logo

logo

logo

logo

logo

الفحص والتشخيص في الطب النفسي

فحص وتشخيص في طب نفسي

psychiatric examination and diagnosis - dépistage et le diagnostic en psychiatrie



الفحص والتشخيص في الطب النفسي

محمد أديب

اضطرابات المزاج

الفحص الطبي النفسي

اضطرابات الإدراك

القصة المرضية النفسية

اضطرابات التفكير

فحص الحالة العقلية

التشخيص في الطب النفسي

القياس في الطب النفسي

 

الطب النفسي هو الاختصاص الطبي الذي يهتم بدراسة اضطرابات الوظائف العقلية ومعالجتها، وتتظاهر هذه الاضطرابات بأعراض وعلامات تُكشف على نحو منهجي في أثناء الفحص الطبي النفسي (أو المقابلة الطبية النفسية)، ثم ترتب الأعراض والعلامات المكتشفة في متلازمة أو متلازمات تمكن من تشخيص الحالة بحسب أحد أنظمة التشخيص المستعملة في ممارسة الطب النفسي، ويشتمل هذا الفصل على تعريف بالنقاط الأساسية للفحص الطبي النفسي وشروط القيام به وكيفية ذلك، يليه سرد لأهم الأعراض والعلامات النفسية، ثم تعريف بتصنيف الاضطرابات النفسية بحسب التصنيف العالمي للأمراض وهو أحد أهم الأنظمة المستخدمة في تشخيص الاضطرابات النفسية وتصنيفها.

الفحص الطبي النفسي:

الفحص الطبي النفسي (أو المقابلة الطبية النفسية) psychiatric interview هو أساس التشخيص النفسي لأنه يتضمن جمع المعلومات ودراسة حالة المريض الفكرية والعاطفية، إضافةً إلى تأسيس علاقة مع المريض يستفاد منها علاجياً فيما بعد. ويهدف الفحص الطبي النفسي إلى جمع المعلومات عن المريض ومرضه على نحو يمكِّن من وضع خطة (استراتيجية) لعلاج حالته وللتعامل مع مشاكله واحتياجاته التي قد لا تكون كلها طبية ولكن لها أهمية قصوى في تدبير حالته. والفحص الطبي النفسي هو حدثية حركية «ديناميكية» تبدأ حين مقابلة المريض للمرة الأولى ولكنها لا تنتهي بنهاية تلك المقابلة. ويجدر التذكير بأن المريض النفسي لا يختلف عن غيره من المرضى، وقد لا يأتي بشكاوى نفسية، بل قد يراجع أي عيادة طبية وأي قسم من أقسام المستشفى العام بما في ذلك قسم الإسعاف، لذلك من الضروري أن يكون لدى كل الأطباء من الاختصاصات كافة المقدرة على تمييز الاضطرابات النفسية في مرضى العيادات، وفي مرضى المستشفيات، ومراكز الرعاية الصحية الأولية، وفي الرعاية الصحية التخصصية، إذ تكشف أعراض نفسية في نسبة مرتفعة من المرضى الذين يراجعون العيادات الطبية أو الذين يقبلون في المستشفيات العامة، وكثيراً ما يراجع المرضى النفسيون اختصاصيين من اختصاصات طبية أخرى بسبب طبيعة أعراضهم (فألم أسفل الظهر مثلاً شائع في الاكتئاب) أو بسبب تفسيرهم لما يعانونه من أعراض نفسية على أنه نتيجة خلل جسدي ما، أو بسبب توقعاتهم من الرعاية الطبية إذ قد يعتقدون أن حل مشاكلهم يكمن في تقوية جسدهم على نحو عام، ويؤدي عدم تشخيص الاضطراب النفسي في مثل هؤلاء المرضى إلى تعريضهم لاستقصاءات غير ضرورية، وإلى علاجات غير مجدية، في حين تهمل في الوقت نفسه حالة قابلة للعلاج.

يعاني الطب النفسي في سورية وفي غيرها من الدول العربية شحَّ (الكوادر) والمؤسسات، مما يصعب معه طلب استشارة نفسية لكل مريض ويوجب على الأطباء كافة اكتساب مهارة في الفحص الطبي النفسي الذي يهدف كما في فروع الطب الأخرى إلى وضع التشخيص أي تحديد المشكلة وتسميتها من وجهة نظر طبية، ولكن مع الانتباه لأن التشخيص وحده غير كاف في الطب النفسي بل لابد من محاولة فهم معاناة المريض من وجهة نظره هو. ففي حين يُتوقع في الممارسة الطبية تطابق وجهة نظر الطبيب ووجهة نظر المريض حول طبيعة شكاواه - كالسعال أو وجع الصدر - فإن هذا التطابق قد لا يتوافر في الممارسة الطبية النفسية، فقد يعتقد المريض مثلاً أنه مسكون بالجن الذين يمنحونه قوة عظيمة في حين يرى الطبيب أن المريض مصاب بهجمة هوسية تحتاج إلى علاج نوعي مناسب، لذلك فإن الفحص الطبي النفسي يجب أن يأخذ بالحسبان وجهة نظر المريض بغية العمل على كسب ثقته وتعاونه وعلى مناقشة الخطة العلاجية معه. وكما في بقية الاختصاصات الطبية فإن التشخيص هو أساس المعالجة العقلانية المجدية، لذلك من المهم وضع أدق تشخيص ممكن عن طريق الفحص الطبي النفسي الشامل الذي لا يقتصر على الفحص السريري بل يتضمن أيضاً تقييم بقية أوجه حياة المريض التي قد تكون لها صلة بتطور مرضه وبمقدرته على التعاون مع الخطة العلاجية. فإضافةً إلى الأعراض البسيطة للاضطرابات النفسية يجب استقصاء التاريخ الشخصي للمريض طوال حياته وظروفه الراهنة، وفي الظروف المثالية يجب أن يكون الفحص الطبي النفسي جزءاً من تقييم أكثر شموليةً تسهم فيه بقية مجموعات الرعاية الصحية بحسب توافرها وبحسب الحاجة إليها، مثل التمريض النفسي والباحثين النفسانيين ومقدمي الخدمات الاجتماعية وإعادة التأهيل.

كثيراً ما يتساءل الأطباء غير المختصين بالطب النفسي عن كيفية التعامل مع شخص يبدو أنه مضطرب نفسياً ولاسيما عند مقابلته للمرة الأولى في قسم الإسعاف أو في إحدى العيادات، فما العمل إذا بكى المريض، أو إذا أصبح عنيفاً، أو إذا تفوه بأمور مضحكة، أو إذا بقي صامتاً لا يرد التحية ولا يجيب عن الأسئلة، ويصعب إعطاء إجابة بسيطة وموحدة لمثل هذه الأسئلة، فالإجابة عنها تأتي من تراكم الخبرة بالتعامل مع المرضى النفسيين ومن محاولة فهم الظروف الشخصية والاجتماعية والصحية النفسية المميزة لكل مريض في ضوء ما لدى الطبيب من معلومات نظرية ومن خبرات مع أشخاص لديهم اضطرابات مشابهة. وتبدأ رحلة البحث عن الإجابة من محاولة تأسيس علاقة تعاطف مع المريض، ثم استطلاع مشاكله على نحو شامل وواضح، سابقاً وحاضراً، وكيفية تطورها، آخذين بالحسبان شخصيته وتاريخه الشخصي والعائلي والتعليمي والمهني والاجتماعي، بغية التوصل إلى فهم مشترك لاضطرابه والاتفاق على خطة علاجية لتدبير ذلك الاضطراب. قد تبدو هذه المهمة صعبة لطبيب لا خبرة له في الطب النفسي، ولكن يمكن تخفيف صعوبة تحقيقها عن طريق اتباع مقاربة بنيوية منظمة تطبق على نحو متعاطف وغير متعجل.

يتطلب الفحص الطبي النفسي في قسم الإسعاف أو في الأقسام الطبية أو الجراحية المزدحمة استثمار الوقت بأفضل طريقة ممكنة، مما يوجب على الطبيب اكتساب مقدرة على وضع تقييم بدئي سريع لطبيعة المشاكل النفسية عند مريضه، أي أن يتمكن من إجراء تقييم سريري مبدئي في أثناء الدقائق الأولى من الاحتكاك بالمريض. ويهدف هذا التقييم المبدئي إلى تقدير مدى خطورة المريض على نفسه وعلى غيره وعلى الممتلكات، ومدى الحاجة إلى ضبط المريض العنيف وتقييده باستخدام أقل قدر لازم من القوة، مع تذكر أن المرض النفسي لا ينفي المرض الجسدي وأنه من الضروري تقييم الصحة الجسدية بأسرع ما يمكن لأي مريض يبدو منهكاً أو شاحباً أو محموماً. يهدف التقييم المبدئي أيضاً إلى تقدير مقدرة المريض ورغبته بالتواصل مع الطبيب وبالإجابة عن الأسئلة، وتقدير ما إذا كانت إجاباته معقولة وموثوقة. فلا فائدة من إضاعة الوقت بإجراء فحص طبي نفسي شامل إذا كان كلام المريض غير مترابط، أو كانت المعلومات التي يقدمها غير دقيقة، أو كانت كثرة الأسئلة مزعجة للمريض، أو كانت المقابلة تستفزه. ويستفاد من التقييم المبدئي في تقدير الحاجة إلى قبول المريض في المستشفى من أجل الحفاظ على سلامته (حين وجود خطر الانتحار مثلاً) أو على سلامة الآخرين (إذا كان المريض عدوانياً وعنيفاً أو لديه أفكار زورية)، أو من أجل تقديم رعاية طبية لابد منها (إذا كان المريض مهملاً لنفسه أو مدنفاً مثلاً)، أو لتطبيق علاج مستطب (مثل العلاج بالتخليج الكهربائي)، أو لإجراء استقصاءات تشخيصية شعاعية أو مخبرية أو نفسية (بهدف التشخيص التفريقي بين الاكتئاب والخرف مثلاً)، أو للتغلب على مشاكل اجتماعية (مثل صعوبة التواصل مع المريض أو عدم وجود من يهتم به).

ويجب دائماً تذكر أن سبب المراجعة الطبية النفسية قد يختلف عن المعتاد في ممارسة الاختصاصات الطبية الأخرى؛ ففي حين قد يراجع مريض نفسي بسبب شكاوى مرضية محددة لمراجعي الاختصاصات الطبية الأخرى فإن بعض المرضى لا يعتقدون أنهم بحاجة إلى مراجعة طبيب نفسي بل قد يحضرهم أهلهم لأنهم يشعرون أن الحياة لا تستحق العيش والانتحار أفضل، أو تُحضرهم الشرطة بسبب اضطراب سلوكهم في أماكن عامة أو بسبب تكرر مراجعتهم للمخفر مطالبين بوضع حد لجيرانهم الذين يبثون موجات شعاعية بهدف إيذائهم. ومع أن الأساس في الفحص الطبي النفسي هو مقابلة المريض نفسه، فإنه قد يصعب الدخول في تفاصيل معاناة مثل هؤلاء المرضى مباشرةً، لذلك قد يلجأ الطبيب أولاً إلى مقابلة أهل المريض أو غيرهم ممن رافقوه إلى العيادة. حتى عندما يراجع المريض بمحض إرادته، فإنه من المفيد دائماً التحدث مع آخرين عن مشاكل المريض وسيرته الشخصية، لأنه لا يمكن دائماً الجزم بصحة المعلومات المقدمة من المريض، فقد يكون مصاباً بضُلال delusion أو بهذيان، وقد ينكر المشكلة الأساسية التي أحضرته إلى الرعاية الطبية النفسية أو يلفق الأعراض أو تفاصيل القصة المرضية على نحو مقصود، لذلك من المفيد عادةً التواصل مع مصادر معلومات أخرى غير المريض بهدف الحصول على معلومات إضافية وتأكيد المعلومات المجموعة من المريض أو تصحيحها، ويسهل القيام بذلك في الدول العربية بما فيها سورية لأن المريض يراجع عادةً مع أفراد من أسرته مما يسمح بمقابلتهم بعلم المريض وبوجوده، إذ يجب دائماً إعلام المريض بأنه سيتم السعي إلى الحصول على معلومات إضافية لاستكمال الفحص الطبي النفسي. وبالطبع فإن ذلك لا يلغي ضرورة استجواب المريض منفرداً وفائدة ذلك، فوجود أفراد الأسرة لابد من أن يؤثر في طبيعة المقابلة. هذا وقد تجمع معلومات مفيدة من أوراق الإحالة إذا كان المريض محالاً من قبل الشرطة، أو من قبل أطباء آخرين، أو من ملفات سريرية قديمة، أو من معالجين سابقين، أو من رب العمل.

التحضير للفحص الطبي النفسي:

يهدف الفحص الطبي النفسي إلى تشخيص حالة المريض وإلى توقع الإنذار ووضع خطة علاجية، إضافةً إلى فهم شخصية المريض وظروفه الأسرية والمهنية والاجتماعية وإلى تأسيس علاقة بينه وبين الطبيب تبنى عليها خطة التدبير المستقبلية، ومن الواضح أن ذلك يستغرق وقتاً طويلاً ويحتاج إلى جو هادئ. قد يستغرق الفحص الطبي النفسي الشامل نحو الساعة، مما يعوق إجراءه في جناح طبي أو قسم إسعاف مزدحم، كما أن للتجهيزات مثل الرداء الأبيض أو سرير الفحص فائدة ضعيفة في الفحص الطبي النفسي، لذلك يفضل أن يكون المكان المخصص لمقابلة المريض هادئاً ويوفر خصوصية الحديث وسريته بعيداً عن استراق السمع وعن المقاطعة ورنين الهاتف. كما يفضل أن يكون أثاث الغرفة ملائماً لمقابلة هادئة، إذ يغلب أن يعاني المريض النفسي توتراً انفعالياً وصعوبة في التواصل وفي التعبير عن نفسه، وقد يحتاج وقتاً لترتيب أفكاره وإجاباته، وقد يتكلم بصوت خافت فتضيع أجوبته في الضجيج مما يوجب على الطبيب تكرار الأسئلة على نحو يعوق تأسيس علاقة جيدة بين الطبيب والمريض. كما أن المقاطعة المتكررة من قبل الفريق الطبي أو المرضى تحرم المريض من فرصة سرد همومه وشرح مشاكله المعقدة، فقد يشعر المريض بالتردد حين التعبير عن مشاعر أو أفكار ذات حساسية أو إزعاج معين، ويزداد هذا التردد إذا شعر المريض بأن طرفاً ثالثاً قد يسمعه أو يقاطعه. يستنتج من ذلك أن الدور الأهم للطبيب في الفحص الطبي النفسي هو ملاحظة المريض والإصغاء إليه، فلا فائدة من مقابلة سريعة، ولكن لا يمكن البدء بمقابلة غير محددة زمنياً، لذلك يفضل إعلام المريض منذ البدء بالوقت المتوافر، مما يساعده على الشعور بالاطمئنان وعلى سرد قصته ضمن الوقت المحدد من دون إسهاب. وكما يصغي الطبيب جيداً لما يتلفظ به المريض فإن الاستجواب الناجح يستوجب تنبه الطبيب لتلميحات المريض غير اللفظية، ففي المحادثة العادية يجاري الطبيب وضعة جسم محدثه ونبرة صوته، وذلك مهم أيضاً حين استجواب المصابين باضطراب نفسي. لذلك على الطبيب ترتيب مكان جلوسه ومكان جلوس المريض بحيث يكونان بارتفاع واحد وغير بعيدين أحدهما عن الآخر، ويفضل ألا يكون الطبيب بمواجهة المريض مباشرةً بل يترك له مجالاً لأن يتلفت جانباً إن رغب بذلك. فعند استجواب مريض مكتئب لديه بطء نفسي حركي مثلاً، يفضل التحدث بوضوح ومنح المريض وقتاً كافياً للإجابة، مع تجنب التحدث بصوت عال أو تكرار السؤال مراراً لحث المريض على الإجابة، وربما كان مفيداً في مثل هذه الحالة الجلوس قريباً من المريض مع الانحناء باتجاهه والتحدث بصوت أنعم وأبطأ من المعتاد. كذلك يجب تجنب الضغط على المريض للحصول على الإجابات في الحالة المعاكسة عندما يبدو المريض مستثاراً ونزقاً، فقد يصبح هائجاً أو عدوانياً إذا أصر الطبيب على مطاردته بالأسئلة، والأفضل في هذه الحالة مسايرة ارتفاع مزاج المريض بحذر بغية كسب ثقته وتأسيس تعاطف جيد معه. ولابد من التنبيه لأنه من الصعب التنبؤ بسلوك بعض المرضى النفسيين ولاسيما إذا كانوا غير معروفين سابقاً أو كانت لديهم سوابق سلوك عنيف، مما يوجب على الطبيب الحذر وعدم تعريض نفسه للخطر عن طريق التأكد دائماً من وجود فريق قادر على المساعدة بقربه، والتأكد من خلو الطريق أمامه إلى باب الغرفة، وعدم استفزاز المريض بفرط الأسئلة، ويفضل في حال الشك بأن المريض قد يصبح عنيفاً إجراء المقابلة بحضور شخص ثالث.

الاستجواب (المقابلة :interview (

الاستجواب هو طريقة التقييم الأساسية المستخدمة في الطب النفسي، وكما في الطب العام، يقسم الاستجواب النفسي إلى قسمين الأول هو أخذ القصة المرضية والثاني هو الفحص السريري (أي فحص الحالة العقلية)، ولكن يختلف الطب النفسي عن الطب العام بأن أخذ القصة المرضية وفحص الحالة العقلية يتمان في الوقت ذاته وباستخدام الوسائط ذاتها ألا وهي الملاحظة والإصغاء للمريض، إذ تجمع المعلومات اللازمة لفحص الحالة العقلية في أثناء أخذ القصة المرضية عادةً، وأفضل طريقة للاطلاع على الحدثيات العقلية عند المريض هي من وصفه اللفظي لما يمر به من تجارب ومعاناة، إذ تفيد مقابلة المريض في كشف واستقصاء مظاهر نوعية للوظائف العقلية تشمل مظهر المريض وسلوكه ومزاجه وإدراكه ومعتقداته ووظائفه المعرفية. وإضافةً إلى التواصل اللفظي مع المريض، يحصل الطبيب على معلومات مهمة في أثناء الاستجواب من تأمل (أو ملاحظة) observation المريض، ففي مظهر المريض وسلوكه وطريقة كلامه دلالات مهمة على طبيعة اضطرابه النفسي، ومن السهل عادةً تمييز الشذوذ الشديد من الحالة الطبيعية، فالهذيان الواضح والحزن والشمق euphoria علامات مرضية لا تخفى على أي فاحص متيقظ، لذلك فإن النقطة الأهم في هذا الصدد هي تنبه الطبيب لضرورة تأمل المريض، وتذكر ضرورة توثيق ملاحظاته، إذ يمكن للطبيب جمع كمية كبيرة من المعلومات من خلال التواصل غير اللفظي مع المريض بالنظر وبملاحظة ما يبدو عليه من حركات وإيماءات، مثل التململ في الكرسي عند مناقشة علاقاته بالآخرين أو الإشاحة بنظره عند وصف حوادث مؤلمة. لذلك على الطبيب عدم التلهي بالنظر من النافذة أو بالعبث بالقلم أو بالحاسوب وعدم الغرق في دفتر ملاحظاته مهملاً ملاحظة المريض، بل يجب عليه تشجيع المريض على الكلام بهز الرأس وبإيماءات اليدين. أما عندما يصمت المريض لفترة من الوقت، فيجب احترام صمته ومنحه الفرصة للاستدراك أو للبحث عن الكلمات المناسبة.

أولاً- القصة المرضية النفسية:

يستفاد حين أخذ القصة المرضية النفسية من كل المعلومات المتوافرة عن الحالة، والتي يتم الحصول عليها من المريض نفسه أو من أهله أو من مصادر أخرى، بهدف تعرف شكاوى المريض وسلوكه الراهن والسابق إضافةً إلى تقييم ظروفه الحياتية منذ الولادة حتى الآن، وتجمع المعلومات المتوافرة عادةً تحت العناوين التالية:

- سبب الإحالة النفسية ومصدر المعلومات.

- الشكوى الرئيسية.

- تاريخ المرض الراهن.

- السوابق المرضية النفسية.

- السوابق المرضية الجسدية.

- السوابق النفسية المرضية العائلية.

- التاريخ الشخصي.

- الشخصية قبل المرض.

وتُجمع معظم هذه المعلومات في أثناء الاستجواب أو المقابلة الطبية النفسية. يبدأ الطبيب المقابلة بالترحيب بالمريض وبالتعريف بنفسه بوضوح وبالتأكد من أن المريض مرتاح لجو المقابلة، ثم يشرح له الهدف من المقابلة والفترة الزمنية التي ستستغرقها محاولاً التخفيف من قلقه؛ إذ يتجنب الكثيرون مراجعة الطبيب النفسي بسبب الوصمة الاجتماعية الملازمة للمرض النفسي والخشية من أن يوصموا بالجنون. تعد هذه المقدمات ضرورية من أجل تأسيس علاقة إيجابية معقولة مع المريض، ويمكن بعدها الانتقال إلى الاستفهام عن الأسباب التي دعت المريض إلى الحضور إلى العيادة أو المستشفى.

سبب الإحالة النفسية ومصدر المعلومات:

قد تكون لدى المريض شكاوى معينة يريد الاستفسار عنها، أو تكون المراجعة لأن المريض يسبب قلقاً لمن حوله. فبعض المرضى يراجعون تلقائياً، في حين يحضر آخرون بمبادرة من أهلهم. لذلك من الضروري توثيق سبب المراجعة، وكيفية قدوم المريض إلى العيادة، والشكاوى التي يطرحها المريض. كما توثق المعلومات التي يقدمها مرافقو المريض، مع ذكر مصدر كل معلومة.

الشكوى الرئيسية:

لما كانت الغاية من الفحص الطبي النفسي هي الحصول على معلومات مرغوبة عن طريق تشجيع المريض على التحدث عن أمور يراها مهمة، فإنه يفضل أن يقتصر السؤال الأول على الطلب من المريض وصف معاناته بكلماته وبطريقته. ويجب أن تصاغ الأسئلة بما يتناسب مع ثقافة المريض مع توضيح الغاية من كل سؤال، ومع المحافظة طوال فترة الاستجواب على اللباقة والاحترام شريطة عدم السماح للمريض بتجاوز حدود العلاقة العلاجية.

تستخدم في مطلع الاستجواب أسئلة مفتوحة لا تتضمن حصراً للإجابات الممكنة بل تسمح للمريض بالتعبير عن معاناته بطريقته الخاصة، فيسأل مثلاً «لماذا جئت إلى المستشفى؟» أو يستفيد الطبيب من ملاحظته للمريض فيعكس تفسيره لما يلاحظه بسؤال مثل: «تبدو قلقاً، فهل تشعر أنك كذلك؟» أو «يبدو أنك تعرضت لمعاناة شديدة، هلا أخبرتني عنها؟». تفيد هذه الطريقة في استقصاء الأعراض والعلامات النفسية بلطف مع توصيل مشاعر الطبيب وتعاطفه إلى المريض في الوقت نفسه.

تفيد الأسئلة المفتوحة في الحصول على معلومات قد يصعب أخذها من المريض بالأسئلة المغلقة (أو الموجهة) التي تتضمن تحديداً للإجابات الممكنة، مثل حصر الإجابة بنعم أو لا عند السؤال «هل تشعر بالحزن؟»، فسؤال مريض يعاني أهلاسات سمعية «هل تسمع أصواتاً؟» لا يعطي إلا إجابة بنعم أو لا، في حين لو سئل «هل تعاني أيَّ تجارب مزعجة؟» قد يشجعه على إعطاء إجابة أكثر تفصيلاً مثل «أسمعهم يضحكون ويقولون أشياء مريعة. يقولون إني قتلت أولادي وأنا لم أفعل ذلك، ولكنهم مصرون على إخبار الشرطة»، ولكن تبقى للأسئلة المغلقة أهمية واستخدامات متعددة في أثناء الاستجواب؛ فقد يستخدمها الطبيب للتأكد من أنه قد فهم مشكلة  المريض (بسؤاله مثلاً: «أفهم من حديثك أنك تسمع أصواتاً تتحدث عنك، هل هذا صحيح؟» أو «يبدو أنك تشعر بالرعب في أثناء الليل فقط، أليس كذلك؟»)، أو يستخدمها لاستقصاء مناطق لم تغطى بعد في أثناء أخذ القصة المرضية (مثلاً: هل تشعر بأن الناس يعرفون بماذا تفكر؟). كما تفيد الأسئلة المغلقة أيضاً حينما يصبح من الضروري أخذ زمام المبادرة في أثناء الاستجواب بسبب تعذر ضبط الحديث على نحو طبيعي غير مباشر، مثلاً حين يعطي المريض إجابات وجيزة ومختصرة جداً يلجأ الطبيب إلى الأسئلة المغلقة لتسيير المقابلة باتجاه الحصول على المعلومات اللازمة، أو عند مريض هوسي مصاب بتطاير أفكار شديد إذ يجب على الفاحص توجيه إجابات المريض ومقاطعتها، علماً أنه يفضل دائماً تجنب مقاطعة المريض ما أمكن وترك المقابلة تجري بسلاسة، أما إذا وجبت مقاطعة المريض وتغيير مسار المقابلة فيجب أن يتم ذلك على نحو لطيف ومخطط مسبقاً مثل القول: «شكراً لك لأنك قلت لي هذا، هل أستطيع أن أغير مجرى الحديث لأسألك عن دخولك الأول للمستشفى لأنه سوف يساعدني أكثر من أجل فهم الوضع الحالي».

تسجل الشكوى الرئيسية كما يتفوه بها المريض حرفياً، فلا يكتفى مثلاً بكتابة «ضُلالات عظمة» عند فحص مريض يقول: «أبي هو المدير العام، اتصل بمكتبه ليرسلوا لي المرسيدس. يجب أن أذهب لتحصيل أموالي»، بل تكتب كلمات المريض كما يقولها. كما لا يكفي عادةً تسجيل الشكوى الرئيسية بمصطلحات عامة ولا نوعية مثل «اضطراب سلوك شديد»، بل يجب تحري وجود شكاوى أخرى أقل وضوحاً وأكثر نوعيةً.

تاريخ المرض الراهن:

توثق الشكوى (أو الشكاوى) الراهنة مع تفاصيل كل منها ثم يستقصى تطور كل من تلك الشكاوى، وكيفية بدئها (فجأة أم على نحو تدريجي)،وما إذا كانت قد بدأت كلها معاً أو على نحو متلاحق، والتسلسل الزمني لظهورها، وما إذا كانت مستمرة أم متقطعة، والعوامل أو الحوادث التي أثارتها أو أثرت في تطورها، وما إذا كان المريض قد تلقى أي علاج من أجلها، واستجابته لذلك العلاج إن وجد.

تعتمد نوعية الأسئلة اللاحقة على طبيعة ما يصرح به المريض، إذ يبدأ الطبيب بوضع فرضيات يختبر مدى صحتها، فقد يعطي المريض انطباعاً بأنه ربما كان قد تعرض لسوء المعاملة في الطفولة فيحاول الطبيب الاستفسار أكثر عن طفولة المريض، وقد يصرح المريض بأنه متأثر بمسدس لأشعة قاتلة يتحكم بها إرهابيون، فيتحول الطبيب إلى استقصاء بقية أعراض الفصام، فيستقصي الأهلاسات السمعية مثلاً عن طريق السؤال «هل تسمعهم يتكلمون معك أيضاً؟» «هل يتحدثون معك أم مع بعضهم بعضاً؟».

توجه تلك الفرضيات الطبيب إلى التفتيش عن أعراض تثبت كل فرضية منها أو تنفيها، وقد تكون تلك الأعراض ذهانية (مثل الأهلاسات أو الضُلالات)، أو مزاجية (مثل الاكتئاب أو الشمق أو القلق)، أو سلوكية (مثل الهياج أو التجنب)، أو فيزيولوجية (مثل خفقان القلب أو ضيق النفس أو التوتر العضلي أو الاضطرابات الهضمية)، أو بيولوجية (مثل اضطراب النوم أو نقص الشهية للطعام أو انخفاض الوزن أو انعدام الرغبة الجنسية)، ويهدف فحص تلك الفرضيات إلى حصر الاحتمالات التشخيصية الممكنة.

يتطلب التمكن من اختبار الفرضيات التشخيصية الممكنة في أثناء استجواب المريض اكتساب مهارتين أساسيتين هما تمييز النموذج pattern recognition وحل المشكلة  problem solving، فالاضطرابات النفسية هي أساساً نماذج وصفية لمجموعات من الأعراض والعلامات، والغاية النهائية للطبيب من فحص المريض وتقييمه هي تحديد النموذج الأكثر مطابقة لما لدى المريض من أعراض وعلامات. وفي حين تؤخذ الأعراض من أقوال مباشرةً، فإن العلامات هي ما يراه الطبيب وما يستشفه من أقوال المريض وأفعاله، وللتمكن من ذلك يجب على الطبيب أن يكون مطلعاً مسبقاً على الأعراض والعلامات والنماذج التي تتجلى بها؛ فمن لا يعرفها لا يمكنه تمييزها، ومحاولة الطبيب استخدام كل المعلومات المتوافرة للتمكن من تمييز نموذج تشخيصي هي حل لمشكلة نوعية يمكن تلخيصها بالسؤال التالي: ما هو نموذج الاضطرابات النفسية الوصفي الأكثر انسجاماً مع مشاكل المريض؟. وتتم الإجابة عن هذا السؤال عبر البدء بعدد من البدائل التشخيصية الممكنة ثم محاولة تقليل عدد تلك البدائل عن طريق الحصول على معلومات إضافية عن المريض وشكاواه. نستنتج من ذلك أن الاستفادة المثالية من استجواب المريض تعتمد اعتماداً كلياً على ما لدى الطبيب من معلومات نظرية ومهارات سريرية، وكلاهما يبدو ضحلاً على نحو مرعب عند طلاب الطب وعند الأطباء غير المختصين بالطب النفسي أو الذين مازالوا في بداية تدريبهم للاختصاص بالطب النفسي، ومن الضروري هنا التذكير بخطورة القفز إلى التشخيص اعتماداً على الانطباع الأولي للطبيب عن المريض؛ بل يجب بناء التشخيص على ما يجمع من المريض من علامات وأعراض.

تكون معرفة الطبيب بالمريض وباضطرابه النفسي محدودة في بداية الفحص الطبي النفسي، ويكون مجال الاحتمالات التشخيصية واسعاً، ومع أن المريض قد يحضر معه تقارير طبية أو وصفات أدوية قديمة أو غيرها من الأوراق التي قد توحي أن المجال التشخيصي ضيق، فإنه من الضروري التنبه لخطر افتراض أي تشخيص أو استبعاده قبل إتمام الفحص الطبي النفسي على نحو منهجي؛ فقد تكون تلك المعلومات مضللة، وقد تبين من دراسة أجريت في دمشق أن نحو نصف المرضى المشخص لديهم فصام سابقاً هم بالحقيقة مصابون باضطرابات أخرى غير الفصام.

يبدأ الطبيب بتضييق مجال الاحتمالات التشخيصية المحتملة في ضوء ما يجتمع لديه من معلومات إضافية تتراكم مع تقدم المقابلة، فمثلاً: إذا كان المريض جالساً بهدوء ولم يكن مرتفع المزاج فإنه يغلب ألا يكون مصاباً بالهوس، أما إذا كان مصاباً بالنعاس وغير متوجه يصبح من غير المرجح تشخيص الفصام غير المَصْحُوْب بمُضاعَفات، وهكذا تستبعد بعض الاحتمالات التشخيصية في حين يزداد احتمال تناغم غيرها مع الأعراض والعلامات المتوافرة، فيسعى الطبيب إلى توجيه مسار المقابلة باتجاه الحصول على أكثر المعلومات نفعاً في التفريق بين الخيارات التشخيصية الأكثر احتمالاً؛ ففي المثال الوارد أعلاه عن النعاس وعدم التوجه، قد يكون من المجدي أكثر البدء بالاستفسار عن مظاهر تفرِّق بين أشكال مختلفة من المتلازمات الدماغية العضوية بدلاً من محاولة الحصول على تاريخ مفصل للتطور النفسي الجنسي أو تقييم المزاج أو الوجدان، ولكن ذلك لا يعني تجاوز أجزاء مهمة من الفحص الطبي النفسي؛ فلا يمكن مثلاً إهمال تقييم الوظائف الاستعرافية في مريض يبدو مكتئباً، ولا اهمال الاستفسار عن الأهلاسات في مريض يبدو قلقاً. وبالطبع فإن توجيه المقابلة بهذه الطريقة يوجب على الطبيب أن يكون مطلعاً مسبقاً على الأعراض والعلامات الأكثر أهمية في تشخيص مختلف الاضطرابات النفسية وفي تفريقها بعضها عن بعض، وهذه مهارة تكتسب من معرفة طريقة تصنيف الاضطرابات النفسية في فئات تشخيصية ومن الخبرة المكتسبة من تطبيق هذه المعرفة في الممارسة السريرية اليومية.

السوابق الطبية النفسية:

لما كانت الاضطرابات النفسية هي اضطرابات مزمنة ومعاودة عادةً، كان من المهم الاستفسار عن السوابق الطبية النفسية، فقد تكون الهجمات السابقة وصفية على نحو يغني المعلومات المجموعة عن الهجمة الراهنة ويساعد على توجيه التشخيص والعلاج، فإذا كان المريض مثلاً مصاباً بهجمة اكتئابية حالياً، قد يشخص عنده اضطراب اكتئابي ويستطب وصف دواء مضاد للاكتئاب، أما إذا كانت لديه أيضاً سوابق هجمة هوسية فيصبح التشخيص المرجح اضطراب مزاج ثنائي القطب مما يوجب الحذر من وصف الأدوية المضادة للاكتئاب لأنها قد تثير هجمة هوسية. قد تكشف السوابق الطبية النفسية أيضاً نمطاً واضحاً لهجوع الهجمة من دون علاج وللاستجابة للعلاج الطبي في عيادة أو مستشفى، أو لعلاج شعبي مثل مراجعة شيوخ أو أسياد. كذلك يجب الاستفسار عن سوابق إيذاء الذات وعن التفكير بذلك، وعن السوابق الجنائية مثل الجنح والجنايات والأحكام بالسجن وملابساتها، وعن سوابق تعاطي العقاقير بما في ذلك الكحول والعقاقير الجنائية المعروفة دولياً مثل الحشيش والهيرويين أو التي يشيع استخدامها محلياً مثل بنزهكزول  benzhexol، مع الاستفسار عن فترة التعاطي وعن أعراض الإدمان وأعراض السحب.

السوابق الطبية الجسدية:

من الضروري اشتمال الفحص الطبي النفسي توثيقاً مفصلاً للسوابق المرضية الجسدية التي كثيراً ما تهمل عند المرضى النفسيين، مع استقصاء كل أجهزة الجسم ولاسيما الجهاز العصبي المركزي، ومع تسجيل تفاصيل كل العلاجات الطبية المستخدمة حالياً من قبل المريض، فبعض الأدوية قد تحرض اضطراباً نفسياً أو تؤثر في الخيارات العلاجية الممكنة.

السوابق الطبية النفسية العائلية:

يزداد وقوع بعض الاضطرابات النفسية في بعض العائلات بسبب وجود مُرَكّب complex إمراضي وراثي فيها، لذلك من الضروري استقصاء القصة العائلية للاضطرابات والمشاكل النفسية على نحو يشمل الوالدين والأخوة والجدود والأطفال والأحفاد والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأولادهم، مع التركيز على القرابة البيولوجية أو قرابة الدم لأن أهمية الوراثة تضعف ظاهرياً في الأسر الموسعة وبوجود تعدد الزيجات، ويسأل في هذا المجال عما إذا كان أي من الأقرباء البيولوجيين قد تعرض لمعاناة تشبه شكاوى المريض أو لأي اضطراب نفسي أو غرابة في التصرفات، وعن طبيعة ما تعرض له وكيف تم التعامل معه، وعن التداخلات التي ساعدت على تخفيف تلك المعاناة أو شفائها.

التاريخ الشخصي:

للاضطرابات النفسية جذور في الطفولة المبكرة عادةً، لذلك من البديهي توثيق التاريخ الشخصي للمريض على نحو مفصل يتضمن كلاً من العوامل البيولوجية والعوامل النفسية المؤثرة في تطور الشخص وفي اكتساب خبراته الشخصية. وأبسط طريقة لاستخلاص هذه المعلومات هي البدء من وقت حمل أم المريض به والانتهاء بالوقت الراهن؛ فتقسم فترة الحياة إلى مرحلة الحمل والولادة، ومرحلة الطفولة المبكرة، ومرحلة سن المدرسة، ومرحلة المراهقة وسن البلوغ، ومرحلة خدمة العلم إن وجدت، ومرحلة العمل والزواج وإنجاب الأطفال  .

يتم الاستفسار أولاً عن ظروف الحمل والولادة ومضاعفات ما حول الولادة، وهل مرضت الأم في أثناء الحمل، وهل تناولت أي أدوية؟ هل كانت الولادة طبيعية أم قيصرية وهل كانت عسيرة؟ هل تألم الجنين أو أصيب بنقص الأكسجة عند الولادة؟، ثم تستقصى مرحلة الطفولة المبكرة بما تتضمنه من نمو جسدي وبلوغ نقاط العلام التطورية في الأعمار المتوقعة (مثل الجلوس من دون مساعدة بعمر 8 أشهر والمشي منفرداً بعمر 13 شهراً وضبط المصرات نهاراً بعمر سنتين والكلام بعمر سنتين ونصف)، ودرجة النشاط والاعتماد على النفس والتفاعل مع الآخرين في المنزل وفي روضة الأطفال، والتعرض لبعض الاضطرابات الشائعة في هذه المرحلة العمرية مثل القلق أو اضطرابات النوم أو الخوف من الظلام أو سلس البول الليلي أو الخوف من الغرباء، واحتمال التعرض للإهمال أو لسوء المعاملة (وهذا أمر شديد الحساسية يجب الاستفهام عنه بلطف في مراحل الطفولة كافة، ولاسيما في حال سوء المعاملة الجنسي).

العلاقات مع المحيط هي مظهر عام للتجارب البشرية في الصحة وفي المرض، ولها تأثير قوي في تطور الشخص، وقد تكون عاملاً أساسياً في حدوث سوء الأداء والخلل الصحي النفسي واستمرارها. ويمكن تصنيف العلاقات ضمن ثلاث فئات واسعة (أسرية واجتماعية وجنسية) وتوصيفها بدءاً من مرحلة الطفولة المبكرة ومروراً بما يليها من مراحل العمر. فالعلاقات ضمن الأسرة محدد قوي لمواقف الإنسان وسلوكه وعلاقاته في المستقبل، مما يوجب الاستفهام عن الأسرة التي نشأ المريض في أحضانها وعن طبيعة العلاقات في تلك الأسرة ونوعيتها؛ فيسجل عمر كل من الوالدين ومهنته وأمراضه والعلاقة بينهما (مثل تعدد الزوجات أو الانفصال أو الطلاق) ونوعية علاقة المريض بكل منهما (الوالد المقرب من المريض، الوالد المسؤول عن الرعاية الأساسية للمريض، الوالد المسؤول عن التأديب)، ثم يذكر عدد الأخوة وأعمارهم بالتسلسل زمنياً، وترتيب المريض بينهم، ونوعية علاقة المريض بكل منهم، ويلي ذلك ذكر أعضاء الأسرة الممتدة الذين كان لهم دور مهم في حياة المريض مثل الخالات أو الجدود والعلاقة بينهم وبين المريض.

العلاقات الاجتماعية هي سمة مهمة للتجربة البشرية، فهي مصدر مهم للدعم النفسي الاجتماعي ووسيلة مهمة للتعبير عن النفس، لذلك فإن طبيعة هذه العلاقات ونوعيتها قد تعطي انطباعاً مهماً عن شخصية الشخص وتطوره. يبدأ الاستفسار عن العلاقات الاجتماعية منذ مرحلة الطفولة المبكرة، ويتكثف في مرحلة سن المدرسة بسلوك المريض في المدرسة وعلاقاته بزملائه وبمدرسيه، ويمر بمنعطف حرج في فترة المراهقة التي تتميز بالميل إلى الاستقلال وإثبات الذات والانفصال عن الأهل والانتماء إلى مجموعات اجتماعية أخرى والاهتمام بالجنس الآخر.

ويمكن استقصاء هذه العلاقات عن طريق سؤال المريض عن عدد أصدقائه، ولاسيما المقربون منهم والذين يمكنه إشراكهم في همومه ومشاكله، كما يمكن الاستفهام عما إذا كانت صداقاته مقتصرة على جنس واحد أو مشتملة على ذكور وإناث، وعن تواتر التواصل معهم وظروفه، فهل يلتقيهم مثلاً في المنزل أو في النادي أو مكان العبادة، وماهي النشاطات التي يمارسونها، وهل يشعر بالقلق في المناسبات الاجتماعية، وهل يصعب عليه تحمل الصداقات الحميمة، وهل يعاني صعوبة الحفاظ على علاقاته؟.

للعلاقات الجنسية في هذا المجال دور مهم، فالتعبير الملائم عن الجنس هو جزء مهم آخر من التطور الشخصي الناضج، ويعتمد هذا التعبير على عوامل أخلاقية وثقافية ودينية (مثل القوانين والعادات والتقاليد والمحرمات والنهي الروحي والأخلاق الشخصية) إضافةً إلى العوامل الجسدية، ويستقصى التطور الشخصي الجنسي عن طريق سؤال المريض عن خبراته وعلاقاته الجنسية، بما في ذلك العلاقات الجنسية المثلية، وعما إذا كانت تلك العلاقات عابرة أم مستقرة، وعن ظروف الزواج إذا كان متزوجاً؛ هل هو زواج تال لعلاقة حب أو زواج أهل تقليدي، وما مدى الانسجام في هذا الزواج، وعدد الأولاد وصحتهم وظروف دراستهم أو سبب عدم الإنجاب إن كان الزواج عقيماً.

يفيد الاستفهام عن الأداء المدرسي للمريض في تقييم امكاناته العقلية، ومدى معاناته صعوبات التعلم، وارتكاسه للتغيير وللكرب، وعلاقاته الاجتماعية، وطرائق تأقلمه مع القوانين واستجابته للتأديب، لذلك يسأل المريض عما إذا كانت لديه مشاكل في بدء الدراسة أو في تبديل المدرسة، وعن مدى تحصيله المدرسي، وعن سبب عدم إكماله لتعليمه، وعن الشهادات التي نالها، وعما إذا كان لديه أصدقاء في المدرسة، وعما إذا كان كثير الغياب والتعرض للتأديب. وتستكمل القصة المدرسية بالقصة المهنية فيسأل المريض عن فترة خدمة العلم والصعوبات التي واجهته في أثنائها، وعن المهن التي مارسها بعد انتهاء تعليمه، وعما إذا كان قد تلقى تدريباً مهنياً إضافياً، وعما إذا كان لديه عمل منتظم وثابت أم أنه يمر بفترات من البطالة، وعن أسباب تبديل مهنته، وعن المهنة التي اختارها ومدى رضاه عنها، وعن العلاقات في بيئة العمل.

يلي ذلك التحقق من طبيعة علاقات المريض الحالية عن طريق سؤاله عن طريقة تعامله مع أفراد أسرته المقربين منه، وعن طبيعة شبكة علاقاته الاجتماعية ومدى التواصل معها، وعما إذا كان لديه أصدقاء مقربون يمكنه البوح بمشاكله لهم أو سؤالهم النصح، إضافةً إلى الاستفسار عن العلاقات الجنسية الراهنة، وعن مكان السكن ومع من، وعن مقدرة المريض على العناية بنفسه، فهل هو اتكالي يحتاج إلى المساعدة في القيام بالمهام اليومية المعتادة، وما هو نوع المساعدة المطلوبة وسبب لزومها، وهل يحتاج إلى مراقبة وإشراف منتظم لأنه مثلاً، قد يشرد أو يصبح عدوانياً مع الآخرين؟. من المهم أيضاً التأكد من المسؤوليات المهنية والأسرية الملقاة على عاتق المريض وعن مصدر رزقه الحالي ومدى كفاية دخله لحاجاته الأساسية مثل الطعام والمسكن والملبس وغيرها. أما إذا كان المريض عاطلاً عن العمل حالياً، فمن الضروري استيضاح سبب البطالة، فقد يكون السبب اقتصادياً اجتماعياً، أو يعود إلى عوز المريض للمهارات وللحوافز اللازمة لإيجاد عمل وللمحافظة عليه. ويتبع ذلك الاستفسار عن هوايات المريض، فهل هو قادر على إشغال أوقات الفراغ، وهل هواياته انفرادية أم اجتماعية؟.

للعوامل الروحية أهمية خاصة في كل الثقافات، وخصوصاً في المجتمع العربي، حيث قد يُقدَّم لكثير من المرضى النفسيين وأهاليهم تفسير غير طبي للاضطراب النفسي نتيجة دمج معتقداتهم وخبراتهم بأعراض الاضطراب النفسي. فقد يعتقد المريض المكتئب مثلاً أنه ممسوس أو مسحور، أو يقتنع المريض الهوسي بأن مصدر طاقته المفرطة هو أرواح ترافقه أو قرين من الجن. ويصعب أحياناً تمييز ما إذا كان ادعاء المريض النبوّة أو المقدرة على شفاء غيره هو معتقد نابع من أساس ديني أو ثقافي أم أنه عرض لمرض نفسي. ومهما كان الأمر، من المهم دائماً محاولة فهم معتقدات المريض والتعامل معها على نحو لائق لأنها قد تكون ذات شأن مهم في تقبل المريض للعلاج، ويتم ذلك عن طريق استكشاف تجارب المريض الروحية، ومعتقداته الدينية وأهميتها بالنسبة إليه، وتأثيرها في فهمه لمشاكله الراهنة، ومدى الدعم المعنوي الذي يجده في إيمانه ومعتقداته.

الشخصية قبل المرض:

تختتم القصة المرضية بوصف شخصية المريض قبل إصابته بالاضطراب النفسي الراهن. والشخصية هي سمات الشخص الثابتة التي تؤثر في ارتكاسه للظروف وللعلاقات مع الآخرين والتي تتأسس باكراً في الشباب، أي قبل عمر 18 سنة. يسأل المريض عن سمات شخصيته مثل الاندفاعية وتغيرات المزاج والهيوجية والتشبث بالرأي، ولكن يصعب أن يعطي الشخص وصفاً موضوعياً لشخصيته، لذلك من المفيد عادةَ الاستفسار عن شخصية المريض من آخرين يعرفون المريض معرفة جيدة.

تقييم الشخصية قبل المرض مهم لسببين: الأول تحديد ما إذا كان الشخص مصاباً باضطراب الشخصية، والثاني تحديد ما إذا كانت شخصية المريض قد كان لها شأن مؤهب للاضطراب النفسي الراهن، لما في ذلك من تأثير في خطة العلاج وإنذار المرض. فالأشخاص المصابون باضطراب الشخصية معرضون أكثر من غيرهم للتورط بمواقف سلبية وللتعرض لحوادث حياتية راضة، كما أن بعض صفات الشخصية المميزة لبعض الاضطرابات الشخصية (مثل الشخصية الزورية أو الشخصية الهستريائية) قد تطغى على الصورة السريرية للاضطراب النفسي الراهن على نحو قد يحرف التشخيص.

يبدأ استقصاء شخصية المريض قبل المرض بسؤال مفتوح مثل: «صف لي شخصيتك، كيف تفكر وتتصرف وتشعر على نحو عام؟» أو«كيف يصف الآخرون شخصيتك، هل يعدونك ناجحاً، هل يحسدونك؟»، ويمكن المتابعة بأسئلة تتناسب مع وصف المريض لشخصيته بغية إغناء ذلك الوصف، فيسأل مثلاً: «هل يقول الآخرون أن لك تصرفات مزعجة؟» أو «هل تسبب لك تصرفاتك متاعب في المنزل أو المدرسة أو العمل؟» أو «ما صفات شخصيتك التي قد ترغب بتغييرها؟». كما يمكن سؤال المريض عن هواياته وكيفية إشغاله أوقات الفراغ، وعن مدى رضاه عن نفسه وعما حققه في حياته، وعما إذا كان متشدداً في حكمه على الصواب والخطأ، ومدى احترامه للنظم الاجتماعية وللقوانين ودرجة تقيده بها، ومدى شكه أو ثقته بالآخرين ودرجة حذره من العاملين معه، وشدة احترامه لزملائه ولرؤسائه ولمرؤوسيه وكيفية تعبيره عن رأيه أمام كل منهم، وما إذا كان «رومانسياً» تراوده أحلام يقظة، وما إذا كان يعتقد أن الآخرين يهتمون به أكثر مما يجب أو يتهامسون عليه، ودرجة ثقته بنفسه واعتماد الآخرين عليه أو اتكاله على الآخرين، ومدى رغبته بالاختلاط بالآخرين وبجذب اهتمامهم وبالتعاون معهم، ودرجة اهتمامه بالترتيب والكمال عند تنفيذ أعماله، والمشاعر الطاغية على حياته مثل الغضب أو الخجل وكيفية إظهاره لتلك المشاعر.

قد تكون بعض صفات الشخصية طاغيةً ومعوقةً على نحو يكفي للقول بوجود اضطراب الشخصية فيشخص ذلك على نحو مستقل عن تشخيص الاضطراب النفسي الراهن بحسب طريقة التشخيص متعدد المحاور، كما سيرد لاحقاً.

ثانياً- فحص الحالة العقلية:

ينتقل الطبيب كما في بقية الاختصاصات الطبية، بعد أخذ القصة المرضية إلى الفحص السريري، والفحص السريري في الطب النفسي هو فحص الحالة العقلية، فيتم خلال الفحص الطبي النفسي تقييم الحالة العقلية الراهنة للمريض تحت العناوين التالية:

1-  المظهر والسلوك.

2-  المزاج والوجدان.

3-  الكلام والتفكير.

4-  اضطراب الإدراك والتجارب غير الطبيعية.

5-  الوظائف الاستعرافية العليا.

6-  البصيرة.

وللطبيب في هذا المجال ثلاث مهام؛ المهمة الأولى هي استكمال المعلومات الناقصة، ومع أن معظم المعلومات اللازمة لفحص الحالة العقلية تُجنى في أثناء أخذ القصة المرضية فإنه قد يحب استكمال هذه المعلومات أو التأكد منها بطرح أسئلة إضافية مثل «كيف يعاملك الناس؟» أو «كيف كانت مشاعرك في الآونة الأخيرة؟». المهمة الثانية هي إعطاء العلامات والأعراض التي يذكرها المريض أسماءً طبية نفسية، فتصريح المريض بأنه يشعر بدودة تتحرك تحت جلد ذراعه الأيمن مثلاً يسمى هنا هَلَساً حسياً. المهمة الثالثة هي ترتيب الأعراض والعلامات تحت العناوين الواردة أعلاه، فقد ترد هذه الأعراض والعلامات على نحو فوضوي في أثناء الاستجواب مما يوجب ذكر كل منها في موضعه المناسب حين توثيق الفحص الطبي النفسي.

يعتمد فحص الحالة العقلية على حقيقة أن وظائف الإنسان العقلية تمنحه القدرة على التذكر والتخطيط والتوقع، مما يؤهله للقيام بعديد من المهام المعقدة، فيتمكن من إدراك ما يجري حوله، ومن خوض التجارب، ومن تفسير هذه التجارب في ضوء تجاربه السابقة، ومن التخطيط لأفعاله المستقبلية، ومن الانخراط بعلاقات اجتماعية حركية «دينامية» معقدة مع الآخرين، ومن التعبير عن أفكاره ومشاعره ومعتقداته وإيصالها إلى الآخرين، ومن تلقي أفكار الآخرين ومشاعرهم ومعتقداتهم. وقد تضطرب هذه الوظائف ولكن اضطرابها لا يتبع قاعدة الكل أو العدم، بل إن كثيراً من هذه الوظائف يبقى سليماً في معظم المرضى النفسيين، ففي حين تتضافر بعض الوظائف العقلية لأداء فعالية ما (مثل التعلم الذي يتطلب سلامة التركيز والذاكرة والإدراك البصري والسمعي)؛ فإن اختلال وظيفة عقلية لا يعني بالضرورة اضطراب غيرها من الوظائف العقلية، فاضطراب التفكير مثلاً لا يستدعي بالضرورة قصور الذاكرة أو خلل الحوافز، واضطراب المزاج لا يعني اضطراب الإدراك، ووجود أعراض نفسية صارخة - مثل الأهلاسات السمعية - لا يجعل المريض بالضرورة عاجزاً عن العناية بنفسه أو عن الدخول بنقاش ذكي، مما يجعل من الضروري دائماً استقصاء كل الوظائف العقلية عند كل مريض وعدم الاكتفاء بما يتكون لدى الطبيب من انطباعات عن المريض قد تكون خاطئة ومضللة للتشخيص.

1- المظهر والسلوك:

يبدأ فحص الحالة العقلية للمريض منذ لحظة تعرفه، إذ تجمع معلومات مهمة من تأمل المريض فحسب، فيقيِّم الطبيب أولاً مستوى وعي المريض ومدى إدراكه البيئة وتفاعله معها، ويصبح فحص الحالة العقلية صعباً وغير موثوق إذا كان مستوى وعي المريض منخفضاً. ثم تلاحظ ملابس المريض ومدى ملاءمتها للجو وللمناسبة، ونظافة شعره وذقنه ويديه، وتعابير وجهه ووضعة جسده، وما إذا كان مزيناً على نحو غير معتاد مثل نظارة شمسية ضمن الغرفة أو وردة في الشعر، أو إذا كان يحمل أشياء غريبة مثل مجلات قديمة أو خيوطاً ملونة. ويفيد التأمل أيضاً في ملاحظة نمطين من السلوك والنشاط الحركي وتوثيقهما، الأول هو الشذوذات الحركية البسيطة مثل الخزل paresis أو الرجفان أو الرنح ataxia أو الحركات الرقصية، والثاني هو السلوك المعقد بوجهيه الشخصي والاجتماعي ثم تقيَّم درجة تعاون المريض مع الطبيب، وهل المريض بطيء أم مفرط النشاط، وهل يبادر بأي كلام أو سلوك عفوي، وهل تصرفاته مناسبة، وهل سلوكه هادف، وهل يتم المهام التي يبدأها أو يتركها غير مكتملة ليبدأ غيرها؟. يفيد ذلك في تقدير مستوى عناية المريض بنفسه أو إهمالها، وحالته المزاجية؛ فقد يكون إهمال النفس علامةً للفصام أو للتخلف العقلي، وفرط التبرج علامةً للهوس، والتجهم وحني الرأس والجذع للأمام علامةً للاكتئاب، والتململ وتوسع الحدقة علامةً للقلق، وجمود السحنة علامةً للباركنسونية الدوائية. ويفيد تأمل المريض كذلك في تقييم درجة حميمية العلاقة بين الطبيب والمريض ومدى إمكانية التواصل وبناء الثقة بينهما، فالتواصل مع مريض مسترخ ومنفتح أسهل بكثير من التواصل مع مريض حذر ومنغلق.

2- المزاج mood والوجدان affect :

يشتمل الفحص الطبي النفسي على تقييم الحالة الانفعالية (أو العاطفية) للمريض، وتوصف هذه الحالة باستخدام مصطلحين هما المزاج والوجدان. يقصد بالمزاج الحالة الانفعالية الدائمة والطاغية أي الخبرة الانفعالية الشخصية المستمرة كما يصفها المريض، ويقصد بالوجدان مشاعر المريض الحالية كما يصفها هو أو كما يلاحظها الطبيب من مظهر المريض. ويعطي وصف المريض لمزاجه عادةً أفضلية على ما يلاحظه الطبيب عند توثيق الحالة المزاجية للمريض؛ فقد يبدو المريض مضطرباً وحزيناً ولكنه يقول إنه يشعر بالقلق، أو يبدو سعيداً ولكن يدعي أنه يائس. إذا توافق وصف المريض لمزاجه مع الوجدان الملاحظ يقال إن هذا الوجدان متوافق، أما إذا اختلفا فيقال إن الوجدان غير متوافق .incongruent affect

ينتبه الطبيب طوال فترة الفحص الطبي النفسي لوجدان المريض ولدرجة ثبات هذا الوجدان أو تقلبه ومدى مناسبته لموضوع الحديث وما يرافقه من تعابير وجهية وإيماءات وتواصل غير لفظي، ويستكمل هذا التقييم الموضوعي بسؤال المريض عن حالته المزاجية الطبيعية عندما كان سليماً وما طرأ عليها من تغيرات، وبتوثيق المزاج المعتاد للشخص قبل المرض، وهل كان ثابتاً أم متموجاً، وهل كان حساساً للمتغيرات البيئية. فالمزاج الطبيعي يبدي تذبذباً باتجاه الفرح أو الحزن يتناسب مع ما يمر به الشخص من تجارب وأحداث، فيفرح في المناسبات السعيدة ويحزن حين يسمع خبراً سيئاً، وينعدم هذا التذبذب عند بعض المرضى المصابين بتبلد أو تسطح المزاج فلا يرتكسون انفعالياً للأخبار السيئة ولا للأحداث السارة، وقد يصير التعبير الانفعالي عند مرضى آخرين معاكساً لما هو متوقع فيضحكون في أثناء التحدث عن أمور مأساوية مثلاً، ويقال إن لديهم مزاجاً لا ملائماً.

تطغى أحياناً على مزاج الشخص صفة غالبة فيتصف مزاجه بالقلق والخوف، أو بالنزق والغضب وسهولة الاستفزاز والهياج، ويكون المزاج مرتفعاً في حالة الشمق التي يشعر فيها المريض بفرط السعادة وبفرط الثقة بالنفس وبأفكار العظمة، ويكون المزاج اكتئابياً حين يشعر المريض بالحزن والبؤس الذي يرافقه في الحالات الشديدة اليأس والقنوط وفقد حس المتعة  anhedonia، إذ يصرح المريض عادةً بأنه فقد الاهتمام بمصادر سعادته المعتادة، أو بأنه غير قادر على الشعور بالعواطف المعتادة ولاسيما السارة منها كاستجابة لما يعايشه من أحداث. ولابد دائماً من استقصاء الوظائف البيولوجية التي تضطرب عادةً في اضطرابات المزاج وهي النوم والشهية للطعام والرغبة الجنسية وسرعة الإصابة بالتعب وسهولة الاستفزاز، ولابد من سؤال المريض أخيراً عما إذا كانت قد راودته أي أفكار انتحارية.

3- الكلام والتفكير:

الكلام هو شكل آخر من أشكال السلوك التي يمكن ملاحظتها مباشرةً، ويفيد الإصغاء إلى حديث الآخرين في معرفة ما يمرون به من تجارب عقلية. وعلى الطبيب توثيق كل من شكل الكلام ومحتواه، مع الانتباه لسرعة الكلام وللحنه ولارتفاعه، فيسجل مدى طلاقة حديث المريض، ودرجة انخفاض صوته أو ارتفاعه، وتغير نبرته أو ثباتها، ودرجة وضوح جريان الكلام وسهولته، فهل هناك تقطع أو توقف مفاجئ في جريان الكلام، أو تنقل قافز من موضوع إلى آخر، أو توقفات مديدة يبدو المريض في أثنائها وكأنه ينتقي إجابته بحذر، أو سيل لا ينتهي من كلمات يصعب تفسيرها (ضغط أفكار)، وهل يستطيع المريض إعطاء إجابات لفظية واضحة أم أنه يتفوه بالكثير من دون توصيل محتوى واضح؟

يفيد الإصغاء إلى كلام المريض، ودراسة ما ينتجه من خلال أشكال التعبير الأخرى مثل الكتابة والرسم، في معرفة شكل تفكيره ومحتواه.

أ- شكل التفكير: لما كان الكلام هو نتيجة التفكير فإن اضطراب الكلام يدل على اضطراب التفكير، وقد يعكس كلام المريض اضطراباً في شكل التفكير من دون اضطراب محتواه، أو اضطراباً في محتوى التفكير من دون اضطراب شكله؛ فقد يجيب المريض على نحو فوضوي أو يتفوه بكثير من الكلام سليم التركيب وعديم المعنى. يشتمل اضطراب شكل التفكير على الإطناب والمماسية tangentiality وتطاير الأفكار وحركة الفارس knight move والسلطة الكلامية والمفردات المستجدة وشح الأفكار والتفكير الجامد والوظوب، وستعرف كل من هذه الاضطرابات في فقرة الأعراض والعلامات النفسية.

ب- محتوى التفكير: يتعرف الطبيب محتوى تفكير المريض طوال الوقت الذي يستغرقه لأخذ القصة المرضية، ويستكمل المعلومات الناقصة بطرح بعض الأسئلة المتعلقة مثلاً بالمشاكل التي تشغل تفكير المريض أو تثير قلقه حول ظروفه الحياتية الراهنة ومستقبله وماضيه، وبمدى شعوره بالأمان حين يكون وحده وحين يكون بصحبة آخرين، وعما إذا كانت مخاوفه تؤثر في نومه أو في مقدرته على التركيز. ويهتم الطبيب في هذا الجزء من فحص الحالة العقلية بما يحتويه تفكير المريض من اجترارات فكرية ووساوس وضُلالات وأفكار مضخمة وغربة أفكار. فالاجترارات ruminations هي أفكار تشغل المريض على نحو متكرر وقد يكون محتواها سعيداً أو تكون اجترارات قلقية، وقد يجلبها المريض إلى وعيه ليناقشها على نحو مقصود، ولكنها تختلف عن الوساوس بأنها ليست مزعجة شخصياً للمريض. وقد تقود الوساوس إلى التفكير الوسواسي أو إلى الطقوس القَهْرِيّة والبطء الوسواسي [ر. فقرة الأعراض والعلامات النفسية.[

قد يصرح المريض في أثناء الاستجواب بأفكار ومعتقدات غير طبيعية تتعلق إما بالبيئة المحيطة به (مثل الضُلالات والأفكار المضخمة) وإما به ذاته (مثل غربة الأفكار). وتعرف الضُلالات delusions على أنها معتقدات خاطئة وثابتة لا تتلاءم مع الخلفية الثقافية للمريض أو مستواه التعليمي وتستمر على الرغم من توضيح شكوك معقولة بصحتها أو تقديم براهين على ما يعاكسها، لذلك فإن الغاية من مناقشة الضُلالات هي فقط استطلاع مدى تجذرها، فلا فائدة من محاولة اقناع المريض بعدم صحتها. ويجب الانتباه لأن بعض المعتقدات الثقافية المشتركة بين جماعات معينة قد تبدو غريبةً وثابتةً ولكن ذلك لا يجعلها ضُلالات لأنها عامة يعتقد بها كل من حول المريض كجزء من ثقافتهم المحلية؛ مثل الاعتقاد بالجن أو بالسحر. أما الأفكار المضخمة overvalued ideas فهي أفكار ومعتقدات يحملها المريض بقوة ولكنها لا تبلغ شدة الضُلالات من حيث درجة الاقتناع بها؛ فقد يعتقد المريض أن مخبراً يلاحقه ولكن عند مطالبته بتقديم برهان، على ذلك المعتقد قد يقر بأنه ليس لديه برهان وأن اعتقاده قد يكون خاطئاً. أما المريض المتوهم فيرفض مناقشة احتمال أن يكون اعتقاده خاطئاً أو يقدم براهين غير منطقية أو مزيفة.

يرمز مصطلح غربة الأفكار thought alienation إلى مجموعة ظواهر يشعر فيها المريض بأن أفكاره تحت سيطرة أو تأثير قوى خارجية؛ فالمريض المصاب بغرز الأفكار  thought insertion يعتقد أن أفكاره لا تخصه بل هي غريبة عنه ومزروعة في رأسه بفعل شخص أو جماعة ما، ويعتقد المريض المصاب بسحب الأفكار thought withdrawal أن أفكاره قد استخلصت (أو سحبت) من وعيه بفعل جهة ما، ويشعر المريض في ظاهرة بث الأفكار thought broadcasting أن كل من حوله يعرفون أفكاره من دون أن يقولها لأنها تذاع أو تعبر إلى عقولهم مباشرةً أو لأن الآخرين يقرؤون أفكاره بوساطة اللاسلكي أو التخاطر أو غيره، ويشكو المريض في ظاهرة حصر التفكير من توقف تام لقطار أفكاره فيشعر بأن عقله قد أصبح فارغاً تماماً ولا يحتوي على أي أفكار واعية.

تمثل غربة الأفكار قسماً مهماً تشخيصياً مما يعرف باسم التجارب اللافاعلية  passivity experiences، وهي مجموعة من التجارب غير الطبيعية يشعر فيها المريض بأن قوى خارجية لا يمكنه مقاومتها تتحكم به فتجعله يفكر بأفكار لم تخطر على باله، أو تمنحه أحاسيس لا يرغب بها، أو تدفعه إلى القيام بأعمال لا يريد القيام بها، وقد يطور المريض ضُلالات ثانوية بهدف تفسير هذه التجارب، كأن يتوهم أنها نتيجة السحر أو الأشعة أو الأمواج الصوتية فيقال إن المريض مصاب بضُلالات اللافاعلية  .delusions of passivity

التفكير الانتحاري: الانتحار هو أحد أخطر عواقب الاضطرابات النفسية والوقاية منه ممكنة عادةً، إذ يفكر كثير من المرضى بالانتحار أو بإيذاء النفس من دون توجيه انتباه العاملين في الرعاية الصحية؛ فقد يخفي المريض خططه على نحو مقصود، أو يعتقد أنه من غير المناسب مناقشة المسألة في مكان طبي، أو يخشى العواقب السيئة مثل الوصمة الاجتماعية أو الاتهام بخرق المحرمات أو الأحكام القانونية. ولكن من الضروري سؤال كل المرضى عن هذا الموضوع، ويمكن للطبيب الوثوق من أن طرح الموضوع في مكان طبي لن يدفع المريض للانتحار، ومن أن المريض لن ينزعج إذا تم الاستفسار عن الأفكار الانتحارية على نحو لطيف ومتدرج؛ فيبدأ الطبيب بالسؤال عن نظرة المريض للمستقبل، هل يرى أن له مستقبلاً؟ وهل المستقبل جيد أم سيء؟ وهل يعتقد المريض أنه سيشفى أم سيموت؟ وهل يفكر المريض بالموت، وكم يشغله هذا التفكير؟ وهل يبدو الموت حلاً للمعاناة والضيق الراهنين؟ وهل يعتقد المريض أن الأمور ستكون أسهل لأسرته لو كان ميتاً؟ وهل يعتقد المريض أنه يستحق أن يموت؟ وهل خاطر المريض بحياته عن طريق السياقة على نحو متهور أو قطع الشارع من دون انتباه مثلاً؟ وهل فكر بوسائل أو طرائق لإيذاء نفسه؟ وما هي الوسائل والطرائق التي فكر بها؟ وهل قام بأي تحضيرات للانتحار؟ وهل سبق له فعلاً إيذاء نفسه بأي طريقة، ولماذا؟.

4- اضطرابات الإدراك  :perceptual abnormalities

الإدراك هو فهم ما يردنا من تنبيهات عبر الحواس الخمس، وقد يختل الإدراك فيتعرض الشخص لتجارب غير طبيعية تتعلق بالبيئة الخارجية (مثل الانخداع والأهلاسات) أو تتعلق بجسم المريض (مثل الشعور بألم غير معلل أو تبدل الأحاسيس الجسدية). والانخداع illusion هو سوء تفسير لتنبيهات حسية موضوعية حين يوجد تنبيه حقيقي مثل الضجيج ولكننا نفسره على نحو خاطئ على أن أحداً ينادينا بالاسم، أو عندما نرى ظلالاً في مكان معتم فنعتقد أن شخصاً ما يقترب منا، ويزداد تواتر حدوث الانخداعات في البشر المعرضين للكرب، فقد تتعرض الزوجة المترملة حديثاً لانخداعات متكررة تتعلق بزوجها المتوفى كأن تشعر بحركته حولها. أما الأهلاسات hallucinations فهي تجارب حسية تحدث على الرغم من عدم وجود أي تنبيه حسي موضوعي، وهي تحدث والمريض مستيقظ تماماً، لذلك فهي لا تشتمل على الأحلام والكوابيس وغيرها من التجارب الحسية غير الطبيعية التي تحدث في أثناء النوم. والتجارب الأهلاسية مماثلة تماماً للأحاسيس الطبيعية؛ ويدركها المريض كما يدرك التنبيهات الحسية الحقيقية؛ فالأصوات الأهلاسية تسمع على أنها آتية من خارج رأس المريض وعبر أذنيه، وليس داخل الرأس، والأهلاسات البصرية هي تجارب خارج الجسم تدرك عبر العينين، وليست مجرد تخيلات بصرية. وقد تحدث الأهلاسات في أي من الحواس الخمس، فهناك أهلاسات حسية (أو لمسية) وأهلاسات شمية وأهلاسات ذوقية، ولكن الأكثر شيوعاً هي الأهلاسات السمعية والأهلاسات البصرية، وتثير الأهلاسات البصرية والشمية والحسية الشك بمرض جسدي عضوي عادةً، وإن كانت تشاهد أيضاً في الاضطرابات النفسية، أما الأهلاسات السمعية فهي إحدى العلامات الوصفية للاضطرابات الذهانية.

5- الوظائف المعرفية العليا  :higher cognitive functions

يتضمن الفحص الطبي النفسي المنوالي (الروتيني) تقييماً لوعي المريض وتوجهه وانتباهه وتركيزه وذاكرته قصيرة الأمد وطويلة الأمد، وتفحص وظائف دماغيه عليا أخرى حين الشك بمرض نفسي ذي منشأ عضوي. ومن الضروري تقييم مستوى وعي المريض في مطلع الفحص الطبي النفسي، فقد يكون المريض تام اليقظة أو يكون وعيه متغيماً على نحو خفيف أو شديد يبلغ درجة السبات العميق. ويرافق تغيم الوعي تشتت الانتباه وخلل التوجه والتركيز وصعوبة الحصول على أجوبة مناسبة من المريض، وقد يرافق الاضطرابات النفسية الذهول stupor وهو حالة يكون فيها المريض يقظاً ولكن صامتاً لا يتحرك ولا يستجيب. وبالطبع فإنه من غير الممكن فحص الوظائف الاستعرافية عند مريض غير واع أو غير متجاوب، أما المريض المتجاوب فيفحص عنده أولاً التوجه orientation وهو إطلاع الشخص على مكانته في العالم الخارجي، ويفحص عادةً نسبةً إلى المكان (فيطلب الطبيب من المريض تسمية مكان وجوده في تلك اللحظة) وإلى الأشخاص (فيشير الطبيب إلى أحد أعضاء الفريق الطبي طالباً من المريض تسميته أو تحديد طبيعة عمله) وإلى الزمان (فيسأل الطبيبُ المريضَ عن اليوم والتاريخ والوقت)، مع الانتباه لخلفية المريض التعليمية والثقافية، فقد لا يكون لدى المريض اهتمام بالتاريخ مثلاً، وقد يكون عدم التوجه علامة لمتلازمة دماغية عضوية.

يتم بعد ذلك فحص كل من الانتباه والتركيز والذاكرة، واضطراب أي منها لابد من أن يلقي ظلالاً من الشك على كل ما يقدمه المريض من معلومات. الانتباه (ويسمى أحياناً الذاكرة الآنية أو ذاكرة العمل) هو الاحتفاظ بالمعلومات ريثما يتم استخدامها ثم نسيانها مباشرة، كما يحدث عندما نقرأ رقم هاتف وننساه من فور طلبه. ويفحص الانتباه بقراءة قائمة أشياء للمريض ومطالبته بتكرارها مباشرة، ومن المعتاد في هذا الفحص تقديم سلسلة من الأرقام بطول متزايد. ويتوقع من الشخص الطبيعي أن يتمكن من تكرار ستة أرقام بتسلسل سليم، ولكن ربما كان من الأنسب في المجتمع العربي استخدام قائمة من أسماء أشياء شائعة بالطريقة ذاتها. أما التركيز فهو المقدرة على معالجة معلومات تبقى في الوعي لفترة من الوقت، ويفحص عن طريق مطالبة المريض القيام بمسألة معقدة غير معتادة، مثل العد على نحو تراجعي من 10-1 إذا كان المريض متعلماً، أو سرد أسماء أيام الأسبوع أو أسماء الشهور على نحو عكسي، وتستخدم أحياناً مسائل أعقد مثل العد التنازلي سبعة سبعة بدأً من الرقم 100 مع ملاحظة عدد الأخطاء التي يرتكبها المريض، ويختل كل من الانتباه والتركيز عادةً في الهذيان .delirium

تفحص بعد ذلك الذاكرة بشكليها قصير الأمد وطويل الأمد. يقصد بالذاكرة قصيرة الأمد المقدرة على تسجيل معلومات وحفظها وتذكرها بعد بعض الوقت، وتفحص عن طريق تزويد المريض بمعلومات جديدة عليه، مثل إعطائه اسماً وعنواناً أو قائمة من ثلاثة أو أربعة أشياء شائعة الاستعمال (مثل سيارة، جبنة، مشط)، ومطالبة المريض بتكرارها فوراً للتأكد من أنه سمعها جيداً، ثم يسأل عنها بعد بضع دقائق للتأكد من مقدرته على حفظ معلومات جديدة وعلى تذكرها، وطبعاً فإن ذلك غير لازم إذا كان التكرار الفوري للمعلومات الجديدة مختلاً. أما الذاكرة طويلة الأمد فليس من الضروري أن تكون مختلةً إذا كان كل من الانتباه والذاكرة قصيرة الأمد مختلين، لذلك من الضروري فحصها في كل مريض بسؤاله عن حوادث مهمة في ماضيه، مثل تاريخ زواجه إذا كان معروفاً للطبيب أو حوادث عامة مثل تاريخ الاستقلال، ويمكن أيضاً الاستفهام عن معارف عامة مثل أخبار البلد الراهنة. وخلل الذاكرة هو علامة واسمة للخرف، ولكنه قد يشاهد في حالات أخرى مثل الهذيان أو الاضطراب التفارقي .dissociative disorder

يضطرب كل من التوجه والانتباه والتركيز والذاكرة في كل الحالات المسببة لتغيم الوعي، أما في النساوة (فقدان الذاكرة (amnesia فتضطرب الذاكرة فقط. ففي متلازمة فيرنيكه - كورساكوف Wernicke- Korsakoff syndrome  مثلاً، تختل الذاكرة القريبة وتحدث فجوات في الذاكرة البعيدة يحاول المريض ملأها بأحاديث مختلقه (تخريف أو تلفيق .(confabulation ومن الظواهر التي لها علاقة باضطراب الذاكرة ظاهرة «سبقت رؤيته»  déjà vu وفيها يعتقد المريض عند مواجهته لشخص أو موقف ما للمرة الأولى أنه قد سبق له مواجهة الشخص نفسه أو الموقف نفسه، ويحدث العكس في ظاهرة «لم ير سابقاً» jamais vu  إذ يخفق المريض في التعرف على شخص أو موقف كان قد صادفه فعلاً في الماضي. تحدث كل من هاتين الظاهرتين في الصرع، كما تصادف ظاهرة «سبقت رؤيته» عند الأصحاء وفي الاضطرابات القلقية.

يشتمل الفحص الطبي النفسي أيضاً على فحص محاكمة judgment المريض ومقدرته على التفكير التجريدي، ويتم ذلك عن طريق سؤال المريض عن طريقة استجابته لظرف يوجب عليه اتخاذ قرار ما؛ مثل سؤاله ماذا يفعل إذا شم رائحة غاز في منزله، أو يطلب من المريض تفسير أمثال شائعة؛ فقد لا يميز مريض أن المقصود بالقول «الدم لا يصبح ماء» هو صلة القربى فيفسر ذلك اعتماداً على اختلاف لون الدم عن لون الماء، بل إن مريضاً أصر على أن هذا القول خاطئ لأنه عندما أصيب بالرعاف وغسل أنفه بالماء صار الدم ماء!.

يجب على الطبيب طوال الفحص الطبي النفسي البقاء متنبهاً لما قد يظهر على المريض من أعراض ذات منشأ عصبي مركزي مثل الحبسة والعمه واللاأدائية .apraxia والحُبسات aphasias هي اضطرابات في اللغة تنجم عادةً عن أذية بؤرية في قشرة الدماغ الجبهية نتيجة النشبة الدماغية مثلاً، وتكشف بملاحظة طلاقة كلام المريض وبفحص مقدرته على تسمية الأشياء وعلى فهم أوامر حركية بسيطة وتنفيذها. وهناك عدة أنواع للحبسة؛ ففي الحبسة التعبيرية (أو حبسة بروكا (Broca s aphasia لا يمكن للمريض التحدث بطلاقة ولا تسمية الأشياء على نحو صحيح، ولكن يمكنه فهم الأوامر الحركية وتنفيذها، في حين يتكلم المريض المصاب بالحبسة الاستقبالية (أو حبسة فيرنيكه (Wernicke’s aphasia بطلاقة ولكن لا يمكنه فهم الكلام المسموع، وحديثه عادةً بلا مغزى ولا يمكنه تنفيذ أمر شفهي. والعمه agnosia هو عدم مقدرة المريض على تمييز الأشياء وتعريفها على نحو صحيح باستخدام حاسة البصر أو حاسة اللمس، وقد يترافق العمه والحبسة في أذيات قشرة الدماغ الجداري السائد  dominant، ولكن قد يحدث أيضاً عند مصابين بأذيات قشرة الدماغ الجدارية غير السائدة. ويقصد باللاأدائية عدم مقدرة المريض على تنفيذ مهارات حركية مثل ارتداء الملابس على الرغم من عدم إصابته بالضعف العضلي أو بعدم التناسق الحركي، وتحدث اللاأدائية عادةً جزءاً من متلازمة الإهمال neglect syndrome  في سياق إصابة قشرة الدماغ الجدارية غير السائدة أو نتيجة أذية قشرية دماغية شاملة وشديدة.

متلازمة غانسر Ganser syndrome هي اضطراب تفارقي نادر الحدوث كانت تصنف سابقاً على أنها تمارض أو اضطراب مفتعل، وتتألف من إجابة المريض عن الأسئلة إجابات طائشة أو خاطئة، وأحياناً مع أعراض تفارقية أخرى مثل الشرود أو النساوة أو أعراض تحويلية، وعادةً مع هلوسة بصرية كاذبة وانخفاض مستوى الوعي. يطلق على هذه المتلازمة أحياناً أسماء أخرى أشهرها «متلازمة الأجوبة التقريبية syndrome of approximate answers  وذهان السجن prison psychosis لأنها تشاهد عادةً في المساجين إذ إنها قد تمثل محاولةً للحصول على رحمة حراس السجن وشفقتهم. تحدث هذه المتلازمة حين التعرض لكرب شديد، وفيها يعطي المريض أجوبة غير دقيقة لأسئلة بسيطة على نحو يبين أنه فهم السؤال بوضوح؛ مثل أن يسأل المريض «ما عدد أرجل القطة؟» فيجيب «ثلاث». وقد تحدث هذه المتلازمة في سياق اضطرابات نفسية أخرى.

كثيراً ما يستخدم «فحص الحالة العقلية الوجي» mini-mental state examination (MMSE) في تقييم الوظائف الاستعرافية العليا على نحو سريع، ويفيد هذا الفحص بوصفه أداة نخل لكشف المرضى المصابين بخلل استعرافي، والذين يحتاجون إلى دراسة عصبية إضافية بالطرائق السريرية أو المخبرية أو الشعاعية بسبب احتمال إصابتهم بمرض في الجملة العصبية المركزية مثل داء ألزهايمر أو غيره. وقد طور هذا الفحص بإضافة بعض الأسئلة الموجهة لفحص وظائف استعرافية إضافية، والجدول (1) يبين النسخة المعدلة من فحص الحالة العقلية الوجيز.

يجب أخذ كل من عمر المريض ودرجة تعليمه بالحسبان حين تفسير نتائج هذا الفحص، ولكن - وعلى نحو عام - إذا كانت العلامة الكلية أقل من 80 يجب أن تثير الشك بوجود خلل في الوظائف الاستعرافية يستوجب استقصاءات إضافية.

الوظيفة المفحوصة

الأسئلة

 

العلامة

الذاكرة البعيدة

في أي عام وأي شهر وأي يوم ولدت؟

(علامة واحدة لكل إجابة صحيحة)

العام

 

5

الشهر

 

اليوم

 

في أي مدينة وأي محافظة ولدت؟

(علامة واحدة لكل إجابة صحيحة)

المدينة

 

المحافظة

 

تسجيل المعلومات

يذكر الفاحص ثلاثة كلمات غير مترابطة بمعدل واحدة كل ثانية (قميص، اخلاص، عنب) ويطلب من المريض تكرارها. تعطى علامة واحدة لكل كلمة تكرر على نحو صحيح. يمكن تكرار المحاولة 6 مرات، فإذا لم يكررها المريض فإنه لن يتذكرها لاحقاً.

قميص

 

3

اخلاص

 

عنب

 

التركيز

عد من 1 إلى 5، (وبعد أن يفعل ذلك) والآن عد من 5 إلى 1

 

 

2

قم بتهجئة كلمة "بستان" من نهايتها إلى بدايتها (محاولة واحدة لا تكرر. تعطى علامة لكل حرف تتم تهجئته بتسلسل صحيح).

(ن)

 

5

(ا)

 

(ت)

 

(س)

 

(ب)

 

التذكر الأول

هل تذكر الكلمات الثلاثة التي طلبت منك تكرارها قبل قليل؟ (يسأل حتى لو لم يكرر المريض ذكر الكلمات في عقب السؤال الأول. تعطى علامة واحدة لكل تسمية يتذكرها المريض).

قميص

 

9

اخلاص

 

عنب

 

التوجه الزماني

(3 علامات لكل إجابة صحيحة)

في أي سنة (أو عام) نحن الآن؟

 

 

15

في أي فصل من فصول السنة؟

 

 

في أي شهر؟

 

 

في أي يوم من أيام الأسبوع؟

 

 

ما هو تاريخ اليوم؟

 

 

التوجه المكاني

(علامة لكل إجابة صحيحة)

أين نحن الآن؟ ما هو هذا المبنى؟

 

 

5

في أي محافظة نحن؟

 

 

في أي مدينة؟

 

 

في أي حي من المدينة؟

 

 

في أي طابق من المبنى؟

 

 

التسمية

ما اسم هذا الشيء؟ (يشير الفاحص إلى خمسة أشياء أو أعضاء من جسمه ويطلب منه تسميتهما. تعطى علامة لكل تسمية صحيحة).

قلم

 

5

ساعة

 

كتف

 

أنف

 

اصبع

 

الطلاقة

عدد أسماء حيوانات لها أربع أرجل (تعطي علامة لكل تسمية، والعلامة العظمى 10. يوقف بعد 30 ثانية).

 

 

10

التشابه

(علامتان لكل إجابة صحيحة)

ما هو الشبه بين الذراع والساق؟

 

 

6

ما هو الشبه بين الضحك والبكاء؟

 

 

ما هو الشبه بين الأكل والنوم؟

 

 

التكرار

كرر هذه الجملة: "لا إلا مع إذا نعم"

(أو: هو يريد أن يذهب إلى البيت)

 

 

5

القراءة

يعرض الفاحص ورقة مكتوب عليها "أغمض عينيك" ويلاحظ تنفيذه للأمر. إذا لم ينفذ الأمر، يطلب منه أن يقرأه جهاراً.

 

 

3

الكتابة

اكتب الجملة: " هو يريد أن يذهب إلى البيت"

 

 

5

الرسم (الادراك الفراغي البصري)

يعرض الفاحص شكل مخمسين متداخلين ويطلب من المريض نسخ هذا الشكل

 

 

10

تنفيذ أمر من ثلاث مراحل

خذ الورقة من على الطاولة بيدك اليسرى، اطوها، ثم أعطني إياها (علامة لكل مرحلة تنفذ على نحو صحيح).

أخذ الورقة

 

3

طي الورقة

 

إعطاء الورقة

 

التذكر الثاني

هل تذكر الكلمات الثلاثة التي طلبت منك تكرارها قبل قليل؟ (يسأل بعد دقائق من السؤال الأول، ويسأل حتى لو لم يكرر المريض ذكر الكلمات في عقب السؤال الأول. تعطى علامة واحدة لكل تسمية يتذكرها المريض).

قميص

 

9

اخلاص

 

عنب

 

العلامة الكلية

 

100

(الجدول رقم 1) فحص الحالة العقلية الوجيز المعدل (3MS) modified mini-mental state exam

 

 

6- البصيرة  :insight

اضطراب البصيرة مظهر مهم للاضطراب النفسي لأنه يؤثر تأثيراً مهماً في تقبل المريض للتشخيص، وفي تعاونه مع الخطة العلاجية. والبصيرة هي إدراك المريض وفهمه وتقبله لاضطرابه، ويمكن تقييمها بالاستفسار عن الأمور الثلاثة التالية: أولاً: هل يقبل المريض رأي الطبيب بأنه ليس سليماً وبأن أعراضه غير طبيعية؟ ثانياً: هل يتقبل المريض أنه مصاب باضطراب نفسي أم يفسر أعراضه على أنها نتيجة اضطراب جسدي؟ ثالثاً: هل يوافق المريض على أنه بحاجة للعلاج وهل يتقبل العلاج الطبي النفسي؟.

التقييم الجسدي:

يحتاج كل المرضى النفسيين إلى تقييم طبي جسدي كامل، فكثير من المرضى المراجعين بشكاوى نفسية هم في الحقيقة مصابون باضطرابات جسدية. لذلك وإضافةً إلى ضرورة أخذ قصة مرضية طبية كاملة وضرورة استعراض أجهزة الجسم كافة كما ورد أعلاه، يجب فحص كل المرضى فحصاً جسدياً يغطي كل أجهزة الجسم مع تركيز الانتباه على تغذية المريض وعلى ما يبديه من أعراض وعلامات عصبية أو قلبية أو وعائية أو استقلابية، وتطلب الاستقصاءات المخبرية والشعاعية الملائمة لموجودات الفحص الطبي وللتشخيص التفريقي المحتمل، علماً بأنه لا توجد استقصاءات منوالية (روتينية) في الطب النفسي، ولكن قد تطلب بعض الاستقصاءات لنفي تشخيص محتمل أو تأكيده.

تلخيص الحالة ومناقشتها مع المريض:

من المفيد بعد الانتهاء من الفحص الطبي النفسي تلخيص موجودات القصة المرضية وفحص الحالة العقلية والتقييم الجسدي بهدف جمعها في متلازمة من أعراض وعلامات توجه نحو وضع تشخيص تفريقي يشتمل على كل الاحتمالات التشخيصية الممكنة، ثم تقارن هذه المتلازمة بالشروط التشخيصية لكل من الاضطرابات الممكنة من أجل التوصل إلى تشخيص مرجح. ويفضل دائماً التوصل إلى التشخيص المرجح لأسباب إيجابية عن طريق تمييز إصابة المريض بأعراض الاضطراب النفسي المشخص وعلاماته، وليس لأسباب سلبية عن طريق استبعاد تشخيصات أخرى. وينصح بتوزيع مشاكل المريض على خمسة محاور تشخيصية هي:

- المحور الأول: وتوضع عليه الاضطرابات الطبية النفسية التي يعانيها المريض.

- المحور الثاني: وتقدر عليه درجة ذكاء المريض وصفات شخصيته واضطراباتها.

- المحور الثالث: وتسجل عليه الأمراض الجسدية العضوية التي يعانيها المريض.

- المحور الرابع: وتسجل عليه الكروب الراهنة التي تزعج المريض.

- المحور الخامس: ويقدر عليه أداء المريض في السنة الماضية بنسبة مئوية عما كان معتاداً عليه.

ويمكن استكمال التشخيص الطبي النفسي بتوقع العوامل التي ربما كانت سبباً في حدوث الاضطراب النفسي المشخص، وبسرد المشاكل الظرفية التي يعانيها المريض حالياً ضمن عائلته أو في مدرسته أو مكان عمله، كما تسرد مشاكله الاقتصادية أو القانونية أو الثقافية أو الشخصية، وتحدد شدة الإعاقات المرافقة الموجودة حالياً في مجال العناية بالذات والأداء المهني والأسري والاجتماعي، إضافةً إلى تحديد نوعية حياته حالياً وذكر ما يملكه المريض من نقاط قوة قد تحسن إنذار اضطرابه النفسي (مثل البصيرة الجيدة وتوافر الدعم الأسري والاجتماعي، ونضوج الشخصية مثلاً)، وينتهي التشخيص إلى ذكر إنذار الاضطراب النفسي وتوقعات المريض وأهله ومن ثم صياغة خطة التدبير والعلاج.

ولابد من التذكير بأن التقييم والتشخيص الصحيحين هما أساس العلاج المناسب، لذلك فقد يكون تأخير اعتماد التشخيص النهائي بسبب نقص المعلومات أفضل من وضع تشخيص متسرع وغير مسند إلى معلومات كافية. فقد يصعب أحياناً التوصل إلى تشخيص وحيد مرجح للحالة بنهاية الفحص الطبي النفسي لأن الطبيب لم يتمكن إلا من استبعاد بعض الاضطرابات مع بقاء احتمال تشخيص عدة اضطرابات ممكنة ومع صعوبة ترجيح أحدها على الآخر مع استنفاذ كل مصادر المعلومات المتوافرة؛ فيوضع حينها تشخيص تفريقي يشمل عدداً من الاضطرابات النفسية بانتظار الحصول على معلومات إضافية أو إجراء استقصاءات أو اختبارات تفيد في تأكيد بعض هده الاضطرابات أو نفيها وقد يتضمن ذلك مقابلة أقرباء المريض أو أصدقائه، أو إجراء تقييم إضافي في العيادة أو في المستشفى، أو اللجوء إلى القياس النفسي، أو طلب بعض الفحوص المخبرية أو الشعاعية.

حين التوصل إلى تشخيص نهائي يدعم هذا الاستنتاج بما في سجل الحالة من عوامل قد تكون هي سبب الاضطراب النفسي، إذ يُعتقد أن الاضطرابات النفسية هي نتيجة تفاعل أسباب بيولوجية وأسباب نفسية وأخرى اجتماعية، فقد يكون الشخص مؤهباً وراثياً للإصابة بالاكتئاب بسبب وجود قصة عائلية للاكتئاب، ولكنه قد لا يعاني الاكتئاب إلا بعد تعرضه لكرب نفسي (مثل وفاة أحد المقربين منه) أو لضغط اجتماعي (مثل فقد عمله)، يضاف إلى ذلك أن الإصابة باضطراب نفسي تتعلق أيضاً بطرائق تأقلم الشخص مع الكرب وبما تعرض له سابقاً من فقد ونبذ. لذلك فإن العوامل السببية المحتملة تصنف عادةً إلى عوامل مؤهبة  predisposing للاضطراب النفسي (مثل الوراثة والأمراض الجسدية) وعوامل مثيرة precipitating للاضطراب النفسي (مثل الحداد أو تعاطي العقاقير) وعوامل مثبتة maintaining للاضطراب النفسي (مثل عدم العلاج أو الألم المستمر أو محدودية الدعم الاجتماعي).

ومن المهم في هذا الصدد الاتفاق مع المريض على فهم مشترك لحالته، فمن غير المتوقع نجاح أي تداخل علاجي إذا كانت الهوة بين تشخيص الطبيب ورأي المريض شديدة الاتساع؛ فللمريض أثر أساسي في تنفيذ الخطة العلاجية، فهو من سيلتزم بتناول الدواء وبتنفيذ برنامج العلاج السلوكي مثلاً، لذلك فعلى الطبيب التأكد من كسب ثقة المريض وتزويده بما يلزم من دعم وتشجيع، كما أن عليه تلخيص فهمه للحالة مزوداً المريض ببعض المعلومات عن التشخيص المرجح وأسبابه ومعالجته وإنذاره، ثم يمنح المريض فرصة لإبداء رأيه بغية الاتفاق على خطة علاجية مناسبة. وبالطبع فإن التوصل إلى اتفاق قد لا يكون ممكناً في بعض الحالات مما قد يتطلب تحديد موعد لمقابلة إضافية، أو البحث عن بعض القواسم المشتركة؛ فقد لا يقتنع المريض بأنه لا يوجد إرهابيون يسلطون أشعة مؤذية عليه، ولكنه قد يوافق على أن ما يحدث له قد أثر في أدائه المهني، وربما اقتنع مريض يرفض أن يقال عنه إنه مصاب بالفصام بأن المشكلة لا تكمن في التشخيص وتسمية المرض بل في سماع الأصوات التي تأمره بقتل نفسه. ويبقى بعض المرضى معدومي البصيرة رافضين أي تداخل علاجي، مما قد يوجب اللجوء إلى إجراءات قانونية لعلاجهم على نحو قسري، ولاسيما إذا كانوا يشكلون خطراً على أنفسهم أو على الآخرين.

تتضمن الخطة العلاجية في الطب النفسي عادةً تداخلات آنية، مثل التدبير الإسعافي لمريض يفكر بالانتحار أو مصاب بالهياج، وتداخلات مديدة تهدف إلى تحسين حالة المريض والمحافظة على تحسنها فترة تطول أو تقصر اعتماداً على التاريخ الطبيعي لسير كل اضطراب نفسي؛ فقد يجب العلاج طوال العمر في الفصام مثلاً. وتشتمل الخطة العلاجية عادةً على مشاركة ثلاثة أنواع من المداخلات: مداخلات دوائية ومداخلات علاجية نفسية ومداخلات اجتماعية؛ فتوصف الأدوية المناسبة في الوقت الذي تتم فيه إحالة المريض لتلقي العلاج النفسي المناسب، مثل العلاج السلوكي الاستعرافي، ولتأمين الدعم الاجتماعي اللازم، كالحصول على مساعدة مالية والتشجيع على إشغال أوقات الفراغ والخروج من العزلة الاجتماعية. ويجب توثيق الإنذار أو المآل المتوقع لحالة المريض، والاستجابة المتوقعة للتداخلات العلاجية، والعوامل التي قد تؤثر في فعالية هذه التداخلات على المدى الطويل. ويستفاد عند وضع الخطة العلاجية في كثير من الدول من أدوات القياس النفسي، ومن المقاربة متعددة الاختصاصات التي تفيد في تقييم أداء المريض في ظروف اجتماعية متنوعة لتحديد مقدرته على رعاية نفسه وعلى القيام بما يجب عليه القيام به من أعمال ومهام.

القياس في الطب النفسي :measurement in psychiatry

الطب علم كمي كما هو فن نوعي، ويمكن لمعظم الاختصاصات الطبية إجراء قياسات كمية توضح مظاهر مهمة من الاضطرابات التي تتخصص بها، مثل معدل النبض وضغط الدم وتخطيط القلب الكهربائي وتخطيط صدى القلب في اختصاص الأمراض القلبية. وقد حاول الطب النفسي في السنوات الأخيرة تطوير طرائق مماثلة لقياس مظاهر نوعية للاضطرابات النفسية، فابتدعت أدوات تستخدم على نحو رئيس في البحث العلمي ولكن يستفاد من بعضها في ظروف سريرية نوعية أيضاً. والأدوات النفسية هي مقابلات بنيوية وسلالم قياس مصممة لقياس ظواهر نفسية متنوعة مثل أعراض اضطراب نفسي ما وعلاماته، أو مستويات أو أنماط سلوك ما، وقد يصمم بعضها بغية تأكيد تشخيص معين، في حين يستخدم آخر لنخل أعداد كبيرة من الناس للتعرف على الأشخاص الذين ربما كانت لديهم «حالة» نفسية يحتمل تأكيد تشخيصها إذا خضعوا لتقييم أعمق وأشمل.

تعليمات للفاحص: ضع بجانب كل عبارة إحدى الخيارات الخمسة التالية:

0 = لا يوجد

1 = يوجد على نحو خفيف

2 = يوجد على نحو معتدل

3 = يوجد على نحو شديد

4 = يوجد على نحو شديد جداً ويسبب إعاقة بادية للعيان

الأعراض والعلامات

العلامة

المزاج القلق (مخاوف، توقع الأسوأ، خوف الاقدام، الهيوجية)

 

التوتر (الشعور بالتوتر، سرعة التعب، استجابة الذهول، سهولة البكاء، الارتعاش، تململ، صعوبة الاسترخاء)

 

المخاوف (من الظلام أو من الغرباء أو من البقاء وحيداً أو من الحيوانات أو من وسائط السفر أو من الازدحام)

 

الأرق (صعوبة بدء النوم أو تقطع النوم أو النوم غير المريح والشعور بالتعب عند الاستيقاظ أو الأحلام أو الكوابيس أو الرعب الليلي)

 

فكرياً: صعوبة التركيز أو ضعف الذاكرة

 

المزاج الاكتئابي (فقد الاهتمام أو عدم التمتع بالهوايات أو الاكتئاب أو الاستيقاظ الصباحي المبكر أو تغيرات المزاج اليومية)

 

أعراض جسدية (عضلية): آلام وأوجاع أو نفضات أو صلابة أو صك (كَزّ) الأسنان أو عدم ثبات الصوت أو اشتداد المقوية العضلية

 

أعراض جسدية (حسية): طنين الأذنين أو تشوش الرؤية أو هبات ساخنة وباردة أو شعور بالضعف أو شعور بالوخز

 

أعراض قلبية وعائية (خفقان أو تسرع القلب أو ألم الصدر أو نبضان العروق أو الشعور بقرب الاغماء أو تنهد أو زلة تنفسية)

 

أعراض تنفسية (ضغط على الصدر أو حس اختناق أو تنهد أو زلة تنفسية)

 

أعراض هضمية (صعوبة بلع، غازات، ألم بطني، تخمة (حس امتلاء البطن)، غثيان، قُيَاء، قرقرة أمعاء، ليونة أمعاء، امساك، نقص وزن الجسم)

 

أعراض بولية تناسلية (زحير بولي أو تواتر بيلات أو انقطاع طمث أو نزف طمثي أو ظهور برودة جنسية عند النساء أو قذف مبكر أو فقد رغبة جنسية أو عنانة عند الرجال)

 

أعراض ودية (جفاف الفم أو احمرار الوجه أو شحوب أو تعرق أو دوخة أو صداع توتري)

 

السلوك في أثناء المقابلة (لعب بالأصابع أو تململ أو رجفان اليدين أو تقطيب الحاجبين أو توتر تعابير الوجه أو تنهد أو تنفس سريع أو شحوب الوجه أو حركات بلع وغيرها من مظاهر القلق)

 

العلامة الكلية

 

(الجدول رقم2) مقياس هاملتون للقلق  Hamilton anxiety scale

 

تقيم بعض الأدوات النفسية السلوك الاجتماعي أو العدواني، أو المقدرة على رعاية النفس، ويتضمن كل منها تحويلاً للمعلومات السريرية الكيفية إلى بيانات كمية (أو رقمية) تقاس على نحو فئوي categorical أو باستخدام سُلَّم مَرْتَبِيّ ordinal؛ يسمح القياس الفئوي بترتيب المعلومات السريرية ضمن فئات منفصلة مثل «حزين» أو «غير حزين» وتعطى علامة «1» مثلاً لفئة «حزين» وعلامة «2» لفئة «غير حزين». ويستخدم سلم مرتبي عندما يتوافر أساس منطقي لترتيب الفئات على نحو واضح اعتماداً على شدة الأعراض مثلاً، فيمكن حينها استخدام فئات للحزن متزايدة الشدة مثل «غير حزين» و«حزين قليلاً» و«بالتأكيد حزين» و«حزين جداً»، وتعطى هذه الفئات علامات متدرجة تبدأ بـ «0» لفئة «غير حزين» وتتدرج عبر «1» لفئة «حزين قليلاً و«2» لفئة «بالتأكيد حزين» إلى «3» لفئة «حزين جداً». فإذا احتوى مقياس الاكتئاب على عشرين سؤالاً يتعلق كل منها بأحد أعراض الاكتئاب، وكان لكل سؤال أربع إجابات ممكنة تتدرج علامة كل منها من «0» إلى «3»، فإن الشخص الذي لا يعاني أي عرض للاكتئاب سيأخذ علامة «0» على كل من الأسئلة العشرين وسيكون مجموع علاماته «0»، في حين سيأخذ المريض الذي يعاني أشدَّ درجات أعراض الاكتئاب علامة «3» على كل سؤال وسيكون مجموع علاماته 60، وتحدد على مثل هذا المقياس نقطة فصل cut-off point للتفريق بين الشخص «الطبيعي» والشخص «غير الطبيعي»، فيقال مثلاً إن من يحصل على علامة تقل عن 20 هو شخص غير مصاب بالاكتئاب، وإن من يحصل على علامة 20 أو أكثر هو شخص مصاب بالاكتئاب، ويتم تحديد نقطة الفصل المثالية لكل مقياس اعتماداً على دراسة حساسية المقياس ونوعيته في عدة مجموعات من البشر بهدف تخفيف معدلات الإيجابية الكاذبة والسلبية الكاذبة. ويجدر التنبيه لأن البيانات الرقمية المشتقة من أدوات القياس النفسي تختلف عن مثيلاتها في الطب الجسدي، فالبيانات الطبية المعتادة (مثل الحرارة ومعدل النبض) تقاس على سلم نسبي مشترك؛ فمعدل نبض 112 هو تماماً ضعف معدل نبض 56، أما البيانات النفسية فليس لها هذه الدقة الحسابية، وإذا حصل مريض على علامة 24 على المقياس المستخدم في المثال أعلاه، وجمع مريض آخر 12 علامة على المقياس ذاته، فإن ذلك لا يعني أن اكتئاب المريض الأول يعادل ضعف اكتئاب المريض الثاني، بل يعني فقط أن المريض الأول هو أكثر اكتئاباً من المريض الثاني.

يفيد استخدام الأدوات النفسية في أثناء الممارسة السريرية اليومية في قياس شدة الاضطراب النفسي عند مقابلة المريض للمرة الأولى، ويفيد تكرار هذا القياس لاحقاً في قياس مدى تحسن المريض كمياً ومدى استجابته للعلاج، ويطبق بعض هذه الأدوات من قبل فاحص مدرب في حين يطبق بعضها الآخر من قبل المريض نفسه. ومن الأمثلة على الأدوات التي تطبق من قبل فاحص: مقياس أعراض الفصام الايجابية والسلبية Positive and Negative Symptom Scale ومقياس ييل براون للوسواس القَهْرِيّ Yale- Brown Obsessive Compulsive Scale  ومقياس هاملتون للاكتئاب Hamilton Depression Scale  ومقياس هاملتون للقلق Hamilton Anxiety Scale (الجدول رقم2)، ومن الأمثلة على الأدوات التي يطبقها المريض على نفسه قائمة أعراض الاكتئاب التي وصفها(Beck)  Beck Depression Inventory  ومقياس أدنبره للاكتئاب التالي للولادة  Edinburgh Postnatal Depression Scale (الجدول رقم 3).

تعليمات للمريضة: بما أنك قد ولدت مؤخراً، يهمنا أن نعرف كيف تشعرين الآن. الرجاء وضع خط تحت العبارة الأقرب لمشاعرك خلال الأسبوع الماضي (وليس فقط اليوم).

و المثال التالي يوضح المطلوب:

شعرت بالفرح

نعم طيلة الوقت

نعم معظم الوقت

كلا ليس على نحو متكرر

كلا إطلاقاً

يعني تسطير عبارة "نعم معظم الوقت" أنك كنت تشعرين بالفرح معظم الوقت خلال الأسبوع الماضي. يرجى إتمام الأسئلة التالية بالطريقة ذاتها.

1. كنت قادرةً على الضحك ورؤية الوجه الهزلي للأمور

بالطريقة ذاتها التي أفعل بها ذلك دائماً

أقل مما أنا معتادة عليه

بالتأكيد أقل كثيراً من المعتاد

كلا إطلاقاً

2. توقعت الأمور بسعادة ومتعة

كما أفعل دائماً

أقل قليلاً مما أنا معتادة عليه

بالتأكيد أقل مما أنا معتادة عليه

كلا  إطلاقاً

*3. لمت نفسي بلا مبرر على بعض الأخطاء

نعم معظم الوقت

نعم لبعض الوقت

كلا ليس على نحو متكرر

كلا أبداً

4. شعرت بالقلق والمخاوف من دون سبب وجيه

كلا إطلاقاً

نوعاً ما

نعم أحياناً

نعم على نحو متكرر جداً

*5. شعرت بالخوف أو بالهلع من دون سبب وجيه

نعم على نحو متكرر

نعم أحياناً

كلا ليس كثيراً

كلا أبداً

*6. شعرت بأنني عدت لا أتحمل ما يحدث حولي

نعم، عدت لا أستطع التأقلم أبداً

نعم، عدت لا أتأقلم على النحو المعتاد أحياناً

كلا استطعت التأقلم على نحو جيد معظم الوقت

كلا ما زلت أتأقلم كما هي عادتي دائماً

*7. كنت حزينة على نحو جعل النوم صعباً

نعم معظم الوقت

نعم أحياناً

كلا ليس على نحو متكرر

كلا إطلاقاً

*8. شعرت بالحزن والتعاسة

نعم معظم الوقت

نعم على نحو متكرر

كلا ليس على نحو متكرر

كلا أبداً

*9. شعرت بالحزن إلى درجة البكاء

نعم معظم الوقت

نعم على نحو متكرر

أحياناً

كلا أبداً

*10. خطر ببالي أن أؤذي نفسي

نعم على نحو متكرر

أحياناً

قليلاً جداً

كلا أبداً

مجموع العلامات:

تعطى علامات متدرجة من 0 إلى 1 و2 و3 حسب شدة العرض. ويُعْكَس ترتيب العلامات بالنسبة للأسئلة المعلمة بنجمة (*) فتعطى علامة 3 أو 2 أو 1 أو 0، وتحسب العلامة الكلية بجمع علامات الأسئلة العشرة.

يُطبّق هذا المقياس في الشهر الثاني أو الثالث بعد الولادة، وتقع نقطة الفصل بين العلامتين 12 و13، فالسيدة التي تجمع 13 علامة أو  أكثر تحتاج لتقييم إضافي لأنها قد تكون مصابة بالاكتئاب.

(الجدول رقم3 ) مقياس أدنبرة للاكتئاب التالي للولادة

 

مقياس أدنبرة للاكتئاب التالي للولادة

المقاربة متعددة الاختصاصات :multidisciplinary approach

لقد أصبحت المقاربة متعددة الاختصاص للتقييم (والعلاج) في الطب النفسي إجراءً منوالياً في أجزاء عديدة من العالم، إذ تنفذها فرق طبية نفسية مؤلفة من أعضاء مختصين بطيف من المهن المختلفة؛ فقد تشتمل مثلاً على مختصين بالتمريض النفسي وبعلم النفس وبإعادة التأهيل إضافةً إلى الأطباء النفسيين. ولكن فكرة الفريق الطبي النفسي متعدد الاختصاصات لم تنتشر بعد في البلاد العربية على نحو عام وفي سورية على نحو خاص، كما أن توافر الموارد البشرية اللازمة لتكوين الفريق الطبي النفسي متعدد الاختصاصات ما زال محدوداً في هذه البلاد. ومع ذلك فإنه من الضروري أن يحافظ كلُّ من يتعامل مع المرضى النفسيين على فكرة المقاربة متعددة الاختصاصات؛ فمن غير المنطقي أن يستمر الطبيب بتقديم كل الخدمات والعلاجات الطبية النفسية منفرداً، كما لو كان جراحاً يجري عملياته الجراحية من دون مساعدة طبيب التخدير وممرضة العمليات وغيرهما. لذلك من الضروري أن يتعرف الطبيب على ما هو متوافر حوله من مهارات مهنية تفيده وتفيد مرضاه، وأن يستخدمها لخدمة مرضاه، وأن يطور صلاته ببقية العاملين في الرعاية الصحية النفسية لتحسين مجال المهارات المتوافرة؛ فأساس المقاربة متعددة الاختصاصات هو تنوع المهن والمهارات وليس مجرد تكوين فريق الطب النفسي، فقد يستفيد المرضى من التقييم النفساني والتقييم التمريضي وتقييم إعادة التأهيل والتقييم الاجتماعي حتى لو لم يتمتع المختصون بهذه التقييمات رسمياً بعضوية فريق طبي نفسي. يمكن الاستفادة من التقييم النفساني psychological assessment بطريقتين؛ الأولى هي تقييم سلوك المريض وشخصيته قبل وضع خطة العلاج، والثانية هي التقييم الكمي للوظائف مثل قياس الذكاء، وهذه القياسات هي أكثر تعقيداً من التقييم السريري ولكنها تمتاز منه بأنها تقدم وصفاً أكثر تفصيلاً لمشكلة ما، كما تقدم خط بدء موثوقاً تقاس عليه الاستجابة للخطة العلاجية في المستقبل. وللفريق التمريضي شأن مهم في تقييم المرضى، فهم الأقرب والأكثر تواصلاً مع المرضى المقبولين في المستشفى مما يضعهم في موقع مثالي لتوثيق ملاحظات مهمة عن أداء المريض؛ فيمكنهم مثلاً تقييم صحة المريض الجسدية وعلاماته الحيوية ووظائف جسمه مثل شهيته للطعام ونومه ومستوى حيويته ومبادرته وتفاعله الاجتماعي، وموقعهم هذا مثالي أيضاً لرصد استجابة المريض للعلاج ولكشف حدوث أي مشاكل إضافية أو تأثيرات جانبية، كما أن فرق التمريض في العيادات الخارجية، وفي التمريض المجتمعي على نحو خاص، هي في موقع مميز لتقييم أسرة المريض ومجتمعه وما تحتويه الأسرة والمجتمع من عوامل ربما كان لها شأن في إحداث الاضطراب النفسي أو في وضع خطة العلاج الطبية النفسية الاجتماعية. وعلى نحو مماثل فإن لفرق إعادة التأهيل أيضاً شأناً مهماً في تقييم المريض النفسي، وشأنها هو تقييم الخلل الوظيفي عند المريض، وتقييم إمكاناته المتبقية، وتحديد مهاراته التي يجب تقويتها أو تطويرها بغية تضخيم مقدرة المريض على عيش حياة مستقرة ومستقلة، وتتضمن المناطق المهمة من الأداء الشخصي التي تهتم بها فرق إعادة التأهيل مقدرة المريض على القيام بالأعمال المنزلية وعلى الاهتمام بنفسه (مثل الاغتسال والطبخ وضبط المصروف) ومهاراته الاجتماعية (مثل مقدرته على التعبير عن نفسه ومهاراته غير اللفظية) ومهاراته المتعلقة بالعمل (مثل إمكانية الالتزام بالمواعيد ومهارات الفنون اليدوية النوعية). أخيراً فإن للعاملين في مجال الخدمة الاجتماعية أيضاً أثراً ربما ساهم مساهمةً مهمة في تقييم المرضى المصابين بالاضطرابات النفسية؛ فمهما كانت طبيعة تدربهم ووظيفتهم الإدارية، يمكنهم القيام بتقييم نافع لظروف المريض المنزلية ولعلاقاته الأسرية والاجتماعية ولما يواجهه من مشاكل في المدرسة أو في العمل ولما يلزمه من دعم مالي، بل إن لهم أثراً علاجياً أيضاً في بعض البلدان.

تسجيل الملاحظات (توثيق الفحص):

يبذل الطبيب الكثير من الوقت والجهد في إجراء الفحص الطبي النفسي الشامل، ويجب ألا يضطر إلى تكرار بذل ذلك الجهد كلما راجعه المريض، لذلك من الضروري حفظ سجل لموجودات الفحص الطبي النفسي يوثق نتائج الفحص الطبي النفسي والخطة العلاجية التي تم الاتفاق عليها مع المريض، ويميز بوضوح بين المعلومات المستقاة من المريض نفسه وبين المعلومات المجموعة من مصادر أخرى.

يستفيد من توثيق الفحص الطبي النفسي الطبيب الذي سيتابع المريض في المستقبل، ويستفيد منه أيضاً الأطباء المناوبون حين يراجع المريض على نحو إسعافي أو خارج أوقات الدوام الرسمي، كما أنه مفيد لبقية فرق الرعاية الصحية النفسية التي قد تجري تقييمات إضافية لحالة المريض، إضافةً إلى أن للسجلات السريرية النفسية أهمية قانونية؛ فقد يتورط مريض نفسي بأفعال توصله إلى المحاكم، أو يحاول الانتحار، أو يسعى أهله إلى الحجر عليه فيطلب القاضي الاطّلاع على سجله الطبي النفسي.

ينتج من توثيق الفحص الطبي النفسي سجل دائم لما تم عمله (ولما لم يعمل) في حينه، وقد يضطر إلى مراجعة هذا السجل بعد سنوات عديدة من قبل أطباء جدد في المستشفى أو من قبل قضاة أو غيرهم، لذلك فإن التوثيق يجب أن يكون شاملاً وواضحاً، فالسجل غير الدقيق أو غير الكامل أو غير المقروء هو على الأقل عديم الفائدة، وقد يكون خطراً في بعض الأحوال. ينصح عادةً بمحاولة جعل الفحص الطبي النفسي كاملاً عن طريق استخدام استمارة مسبقة التصميم كإطار بنيوي واضح يساعد على تذكر تفاصيل ذلك الفحص كافة، ويوضح النواقص التي لم تتم تغطيتها في أثناء الفحص، ويسهل استخدام المعلومات من قبل الآخرين. والشكلان (1- أ و1- ب) يوضحان الاستمارة المعتمدة من قبل المجلس العلمي لاختصاص الطب النفسي في وزارة الصحة في الجمهورية العربية السورية.

استمارة الفحص الطبي النفسي

التاريخ:

التعريف الشخصي بالمريض:

الاسم:                                   العمر:                  الجنس:          العمل:

الوضع العائلي:          عدد الاولاد:             عنوان السكن ورقم الهاتف:                                                     

سبب الإحالة النفسية ومصدر المعلومات

الشكوى الرئيسية

تاريخ المرض الراهن

السوابق الطبية النفسية

السوابق الطبية الجسدية

السوابق الطبية النفسية العائلية

--------------------------------------------------------------------------------------------

 

التاريخ الشخصي

القصة العائلية والعلاقات ضمن الأسرة

الحمل والولادة والتطور الروحي الحركي

المدرسة والعمل

العلاقات الاجتماعية والجنسية الشخصية قبل المرض

--------------------------------------------------------------------------------------------

فحص الحالة العقلية الراهنة:

المظهر والسلوك

الكلام

المزاج والوجدان

محتوى الأفكار

اضطراب الإدراك والتجارب غير الطبيعية

الوظائف الاستعرافية العليا

البصيرة

--------------------------------------------------------------------------------------------الفحص الجسدي

النبض:            الضغط:           الحرارة:

الجهاز العصبي

الصدر والبطن

--------------------------------------------------------------------------------------------التشخيص التفريقي:

--------------------------------------------------------------------------------------------التشخيص المرجح متعدد المحاور

المحور

 

رمز ICD 10

الاضطرابات النفسية

 

 

الذكاء والشخصية

 

 

الأمراض العضوية

 

 

الكروب الراهنة

 

 

الأداء خلال السنة الماضية

 

 

 

 

الأسباب الإمراضية المحتملة

عوامل مؤهبة -------------------------------------------------------------------------------عوامل مثيرة -------------------------------------------------------------------------------عوامل مثبتة --------------------------------------------------------------------------------

المشاكل الظرفية المرافقة

 مجال المشكلة

الرمز

ضمن العائلة / المنزل

 

 

في مجال التعليم / العمل

 

 

اقتصادية / قانونية

 

 

ثقافية / بيئية

 

 

شخصية

 

 

الإعاقات المرافقة الموجودة حالياً

 

درجة الإعاقة

0

معدومة

1

خفيفة

2

متوسطة

3

شديدة

4

هائلة

غ

غير محددة

أ

العناية بالذات

 

 

 

 

 

 

ب

مهنياً

 

 

 

 

 

 

ت

أسرياً

 

 

 

 

 

 

ث

اجتماعياً

 

 

 

 

 

 

 

نوعية الحياة الحالية ( تحدد من قبل المريض كيفياً أو باستخدام المقياس التالي بوضع إشارة على الخط بين صفر ويعني سيء و10 وتعني ممتاز)

 

0         1       2       3       4       5       6       7      8       9       10

 

نقاط قوة المريض (العوامل الايجابية في حالة هذا المريض)

--------------------------------------------------------------------------------------------

الإنذار وتوقعات المريض وأهله

--------------------------------------------------------------------------------------------

خطة التدبير والعلاج

التاريخ

المشكلة السريرية

التداخل العلاجي

المتابعة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اسم وتوقيع الطبيب

 

الشكل ( 1- أ و ب) للاستمارة المعتمدة من قبل المجلس العلمي لاختصاص الطب النفسي في وزارة الصحة في الجمهورية العربية السورية

 

 

الأعراض والعلامات النفسية:

يبدأ جمع الأعراض والعلامات النفسية منذ لحظة معرفة المريض، فقد يستدل على حالة المريض المزاجية من تعابير وجهه ووضعته وحركته؛ فالمريض المصاب بالهوس يكون مفرط الحركة ويقوم بأي تصرف يخطر له من دون رادع أو وازع، في حين يجلس المريض المصاب بالاكتئاب بسكون تام مع ظهر منحن ونظرة مركزه على الأرض عادةً. ولكن هناك حالات من الاكتئاب يعاني فيها المريض الهياج والارتعاش فلا يستطيع الاستقرار في مكان واحد، ويجب تفريق ذلك عن التململ (أو تعذر الجلوس) akathisia المشاهد عادةً نتيجة التأثير الجانبي للأدوية المضادة للذهان. ونادراً ما تشاهد اضطرابات سلوكية حركية تصادف عادةً في الفصام وتعرف بالجامود catatonia؛ وتتضمن المحافظة على وضعات جسمية غريبة وغير مريحة (مثل النوم على وسادة وهمية أو ترك الذراع مرفوعة لفترة طويلة جداً من الوقت)، كما تتضمن أنماطاً سلوكية غريبة مثل الذهول stupor والإثارة excitement والنمطيةstereotypy ، وهي حركات متكررة لا هدف لها قد تتكرر على نحو منتظم، كتأرجح الجسم والتصنعmannerism ، وهي حركات متكررة يبدو ظاهرياً أن لها معنى، مثل التحية والمُعَانَدَة negativism وهي أن يفعل المريض عكس ما يطلب منه مقاوماً الجهد المبذول لثنيه عن ذلك، والإطاعة الآلية automatic obedience إذ يستمر المريض بتنفيذ تعليمات الطبيب على الرغم من أمره بالتوقف عن ذلك، والأَدَاء الصَدَوِيّ echopraxia وفيه يقلد المريض كل حركات الطبيب على الرغم من الأمر بألا يفعل ذلك.

وفي حين يعرف معظم الأطباء أن أسماء الأعراض والعلامات المرضية الجسدية، مثل ألم خناقي أو نفخة انقباضية؛ هي مصطلحات لها تعاريف دقيقة ودلالات تشخيصية فإن معرفتهم بتعاريف الأعراض والعلامات المرضية النفسية ودلالاتها لا ترقى إلى ذلك المستوى، فتراهم يستخدمون مصطلحات مثل وسواس أو هلوسة على نحو لا يمت إلى معناها الحقيقي بصلة، لذلك كان من الضروري أن يشمل هذا الفصل التعريف بالأعراض والعلامات النفسية مع العلم أنه لن يَكون شاملاً، فقد تم التعريف ببعض الأعراض والعلامات المرضية النفسية في أثناء مناقشة الفحص الطبي النفسي، وسيتم التعريف ببعض الأعراض والعلامات المميزة لاضطرابات نفسية محددة في الأبحاث المخصصة لتلك الاضطرابات. وتتضمن الفقرة التالية تعريفاً بأعراض وعلامات يصعب على الأطباء عادةً تمييزها، وتشاهد في اضطرابات نفسية مختلفة سيتم شرح كل منها في البحث المخصص له.

سنستعرض في الفقرة التالية بعض الأعراض والعلامات مرتبةً بحسب الوظيفة العقلية المضطربة بدأً باضطرابات المزاج ومروراً باضطرابات الإدراك وانتهاءً باضطرابات التفكير.

أولاً- اضطرابات المزاج:

يضطرب المزاج mood في العديد من الحالات المرضية النفسية كالاكتئاب والهوس والقلق والفصام والذهانات العضوية. وقد يأخذ اضطراب المزاج أحد ثلاثة أشكال؛ فقد تتبدل طبيعة المزاج، أو تتسارع تقلباته، أو يكون غير ملائم لأقوال المريض وأفعاله أو لما يحدث حوله.

تبدلات طبيعة المزاج: قد تتبدل طبيعة المزاج إلى الاكتئاب أو الشمق أو القلق. وتستخدم كلمة اكتئاب depression  بأحد معنيين؛ فهي تستخدم للدلالة على انخفاض المزاج والشعور بالحزن والسوداوية، كما تستخدم للدلالة على الاضطراب الاكتئابي الذي يشتمل على انخفاض المزاج إضافةً إلى أعراض أخرى مثل عدم القدرة على التمتع ونقص الحيوية ونقص الشهية للطعام واضطراب النوم وانعدام الرغبة الجنسية. أما (الشمق (euphoria أو (الزهو (elation فهو شعور شخصي بارتفاع المزاج وبحيوية مفرطة قد ترافق فرط النشاط الحركي وعدم التثبيط الاجتماعي والسلوك المتهور. والقلق anxiety  هو شعور غير منطقي وغير مبرر بالخوف يرافقه عادةً أعراض جسدية فيزيولوجية مثل الخفقان وعسر التنفس والارتعاش والغثيان وفرط التهوية، وهناك حالات خاصة من القلق هي الرهابات. والرهاب phobia هو خوف شديد من شيء أو فعل أو مكان محدد يحاول المريض تجنبه، والخوف هنا غير عقلاني لأنه لا يتناسب ودرجة الخطر الحقيقي، ويدرك المريض أن خوفه مضخم ولكنه لا يستطيع السيطرة عليه، ومن الأشياء التي قد تسبب الرهاب: الحشرات والعقارب وبعض الحيوانات كالقطط والكلاب، وبعض الظواهر الطبيعية كالظلام والبرق. أما الأماكن المسببة للرهاب فتتضمن المناطق المزدحمة والمناطق الفسيحة (رهاب الميادين) agoraphobia و(رهاب الأماكن المغلقة) claustrophobia مثل المصعد والأماكن المرتفعة.

تبدلات تقلب المزاج: يتقلب المزاج الطبيعي باستمرار ليساير مع ما في الحياة اليومية من مسرات ومنغصات، وقد يصبح هذا التقلب مفرطاً أو ناقصاً في بعض الاضطرابات النفسية؛ ففي حالة المزاج المقلقل labile mood تصبح تقلبات المزاج سريعة ومفاجئة وعنيفة بين انفعالات مختلفة ومتناقضة أحياناً، فقد يقهقه المريض فرحاً لثوانٍ قبل أن يبدأ البكاء بحرقة. وتنقص تقلبات المزاج الطبيعية في حالة المزاج المسطح blunted affect، وقد يبلغ هذا النقص درجةً شديدة يفقد فيها المريض عواطفه وقدرته على الارتكاس الانفعالي على نحو كامل فيقال إنه مصاب باللامبالاة (أو فُتُور الشُّعُوْر (apathy؛ فلا يشعر بالحزن لخبر وفاة والده مثلاً ولا بالفرح لزواج ابنه. وينعكس التعبير الانفعالي في حالة المزاج اللا ملائم inconsistent mood  إذ يتناسب المزاج والتعبير الانفعالي عادةً مع كلام الشخص وأفعاله والظروف المحيطة به، وينعدم هذا التناسب حين يكون المزاج لا ملائماً، فيضحك المريض في أثناء الحديث عن وفاة شخص عزيز عليه مثلاً.

ثانياً- اضطرابات الإدراك:

الحواس الخمس هي النافذة التي يطل منها العقل الواعي على العالم المادي الخارجي الموضوعي، والإدراك perception  هو معرفة العالم الخارجي عن طريق تفسير التنبيهات الحسية الواردة عبر مختلف طرائق أعضاء الحس وفهمها على نحو يمكن مثلاً من استيعاب خواص الأشياء مثل ألوانها وأشكالها وأبعادها ورائحتها وصوتها وطعمها، وقد يضطرب الإدراك كمياً أو نوعياً.

اضطرابات الإدراك الكمية: هي اضطراب شدة الإدراك زيادةً أو نقصاً، فالشخص القلق والمتوتر مثلاً يدرك المنبهات الحسية العادية على أنها مشتدة إلى درجة الإزعاج فيصعب عليه تحمل الأصوات والأضواء ويميل إلى عزل نفسه في مكان خفيف الإضاءة بعيداً عن ضجيج أولاده. وتزداد شدة الإدراك بكل الحواس عند المرضى في أثناء هجمة الهوس mania فتبدو لهم الدنيا زاهية الألوان ومليئة بكل ما هو سار، في حين تخف شدة الإدراك عند المرضى في أثناء هجمة الاكتئاب فتبدو لهم الدنيا بلا ألوان ويصلهم الصراخ وكأنه صوت عادي الارتفاع.

اضطرابات الإدراك النوعية: قد تضطرب نوعية الإدراك فيمر الشخص بتجارب غير طبيعية تشمل الانخداع والأهلاسات وتبدد الشخصية والغربة عن الواقع.

الانخداع :illusion هو إدراك خاطئ لتنبيه حقيقي ينجم عن سوء تفسير تنبيه حسي لإحدى الحواس الخمس، ويحدث عادةً حين تكون شدة التنبيه الحسي منخفضة على نحو عام، وقد يكون الانخداع بصرياً أو سمعياً أو شمياً أو ذوقياً أو لمسياً، والأكثر شيوعاً هو الانخداع البصري والانخداع السمعي. وقد يحدث الانخداع عند البشر الأسوياء في ظروف معينة مثل وجود الشخص في حديقة سيئة الإنارة فيدرك ظل شجرة على أنه شخص يتحرك في الظلام. وقد يكون الانخداع فيزيائياً أو فيزيولوجياً أو انفعالياً. يتبع الانخداع الفيزيائي بعض قوانين الطبيعة مثلما يحدث عند وضع قلم في كأس ماء فيبدو الجزء المغمور من القلم أقرب إلى سطح الماء مما هو عليه حقيقةً ومثلما يحدث في ظاهرة السراب التي يتعرض لها المسافرون في الصحراء. وينجم الانخداع الفيزيولوجي عن ظرف يوجد فيه الشخص، كالوجود على ظهر باخرة تهتز، واستمرار الشعور باهتزاز الأرض تحت قدميه بعد النزول إلى اليابسة. أما الانخداع الانفعالي فيرافق حالات نفسية مثل الخوف والفزع، فقد يدرك الشخص الخائف صوت تنفسه على أنه صادر عن حيوان مفترس، أو يدرك صوت خشخشة النقود في جيبه على أنها شخص يلاحقه. يزداد حدوث الانخداعات في سياق الاضطرابات النفسية التي يرافقها انخفاض درجة الوعي مثل الهذيان، بما فيه الهذيان الارتعاشي الكحولي. وتمتاز الانخداعات المشاهدة في سياق هذه الاضطرابات عن الانخداع المشاهد عند الأسوياء بأنها ثابتة ومتعددة ومتكررة، وبأن المريض يرتكس لها فيتصرف وكأنها أمر واقع؛ فقد يحاول مريض مصاب بالهذيان التالي لترفع حروري شديد؛ التقاط حشرات غير موجودة على سرير المستشفى.

الهلوسة :hallucination هي إدراك خاطئ لتنبيه لا وجود له على الإطلاق عبر إحدى الحواس الخمس، وهي إدراك كاذب لأنها إدراك حسي كامل (و ليس مجرد تخيل) غير مثار بتنبيه خارجي (وليس مجرد سوء تفسير لتنبيه ما) ولا يمكن للمريض التحكم به إرادياً، بل يستقبله بمواصفات التنبيه الخارجي المماثل نفسه، وقد يستقبله جنباً إلى جنب مع منبهات حسية حقيقيه. تحدث الهلوسة في معظم الحالات تلقائياً ومن دون أي مثيرات، ولكن هناك نوع قليل الحدوث نسبياً من الهلوسة هو الهلوسة الانعكاسية reflex hallucination يرافق فيه تنبيه حاسة ما أهلاسات في حاسة أخرى؛ فقد يسمع المريض معزوفةً موسيقية فيرى الفرقة التي تعزفها. وقد تكون الهلوسة الانعكاسية ناجمةً عن منبه إهلاسي، فتثير الأهلاسات السمعية (سماع صوت رجل مثلاً) هلساً بصرياً مرافقاً (رؤية ذلك الرجل).

نادراً ما تحدث الأهلاسات على نحو عابر عند أشخاص أسوياء نفسياً يمرون بظروف محددة مثل التعب الشديد، ولحظة الدخول بالنوم (هلوسة تنويمية(hypnogenic hallucination ، ولحظة الاستيقاظ (هلوسة الصحو .(hypnopompic hallucination فقد يسمع الشخص صوتاً يناديه بالاسم، أو تتراءى له صورة ما عندما يكون مرهقاً أو في اللحظة الفاصلة بين اليقظة والنوم في بداية نومه أو في نهايته. وتصنف الأهلاسات بحسب درجة تعقيدها إلى أهلاسات بسيطة مثل سماع ضجيج، وأهلاسات مركبة مثل سماع نقاش أو الإحساس بشيء يمشي على البطن. كما تصنف الأهلاسات بحسب طبيعتها الحواسية إلى أهلاسات شمية وأهلاسات ذوقية وأهلاسات حسية وأهلاسات بصرية وأهلاسات سمعية. الأهلاسات الشمية هي شم روائح لا وجود لها وكريهة عادةً، مثل شم رائحة غاز أو مطاط يحترق أو بيض فاسد. والأهلاسات الذوقية هي الشعور بطعم سيء أو فاسد مثل طعم الصدأ أو المواد المعقمة من دون وجود أي مصدر لذلك الطعم. أما الأهلاسات الحسية فهي الشعور بأشياء لا وجود لها على سطح الجلد أو تحت الجلد، كالإحساس بحشرات تمشي على الجلد أو تحته، وقد تنبع الأهلاسات الحسية من داخل الصدر أو البطن أو الرأس أو الأطراف فيطلق عليها اسم «أهلاسات حشوية» وهي أهلاسات قد يصعب تمييزها من سوء تفسير المريض لأحاسيس جسدية طبيعية، ولكنها قد تكون أحياناً واضحةً وغريبةً مثل الشعور بأحاسيس جنسية نوعية أو الإحساس بأفعى تتحرك في جوف البطن أو الشعور بفقاعة هوائية ضمن الرأس يتغير موقعها بتغير وضعة الرأس.

إن الأهلاسات الأهم تشخيصياً هي الأهلاسات البصرية والسمعية. تتضمن الأهلاسات البصرية البسيطة رؤية ومضات أو خطوط أو بقع أو نقط مضيئة أو هالات عابرة، أما الأهلاسات البصرية المركبة فهي رؤية أشكال كاملة أو ناقصة، مشوهة أو واضحة المعالم، كأشكال البشر أو الحيوانات أو الحشرات أو أشياء لا وجود لها على الإطلاق، وقد تكون هذه الأشياء متحركة أو ثابتة، دائمة أو عابرة، ملونة أو بالأبيض والأسود، وقد تكون مخيفة للمريض أو سارة، كما قد تكون مملوءة بالحياة وكأنها فصل من مسرحية فيه أشخاص يتحركون ويتفاعلون بعضهم مع بعض. ويتأثر تفسير هذه الأهلاسات بالثقافة المحلية، فيعتقد بعض المرضى أنهم يرون الجن مثلاً، وقد يأتي هذا التفسير بإيحاء من معالج شعبي يراجعه المريض. هذا وقد تحدث الأهلاسات البصرية خارج مجال الرؤية وكأن للمريض عيناً في قفا رأسه، كما قد يرى المريض أحد أعضاء جسده مفصولاً عنه ويتحرك لوحده، أو يرى شخصاً آخر يشبهه تماماً فيما يعرف بهلوسة رؤية الذات.

تشتمل الأهلاسات السمعية البسيطة على سماع صوت نقر أو صرير أو صفير أو ضجيج أو أصوات لا يتمكن المريض من تمييزها وفهمها، أما الأهلاسات السمعية المركبة فهي سماع أصوات كاملة وواضحة يفهمها المريض ويمكنه وصفها، كأن يسمع صوت عزف موسيقي، أو صوت شخص واحد، أو أصوات عدة أشخاص تخاطب المريض أو تعلق على تصرفاته أو تتحدث فيما بينها عن المريض أو عن أمور أخرى. فإذا خاطبت الأصوات المريض مباشرة بالذم والشتم والتهديد عادةً؛ تسمى أهلاسات الشخص الثاني (أو أهلاسات الشخص المخاطب)، وإذا تحدثت الأصوات بعضها مع بعض وكأن المريض غائب تسمى أهلاسات الشخص الثالث (أو أهلاسات الشخص الغائب)، وتشتق هذه التسميات مما هو متعارف عليه لغوياً إذ الشخص الأول هو المتكلم، والشخص الثاني هو المخاطب، والشخص الثالث هو الغائب. قد تصف الأصوات الأهلاسية كل ما يقوم به المريض آنياً على نحو مستمر، وكأنها تعلق على مباراة بكرة القدم (تعليق مستمر (running commentary، أو تقول بصوت مرتفع أفكار المريض لحظة تفكيره بها (صدى الأفكار (thought echo، أو تطلب من المريض القيام بفعل ما قد يكون خطراً مثل أمره بالانتحار أو بالقتل (أهلاسات آمرة (command hallucinations، وقد يكون محتوى الأهلاسات السمعية متفقاً مع الحالة المزاجية (كأن يسمع مريض مكتئب صوتاً يخبره بأنه مصاب بمرض عضال أو بأنه مذنب بشدة ويستحق الموت، أو أن يسمع مريض مصاب بالهوس أصواتاً تخبره عن حسن حظه وثرواته وقواه الخارقة) أو تكون الأهلاسات السمعية غير متفقة non-congruent مع المزاج.

يقال أحياناً إن الأهلاسات السمعية حقيقية عندما تأتي الأصوات من خارج جسم المريض فيتمكن من تحديد جهة قدومها وعدد المتكلمين وأجناسهم وأعمارهم، ويرتكس لها كما لو كانت أمراً واقعاً، ويقال إن الأهلاسات السمعية كاذبة عندما تأتي الأصوات من داخل جسم المريض؛ من داخل رأسه أو من بطنه مثلاً.

تبدد الشخصية depersonalization والغربة عن الواقع :derealization تبدد الشخصية هو اضطراب إدراك المريض نفسَه، ويرافق عادةً الغربة عن الواقع وهي اضطراب ادراك المريض للعالم حوله. وتبدد الشخصية والغربة عن الواقع هما من أكثر الأعراض النفسية قساوةً وازعاجاً بسبب صعوبة التعبير عنهما ووصفهما من قبل المصاب بهما. فقد يعبر المريض عن تبدد الشخصية بقوله إنه يشعر أنه غريب عن نفسه، أو بأنه كأنما يعيش حلماً، أو يقول «أنا لست أنا» مع معرفته التامة بنفسه. وقد يعبر المريض عن الغربة عن الواقع بقوله إن العالم يبدو باهتاً لا حياة فيه، أو يبدو صغيراً وبعيداً وكأن المريض يراه من خلال منظار، أو يبدو وكأنه مغشى بضباب أو بزجاج سميك. وقد يشتمل تبدد الشخصية على اضطراب إدراك الشخص لأعضاء جسده، فيرى أن إحدى يديه أكبر من اليد الأخرى، أو أن رأسه من الضخامة بحيث أنه لا يمكنه الخروج من الباب، أو أن حجم جسمه ضئيل إلى درجة يمكنه المرور من تحت الباب.

يحدث تبدد الشخصية والغربة عن الواقع عند الأشخاص الأسوياء في حالات معينة، مثل الارهاق والحرمان من النوم لعدة أيام وتناول بعض الأدوية، ويستمران عدة دقائق، كما قد يحدثان في سياق اضطرابات نفسية متنوعة إذ تعتمد قيمتهما التشخيصية على ما يرافقهما من أعراض وعلامات.

ثالثاً- اضطرابات التفكير:

يوجه التفكير حياة الإنسان وسلوكه، ويعد أرقى الوظائف العقلية لأنه يعمل على تجريد المدركات الشكلية الجامدة باستخدام الفهم والمحاكمة والتحليل والتركيب والاستنتاج، ويمكن دراسة تفكير المريض بدراسة منتجاته الفكرية التي تتضمن الرسم والنحت والتأليف الموسيقي والكتابة، ولكن المعتاد هو دراسة كلام المريض لأنه الطريقة الرئيسة في التعبير عن الأفكار التي يتم تحويلها إلى كلمات وجمل مترابطة باستخدام قواعد لغوية سليمة.

تصاغ الأفكار بجمل متتابعة تتلاحق بسرعة معقولة ويكون لكل منها شكل قواعدي صحيح ومحتوى فكري مفهوم، ويعكس الكلام جريان التفكير وشكله ومحتواه، وجريان التفكير هو كمية الأفكار في الذهن وعددها وسرعة تتابعها، أما شكل التفكير فهو كيفية صياغة الأفكار بكلمات وجمل وربطها بعضها ببعض، ويمثل مضمون تلك الأفكار ومعناه محتوى التفكير، وتشتمل اضطرابات التفكير على اضطراب جريان التفكير أو صورته أو محتواه.

اضطراب جريان التفكير: قد يتسارع جريان التفكير أو يتباطأ، ففي ضغط الأفكار pressure of thoughts يتسارع جريان الأفكار وينتقل المريض من فكرة إلى أخرى بسرعة مع المحافظة على سلامة قواعد اللغة، أما في بطء التفكير فيصبح تتالي الأفكار صعباً وينقضي وقت أطول من المعتاد بين الكلمة والكلمة وبين الجملة والجملة، ويعاني الطبيب في حالة ضغط الأفكار صعوبة في متابعة غزارة حديث مريض مصاب بهجمة هوسية ومتابعة سرعته، في حين قد يشعر بالملل من بطء تفكير مريض مصاب بهجمة اكتئابيه وبطء حديثه.

يحدث أحياناً أن ينقطع جريان الحديث فجأةً, والأشكال الخفيفة من هذه الظاهرة شائعة عند الناس الطبيعيين ولاسيما عقب التعب أو التوتر، أما الأشكال الشديدة التي ينقطع فيها جريان الأفكار على نحو تام وفجائي فتعرف باسم حَصَر الأفكار thought blocking وتحدث عادةً في الفصام إذ قد يصف المريض هذه الظاهرة على أنها تفريغ تام ومفاجئ لعقله، وقد يفسرها تفسيراً غير معتاد كأن يدعي أنه قد تمت إزالة أفكاره بوساطة آلة أو بفعل عدو ما.

اضطرابات شكل التفكير: يظهر الكلام في المحادثة الطبيعية جرياناً واضح الترابط لأفكار تفضي إلى نتيجة ملائمة وذات معنى، وقد تضيع غاية التفكير هذه في حالات اضطراب التفكير نتيجة اضطراب خفيف أو شديد في بنية التفكير أو شكله أو حدثيته. فالإطناب (أو الإسهاب) circumstantiality (أو تراخي الترابط) loosening of associations هو تراخ جزئي في المنطق الطبيعي وفي الروابط المفهومة بين الأفكار في حدثية التفكير، لذلك فإن حديث المريض قد يحوم حول المغزى المقصود أو يتضمن موادَّ هامشية للموضوع المبحوث قبل توصيل الفكرة في النهاية، فما إن يبدأ المريض بالكلام حتى يسترسل ويدخل بتفاصيل غير مهمة ولكنه يصل في النهاية إلى الجواب المطلوب، ويكون تراخي ترابط الأفكار أشد وضوحاً في المماسية tangentiality فينتقل المريض بعيداً عن الموضوع البدئي ليبدأ بالكلام عن موضوع آخر من دون التوصل إلى الإجابة المطلوبة، ولكن مع المحافظة على قواعد اللغة ومع إمكانية تتبع جريان الأفكار بسبب استمرار وجود بعض روابط سخيفة وغير ذات معنى بين الأفكار المتتابعة. أما تطاير أو تَشارُدُ الأَفْكار flight of ideas فهو الصورة الأكثر تطرفاً لاضطراب التفكير ويتصف بقفزات واسعة في جريان التفكير مع المحافظة على قواعد اللغة، فينتقل الحديث بسرعة إلى فكرة جديدة قبل الانتهاء من الفكرة الراهنة، ولكن يلاحظ عادةً نوع من الترابط الواهن بين الفكرة الجديدة والفكرة التي تسبقها، وقد يكون هذا الترابط تَلاحُناً clang associations (إذ تستخدم كلمات متشابهة لفظياً) أو من نوع التورية punning (وهي التلاعب بالألفاظ أو تكرار استخدام كلمة ذات معنيين مختلفين) أو السجع rhyming. ومن الأمثلة على تَشارُد الأفكار قول مريض عمره 20 سنة ومصاب بهجمة هوسية: «أنا سعيد جداً جداً very very happy أتقن سبع لغات إنكليزي عربي فرنسي إيطالي ألماني صيني ياباني أنا النبي نصر عندي قدرات خارقة أستطيع جر شاحنة بحبل وضعي في العمل جيد جداً عضلاتي قوية جداً حتى أن عندي قدرة أكشف فيها الجواسيس سأتجوز أربع نساء وقد أصبحت منذ البارحة غنياً وأنا أعزف وألعب طابة». يلاحظ في حديث هذا المريض بعض الترابط بين الكلام باللغة الإنكليزية والانتقال للحديث عن اللغات، وبين ادعاء النبوة والقدرات الخارقة وبين الحديث عما يمكنه فعله، وينعدم هذا الترابط الواهن في تفكير حركة الفارس knight move (أو الخروج عن الخط) derailment فيقفز المريض من موضوع لآخر من دون أي رابط بين الموضوعين، ويصبح حديثه مبهماً ومؤلفاً من جمل معزولة وغير مترابطة ولكنها صحيحة قواعدياً. أخيراً قد يؤدي اضطراب التفكير إلى فقدان تام لقواعد اللغة فينعدم الترابط حتى ضمن الجملة الواحدة ويصبح الكلام مختلاً على نحو يجعل من المستحيل متابعته أو فهمه فيطلق عليه اسم سَلَطة كلامية word salad أوثَرْثَرَة هَذَيانِيَّة verbigeration؛ فقد كتب أحد المرضى مثلاً: «أوصيكم بتقوى وزارة الدفاع وهو الذي فيها سبع بحرات من الخط العربي بؤرة ممارسة معاني الثوم الخياط معشار ما أقول»، وقد يرافق مثل هذا الحديث استخدام مفردات مستجدة neologisms وهي كلمات غريبة يبدو أن المريض يخترعها تلقائياً ويستعملها في كلامه ليعبر بها عن معنى لا يعرفه أحد غيره، أو كلمات يبدّلها المريض أو يعطيها معاني جديدة أو يستبدل بها كلمات مشابهة لفظياً. وبالطبع فإن الطبيب لا يمكن أن يعد أي كلمة لم يسمع بها سابقاً مفردةً مستجدة؛ فقد تكون تلك الكلمة شائعةً في ثقافة المريض المحلية، مما يوجب الاستفسار عنها من أشخاص ينتمون إلى ثقافة المريض مثلاً، أخبر مريض طبيبه بأنه سيحشو ملابسه بغازيات وينفذ عملية انتحارية في الجولان المحتل. وقد كانت كلمة «غازيات» جديدة على الطبيب وعلى بقية أعضاء الفريق الطبي فاعتقدوا للوهلة الأولى أنها مفردة مستجدة اخترعها المريض، ولكن اتضح من والد المريض أن كلمة «غازيات» تستخدم في مدينة المريض (دير الزور) للدلالة على المفرقعات.

تكون حدثيات التفكير ناقصةً في الطرف الآخر من طيف اضطراب التفكير، فيبدي المريض شحاً في محتوى الكلام (أو شح الأفكار (poverty of thought، إذ قد تكون كمية الكلام وشكله طبيعيين ولكن من دون أن يتمكن المريض من تزويد الطبيب بأي معلومات مهما طالت فترة المقابلة، إذ تكون كمية الكلام المستعملة من قبل المريض قليلة جداً، وتحتوي على القليل من المعلومات بسبب الغموض والنمطية بتكرار الجمل. وقد يظهر كلام المريض تفكيراً حرفياً متحجراً أو جامداً concrete thinking يخلو من المعاني أو العبارات المجردة ويعجز عن توصيل أي مضمون مجازي على الإطلاق؛ فإذا قيل له إن فلاناً قلبه كبير يفهم أن لفلان قلباً كبير الحجم. أما الوظوب perseveration فهو ظاهرة يجد فيها المريض صعوبة في تغيير خط تفكيره أو محتواه أو أفعاله، فيواظب على نحو غير مقصود على خط من التفكير أو مخطط للفعل، ويكرر باستمرار تفكيره مقطعاً أو جملةً على نحو تلقائي أو حين الإجابة عن سؤال فيستمر بالحديث عن موضوع ما مع سؤاله عن موضوع آخر. مثلاً قد يسأل المريض عن عمره فيجيب إجابةً صحيحة (47 سنة) ويسأل عن عنوان سكنه فيجيب 47 سنة ثم يسأل عن تاريخ اليوم فيجيب 47 سنة. كذلك قد يكتب المريض اسمه مراراً وتكراراً مع مطالبته بكتابة أجوبة أخرى. أما في اللفظ الصدوي echolalia فيكرر المريض على نحو مستمر ومرضي ما يلفظ أمامه من كلمات أو جمل.

اضطرابات محتوى التفكير :thought content يقصد بمحتوى التفكير الأفكار أو المخاوف أو الهواجس التي تشغل بال المريض، ويهتم الطبيب في أثناء فحص الحالة العقلية لما قد يحتويه كلام المريض من أفكار غير طبيعية  لها دلالات تشخيصية مثل الوساوس والضُلالات.

الوساوس :obsessions الوسواس هو فكرة أو تخيل أو تأمل متكرر يقتحم وعي المريض على نحو مستمر على الرغم من كل الجهود التي يبذلها المريض لمقاومته، ويعرف المريض أن الوسواس ينبع من عقله وليس مفروضاً عليه من الخارج، مما يفرق الوسواس عن ظاهرة غرز الأفكار، ومع أن المريض يعرف أن فكرة الوسواس سخيفة فإنها تسبب له ضيقاً وقلقاً شديداً. لمضمون الوسواس عادةً طبيعة مؤذية أو عنيفة أو جنسية تتعلق بأفكار عن الاتساخ والعدوى والخوف من المرض والمبالغة بالترتيب؛ فقد تقتحم ذهن سيدة أنيقة فكرة أنها اتسخت لأنها لامست حاوية القمامة مع أنها واثقة من أنها كانت بعيدة عدة أمتار عن تلك الحاوية، أو تخشى سيدة أخرى أن تؤذي طفلها مع قناعتها بأنها لا يمكن أن تفعل ذلك، أو تتطفل على ذهن رجل مؤمن وملتزم فكرة مزعجة ومتكررة بأنه كافر أو شاذ جنسياً أو مصاب بمرض منقول جنسياً. تثير الوساوس ذات المحتوى المتعلق بالكفر أو بشتم الرموز الدينية قلق المرضى في المجتمع العربي على نحو خاص، لذلك يجب دائماً طمأنة المريض بأن المقصود بالوسواس في الفحص الطبي النفسي يختلف عن الوسواس المذكور في القرآن الكريم، وأن المريض ليس مسؤولاً عن أفكاره الوسواسية المفروضة عليه.

قد تأخذ الوساوس صفة الشك الوسواسي فيصبح المريض غير متأكد من إنجاز أفعال يعرف أنه قد قام بها على أحسن وجه؛ فيراود المريض شك متكرر بأنه قد أغلق الباب أو أطفأ الغاز على الرغم من تأكده من أنه قد فعل ذلك. وتشيع في المجتمعات العربية شكوك وسواسية تجعل المريض يتساءل تكراراً عما إذا كان قد توضأ أو صلى كما يجب. ومع تأكد المريض من أنه قد قام بالفعل موضوع الشك الوسواسي على أكمل وجه فإن انزعاجه وقلقه يتزايدان تدريجياً على نحو يدفعه للقيام بفعل قهري compulsion في محاولة منه لتخفيف قلقه فيتأكد من إغلاق الباب أو من إطفاء الغاز أو يكرر وضوءه أو يعيد صلاته، ولكن ما إن ينتهي من فعله القَهْرِيّ حتى يبدأ المريض بالشعور بالقلق مجدداً فيكرر الفعل القَهْرِيّ مرات عديدة على الرغم من رغبته الداخلية بمقاومة ذلك الفعل، وقد يتبنى المريض طقوساً وسواسية compulsive rituals ثابتة للقيام بالفعل القَهْرِيّ الهادف ظاهرياً. وقد يتبع المريض طريقة أخرى لتخفيف ضيقه وقلقه الناجم عن الوساوس هي التفكير الوسواسي obsessional thinking فيثابر على جريان محدد لأفكاره حتى يشعر بالارتياح الشخصي؛ فمثلاً قالت مريضة «تخطر ببالي فكرة لماذا خلقنا وأنزعج لأن التفكير بذلك يشبه الكفر، ألجأ إلى طريقة نقض الفرض لإيجاد الفكرة الصحيحة .. الأكثر إزعاجاً هو ضرورة إلغاء أمور أخرى مثل الدراسة لترك وقت للتفكير .. لساعات»، فقد يتكرر التفكير الوسواسي أو الطقوس الوسواسية بحيث تستهلك معظم وقت المريض وطاقته ويسبب له ما يعرف باسم البطء الوسواسي. فقد يكرر المريض الوضوء أو يعيد الصلاة مرات ومرات، وقد تغسل مريضة يديها لساعات فتكون الأكزيما هي سبب مراجعتها للطبيب، وقد يقضي مريض معظم نهاره وهو يعيد ارتداء ثيابه لأنه يشك بعدم ارتدائها  بالتسلسل الصحيح، وقد يستغرق الاستحمام عدة ساعات بسبب عدم التأكد من نظافة الجسم.

الضُلال (الوهام أو التَوَهُّم) :delusion الضُلال هو عرض نفسي لا يشاهد عند الناس الأسوياء، وهو اعتقاد غير طبيعي يحمله المريض على نحو جازم وغير قابل للمناقشة أو للتعديل بعد التجربة، وهو شاذ عن بيئة المريض الاجتماعية والثقافية بحيث أن أحداً ممن حوله لا يشاركه ذلك الاعتقاد. وقد يكون الضُلال أولياً أو ثانوياً. يظهر الضُلال الأولي primary أو الأصلي (autochthonous) فجأةً ويقتنع المريض به على نحو مطلق من دون أن تسبقه أي مظاهر مرضية نفسية أخرى، كأن يسمع المريض لحناً موسيقياً فيعرف أنه ابن الملكة، أو أن يرى المريض تفاحة فيكتشف فوراً أن أصدقاءه قد انقلبوا أعداءً وأنهم آتون لقتله (وتعرف هذه الظاهرة أيضاً باسم الإدراك الضُلالي .(delusional perception ومن أشكال الإدراك الضُلالي أن يعتقد المريض أن شخصاً ما قد تم استبداله بشخص آخر له الشكل والمواصفات ذاتها (ومع أن هذه الظاهرة تسمى انخداع الازدواجية فإنها ليست انخداعاً بل إدراكاً ضُلالياً). يشتق الضُلال الثانوي من بعض التجارب المرضية النفسية السابقة له، كالمزاج الاكتئابي أو الهلوسة السمعية، فمريض لديه هلوسة سمعية ويسمع صوتاً يهدده قد يتوهم بأنه هدف لمؤامرة دولية. والذاكرة الضُلالية هي محاولة استحضار حدث من الماضي لتفسير معاناة حالية، مع أن ذلك الحدث قد يكون تافهاً ولا علاقة له بالمعاناة الحالية؛ فقد تتذكر مريضة مصابة بضُلال مراقي أنها شربت فنجان قهوة عند جارتها قبل سنة فتعتقد أن ذلك الفنجان هو سبب ما تعانيه الآن. ومن الأشكال الخاصة للضُلالات الضُلال المشترك والمزاج الضُلالي. يحدث الضُلال المشترك عند شخص سليم يعيش في منزل واحد مع مريض يتوهم مثلاً أنه مضطهد وملاحق فيشاطره ذلك الضُلال، ويحدث الضُلال المشترك ضمن العائلة نفسها عادةً وقد يشمل عدداً من أفرادها. تثير الضُلالات ارتكاساً انفعالياً عند المريض، فالخوف مثلاً هو ارتكاس طبيعي ومتوقع عند مريض يتوهم أن عصابة تلاحقه، ولكن الأمر ينعكس حين الإصابة بالمزاج الضُلالي فيشعر المريض بالخوف وبأن شيئاً ما يحدث من دون أن يعرف طبيعة ذلك الشيء وقبل أن يطور ضُلالات ثانوية تشرح ذلك الشيء.

للضُلال شكل ومحتوى، ويفيد الانتباه لمواصفات شكل الفكرة الضُلالية، المذكورة في تعريف الضُلال أعلاه، في التفريق بين الضُلالات وبين الأفكار المضخمة over-valued ideas، والأخيرة هي قناعات شخصيه قويه يمكن فهمها في ضوء البيئة الاجتماعية والثقافية للمريض وهي قابلة للتعديل بالنقاش والحوار، كذلك فإن الأفكار المرجعية ideas of reference تصادف عند بعض الأشخاص مفرطي الحساسية من دون أن تبلغ شدة الضُلالات المرجعية، إذ يعتقد هؤلاء الأشخاص أن الآخرين يراقبونهم بعناية في الأماكن العامة وقد يتهامسون عنهم، ولكنهم غير متأكدين من ذلك ويعرفون أنهم لا يستحقون الاهتمام أكثر من غيرهم، ويقرون بأن حساسيتهم الشخصية قد تكون سبب تفكيرهم المرجعي.

تُصنّف الضُلالات بحسب محتواها إلى ضُلالات اضطهادية persecutory (أو زورانيه (paranoid وضُلالات مرجعية (أو ضُلالات الإسناد   (delusions of referenceوضُلالات عظمة وضُلالات جسدية somatic delusion  وضُلالات عدمية nihilistic وضُلالات مراقية وضُلالات سياسية وضُلالات دينية وضُلالات الذنب delusions of guilt وضُلالات تحقير الذات وضُلالات الغيرة وضُلالات العشق، إضافةً إلى تجارب اللافاعلية passivity experiences التي يتوهم المريض المصاب بها أن قوة ما توجه فكره وتصرفاته وتتحكم بهما، ويصف تلك القوة بطريقة تتعلق بثقافته فيقول إنها أشعة أو أقمار اصطناعية أو تنويم مغنطيسي أو سحر أو جن. وتتضمن هذه التجارب ظواهر غربة الأفكار (غرز الأفكار، وسحب الأفكار، وبث الأفكار) التي ورد شرحها في فقرة فحص الحالة العقلية.

تعد الضُلالات الاضطهادية أو الزورانية أكثر الضُلالات حدوثاً، وفيها يعتقد المريض على نحو جازم أن الناس تكرهه وتحاول إيذاءه؛ فيرفض مثلاً تناول الطعام خشية أن يكون مسموماً، ويعتقد المريض المصاب بضُلال مرجعي أنه مقصود بكل ما يحدث حوله، بما في ذلك الأحاديث التلفزيونية وأغاني الراديو وأي حديث بين أي غريبين في الطريق، في حين يعتقد المريض المصاب بضُلال عظمة أنه شخص مهم جداً أو رسول أو زعيم، أو ينسب نفسه إلى سلالات ملكية (ضُلال النسب).

يشعر المريض المصاب بضُلال جسدي أن جزءاً من جسده قد تغير. وقد تتعلق الضُلالات العدمية بالكون فيتوهم المريض بأن العالم قد تدمر وانعدم وأن الشمس قد انفجرت وتلاشت، أو تتعلق بجسم المريض فيتوهم أن جسمه فارغ أو أنه ليس لديه قلب، وقد يمتنع عن تناول الطعام لاعتقاده أن جهازه الهضمي قد زال وأن الطعام سيصعد إلى دماغه، ويشاهد في حالات نادرة ضُلال كوتارد (أو متلازمة كوتارد Cotard’s syndrome، أو متلازمة الجثة المتنقلة (walking corpse syndrome فيعتقد الشخص أنه ميت (مجازياً أو فعلياً)، أو أنه غير موجود، أو أنه متعفن، أو أنه قد فقد دمه أو أحد أعضائه الحشوية.

يعتقد المصاب بضُلال مُراقي أنه مصاب بمرض خطر فيكرر مراجعة الأطباء ولكنه لا يتقبل سلبية الفحوص والاستقصاءات بل يعتقد أن الطب لم يزل عاجزاً عن تشخيص مرضه. ويَدَّعي المصاب بضُلال سياسي بأن لديه مشروعاً سياسياً مهماً لبلد ما أو بأنه يقوم بعمل سياسي سري أو بأنه ملاحق سياسياً. وترتبط الضُلالات الدينية بمعتقدات المريض الدينية فيتوهم أنه مكلف نشر أفكار أو رسالة دينية وقد يكون ذلك مرافقاً لضُلالات عظمة يعتقد فيها المريض أنه المهدي المنتظر أو تعتقد مريضة أنها السيدة العذراء. وتتكون لدى المصاب بضُلال الذنب قناعة راسخة بأنه مذنب بحق نفسه وبحق الآخرين لأسباب سخيفة مثل ممارسة العادة السرية، وكثيراً ما تترافق ضُلالات الذنب بضُلال تحقير الذات إذ يتوهم المريض بأنه شخص حقير لا يستحق الحياة لأنه شرب الكحول مثلاً. أما ضُلال الغيرة فهو تضخيم شديد وغير عقلاني لمشاعر الغيرة الطبيعي فيتوهم الشخص على نحو راسخ وجازم وغير قابل للنقاش ومن دون مبررات بأن زوجته تخونه. ويصبح ضُلال الغيرة خطراً عندما يبدأ المريض بالبحث عن أدلة تثبت صحة ضُلاله، فيحقق مع زوجته ويفتش أغراضها الشخصية وملابسها الداخلية وقد يصبح عنيفاً إلى درجة ارتكاب جريمة قتل زوجته أو شريكها المفترض. أخيراً تشاهد ضُلالات العشق (أو الضُلالات الجنسية، أو الضُلالات الشبقية (erotomanic delusion عند النساء عادةً ويغلب أن تكون ثانويةً لأهلاسات حسية جنسية، فتتوهم المريضة أنها تقيم علاقة جنسية مع شخص سياسي مهم أو مع فنان مشهور، مع أنه لم يسبق لها الالتقاء بذلك الشخص أبداً.

التشخيص في الطب النفسي:

التشخيص الطبي النفسي والمعتقدات الثقافية:

يقال بوجود مرض عادةً حين لا يقوم الشخص بالأداء المتوقع منه على المستوى الشخصي (بسبب معاناته أعراضاً مرضية أو إرهاقاً أو ضعفاً مثلاً) أو على مستوى الأدوار الاجتماعية المطلوبة منه (في مجال الاهتمام بنفسه أو بأسرته أو بعمله مثلاً)، ويعتمد سلوك أي شخص حين إدراكه لهذا التغير في ذاته أو عند آخرين على عدد من العوامل التي تتضمن التوقعات الشخصية والآمال والآلام، والخيارات المقبولة اجتماعياً مثل ملازمة الفراش أو التوقف عن العمل أو نقل المسؤوليات إلى آخرين أو تقبل رعاية الآخرين. مثل هذا «المرض» هو ظاهرة معرّفة اجتماعياً، وليس طبياً، وهي تتناغم عادةً - ولكن ليس دائماً - مع تعاريف الاضطرابات الطبية التي يتدرب الأطباء على تمييزها؛ مما يولد مشاكل حين يشعر المريض بأنه مريض ولكن لا يتمكن الطبيب من اكتشاف أي مرض لديه أو العكس، عندما يكتشف الطبيب اضطراباً عند شخص لا يدرك بأن لديه مرضاً. تتضح من ذلك أهمية فهم السياق الذي يتم من خلاله وضع التشخيص، فالتشخيص هو انعكاس لمعتقدات (علمية أو روحانية) لمجموعة من البشر (عامة أو مختصين) عن العلاقة بين أشياء وأحداث معينة وعن المظاهر الأكثر أهمية لهذه الأشياء والأحداث. وبالطبع هناك فرق واضح بين النظرة الروحانية التقليدية للخبرات وبين المقاربة العلاجية التجريبية؛ فحالات الحزن والانسحاب التي يميزها الطبيب على أنها اكتئاب قد يرى بعضهم أنها أمر طبيعي ربما كان ناجماً عن ضعف الإرادة أو ضعف الايمان، في حين يعتقد آخرون أنها نتيجة سحر أو مسّ، ويعكس هذا الفرق ثلاث طرائق مختلفة لتفسير الظاهرة ذاتها تستدعي كل طريقة منها تعاملاً (أو علاجاً) مع الظاهرة مختلفاً اختلافاً جذرياً عن غيره؛ فمن يعتقد أن اكتئابه أمر طبيعي قد يتقبله على أنه قدره فلا يفعل شيئاً حياله، ومن يعتقد أنه يعاني مسّاً أو سحراً قد يلجأ إلى معالج شعبي، أما الطبيب فغايته الرئيسية من وضع التشخيص هي تأكيد الحاجة إلى العلاج.

يستحيل الفصل التام بين معتقدات الأطباء المهنية وبين قيمهم ومعتقداتهم الثقافية المشتركة مع مرضاهم، لذلك فقد يعتقد بعض الأطباء أن بعض الاضطرابات الموصوفة في كتب الطب النفسي لا تحدث في المجتمع العربي، فيصعب عليهم مثلاً تشخيص حالة مثل الاكتئاب بعد الولادة إذا وصفتها المريضة أو زوجها بطريقة غير نموذجية مركزةً على أعراض غير شائعة، ومهملةً الأعراض الشائعةً لأنها لا تسبب لها معاناةً أو عجزاً، أو إذا اعتقدت المريضة أن لحالتها سبباً غير طبي وسعت إلى الحصول على مساعدة غير طبية مثل الرقية أو الحجاب، أو اعتقد زوجها أن حل المشكلة هو حل اجتماعي قانوني فلجأ إلى تطليقها؛ فقد لا يميز الزوج أياً من أعراض الاكتئاب عند زوجته ولكنه قد يرتكس بشدة لما يلاحظه عليها من اهمال لنفسها ولبيتها ولأولادها ولواجباتها الزوجية، حتى عندما لا يرتكس الزوج بهذه الطريقة فيسعى إلى الحصول على مساعدة طبية، يغلب أن يركز الأطباء على التفتيش عن أمراض جسدية مثل فقر الدم وقصور الغدة الدرقية لتفسير كسل ولامبالاة الزوجة. إن عدم تمييز المريضة وزوجها وأطبائها لاضطراب الاكتئاب بعد الولادة عندها لا يعني أن ذلك الاضطراب لا يحدث في المجتمع العربي؛ فقد بينت دراسة أجريت في مدينة التل في ريف دمشق أن معدل وقوع الاكتئاب بعد الولادة هو 12%، وهو معدل شبيه بالمعدلات المقاسة في كثير من الدول النامية والدول الصناعية.

وصفت الاضطرابات النفسية في بلدان معظمها غربي، وهي لا تأخذ القيم والمعتقدات والثقافات العربية المحلية بالحسبان، ولكن ذلك لا يعني أن تلك الاضطرابات لا تحدث في المجتمع العربي. والملاحظة المهمة هنا هي أن تظاهرات تلك الاضطرابات قد تختلف من مجتمع إلى آخر، مما يوضح الحاجة الماسة إلى وضع نظام تشخيص طبي نفسي محلي يتناسب وطرائق تعبير المرضى عن معاناتهم النفسية، ولكن - وريثما يتم ذلك - ليس في المتناول إلا استخدام الأنظمة المتوافرة عالمياً لتشخيص الاضطرابات النفسية عند المرضى.

أهمية التشخيص الطبي النفسي:

يشخص الاضطراب النفسي حين يعاني المريض خللاً واضحاً في إحدى الوظائف النفسية كالتفكير والإدراك والمزاج على أن يكون هذا الخلل خارجاً عن إرادة المريض، وأن يسبب إزعاجاً للمريض (ليس دائماً) أو لمن حوله. والتشخيص هو الحدثية التي يتم بها ترتيب الأعراض والعلامات وغيرها من المعلومات المجموعة من المريض ومن غيره وإعطاؤها اسماً طبياً؛ فقد تتناسب تلك المعلومات بناءً على أفضل المعارف المتوافرة مع النموذج التشخيصي للفصام، فيقال إن الشخص المعني مصاب باضطراب الفصام، مع التأكيد على أن كل إنسان هو مخلوق فريد بحد ذاته، لذلك فإنه لا يمكن اختصاره بتشخيص، ويجب عدم استخدام أوصاف مثل «فصامي» أو «كحولي» لوصف الشخص، فالتشخيص لا يعرف الشخص بل يعرف الاضطراب الذي يعانيه ذلك الشخص، فلا وجود لمريضين متطابقين سريرياً أو شخصياً، بل إن لكلٍّ منهما تاريخاً شخصياً وشخصية مميزة، ويختلف كل منهما عن الآخر بطريقة طرح شكاواه وبكيفية تحديد رغباته وأولوياته. ولكن مع أنه لا يمكن ممارسة طب متعاطف إذا تم تجاهل الأبعاد الشخصية لكل حالة منفردة، فإنه لا يمكن ممارسة طب مجدٍ إذا تم تجاهل التشابه بين حالات مرض معين.

يفيد تشخيص الاضطراب النفسي وتسميته في تلخيص الحالة وفي تسهيل تبادل المعلومات بين الاختصاصيين لأن التشخيص هو حاوية لكثير من المعلومات المفيدة، والاستخدام الصحيح لمصطلح تشخيصي واحد يقدم كمية كبيرة من المعلومات (مثل الأعراض والسير والعلاج والحاصل) بآن واحد، فهو يصف الحالة (فمصطلح «اكتئاب» مثلاً يعني حالة من الحزن والعزلة واليأس التي قد ترافقها أعراض بيولوجية) ويوضح الخيارات العلاجية المعقولة والمناسبة (فمصطلح «فصام» يوحي بخيارات علاجية محددة مثل الأدوية المضادة للذهان أو علاج العائلة) ويعطي معلومات إنذارية (فتشخيص «خرف وعائي» يعني خللاً ثابتاً أو مترقياً، في حين يشير تشخيص «ذهان حاد عابر» إلى حالة ستتراجع من دون ترك خلل متبق) إضافةً إلى فوائد أخرى؛ فتشخيص داء ألزهايمر مثلاً يتضمن معلومات عن التطور المتوقع للمرض وعن الرعاية التي قد يحتاج إليها المريض في المستقبل وعن الاستجابة المتوقعة للعلاج مما يسمح لكل من المريض وأهله والقائمين على علاجه بالتحضير للأيام القادمة. كما يفيد التشخيص في تطوير البحث العلمي الطبي، إذ يسمح باشتمال أشخاص لديهم اضطرابات متماثلة في بحث واحد، وبتكرار البحث نفسه من قبل أطباء آخرين، وباشتمال البحوث المتشابهة مهما كان زمان نشرها أو مكانها أو لغتها في مراجعات منهجية تقارن بينها وتدمج بياناتها بغية تعميم الاستفادة من نتائجها. وللتشخيص أيضاً غايات أخرى غير طبية، فقد لا تعوض شركات التأمين إلا في حالات محددة، وقد يختلف التعويض باختلاف التشخيص، وقد تتعلق المساعدات الاجتماعية أيضاً بوضع التشخيص اعتماداً على نظام تشخيص رسمي معتمد. ومن جهة أخرى قد لا يستخدم المصطلح التشخيصي الدقيق إذا كان سيسبب أذى غير ضروري للشخص، كتقديم أحد الموظفين مثلاً طلباً للحصول على استراحة مرضية؛ فربما كان من غير الضروري ومن غير المناسب مثلاً استخدام تشخيص «ذهان مثار بالعقاقير» إذا كان تعاطي العقاقير لا يؤثر في قدرة الشخص على العمل ولا في مدى تحمله للمسؤولية، وقد يرغب المريض بإعطاء اضطرابه اسماً محدداً يمكنه من التعامل مع الآخرين بطريقة ما أو يساعده على الحصول على استجابات مرغوبة من الآخرين.

تطور التشخيص الطبي النفسي:

قد يبدو التشخيص أمراً بديهياً لأن الأطباء يقومون به على نحو آلي منوالي، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فالتشخيص المثالي يجب أن يكون قادراً على التعريف الدقيق بكل حالات المرض المعني (أي أن تكون حساسيته تامة) وألا يخطئ فيعرف حالات أخرى على أنها ذلك المرض (أي أن تكون نوعيته تامة)، كما أن التشخيص المثالي يجب أن يعتمد على تحديد سبب المرض؛ ففي الطب الجسدي يوصف المرض أولاً بناءً على الخبرة السريرية وملاحظة تلازم حدوث مجموعة من الأعراض والعلامات (كما في الشقيقة مثلاً)، ثم تطور هذه المتلازمة الوصفية عن طريق محاولة كشف شذوذ فيزيولوجي يمكن قياسه (مثل فرط الضغط الشرياني) أو كشف تغيرات تشريحية مرضية نوعية (في التهاب القولون القرحي مثلاً) أو كشف العامل الممرض المسبب للمرض (عند مصاب بالملاريا مثلاً). وتتبع محاولات تطوير المتلازمات التشخيصية في الطب النفسي مساراً مماثلاً، ولكن ومع نجاح بعض هذه المحاولات (مثل تحديد تبدلات تشريحية مرضية في داء ألزهايمر، وفهم الحدثيات الإمراضية في الخرف الوعائي، واكتشاف العامل الممرض المسبب للشلل العام للمجنون)، فإن معظمها لم يحالفه النجاح وما زالت معظم المتلازمات والتسميات في الطب النفسي وصفيةً بحتة.

تشتق المتلازمات التشخيصية في الطب النفسي أصلاً من الخبرة السريرية ثم يحاول الأطباء تطويرها إلى متلازمات إمراضية تتمحور حول سبب المرض وذلك من خلال البحوث العلمية والدراسات الإحصائية لعناقيد أعراض المرض ولخواصه الوراثية ولإنذاره ولاستجابته للعلاج، ويقدم تاريخ تطور تشخيص الفصام مثالاً واضحاً على ذلك، فقد وصف كريبلن Kraepelin عام 1896 متلازمةً أسماها الخرف المبكر dementia praecox نتيجة خبرته السريرية المكثفة مع مرضى مقيمين في مصحات عقلية بسبب إصابتهم بأمراض عقلية شديدة، وشاع استخدام تلك التسمية فوراً لأنه بدا أنها تميز مجموعة من المرضى ذوي حصائل متماثلة، وقد اعتقد كريبلن أن إنذار هذه الحالة سيء دائماً لذلك عدها «خرفاً». ثم جاء بلويلر Bleuler الذي وضع مصطلحاً شبه إمراضي هو schizophrenia نتيجة اعتقاده أن الخلل الأساسي هو انفصام schizo الوظائف العقلية، فأصبح هناك مصطلحان (واحد وصفي والثاني شبه إمراضي) مشتقان من تفسيرين مختلفين لمتلازمة واحدة. وقد حاول كورت شنايدر Kurt Schneider فيما بعد تطوير تلك المتلازمة عن طريق وصفه لما أصبح يعرف لاحقاً باسم «أعراض الدرجة الأولى لشنايدر Schneider’s first - rank symptoms  وهي مجموعة من الأعراض والعلامات التي عدّها دامغة للفصام، ولكن اتضح من التحليل الإحصائي لتواتر حدوث أعراض الدرجة الأولى أنه وعلى الرغم من أن تواترها أكثر في الفصام منه في الهوس والاكتئاب فإن وجودها ليس شرطاً ملازماً للفصام، كما أن حدوثها في الهوس ليس نادراً. تلت ذلك محاولة تيم كرو Tim Crow تجزئة الفصام إلى فصام إيجابي الأعراض وفصام سلبي الأعراض اعتماداً على موجودات سريرية وشعاعية، ولكن تلك المحاولة أخفقت أيضاً في تطوير متلازمة الفصام الوصفية إلى متلازمة إمراضيه.

مازالت المتلازمات المستخدمة في التشخيص الطبي النفسي أساساً متلازمات وصفية تصف الأعراض والعلامات الواجب ترافقها لوضع التشخيص، وتضع لها تسميات وصفية أيضاً مثل متلازمة الكرب التالي للرض أو الاضطراب الهلعي أو الاضطراب الوسواسي القَهْرِيّ أو الاكتئاب، ولهذا التوصيف السريري البسيط محدوديته ومشاكله؛ فمجرد تسمية اضطراب نفسي «اكتئاب» أو «متلازمة الكرب التالي للرض» لا يعني بالضرورة التمكن (شخصياً أو مهنياً) من فهم الكثير عنه، مهما كانت تسمية الاضطرابات مُرْضِية للأطباء، فالأسماء التي تعطى للاضطرابات النفسية ليست بذاتها اضطراباً، فاسم الإنسان ليس هو؛  فالاسم لا يفكر ولا يشعر ولا يفعل، بل هو ببساطة مجرد مختصر مريح لتمييز الإنسان، ففي حين قد يقدم الاسم كمية كبيرة من المعلومات في كلمة واحدة لمن يعرف صاحبه (مثلاً المظهر والشخصية والموثوقية والصداقة) ولكنه ليس هو. وعلى نحو مماثل فإن اسم الاضطراب النفسي هو اختصار مريح ولكنه ليس الاضطراب نفسه، والاسم المستخدم في التشخيص هو جيد أو دقيق فقط بمقدار معرفة الاضطراب المسمى. يضاف إلى ذلك أن مواصفات بعض الاضطرابات النفسية قد لا تتناغم مع مواصفات أي من المتلازمات التشخيصية الموصوفة، وأن لبعض الاضطرابات النفسية مواصفات تشير إلى الانتساب إلى أكثر من متلازمة تشخيصية في الوقت نفسه مما يخلق مشكلةً في كيفية تصنيف تلك الاضطرابات. فقد يعاني مريض مجموعة أعراض فصامية في الوقت الذي يعاني فيه مجموعة أعراض مزاجية من دون أن تطغي أي من المجموعتين على الأخرى فيصعب تشخيص الاضطراب النفسي لديه على أنه فصام أو اضطراب مزاج، وقد يعاني مريض آخر أعراضاً قلقية كافية لتشخيص اضطراب قلقي ويعاني في الوقت نفسه أعراضاً مزاجية كافية لتشخيص اضطراب اكتئابي. لابد طبعاً من محاولة إيجاد حلول لمثل هذه المشاكل التشخيصية، وهناك على الأقل ثلاثة حلول ممكنة؛ فقد توسع المتلازمة التشخيصية لتصبح قادرة على اشتمال الحالات غير المصنفة، ولكن ذلك يخفض القدرة التمييزية للمتلازمة لأنه يخفض نوعيتها. الحل الثاني هو اختراع متلازمة جديدة (مثل الفصام الوجداني) تملأ الفراغ التشخيصي، ولكن هذه المتلازمة ستكون ارتجالية ووصفية بحته ولن تضيف شيئاً إلى الممارسة اليومية لأنها غير مسندة بفرضية إمراضيه. والحل الأخير هو اللجوء إلى استخدام مفهوم المراضة المتشاركة عندما يحدث اضطرابان مختلفان ظاهرياً في الشخص الواحد.

أنظمة التشخيص الطبي النفسي:

تستخدم المتلازمات الوصفية في أنظمة التشخيص الطبي النفسي كافة، بما فيها نظام منظمة الصحة العالمية (التصنيف العالمي للأمراض (International Classification of Diseases (ICD) والنظام الأميركي (الدليل الإحصائي والتشخيص (Diagnostic and Statistical Manual (DSM)، وقد يتضمن وصف كل متلازمة سريرية أعراضاً وعلامات وعوامل سببية مفترضة وجوانب وبائية مثل عمر البدء ونسبة تأثر الجنسين ومظاهر مرافقة مثل الانتحار وتعاطي العقاقير. تعاني هذه الأنظمة كل مشاكل المتلازمات الوصفية المذكورة أعلاه إضافةً إلى أنها تسمح بتشخيص الاضطراب النفسي الواحد عند مرضى يعانون أعراضاً وعلامات مختلفة. فالأعراض والعلامات التي قد يجمعها الطبيب من مريضين مختلفين قد لا تكون كاملة التجانس والتشابه، بل مختلفة ولكن تبقى كافية لتشخيص الاكتئاب عند كليهما اعتماداً على المعايير التشخيصية للتصنيف العالمي للأمراض (الجدول رقم4)؛ فقد يجد الطبيب عند المريض الأول انخفاض المزاج واضطراب النوم وفقد الشهية للطعام وضعف التركيز، في حين يجد عند المريض الثاني انخفاض المزاج ولكن مع التعب وفقد الشهوة الجنسية واليأس والإحساس بالذنب والتفكير بالانتحار. يضاف إلى ذلك أن أنظمة التشخيص الطبية النفسية تتأثر بعوامل أخرى مثل المواقف السياسية والاجتماعية التي غيرت تصنيف الاضطرابات الجنسية؛ فقد اعتبرت الجنسية المثلية اضطراباً طبياً في الطبعة التاسعة من التصنيف العالمي للأمراض وفي الطبعة الثانية من الدليل الاحصائي والتشخيصي مع كل ما تضمنه ذلك من انعكاسات على المسؤولية الشخصية وضرورة العلاج وتدخل المختصين. أما في النسخ الأحدث من النظامين التشخيصيين فقد استبعدت الجنسية المثلية من بين الاضطرابات الطبية النفسية، ليس لأنها اختفت بل لأنها أصبحت لا تعد حالة طبية نفسية.

1- يجب توافر واحد على الأقل من الأعراض المفتاحية الثلاثة التالية:

أ- حزن أو انخفاض مزاج مستمر

ب- فقدان الاهتمام والمتعة

ج- التعب ونقص الحيوية

2- إذا توفر أحد الأعراض المفتاحية، يفتش عن أي من الأعراض التالية:

أ- اضطراب النوم

ب- التردد وضعف التركيز

ج- انخفاض الثقة بالنفس

د- نقص الشهية للطعام أو زيادتها

هـ- الأفكار والأفعال الانتحارية

و- الهياج أو البطء الحركي

ز- الشعور بالذنب ولوم الذات

يشخص الاكتئاب بحسب عدد الأعراض المكتشفة (والتي يجب أن تستمر معظم اليوم مدة شهر أو أكثر):

  • لا يوجد اكتئاب (أقل من أربعة أعراض)

  • اكتئاب خفيف (أربعة أعراض)

  • اكتئاب معتدل الشدة (خمسة أو ستة أعراض)

  • اكتئاب شديد (سبعة أعراض أو أكثر)

(الجدول رقم 4) المعايير التشخيصية للاكتئاب بحسب التصنيف العالمي للأمراض – الطبعة العاشرة

 

 

تنجم مشاكل إضافية عن تفاوت طرائق تطبيق نظام التشخيص الطبي النفسي، إذ تتعلق دقة النظام التشخيصي وفائدته بمدى دقة استخدام الطبيب لذلك النظام؛ ومن الأمثلة التاريخية على ذلك التناقض الذي لوحظ في الستينيات حين بدأ باحثون بدراسة الفصام في دراسة دولية، فقد لوحظ في البداية أن انتشار الفصام كان مختلفاً بشدة في أوربا عنه في الولايات المتحدة، وعندما تم تمحيص هذه الملاحظة وجد أن الممارسة التشخيصية كانت متفاوتة؛ فقد كان الأطباء النفسيون الأوربيون أكثر حذراً في إطلاق تشخيص «فصام» من نظرائهم الأمريكيين، وصنف الأطباء النفسيون الأوربيون كثيراً من حالات الفصام المشخصة في الولايات المتحدة على أنها هوس اكتئابي (أو اضطراب مزاج ثنائي القطب). أدت تلك الملاحظات إلى إجراء بحوث علمية غايتها زيادة التوافق التشخيصي بين مختلف الأطباء عن طريق تطوير نظام تشخيصي يُجمع عليه كل الأطباء النفسيين، وتم ذلك بمرحلتين اتفق في الأولى منهما على المعايير المهمة لتشخيص الفصام، وطورت في المرحلة الثانية وسيلة لتطبيق تلك المعايير في الممارسة السريرية على نحو موثوق. كان لهذا البحث ثلاث حصائل مهمة أثرت في نظم التشخيص الطبي النفسي الحديثة. الحصيلة الأولى كانت المقابلة المعيارية standardized interview التي تنفذ بطريقة مصممة وموصوفة مسبقاً بغية تخفيف انحياز التشخيص الناجم عن اختلاف طرائق المقابلة. الحصيلة الثانية كانت وضع تعاريف معيارية للأعراض والعلامات السريرية مثل الهلس والوساوس. أما الحصيلة الثالثة فكانت وضع معايير تشخيصية لكل اضطراب نفسي، أي مظاهر محددة أو متلازمات لابد من وجودها قبل وضع أي تشخيص طبي نفسي. وقد استفادت أنظمة التشخيص الطبي النفسي الراهنة من نتائج هذه البحوث فبدأت باستخدام معايير عملياتية ثابتة التعريف لابد من تحققها قبل التوصل إلى تشخيص محدد (مثل المعايير التشخيصية للاكتئاب - الجدول رقم4).

ومع كل محاولات تحسين أنظمة التشخيص الطبي النفسي فهي مازالت قاصرة لأنها وصفية بحتة تنقصها الفرضيات الإمراضية السببية، ومازالت متلازماتها التشخيصية تُختبر اعتماداً على أحكام سريرية لا تتوافر قياسات نفسية أو مخبرية مستقلة للتحقق من مدى صحتها ودقتها. لذلك فإن هذه الأنظمة تخضع للتطوير على نحو مستمر وتصدر طبعات جديدة منها كل بضعة أعوام، والطبعة المستخدمة حالياً من التصنيف العالمي للأمراض هي الطبعة العاشرة ICD-10 والطبعة الحالية من الدليل الإحصائي والتشخيصي هي الرابعة DSM-IV التي خضعت بعد إصدارها للتعديل (DSM-IV-R) وللتنقيح .(DSM-IV-R-TR) تبذل حالياً جهود عالمية كبيرة ومكثفة لتطوير كل من التصنيف العالمي للأمراض والدليل الاحصائي والتشخيصي، ويتوقع صدور كل من الطبعة الحادية عشرة من التصنيف العالمي للأمراض (ICD-11) والطبعة الخامسة من الدليل الإحصائي والتشخيصي (DSM-V) خلال العامين القادمين.

التصنيف العالمي للأمراض - الطبعة العاشرة :ICD-10

اعتمد في ترتيب البحوث اللاحقة من هذا الجزء ترتيب الطبعة العاشرة من التصنيف العالمي للأمراض، إذ تشغل الاضطرابات النفسية الفصل الخامس (أو الفصل (F من  ICD-10، لذلك فإن رموزها تبدأ دائما بالحرف F كما هو مبين في الجدول رقم 5.

يتضمن الجزء الأول من الفصل الخامس من التصنيف العالمي للأمراض - الطبعة العاشرة اضطرابات السلوك والشخصية الناجمة عن مرض أو أذية دماغية وهي اضطرابات مثل الهذيان delirium (أو المتلازمات الدماغية الحادة (acute brain syndromes والخرف dementias تنجم عن خلل مؤقت أو نهائي في الدماغ وتعود إلى أسباب عدة مثل التقدم بالعمر أو الأمراض التنكسيه (مثل داء ألزهايمر) أو المعدية (كالزهري) أو السموم (كالرصاص وبعض العقاقير) أو نقص التروية أو الأكسجة الدماغي، كما يتضمن بقية الاضطرابات النفسية وتغيرات الشخصية والتغيرات السلوكية الناجمة عن مرض دماغي عضوي بما فيها متلازمة النساوة العضوية.

 

تصنف الاضطرابات النفسية والسلوكية الناجمة عن تعاطي المواد الفعالة نفسياً في الجزء الثاني من الفصل الخامس الذي يصنف عشر فئات من العقاقير المبدلة للسلوك هي الكحول والأفيونيات والحشيش والأدوية المهدئة والأدوية المنومة والكوكائين وبقية المنبهات بما فيها الكافين والمهلوسات والمذيبات الطيارة والتبغ، كما يصنف نمط الاضطراب النفسي أو السلوكي المرافق لتعاطي كل عقار على نحو يمكِّن من تحديد ترافق تعاطي العقار مثلاً بالتسمم أو بالاعتماد (أو الإدمان) dependence أو بأعراض سحب withdrawal أو بالهذيان أو بالذهان psychosis أو بالنساوة أو بأعراض متبقية مثل اضطراب الشخصية أو اضطراب السلوك أو اضطراب المزاج أو الخرف.

يغطي الجزء الثالث من الفصل الخامس الفصام والذهانات (أو النفاسات) الأخرى مثل الاضطراب فصامي الشكل والاضطرابات الضُلالية المستمرة والاضطرابات الذهانية الحادة والعابرة والاضطراب الفصامي الوجداني وغيرها من الاضطرابات الذهانية غير العضوية. ويميز هذا الجزء بين  الفصام - وهو مجموعة من الاضطرابات تتصف بفقد الصلة مع الواقع وبخلل التفكير والإدراك وبغرابة السلوك ويرافقها عادةً ضُلالات وأهلاسات في مرحلة ما من المرض -؛ وبين الاضطرابات الضُلالية (أو الزورية) delusional (paranoid) disorders  التي تمتاز بالشعور بالاضطهاد وبفرط الشك والتوجس والعدوانية عند شخص يتصرف على نحو عادي في مجالات الحياة الأخرى ويحافظ على صلاته بالواقع.

يحتوي الجزء الرابع من الفصل الخامس على اضطرابات المزاج فيعرف الهجمة الهوسية والهجمة الاكتئابية واضطراب المزاج (أو الوجدان) ثنائي القطب والاضطراب الاكتئابي المعاود واضطرابات المزاج (أو الوجدان) المستمرة مثل دَورَويَّة المِزاج cyclothymia والاكْتِئاب الجُزْئِيّ .dysthymia

يتضمن الجزء الخامس وصفاً لطيف من الحالات المتفرقة التي يطلق عليها تقليدياً اسم «الاضطرابات العصابية» ولكن مظاهرها ليست موحدة بدرجة انسجام مظاهر الاضطرابات الذهانية، وتشتمل هذه الحالات على اضطراب القلق الرهابي وغيره من الاضطرابات القلقية مثل اضطرابات القلق المعمم واضطراب القلق والاكتئاب المختلط واضطراب الهلع (أو القلق النوبي الاشتدادي). كما تشتمل الحالات المصنفة في هذا الجزء على الاضطراب الوسواسي القَهْرِيّ واضطرابات التأقلم واضطرابات الارتكاس للكرب الشديد بما فيها متلازمة الكرب التالي للرض، والاضطرابات التحويلية والتفارقية (مثل النساوة والشُرُوْد الهِسْتيرِيّ hysterical fugue والذُهول التفارقي dissociative stupor والاختلاجات التفارقية وشواش الحس التفارقي وفقده) واضطرابات الجسدنة somatization والاضطرابات جسدية الشكل somatoform disorders التي تتصف بأعراض جسدية ليس لها أساس عضوي ولكن للعوامل النفسية شأن مهم في حدوثها كما في اضطراب التحويل conversion وفي داء المراق .hypochondriasis

يجمع الجزء السادس اضطرابات الأكل واضطرابات النوم الوظيفية وسوء الوظيفة الجنسية غير عضوي المنشأ والاضطرابات السلوكية والنفسية التالية للولادة وتعاطي العقاقير غير المسببة للإدمان.

تغطى اضطرابات الشخصية واضطراب النزوات (مثل القمار وهوس الحرائق وهوس السرقة وهَوَس النَّتْف (trichotillomania واضطراب الهوية الجنسية واضطراب التفضيل الجنسي في الجزء السابع، وتمتاز هذه الاضطرابات بسلوك غير منسجم مع ظروف المريض وبصعوبة تكيف المريض مع وسطه الاجتماعي على نحو يستمر سنوات طويلة تبدأ قرب سن البلوغ وتشمل معظم عمر المريض. ينجم هذا السلوك عن اتباع طرائق غير ناضجه في التعامل مع الكروب وفي حل المشاكل. وتصنف اضطرابات الشخصية بحسب طبيعة السلوك الطاغي إلى اضطراب الشخصية الزورية  paranoid personalityواضطراب الشخصية الفصامانية schizoid واضطراب الشخصية اللااجتماعية dissocial (أو المعادية للمجتمع) واضطراب الشخصية غير المستقرة انفعالياً (وله نمطان هما الشخصية الاندفاعية impulsive والشخصية الحدية (borderline واضطراب الشخصية الهستريائية  histrionicواضطراب الشخصية الوسواسية القَهْرِيّة anankastic واضطراب الشخصية القلقة anxious (أو التجنبية (avoidant وغيرها من اضطرابات الشخصية، إضافةً إلى تغيرات الشخصية الجذرية التالية للكوارث أو للإصابة بالأمراض النفسية.

يشغل التخلف العقلي الجزء الثامن من الفصل الخامس في التصنيف العالمي للأمراض، ويخصص الجزء التاسع للاضطرابات التطورية (النمائية) مثل الاضطرابات النفسية النوعية للكلام واللغة والاضطرابات النفسية للمهارات المدرسية والاضطرابات التطورية النوعية للوظائف الحركية والاضطرابات التطورية المدمرة (مثل توحد الطفولة ومتلازمة رت Rett ومتلازمة أسبرجر .(Asperger)

أخيراً يتضمن الفصل العاشر اضطرابات سلوكية وانفعالية (أو عاطفية) تبدأ عادةً في أثناء الطفولة أو المراهقة مثل اضطراب فرط الحراك hyperkinetic disorder واضطرابات التصرف conduct disorders والاضطرابات القلقية ذات البدء النوعي للطفولة (مثل قلق الانفصال والقلق الرهابي والقلق الاجتماعي وغيرة الأخوة) واضطرابات الأداء الوظيفي ذات البدء النوعي للطفولة (مثل الصُمات الانْتِخابِيّ elective mutism  واضطراب التعلق الارتكاسي واضطراب التعلق غير المثبط) واضطرابات العرات العابرة والمزمنة ومتلازمة تورت  Tourette’s syndrome، وسلس البول الليلي غير العضوي وسلس الغائط غير العضوي والحركات النمطية واضطرابات النطق مثل التأتأة.

خلاصة:

يهدف الفحص الطبي النفسي إلى معرفة المريض وبيئته العائلية والاجتماعية والمهنية، وإلى جمع أعراض يشكو منها المريض وعلامات يلاحظها الطبيب على المريض، على نحو يمكن من التوصل إلى اتفاق مع المريض على تشخيص ما يعانيه من مشاكل طبية وغير طبية، إضافةً إلى تأسيس علاقة مع المريض يستفاد منها علاجياً فيما بعد. ويقدم التشخيص وسيلة لترتيب مجموعة مُتشعبة ومُتوِّهة من مظاهر السلوك المضطرب والتفكير غير المنظم والتجارب الغريبة التي تجلب المريض إلى الطبيب، والتي يجب أن يكون قادراً على فهممها لكي يتمكن من مساعدة المريض على نحو عقلاني ومجدٍ، لذلك يجب أن يتقن الطبيب استخدام أنظمة التشخيص الطبية النفسية ولكن من دون أن ينسى أن تلك الأنظمة مفيدة وموثوقة فقط بمقدار مدى فهمه للاضطرابات المشتملة فيها، وأن تلك الأنظمة تتغير كما تتغير المعارف العامة باستمرار. لذلك لا يجب أن تقتصر غاية الطبيب على إعطاء الاضطراب اسماً مهما كانت أهمية ذلك بل يجب أن تكون الغاية المبتغاة هي مساعدة المرضى الذين يطلبون مساعدته من مشاكل تزعجهم وتسبب لهم إعاقة ما.

 

 


التصنيف : الأمراض النفسية
النوع : الأمراض النفسية
المجلد: المجلد العاشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 7
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 531
الكل : 29627142
اليوم : 7152