبين اضطراب الهوية الجنسية؛ منها أن الشاب غير واثق برجولته وأنه غير جذاب للجنس الآخر، وأنه غير جميل أو قصير القامة أو غير ذلك من عقد النقص المرتبطة بالأمور الجنسية، وكذلك الفتاة التي تشعر أنها غير جميلة أو بدينة وأنها غير محبوبة، وكل ذلك مرتبط بالقلق الطبيعي الاعتيادي الذي يزداد في مرحلة المراهقة عادة، وربما يبدو للشاب (أو الشابة) أنه شاذ جنسياً في حال تعلقه وحبه شخصاً من مثل جنسه، أو إذا راودته خيالات شخصية غير مقبولة، وكل ذلك مفهوم واعتيادي ويحتاج إلى مزيد من الثقافة الجنسية الطبية وتعديل بعض الأفكار الخاطئة عن نفسه وبناء الثقة بالنفس والتطور الإيجابي للمهارات والقدرات الشخصية في مختلف الميادين.

ولابد من توضيح أن مشاعر القلق السابق ذكرها والأفكار المصاحبة لها حول الثقة بالنفس من الناحية الجنسية لا تدل على اضطراب مرضي في الهوية الجنسية، ولا تؤدي إلى عدم الرضا عن الجسد والرغبة في التحول إلى الجنس الآخر، والقلق هنا نسبي ولا يطال جوهر الهوية الجنسية. وهناك حالات الأشخاص الذين لديهم "اضطراب الشخصية الحدية" والذين يغيرون هوياتهم واهتماماتهم ونشاطاتهم بين فترة وأخرى، ويبدون وكأنهم يعانون "اضطراب الهوية الجنسية" مدة محددة، ولكنهم يتراجعون عن سلوكياتهم ويعودون إلى هوياتهم الجنسية الاعتيادية. كما يمكن لبعض الأشخاص من "الشاذين جنسياً" من الجنسين أن تظهر لديهم رغبات لتغيير ملامحهم وهويتهم الجنسية الجسدية ظناً منهم أنهم سيصبحون أكثر قبولاً من الجنس نفسه، وتخف هذه الرغبات عادة بين فترة وأخرى.

والجدير بالذكر أن المجتمع الحديث قد شهد تغيرات في تركيبته التقليدية وفي أنماط السلوك الذكوري والأنثوي وفي الأدوار المرتبطة بكل جنس، وهناك تغيرات في الشكل والملبس أصبحت شائعة ومقبولة مثل الشعر القصير وثياب «الجينز» للجنسين، ولكن لا يعني ذلك إغفال الفروقات ونقاط الاختلاف بينهما أو تركها غامضة أو مشوشة في المجال التربوي أو الاجتماعي، ومنها الهوية الجنسية الطبيعية والفروق الجنسية والشكلية بين المرأة والرجل التي لا يمكن تغييرها.

وأخيراً فإن الثقة بالنفس من الناحية الجنسية ترتبط بالثقة بالنفس عموماً، ولابد من تنمية هذه الثقة باستمرار والحفاظ عليها بما يسهم في المزيد من الصحة النفسية.

وفيما يلي عدد من النصائح النفسية التربوية العامة:

أ- تأكيد انتماء الطفل لجنسه بتشبيهه بالأب أو بالخال أو بالعم أو غيره من الذكور، وكذلك البنت بتشبيبها بأمها وغيرها من الإناث، وفي حال التشابه الكبير في الوجه أو البشرة أو العينين أو غير ذلك بين الذكر وأمه أو أخته لابد من إيجاد فروقات عنهن وتأكيدها، والبحث عن نقاط تشابه مع الأب وبقية الذكور في الشكل والجسد والسلوك، وكذلك الحال فيما يخص البنت التي تشبه أخاها الذكر أو أباها جسدياً.

ب- الابتعاد عن تشجيع كل ما يشوش تمثل الهوية الجنسية الطبيعية ولاسيما في مرحلة الطفولة مثل إطالة شعر الذكر أو تقصير شعر الأنثى على نحو كبير.

ج- تشجيع تمثل الطفل بالسلوك الموافق لجنسه باستمرار، ولابأس في الاكتشاف والتجريب والتعرف إلى الجنس الآخر وسلوكياته وتصرفاته وألعابه ضمن إطار حب المعرفة وتوسيع المدارك، ولابد من التنبه إلى خطورة السلوكيات الشاذة وضرورة ضبطها والابتعاد عنها في حال تكرارها واستمرارها.

د- مشاركة الطفل أو الطفلة في انتقاء الألعاب والهدايا والملابس، والتنبيه إلى مدلولاتها وارتباطاتها بالهوية الجنسية المناسبة.

هـ- التشديد على اختلاط الطفل بأقرانه والتعلم منهم، وأن الاختلاط بين الجنسين لا يعني اختلاط الهوية الجنسية وتشويشها، بل يعني التشابه في الحقوق والواجبات والتعلم المفيد عن الآخر.

3-الإثارة الجنسية الذاتية "العادة السرية" من النواحي النفسية:

تحاط الأمور الجنسية في المجتمعات الشرقية بالسرية والكتمان، ويجري الحديث عنها بلغة غامضة وتعبيرات غير مباشرة، كما أنها ترتبط بالجهل والخرافة ونقص المعلومات. في حين أن المعلومات الطبية الجنسية الصحيحة ضرورية كي يعرف الإنسان نفسه، والأعضاء الجنسية جزء من تكوين الجسد الإنساني، وهي تشبه باقي أعضائه في وظائفها الطبيعية وفي أمراضها المتنوعة، والمعلومات الطبية والعلمية الصحيحة تسهم في معرفة الإنسان نفسه ومكوناتها ورغباتها وبالتالي يُسهِّل ذلك فهمها والسيطرة عليها والعمل على ضبطها ولاسيما في ظروف تربوية وأخلاقية ودينية مناسبة.

ومما لاشك فيه أن درجة من الحرج والقلق قد تكون مصاحبة لعملية التثقيف الجنسي الصحي، وهذا طبيعي ومقبول نظراً لحساسية الموضوع ودقته واحتمال سوء فهمه من الآخرين، ولكن يستدعي ذلك مواجهة الموضوع بنضج ومسؤولية وثقافة علمية صحيحة من دون الهروب منه أو إغفاله.

تبين الدراسات الخاصة بالاضطرابات الجنسية نفسية المنشأ أن علاج هذه الاضطرابات يعتمد في جزء كبير منه على التثقيف الجنسي وإعطاء معلومات طبية وعلمية حول الوظائف الجنسية الطبيعية للإنسان، وعلى تعديل أفكار المريض عن مفهوم الأداء الجنسي وعن عدد من الأساطير الشائعة المرتبطة بالجنس وذلك بجلسات علاجية تثقيفية، إذ تسهم هذه المعلومات في تخفيف القلق الجنسي والشعور بعدم الاطمئنان في أثناء العمل الجنسي.

تعرف العادة السرية أو "الإثارة الجنسية الذاتية" من الناحية الطبية على أنها إثارة ذاتية للجسم بمداعبة المناطق الحساسة جنسياً ولاسيما الأعضاء الجنسية، مما يؤدي إلى ازدياد الإثارة تدريجياً ثم الوصول إلى قمة النشوة أو الرعشة الجنسية، ويصاحب ذلك عادة خيالات ذاتية جنسية متنوعة ثم متعة جسدية ولذة. وتتم الإثارة الذاتية عادة بوساطة الاحتكاك باليد أو بالسرير أو بالوسادة وغير ذلك، وقد تبدأ منذ سن مبكرة في أثناء الطفولة، وقد يكشفها الطفل  مصادفة بمداعبة الأعضاء الجنسية؛ إذ تترافق هذه المداعبات مع مشاعر لذيذة مما يؤدي إلى تكرارها، وهي تزداد في فترة المراهقة بسبب النضج الجنسي الطبيعي وازدياد مستوى الهرمونات الجنسية على نحو واضح. أما الاحتلام الليلي أو الأحلام الجنسية في أثناء النوم فهي نوع من الحلم الجنسي الذي يرافق النشوة الجنسية، ويصحو الإنسان وهو يتذكر شيئاً من هذا الحلم الجنسي أو لا يتذكره.

تعد الإثارة الجنسية الذاتية (العادة السرية) من النواحي الطبية وفي مختلف الدراسات الجنسية والنفسية ظاهرة طبيعية وليست مرضاً، وكذلك الاحتلام الليلي، وهي ظاهرة اعتيادية واسعة الانتشار في جميع المجتمعات، وهي تدل على ازدياد الإثارة الجنسية الفيزيولوجية التي تحتاج إلى التفريغ، ويتم ذلك عادة على نحو شخصي وذاتي وسري، وهي أقل ضرراً من النواحي الاجتماعية والأخلاقية من السلوكيات الجنسية الأخرى. وهناك كثير من الأوهام المرتبطة بالعادة السرية في أذهان العامة وفي أذهان الشباب والشابات في سن المراهقة وما بعدها؛ ومنها أنها تؤدي إلى ضعف النظر والعمى والعقم والجنون وغير ذلك، ويعدها بعضهم  مرضاً نفسياً يحتاج إلى العلاج ويطلب استشارة الأطباء للتوقف عنها نهائياً. والمشكلات المرتبطة بالإثارة الجنسية الذاتية متنوعة، وأكثرها شيوعاً:

أ- أن تعد مرضاً يجب التخلص منه وأنها خطيئة أخلاقية كبيرة تعادل الزنا؛ مما يجعل الشاب أو الشابة عرضة لصراعات نفسية وقلق مستمر، ويحسب بعضهم نفسه مريضاً أو غير أخلاقي مما يؤثر في ثقته بنفسه وتقديره لذاته ويهيئه فيما بعد لحالات اكتئابية أو خجل. وقد يسهم ذلك في اتخاذه سلوكيات جنسية منحرفة وغير مقبولة اجتماعياً أو أخلاقياً في المستقبل. ويتأثر بعضهم ببعض الأفكار الشائعة الخاطئة عن أضرار العادة السرية، كالاعتقاد أنها تؤدي إلى النسيان ونقص التركيز وضعف الجسد والهزال؛ مما يجعله متوتراً وقلقاً ويزيد في مشاعر النقص التي يحملها عن نفسه مما يؤثر في أدائه الدراسي أو العملي أو الاجتماعي.

ب- الإكثار من العادة السرية وممارستها عدة مرات في اليوم الواحد، ويدل ذلك على التوتر والقلق وعلى درجة من الإحباط وتعكر المزاج، إذ تقوم اللذة الجنسية هنا بدور علاج لهذه الحالات المزاجية السلبية من خلال اللذة المؤقتة. ومن المفهوم أن اللذة الجنسية قد تعدل المزاج وتحسنه وهذا معروف في كل المجتمعات؛ إذ تزيد الممارسات الجنسية بين الأزواج في أوقات الشدة والضغوط والأزمات الاجتماعية والمهنية والحياتية المتنوعة، ولكنها في حالات الشباب والمراهقين قد تؤدي إلى نقص المهارات في التعامل مع الحالات المزاجية السلبية، وإلى نقص في تطوير القدرات الذاتية والاجتماعية وإلى الانكفاء على النفس والعزلة. وفي عدد من الحالات الاكتئابية أو القلق العام التي تصيب الشباب وتترافق مع الإكثار من العادة السرية يتبين أنها تتطلب العلاج الطبي النفسي والدوائي الذي يهدف إلى السيطرة على القلق أو الاكتئاب أو التخفيف من أعراضهما.

ج- الخيالات الجنسية المنحرفة التي قد ترافق العادة السرية، مثل الخيالات الجنسية المثلية والخيالات الجنسية المرتبطة بالأطفال، والخيالات الجنسية المرتبطة بالمحارم من الأهل، والخيالات السادية أو المازوخية  أو التعلق بأشياء ورموز غير جنسية أو غير جسدية كالتعلق بالأقدام أو الألبسة الداخلية وغير ذلك، وفي هذه الحالات لابد من التوضيح أن الخيالات الجنسية عموماً قد تكون غريبة وعجيبة ومتنوعة على نحو كبير، ولا يسهل التحكم بهذه الخيالات وبظهورها، ولكنها تبقى خيالات ذاتية وشخصية وسرية في العالم الشخصي للفرد، ويبقى المهم والأساسي ضبط الخيالات وعدم ممارستها في الواقع العملي، وقد تكون كل هذه الخيالات عابرة ومؤقتة ولا تتكرر كثيراً، ولا يعني حدوثها أن الشاب قد أصبح منحرفاً أو مريضاً. وقد تتثبت في بعض الحالات مثل هذه الخيالات المنحرفة مما يطرح ضرورة العلاج النفسي الجنسي مبكراً.

د- الأوهام والأساطير المرتبطة بالأداء الجنسي العام التي ترافق ممارسة الإثارة الجنسية الذاتية (العادة السرية) مثل أهمية الجاذبية الجنسية وجمال الوجه والجسد، وأهمية حجم القضيب عند الذكر، ودرجة الانتصاب وشدته، وعدد مرات الوصول إلى الرعشة الجنسية في اللقاء الواحد، وأهمية الوصول إلى الرعشة الجنسية في الوقت نفسه بين الزوجين، وغير ذلك، وتسهم هذه الأوهام في نشوء الاضطرابات الجنسية المتنوعة كضعف الانتصاب وعدم الثقة بالنفس من النواحي الجنسية وضعف الرغبة الجنسية في الجنسين والمخاوف الجنسية المتعددة وقلق الأداء الجنسي، والانحرافات الجنسية، وغير ذلك. وهي تسهم أيضاً في نشوء اضطرابات نفسية متعددة مثل القلق والاكتئاب والرهاب الاجتماعي وغيره، إضافة إلى إسهامها في نشوء اضطرابات الشخصية واضطرابات التكيف الاجتماعي والنفسي، ولابد من تعديل هذه الأوهام والأفكار الخاطئة الشائعة بالاطلاع والتعلم، أو باستشارة الاختصاصيين في الطب الجنسي أو النفسي.

أخيراً لابد من الإشارة إلى أن بعض الشخصيات المنحرفة أو الجانحة قد تمارس العادة السرية على نحو علني أو بإشراك أشخاص آخرين، وهذا طبعاً سلوك منحرف يحتاج إلى العقاب والضبط، كما أن بعض حالات الفصام المبكرة قد ترافق الإكثار من العادة السرية بسبب اضطراب التفكير أو غرابته أو العزلة الاجتماعية. وفي حالات التخلف العقلي بمختلف درجاته تكثر ممارسة الإثارة الجنسية الذاتية على نحو متكرر أو على نحو فاضح من دون الانتباه إلى وجود الآخرين؛ مما يستوجب التوجيه والتدريب والضبط المتناسب مع هذه الحالات.

خلاصة:

أصبحت المكتبة العربية في الوقت الحالي غنية بمؤلفات جادة تثقيفية في القضايا الجنسية، وكثير من المؤلفين هم من الأطباء الاختصاصيين، كما تحتوي المجلات الطبية المتنوعة على موضوعات تثقيفية جنسية مفيدة، وكذلك القنوات الفضائية المختصة ببرامج جادة أو حوارية أو تعليمية وكذلك مواقع الإنترنت الجادة. ولكن يتبين على نحو عملي أن المصادر الشائعة للثقافة الجنسية تعتمد على نحو واضح على الأفلام والصور الإباحية أو نصف الإباحية في أفلام السينما والفيديو التي تهدف أساساً إلى الإثارة والربح، وهي ممنوعة بنسب متفاوتة في معظم المجتمعات، ولكنها تبقى مصدراً خطراً للثقافة الجنسية.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن الجهل والتخويف قد يؤديان إلى مشكلات متنوعة جنسية واجتماعية وأخلاقية، وأن المعرفة تخفف من القلق وتساعد على الضبط وفهم الطفل أو المراهق لنفسه وأعضائه، ويمكن أن تجنبه أمراضاً ومشكلات كثيرة. ولابد للمجتمع من طرح موضوعات الثقافة الجنسية الصحية المتنوعة وإغنائها، وموضوعات الملل الجنسي بين الأزواج وكيفية التعامل معه، وموضوعات الإيذاء الجنسي ومشكلاته، وغير ذلك من الموضوعات، مما يسهم في رفع مستوى الوعي العام الأسري والتربوي والنفسي في المجتمع الكبير، وعند الأطفال والمراهقين والشباب أنفسهم، بغية الحد من المشكلات الجنسية والنفسية المتعددة من دون مبالغة أو إهمال.

4-الإيذاء الجنسي للأطفال:

إيذاء الأطفال جنسياً (ذكوراً أو إناثاً) ظاهرة ليست نادرة، وهي ظاهرة مغلقة ومقلقة يلفها الصمت والحذر والكتمان، وهي تصدم الذوق العام والحس السليم، يختلف "الإيذاء الجنسي" عن "اللعب الجنسي" بين الأطفال أنفسهم في أعمار متقاربة، وهو لا يعد من الناحية النفسية والقانونية إيذاءً مع أنه يسبب قلقاً وانزعاجاً للأهل، ويحتاج طبعاً إلى الضبط والتعديل، ولكنه ليس سلوكاً خطراً إذا كان عابراً.

والإيذاء الجنسي للأطفال يشمل ممارسة عدد من السلوكيات بين البالغ والطفل، مثل التحرش الجنسي بالطفل بملامسته أو مداعبته أو إجباره على ملامسة المتحرش به ومداعبته، وقد يصل الإيذاء الجنسي إلى علاقة جنسية كاملة مع الطفل أو الطفلة. وتستخدم عادة أساليب التودد والترغيب والملاطفة للطفل للوصول إلى التحرش والممارسة الجنسية، مثل إعطاء الهدايا والنقود وغير ذلك، كما تستخدم أساليب الترهيب والتهديد والإجبار المتنوعة، ويستعمل المعتدي أسلوب التخويف والتهديد بالانتقام للتأثير في الطفل ومنعه من إفشاء السر والكشف عن الاعتداء للأهل والآخرين. وتدل الدراسات الغربية على أن نسبة كبيرة من المعتدين على الأطفال هم من الأشخاص الذين يعرفون الطفل مثل الأهل (أب، أخ، عم، خال، زوج الأم، وغيرهم) ويسمى ذلك "زنى المحارم أو سفاح القربى"، وكذلك من الجيران وأصدقاء الأسرة والعاملين في المنزل، وهو ما يسهل للمعتدي التقرب من الطفل وإيذاءه، والنسب الأقل من حالات الإيذاء تحدث مع الغرباء عن الطفل. وفي بعض الإحصائيات العربية تتقارب نسب المعتدين من الأقارب والغرباء وقد تزيد نسبة الغرباء، ولا يمكن الاعتداد بهذا على أنه حقيقة واقعية بسبب التكتم الشديد المرتبط بحالات الإيذاء من قبل الأهل وصعوبة الكشف عنها واكتشافها.

تزداد نسبة تعرض الفتيات للإيذاء في سن 4-5 سنوات، وتستمر الزيادة إلى سن البلوغ وما بعده، ويزداد إيذاء الأطفال الذكور في بعض البيئات الصحراوية، وهناك اختلافات متعددة في نسب الحدوث والسن الحرجة وفقاً لبيئة المدينة أو الريف أو البادية أو المجتمع. ويحدث الإيذاء في الأسر الاعتيادية وعندها تحدث ممانعات كبيرة وجهود متنوعة لإخفاء ذلك وإنكاره، ويزداد كشف حالات الإيذاء في البيئات الفقيرة، والأسر المفككة، واليتامى، وفي أوساط المهجرين، وبيئات السكن العشوائي، والمشردين والمتسولين والأطفال العاملين (عمالة الأطفال)، والأطفال المتخلفين عقلياً. وفي الأسرة الواحدة قد يصيب الإيذاء أكثر من طفل، وقد يرتبط الإيذاء الجنسي بالإيذاء الجسدي للطفل نفسه وإخوته أو للأم من قبل الأب أو الأخ.

وتتعدد الأسباب التي تسبب الإيذاء، منها ضعف القيم وعدم ضبط النفس والسلوك الاندفاعي والانحراف والشذوذ النفسي والشخصي، والتعرض للإيذاء في مرحلة الطفولة، وصعوبات التكيف الاجتماعي ونقص المهارات الاجتماعية وضعف القدرة على تكوين الصداقات والتواصل مع الآخرين، وغير ذلك. ويعد إيذاء الأطفال سلوكاً إجرامياً مضاداً للمجتمع ولاسيما إذا كان متكرراً، وتختلف قوانين العقوبات من بلد إلى آخر، والعقوبات على نحو عام شديدة تصل في سورية إلى 15 سنة سجناً مع الأشغال الشاقة في بعض الحالات. ويشجع الصمت وخوف الفضيحة على استمرار الجاني بفعلته، ولابد من وجود هيئات اجتماعية ومؤسسات وقوانين تحمي الأطفال الذين يتعرضون للإيذاء الجنسي وترعاهم.

وتشمل ردود الفعل النفسية عند الأطفال بعد حدوث صدمة الإيذاء الجنسي القلق والأرق والشعور بالذنب والبكاء والكوابيس والخوف الشديد وتذكر الصدمة في المرحلة التالية لها مباشرة، وقد تستمر هذه الأعراض أو بعضها فترات زمنية متفاوتة، كما قد تؤدي على المدى البعيد إلى الانعزال والانطواء والابتعاد عن النشاطات الرياضية والاجتماعية والخجل، وقد تؤدي إلى اضطرابات في الشخصية وإلى الاكتئاب والقلق والمخاوف المرضية والرهاب الاجتماعي والاضطرابات الانشقاقية والسلوك الإدماني ومحاولات الانتحار وغير ذلك. وهناك آثار مرتبطة بالسلوك الجنسي مثل الابتعاد عن الجنس وضعف الرغبة الجنسية والبرود الجنسي، والعفة الجنسية الزائدة والابتعاد عن الزواج ورفضه وتأخيره والتذرع بمختلف الحجج لتسويغ ذلك. وفي المقابل قد تؤدي صدمة الإيذاء الجنسي إلى اهتزاز القيم المرتبطة بالجنس وإلى الإباحية الجنسية وتعدد العلاقات الجنسية عند المرأة، وقد تكون صدمة الإيذاء الجنسي عند الرجل مقدمة للشذوذ الجنسي ولاسيما إذا كانت متكررة.

وتزداد الآثار السيئة النفسية والسلوكية المرتبطة بصدمة الإيذاء الجنسي وفقاً لشخصية الطفل والبيئة الخاصة التي ينمو فيها، ووفقاً لشدة الإيذاء وتكراره وظروفه وطريقة التعامل مع الصدمة، ومن الممكن طبعاً تجاوز الصدمة من دون خسائر كبيرة ولكنها تبقى ذكرى مؤلمة ومزعجة لسنوات طويلة، وقد يؤدي الإيذاء الجنسي إلى أضرار جسدية وجروح ونزوف وكسور وأمراض جنسية، وقد يؤدي إلى الموت.

وفيما يلي بعض التوجيهات العامة الوقائية:

أ- ضرورة تثقيف الطفل وإعطائه بعض المعلومات المبسطة حول التحرش الجنسي وتدريبه على التصرف على نحو ناجح، كأن يصرخ أو يهرب من الموقف، وأن يبتعد عن أماكن الشبهات والأماكن البعيدة مثل سطح المنزل والأماكن المظلمة، وعن الغرباء، وغير ذلك.

ب- تعليم الطفل والطفلة وتشجيعهما على الحديث عن أي سلوكيات مشبوهة قد يتعرضان لها، والتي قد تتطور إلى إيذاء جنسي، ويقي هذا من حدوث الإيذاء قبل وقوعه.

ج- ضرورة أخذ كل حادثة إيذاء بعد وقوعها بحجمها وتفاصيلها من دون تضخيم أو تخفيف، مع تقديم الشروحات والدعم النفسي الكافي من دون إلقاء اللوم على الطفل نفسه، وضرورة معاقبة الطرف المعتدي بالعقاب الذي يستحقه؛ مما يقلل من الآثار السيئة التي قد تنجم عن هذا الإيذاء.

د- ضرورة طرح موضوعات الإيذاء الجنسي ومشكلاته إعلامياً وتربوياً، وضرورة الحديث عن هذه الأمور المؤلمة من دون إخفائها والتستر عليها مما يسهم في رفع مستوى الوعي العام الأسري والتربوي والنفسي في المجتمع الكبير حتى عند الأطفال أنفسهم ضمن إطار منطقي وعملي يسعى إلى الوقاية والعلاج ويسعى إلى الحد من هذه المشكلات من دون مبالغة أو إهمال.

سادساً- الطب النفسي المهني:

المهنة والاضطرابات النفسية المرتبطة بها:

يبدو أن المهنة التي يمارسها الإنسان تؤثر في شخصيته وأساليبه وتفكيره، وتؤثر كذلك في أمراضه واضطراباته الجسدية منها والنفسية. ومن المعروف أن هناك "أمراضاً مهنية" يتعرض لها الأشخاص الذين يمارسون مهنة محددة بنسب تفوق معدلات هذه الأمراض عند عموم الناس؛ فيتعرض العاملون في المواد الكيميائية وعمال المناجم مثلاً لأمراض تنفسية انسدادية وسرطانية واعتلالات في الكبد والكلية والدم وغيرها بسبب الغازات والغبار الذي يتعرضون له في أثناء عملهم، وتزداد الإصابات الجسدية والجروح والخلوع والكسور لدى فئات الرياضيين المحترفين، كما أن هناك إصابات دماغية عصبية خاصة تكثر في الملاكمين punch-drunk syndrome، ويتعرض أطباء الأسنان لإصابة بالتسمم الزئبقي بسبب الحشوات المعدنية amalgam المستعملة يومياً (وأصبحت هذه الحشوات أقل استعمالاً هذه الأيام بسبب مخاطرها المحتملة، واستبدلت بها الحشوات البيض غير المعدنية)، وهناك أمثلة أخرى كثيرة من الأمراض المهنية في المهن الأخرى. والحقيقة أن معدل إصابة الإنسان بمختلف الأمراض الجسدية والنفسية له ارتباطات بعدد من العوامل العامة مثل العمر والجنس والعرق والوراثة، والعوامل البيئية والطبيعية التي يعيش فيها (ريف-مدينة-جبل-ساحل-صحراء)، والبيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها (طبقة-مهنة-دين-عادات-تقاليد-ثقافة)، وأخيراً التكوين النفسي والتربوي والشخصي الذي يتميز به. وفي الممارسة الطبية اليومية من الضروري الإلمام بمعلومات عامة عن المريض تشمل النقاط السابقة إضافة إلى المعلومات الخاصة بالمرض؛ مما يسهم في تفهم الحالة المرضية على نحو صحيح، كما يساعد على وضع التشخيص الصحيح السريع.

ملاحظات ودراسات وصعوبات:

يتبين في ميدان الأمراض والاضطرابات النفسية المتنوعة ومدى علاقتها بالمهنة عدد من الملاحظات العامة في الدراسات الغربية حولها. ويمكن القول إن هناك اختلافاً واضحاً في ميدان الطب النفسي عن ميادين الطب الأخرى في موضوع الأسباب المرضية وتحديدها، وما يزال الغموض يكتنف كثيراً من أسباب الاضطرابات النفسية، والنظرة العامة المتوازنة تؤكد وجود عوامل بيولوجية ونفسية واجتماعية biopsychosocial في ظهور الاضطرابات النفسية وتطورها، وللعوامل البيولوجية والكيمياوية والوراثية شأن حاسم في بعض الاضطرابات، وفي بعضها الآخر تبرز أهمية الأسباب النفسية والاجتماعية في ظهور المرض أو في شدته واستمراريته. ومن المفيد معرفة أهمية العوامل الاجتماعية (ومنها المهنية) في تأثيرها في نسبة حدوث اضطراب نفسي محدد أو شدته أو سيره، مما يفتح المجال لوضع خطط واضحة تسهم في الوقاية من الاضطرابات أو التخفيف من شدتها وآثارها. ومما لاشك فيه أن صعوبات كبيرة تواجهها هذه الدراسات؛ يعود بعضها إلى صعوبات نظرية وعلمية، ويعود بعضها إلى صراعات اقتصادية واجتماعية تتعلق بتركيبة المجتمع وفئاته ومصالحه المتناقضة، كما أن "الوصمة" stigma السلبية المرتبطة بالاضطرابات النفسية والتي ما تزال واسعة الانتشار في معظم المجتمعات تسهم في صعوبة إجراء الدراسات على أصحاب مهنة محددة لمعرفة مدى صحتهم النفسية واضطراباتهم، إذ يشترط في ممارسة معظم المهن -على نحو صريح أو ضمني- خلو المتقدم للمهنة من أي سجل لأي اضطراب نفسي، ولا يتناسب هذا مع الحياة الواقعية والعملية ومع انتشار الاضطرابات النفسية بمختلف درجاتها وأنواعها.

تفاصيل عن الاضطرابات النفسية والمهن:

دلت عدة دراسات على زيادة نسبة انتشار مرض الفصام في "الطبقات الاجتماعية المتدنية"، وبالتالي في مهن خاصة وأعمال ذات مردود مالي أقل مقارنة بين المرضى وآبائهم، ولا يعني هذا أن الفقر يسبب الفصام، بل إن المرض نفسه يؤدي إلى تدهور الشخصية وقدراتها وطموحها مما يجعل المرضى المصابين يتدهورون في السلم الاجتماعي والمهني. ومن جهة أخرى قد تسهم الحوادث الحياتية - ومنها الفقر والبطالة والخسائر المادية - في ظهور الفصام عند من يحمل استعدادات عضوية أو كيميائية أو وراثية، أو أنها تسهم في انتكاسة المرض أو إزمانه. وينتشر اضطراب المزاج ثنائي القطب في الطبقات الاجتماعية العليا، مثل التجار ورجال الأعمال وغيرهم، وقد يكون ذلك بسبب ازدياد النشاط والتفاؤل والطموح وروح المغامرة والثقة بالنفس والسلوك الاجتماعي الواسع الذي يميز بعض مراحل هذا الاضطراب ولاسيما الدرجات الخفيفة منه. ويرتبط الانتحار بالطبقات الاجتماعية المتدنية بنسب مشابهة للطبقات الاجتماعية العليا، ويقل في الطبقات الاجتماعية المتوسطة، ويتبين ذلك من خلال "المهن الموازية لهذه الطبقات". وفي "المهن الطبية" يزداد عدم التوافق الزوجي والطلاق والاكتئاب، وتبلغ نسبة الانتحار أعلاها في الأطباء المختصين بالتخدير، ثم يليهم أطباء العيون ثم الأطباء النفسيون وفقاً لبعض الدراسات. وتتعدد تفسيرات ذلك، منها النصيب الأقل من التقدير والمكافأة الذي يحظى به طبيب التخدير مقارنة مع الطبيب الجراح في العمليات الجراحية الناجحة، مع تحمله العبء الأكبر في العمليات الفاشلة، وفي تفسيرات أخرى أن المواد المستعملة في التخدير قد تزيد في نسبة الاكتئاب في المخدرين. وفي "المهن الأدبية الإبداعية" تزداد نسبة الاضطرابات الاكتئابية على نحو واضح مقارنة مع مجموع السكان، وتشمل هذه المهن كتاب الرواية والقصة والمسرح والشعراء، في حين تتقارب نسبة النوبات الاكتئابية الشديدة لدى العلماء والسياسيين والمؤلفين الموسيقيين والرسامين من النسب العامة للاكتئاب في المجتمع، وتتعدد تفسيرات ذلك؛ منها طبيعة العمل الإبداعي الأدبي نفسه من حيث الحساسية الخاصة التي يمتلكها الكتاب لأشكال المعاناة المختلفة، وتماهيهم مع شخصيات أعمالهم، وتعرضهم لأنواع الإحباط frustration المختلفة، والاستعداد الشخصي وغير ذلك. ويزداد حدوث الهوس وتحت الهوس ودورية المزاج لدى العاملين في المهن الصحفية والإعلامية. وتدل الدراسات على زيادة عدد المصابين بالفصام والإدمان على الكحول وغيره بين المشردين والمتسولين، كما أن المهن اليدوية التي لا تتطلب مهارات خاصة - مثل الرعي والأعمال العضلية المساعدة والأعمال المنزلية - يزداد فيها الأشخاص ذوو الذكاء المنخفض والفصام والاكتئاب. وفي عدد من الدراسات على ربات البيوت تبين أن الاكتئاب لديهن أكثر مقارنة مع النساء اللواتي يعملن خارج المنزل. كما تدل معظم الدراسات الغربية وعدد من الدراسات العربية على أن العمل على نحو عام يسهم في تحسين الصحة النفسية لما يحققه العمل من الاستقلالية وتحقيق الذات وازدياد السيطرة على الحياة والمستقبل من النواحي الاقتصادية والشخصية. وتزداد اضطرابات التحويل الهستريائية والاضطرابات التجسيدية لدى الأشخاص ذوي الثقافة التعليمية المتدنية، وبالتالي في المهن والأعمال الموازية لذلك، ويندر الاضطراب الوسواسي القهري في المهن الأدبية الإبداعية، وقد يزداد في المهن الدينية، ويزداد الاضطراب الضُلَالي لدى أسرى الحرب وفي السجون ولاسيما في حالات السجن الانفرادي. وتزداد الجنسية المثلية لدى الرجال الذين يمارسون المهن المرتبطة بميادين عمل المرأة مثل الخياطة وإعداد الطعام وتزيين الشعر وغير ذلك، وأيضاً في نزلاء السجون وطلبة المدارس الداخلية من الجنسين، ويزداد الإدمان على الكحول في "المهن البحرية" التي تتطلب أسفاراً طويلة، ولدى موظفي الفنادق وأماكن اللهو والحانات حيث يتوافر الكحول باستمرار، إضافة إلى عدد من المهن الخطرة والعسكرية وغير ذلك، كما يزداد سوء استعمال المنشطات وإدمانها لدى فئات الطلبة والسائقين وغيرهم. ويزداد التمارض (ادعاء المرض) في المهن العسكرية ولاسيما في أثناء الحروب وفي نزلاء السجون، كما أن "إصابات العمل" في عدد من المهن العضلية والحرفية قد تؤدي إلى اضطراب نفسي يتميز بشكاوى جسدية ونفسية وآلام ترتبط بالإصابة العضوية الأصلية ولكن لا تتناسب معها في شدتها أو إزمانها، ويسمى ذلك "عصاب التعويض" compensation neurosis، وهو يرتبط باحتمال الحصول على تعويض مالي بسبب الإصابة الأصلية. وقد يكثر حدوث اضطراب الكرب التالي للرضح في مهن مختلفة بعضها اعتيادية وبعضها من المهن الخطرة والعسكرية. أما القلق والرهابات فواسعة الانتشار في مختلف الفئات والمهن، ومن المؤكد أن العصر الحديث وإيقاعه السريع وتغيراته وقيمه ومشكلاته و"مهنه الشائعة" بظروفها وشروطها ومتطلباتها  الخاصة والاجتماعية لها شأن في هذا الانتشار، كما أن الإحباطات والحرمان والصدمات العامة المرتبطة بالمهن المتنوعة لها أثر في حدوث القلق والمخاوف وفي استمرارها، وهناك طبعاً مهن مهيئة للقلق أكثر من غيرها، وتبقى الأمور نسبية وافتراضية تخمينية، ولا يعني ذلك إهمال بحثها ومحاولة تعديل ما يمكن تعديله وإصلاحه.

وفي مجموعة أخرى من الاضطرابات النفسية هناك الاضطرابات التي تسمى اضطرابات الإحكام (أو التأقلم) adjustment disorders، وهي بالتعريف ناجمة عن سوء التكيف مع ظروف محددة تتميز بالتوتر والشدة (ولكن ضمن حدود متوسطة وليست استثنائية أو نادرة)، ومن الناحية السريرية تطلق هذه الاضطرابات على الشكاوى التي يبديها الأشخاص في ظروف مهنية صعبة، أو حين البدء بعمل ما، أو حين الانتقال إلى ظروف جديدة في مجال العمل أو غيره من العلاقات الزوجية أو الشخصية أو المهنية، ومن المفهوم والواضح أنه كلما زادت صعوبات المهنة وظروفها القاسية زادت هذه الاضطرابات النفسية انتشاراً.

أسئلة أساسية:

وهنا لابد من العودة إلى جوهر العلاقة بين الاضطرابات النفسية والمهنة، حيث تبرز الأسئلة التالية التي تحتاج إلى المزيد من البحث والدراسة:

1-ما شأن "ضغوط المهنة" ودرجة تأثيرها في نشوء الحالات النفسية؟

2-هل تؤدي المهنة بذاتها وطبيعتها إلى تغير في الشخص الذي يمارسها على نحو يؤدي إلى تكوين أساليب وعادات مرضية في التفكير والانفعال والسلوك؟

3-هل يحمل الإنسان معه إلى مهنته ميولاً واستعدادات خاصة وصفات في الشخصية تهيؤه فيما بعد إلى ظهور الاضطراب النفسي؟

4-هل تكمن الحقيقة في مزيج من هذه المحاور الثلاثة السابقة وبدرجات متفاوتة؟

الشخصية والمهنة:

ومن الجوانب الأخرى لموضوع المهنة والاضطرابات النفسية اضطرابات الشخصية المرتبطة بالمهنة، وتدل الملاحظات على أن مهنة "المحاسبة" مثلاً تتطلب الدقة وتطور القدرات الحسابية إضافة إلى الدأب والبرود الانفعالي والتأني، وهكذا يتبين أن صفات الشخصية الوسواسية المرضية يكثر انتشارها في هذه المهن؛ إذ تتضخم الصفات الشخصية الطبيعية على نحو مبالغ فيه لتصل إلى الحدود المرضية. كما أن الموظفين في الأعمال الكتابية المنوالية (والأرشيف) يتميزون بالصفات الوسواسية والإفراط في النظام والترتيب والعناد وضيق الأفق والمنوالية (البيروقراطية). وفي "المهن الإدارية وأرباب الأعمال" تنتشر الشخصية من النمط أ type A personality التي تتميز بالتوتر والحدة الانفعالية والإحساس المفرط بالوقت والطموح الزائد والرغبة بالإنجاز والتنافس الشديد. وفي "الأعمال العسكرية والأمنية" تزداد صفات العدوانية والشدة والمغامرة والاندفاعية والشك. وفي مهنة التمثيل تزداد القدرات والقابلية الإيحائية suggestibility ما يساعد على تقمص الممثل أو الممثلة للدور الذي يقوم به، وتزداد لديهم أيضاً صفات النرجسية وحب الظهور، ومثلهم في ذلك المغنون. وتتطلب المهن العلمية والبحث العلمي درجات من الانطوائية والبرود الانفعالي والتفكير الذاتي والصبر والمثابرة. وفي المهن الرياضية تزداد صفات الاستعراض الجسدي والتنافس والعدوانية والنرجسية.

الشخصية وسوق العمل:

بينت الدراسات أهمية صفات الشخصية وميولها وقدراتها ومدى ملاءمتها لمهنة معينة واستبعاد مهن أخرى لا تلائمها؛ مما أسهم في تطوير قياس الشخصية واختباراتها، وفي ظهور مختصين ومراكز للتوجيه النفسي المهني، وتم تطبيق ذلك بنجاح في سوق العمل والجامعات والمعاهد الفنية وغيرها؛ مما يعني أن ممارسة الشخص لمهنة تتناسب مع قدراته وصفاته تعد أساسية في نجاحه وتكيفه المهني وفي صحته النفسية أيضاً.

والحقيقة أنه نظراً لتغيرات سوق العمل وانتشار البطالة والاضطرار إلى ممارسة أي عمل متوافر واجهت النظريات والدراسات المتعلقة بالشخصية والاضطرابات النفسية والمهنة صعوبات إضافية في فهمها للاستعدادات والقدرات المرضية والتكيفية على حد سواء؛ مما أدى إلى تغير النتائج وتناقضها في بعض الأحيان، مثلاً إن التنقل من مهنة إلى أخرى مع وجود فترات من البطالة أصبح جزءاً طبيعياً ومألوفاً من الصورة العامة للقوانين الاقتصادية السائدة في العصر الحديث، ويحدث ذلك في كثير من الحالات على نحو إلزامي وليس اختيارياً من قبل الفرد، في حين يعد المفهوم النفسي التقليدي أن تغيير المهنة باستمرار يدل على الفصام أو الهوس، أو أنه دليل على وجود صفات الشخصية المضادة للمجتمع.

ضرورة التأسيس للطب النفسي المهني:

وأخيراً لابد من تأكيد ضرورة الاستفادة من قضايا التوجيه المهني النفسي وتطبيقاتها في البلاد العربية، وضرورة دراسة "المهنة" وظروفها وعلاقتها بالاضطرابات النفسية المتنوعة في الواقع العملي، والاستفادة من الدراسات في هذا المجال من دون تعميمات خاطئة أو متسرعة، ولابد من تعاون المهتمين والمسؤولين في هذا الميدان مع الاختصاصيين من أطباء نفسيين ومختصين في علم النفس الصناعي المهني، إضافة إلى غيرهم من الخبراء والمستشارين من أجل تقديم الخدمات النفسية العلاجية والإرشادية اللازمة والمناسبة، والقيام بإجراء الدراسات والأبحاث والندوات وتبادل المعلومات والخبرات في هذا الميدان المهم. ويبقى هذا المجال حيوياً ومشوقاً ومفتوحاً للمساهمة في تطوير ميدان الطب النفسي المهني والوقائي الذي ما يزال في مرحلة البدايات الأولى.

 

 

 


التصنيف : الأمراض النفسية
النوع : الأمراض النفسية
المجلد: المجلد العاشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 83
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 487
الكل : 31665143
اليوم : 19725