logo

logo

logo

logo

logo

البيولوجيا الجزيئية

بيولوجيا جزيييه

Molecular biology -

البيولوجيا الجزيئية

مجد الجمالي

التجارب المفتاحية في البيولوجيا الجزيئية

المسلَّمة المركزية في البيولوجيا الجزيئية

الآليات الناظمة للتعبير الجيني

البيولوجيا الجزيئية والسرطان

 

يُعنى علم البيولوجيا الجزيئية molecular biology بتحديد الآليات الجزيئية للفعاليات الحيوية في الخلية، ويتقاطع مع العديد من العلوم الأخرى كعلم الحياة والكيمياء العضوية والحيوية وعلم الوراثة، خاصّةً في سعيها إلى فهم التآثرات بين الجزيئات الضخمة (الكِبرَوية) macromolecules الثلاثة في الخلية الحية؛ الدنا DNA، والرنا RNA، والبروتينات. وقد شهد العقدان الأخيران توسّعاً أفقياً هائلاً في المعلومات التي أوجدتها التقانات الحيوية الحديثة في علم البيولوجيا الجزيئية، وانتشاراً عمودياً لتطبيقات هذا العلم في شتى المجالات. امتدت تلك التطبيقات لتشمل فهم آليات التآثر بين الجزيئات الحيوية والتحليل الكمّي والكيفي لجينات الكائن الحي، وإنتاج البروتينات العلاجية والصناعية، وتطوير وسائل التشخيص والتداخل العلاجي، وتصحيح الخلل الجيني عبر نقل الجينات السليمة إلى الخلايا المعوزة defective cells، أو ما يسمّى بالمعالجة الجينية gene therapy، واستنساخ cloning الكائنات الحية المحوّرة وراثياً Genetically Modified Organisms (GMOs)، وأخيراً تحضير نماذج حيوانية animal models تُحاكي الأمراض البشرية عبر التداخل في التعبير الجيني لبعض الجينات، و/أو نقل بعض الجينات الأخرى بحيث يمكن تطوير السبل الناجعة لمعالجة الخلل الناجم عن تلك الأمراض.

شهد علم البيولوجيا الجزيئية تطورات متلاحقة بدأت بتجارب مفتاحية في النصف الأول من القرن العشرين إلى أن تسارعت وتيرتها في الربع الأخير منه. يعدّ عام 2000 من أهم نقاط العلّام المميزة في مسار علم البيولوجيا الجزيئية؛ إذ شهد ثورةً معلوماتيةً حيويةً إثر تحديد ترتيب الأسس النكليوتيدية في كامل الجينوم البشري، والبالغ عددها قرابة 3 مليارات نوكليوتيد ترمّز أكثر من 20000 جين موزع بين 23 زوجاً من الصبغيات، يعبّر عنها تفاضلياً في خلايا الإنسان بحسب النسيج الذي تنتمي إليه. يعود الفضل في إتمام مشروع الجينوم البشري Human Genome Project إلى تقنية سَلسَلة الدنا DNA sequencing التي اكتشفها العالم فريدريك سانغر Frederick Sanger عام 1977 - وحاز لذلك جائزة نوبل في الكيمياء عام 1980 - والتي مكّنت مع تعديلاتها منذ ذلك الحين من سَلسَلة الجينوم genome الكاملة للعديد من الكائنات الحية، إضافةً إلى توفير الملايين من تسلسلات شدف fragments الدنا المخزّنة جميعاً في بنوك جينية gene banks يمكن الوصول إليها عبر الإنترنت (الشابكة). لقد كشف مشروع الجينوم البشري أن مجموع الجينات يقدر فقط بنحو 1.5% من الجينوم البشري، في حين تضم البقية العظمى من شريط الدنا تتاليات منظِّمة regulatory، وجينات رنا RNA genes، وجينات كاذبة pseudogenes، وتتاليات متكررة repeat sequences، وتتاليات أخرى لا تُعرف وظيفة محددة لها. وعلى الرغم من أن العمل لا يزال جارياً لتحديد وظيفة القسم الأكبر من البروتينات التي تُرمّزها تلك الجينات في الإنسان ساهمت الوظائف التي حُدّدت لعدد غير قليل منها منذ العام 2000 حتى الآن في فهم آليات العديد من الأمراض، واكتشاف العلاجات التي تصحح الخلل المسبّب لها. أمّا فيما يخص النباتات والحيوانات فقد ساهمت المعرفة المتراكمة حول التكوين الوراثي لأنواع كثيرة منها في تطوير عدد كبير من النماذج الحيوانية المختلفة المحاكية للأمراض البشرية، وفي تطوير هجن محسّنة من النباتات قادرة على إنتاج أوفر من المواد الغذائية والصناعية. وعلى صعيدٍ آخر أدّت سَلسَلة جينوم أنواع عديدة من الجراثيم والفيروسات، وتحديد كامل جيناتها إلى تطوير وسائل تشخيص الإصابة بهذه العوامل الممرضة ومعالجتها، إضافةً إلى تمهيد الطريق للتداخل في جينومات تلك الكائنات المجهرية بما يلائم استخدام السلالات المحورة منها في التطبيقات الواسعة لعلم التقانة الحيوية biotechnology.

التجارب المفتاحية في البيولوجيا الجزيئية

شهد النصف الأول من القرن العشرين أهم التجارب التي أسست لعلم البيولوجيا الجزيئية. وتعد تجربة العالم غريفث Griffith عام 1928 من أولى تلك التجارب، وبيّن من خلالها أن حقن خليطٍ من مكورات رئوية pneumococcus مقتولة ذات محفظة capsule (سلالة S)، ومكورات رئوية حيّة لا تملك محفظة (سلالة R) قد سبب موت الفئران، في حين لم يؤدِّ حقن أيّ من مكوّني الخليط على حدة إلى قتل الفئران، مستنتجاً بذلك أن مادة ما قد انتقلت من المكورات المقتولة ذات المحفظة وتسببت في تحويل transformation المكورات من دون محفظة إلى مكورات تملك محفظة قادرة على قتل الفئران. تلا ذلك تجربة العلماء أفيري Avery وماكلود MacLeod ومكارتي McCarty عام 1943، التي أثبتوا بذكاء من خلالها أن الدنا DNA هو المادة التي تنتقل بين الكائنات الحيّة متسبّبة في تحول الخلايا التي تنتقل إليها. بدأ إثر ذلك السعي الجاد والحثيث إلى إثبات طبيعة الدنا الخلوي وبنيته، إلى أن حُضِّرت نماذج انعراج الأشعة السينية X-ray diffraction patterns لبلورة جزيء الدنا من قبل العالمين روزاليند فرانكلن Rosalind Franklin وموريس ويلكنز Maurice Wilkins، وقام إثر ذلك العالمان جيمس واطسون James Watson وفرانسيس كريك Francis Crick باستقراء تلك النماذج الفيزيائية واستنباط البنية الحقيقية للدنا على شكل بنية حلزونية متعاكسة القطبية لشريطي الدنا، تتقابل فيها الأسس النكليوتيدية الأربعة في أحد الشريطين مع متمماتها من الشريط الآخر(الشكل 1)، بما عرف بعدها بنموذج واطسون وكريك Watson and Crick model، ونال الباحثان بسببه -إضافةً إلى موريس ويلكنز- جائزة نوبل في "الفيزيولوجيا أو الطب" عام 1962.

الشكل (1) بنية الدنا: أ- نموذج انعراج الأشعة السينية لبلورة الدنا، وتبدو في الشكل عصابات سوداء تمثّل الروابط الهدروجينية بين النوكليوتيدات المتقابلة في كل من شريطي الدنا، وهذا النموذج يتماهى مع كون جزيء الدنا على شكل حلزون Helix. ب- العالمان: فرانسيس كريك (إلى اليمين) وجيمس واطسون (إلى اليسار) أمام نموذج محاكٍ لبنية الدنا الحلزونية. ج- بنية الدنا الحلزونية: وتبيّن تقابل كل من نوكليوتيدي الأدنين والثيمين والغوانين والسيتوزين، ويصل بين النوكليوتيدات في الشريط الواحد هيكل مكوّن من تتاليات لسكّر ريبوز منقوص الأكسجين تربط فيما بينها جذور فسفات.

تسارعت وتيرة الاكتشافات في علم البيولوجيا الجزيئية في الربع الأخير من القرن العشرين، وبدأت مئات المراكز البحثية حول العالم بالخوض في غماره لما رآه الباحثون في هذا العلم من آفاق تطبيقية واسعة في شتى ميادين العلوم. ويعدّ اكتشاف تفاعل البوليمراز التسلسلي Polymerase Chain Reaction (PCR) من قبل العالم كيري موليس Kary Mullis عام 1988- والحائز جائزة نوبل في الكيمياء عام 1993- سبقاً علمياً مهّد الطريق لاكتشافات عديدة لاحقة، مثل سلسلة الجينوم وتنسيل الدنا DNA cloning، ودراسة التعبير الجيني للجينات بوساطة تفاعل الـ PCR بالزمن الحقيقي real-time PCR، حيث اعتُمد هذا التفاعل الأخير معياراً ذهبياً في العديد من طرق تشخيص الأمراض، ومرجعية تُوثّق نتائج التقانات الأخرى المستخدمة لقياس التعبير الجيني، والمعتمدة على التهجين hybridization.

المسلَّمة المركزية في البيولوجيا الجزيئية

بعد تعرف بنية الدنا والرنا والبروتين جاء دور دراسة العلاقة بين هذه الجزيئات الكبرية الثلاثة، وهو ما بات يعرف منذ ذلك الحين بالمسلّمة المركزية central dogma في البيولوجيا الجزيئية، التي توضّح كيفية ترجمة المعلومات الوراثية المخزّنة في جينوم الخلية الحيّة إلى بروتينات يقوم كل منها بدوره الذي يخدم وظيفة الخلية ضمن النسيج المنتمية إليه في الكائن الحي. تشير المسلّمة باختصار إلى أنه يتم انتساخ الجينات gene transcription المتضمَّنة في شريط الدنا ضمن نواة الخلية على شكل جزيئات من الرنا RNA المرسال messenger RNA (mRNA)، التي تنتقل بدورها إلى سيتوبلاسما الخلية حيث تتم ترجمة translation شيفرات الرنا RNA codons الوراثية في mRNA إلى حموض أمينية تشكّل الوحدات الأساسية للبروتينات البنائية والوظيفية في الكائن الحي. وهكذا فإن وجهة المعلومات تكون عادةً من الدنا إلى الرنا إلى البروتين. من جهةٍ أخرى، ومن أجل المحافظة على تلك المعلومات بموثوقية ودقة عاليتين في أثناء انقسام الخلية يتم نسخ كل من شريطي جزيء الدنا، وتوزيع كل من نسختي الدنا المتطابقتين على الخليتين البنتين. تُعرف هذه الآلية الأخيرة بتضاعف الدنا DNA replication، وتجري فيها المعلومات من دنا الخلية الأم mother cell إلى دنا الخليتين البنتين المنبثقتين من الخلية الأم إثر انقسامها الخيطي أو المتساوي mitosis (الشكل 2).

الشكل (2) جريان المعلومات الحيوية.

على الرغم من أن المسلّمة المركزية ما تزال تفسر العلاقة البسيطة والمؤكدة بين الجزيئات الكبرية الثلاثة يسير جريان المعلومات الحيوية ضمن الخلية أحياناً وفي ظروف خاصة على نحو مغاير لها، من ذلك أن جينوم كثير من الفيروسات يتألف من الرنا RNA وليس من الدنا DNA كفيروس عَوَز المناعة البشري Human Immunodeficiency Virus (HIV)، ويتم نسخ جينوم تلك الفيروسات من الرنا إلى الدنا الذي يندمج مع جينوم الخلية الهدف إلى أن يتم التعبير عن جيناته وانتساخها على شكل رنا مرةً أخرى عند تفعيل الخلية. وهكذا فإنه خلال عملية الانتساخ العكسي reverse transcription هذه تجري المعلومات الحيوية من الرنا إلى الدنا، تماماً على عكس الحالة العامة التي تشير إليها المسلّمة المركزية. من جهةٍ أخرى عادةً ما يقوم بانتساخ جينات الدنا في الخلية الحية إنزيم بوليمراز الرنا RNA polymerase المعتمد على الدنا DNA-dependent، والذي يقرأ تسلسل الدنا، ويقوم بتصنيع الرنا على نحو يحافظ بمصداقيةٍ عالية على دقة المعلومات الوراثية. غير أن اكتشاف إنزيمات بوليمراز الرنا RNA polymerase المعتمدة على الرنا RNA-dependent قد أثبت أنه يمكن للمعلومات الحيوية أن تجري من الرنا إلى الرنا؛ مما يشكّل أيضاً حالةً خاصّة لم تتناولها النسخة الأولية من المسلّمة المركزية.

أشارت بعض الأبحاث في العقدين الأخيرين إلى إمكان تصنيع البروتين مباشرةً من جزيء الدنا ومن دون المرور عبر انتساخ الجينات إلى الرنا، وذلك باستخدام شروط مخبرية خاصة في الزجاج لا تحتوي على الخلايا cell free conditions، علماً أنه ليس من دليلٍ واحدٍ حتى الآن على حدوث ذلك في خلايا الكائن الحي. مع ذلك يعد هذا المثال الأخير استثناءً لقواعد المسلّمة حيث ألغى دور الرنا بوصفه ناقلاً للمعلومات الحيوية ضمن تلك الشروط المخبرية الخاصّة (الشكل 2).

ومن المسلّمات أيضاً أن وظيفة البروتين ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببنيته، وتظهر غالباً ومباشرة التسلسل النوكليوتيدي للجين في حال استُثنيت التعديلات اللاحقة للانتساخ أو الترجمة التي قد تطرأ على جزيئات الرنا المرسال أو على جزيء البروتين ذاته على التوالي؛ ولذلك يُعنى علم البيولوجيا الجزيئية بدراسة عواقب التبدلات في التسلسل النكليوتيدي لبعض الجينات والبنية الأولية لبروتيناتها، سواء كانت تلك التبدلات على شكل طفرات mutations أم تعدد أشكال الجين gene polymorphism، وارتباط ذلك لدى البشر بالأمراض، أو بتغاير تكيفهم مع بيئتهم المحيطة، أو استجابتهم للمعالجات الدوائية.

الآليات الناظمة للتعبير الجيني

إن من أكثر اهتمامات علم البيولوجيا الجزيئية غنىً- وربما أشدّها تعقيداً- هو فهم آليات تنظيم التعبير الجيني regulation of gene expression في الخلية. فجميع خلايا الكائن الحي تحوي الجينات ذاتها المتضَمنَة في شريط الدنا المتطابق بين جميع الخلايا. مع ذلك يُعبّر عن كثير من الجينات تفاضلياً بين خلايا النسج المختلفة، فمثلاً يُصطنع هرمون الإنسولين البروتيني بعد التعبير عن جين الإنسولين فقط في الخلايا بتا المعثكلية pancreatic β cells، على الرغم من وجود جين الإنسولين في جميع خلايا جسم الإنسان. ويُعد الإنسولين واحداً من آلاف الأمثلة عن الجينات التي يُعبّر عنها انتقائياً في خلايا دون أخرى ضمن الكائن الحي. لا تزال تشغل الإجابة عن السؤال حول كيفية تنظيم التعبير الجيني في الخلايا ذهن الباحثين منذ تأسيس مفهوم الجين في أوائل القرن الماضي حتى الآن، وقد اقتُرحت آليات خلوية عدة مدعومة بنتائج الأبحاث الكثيرة في العقود الماضية. ويمكن تلخيص أهم آليات تنظيم التعبير الجيني التي كُشف عنها في العقود الماضية بما يلي:

1- عوامل الانتساخ:

تعرّف عوامل الانتساخ بأنها بروتينات تمتلك بنية ثالثية تمكّنها من الارتباط بتسلسلات نوكليوتيدية محدّدة، وخاصّةً في منطقة محضض الجين gene promoter التي تسبق مباشرة تسلسل الجين على شريط الدنا، وتهيّئ بذلك المكان لارتباط إنزيم بوليمراز الرنا RNA polymerase المسؤول عن انتساخ ذلك الجين. يمكن تمييز عوامل انتساخ عامة تحفّز التعبير الجيني لمعظم الجينات، وعوامل انتساخ خاصّة ترتبط بتسلسلات جينات نوعية دون غيرها لتحرّض انتساخها. يتم عادةً تحفيز مجموعة من عوامل الانتساخ الخاصّة بمنبهات متماثلة للشارة الخلوية cell signaling، وبحيث تستجيب الخلية لذلك بانتساخ عدد من الجينات النوعية التي تخدم جميعاً الوظيفة الفيزيولوجية المتوائمة مع طبيعة تلك المنبّهات. إن لمستوى عوامل الانتساخ العامّة والخاصّة ونوعها داخل الخلية تأثيراً جلياً في التحكّم بالتعبير الجيني لجيناتها، وتكتنف ذلك آليات شديدة التعقيد، خاصّة أن اصطناع عوامل الانتساخ يحدث خارج النواة، كشأن بقية البروتينات في الخلية؛ مما يتطلب سبلاً خاصة تسمح بعود إدخال عوامل الانتساخ إلى النواة حيث تؤدّي وظيفتها بتحفيز التعبير الجيني لجيناتها الهدف target genes.

2- التوريث الجانبي أو فوق الوراثة:

أضيف إلى مصطلح علم الجينات genetics البادئة Epi ذات الأصل اللاتيني επί، وتعني خارجاً outer أو متجاوزاً over. أي إن علم فوق الوراثة epigenetics يهتم بالتغيرات الموروثة في التعبير الجيني، ولكن تلك المستقلّة عن تسلسل الجينات نفسها، بحيث تنعكس تلك التغيرات على مستويات جزيئات الرنا المرسال النوعية لبعض الجينات، وليس في تسلسل الحموض الأمينية للبروتينات التي ترمّزها. وتعد أستلة الكروماتين ومَثْيلة الدنا من أهم العوامل المسيطرة في علم فوق الوراثة:

أ- أستلة الكروماتين chromatin acetylation: تتألف المادّة الصبغية (أو الكروماتين) من شريط الدنا ملتفاً بكثافة على بروتينات تدعى الهستونات histones. يهدف ذلك على نحو رئيسي إلى احتواء شريط الدنا الطويل، والحاوي في جينوم الإنسان ما يقرب من 3 مليارات نوكليوتيد ضمن الحجم المكروي لنواة الخلية. إلا أن لهذه الآلية ثمناً يتمثّل بأن معظم الجينات المحتواة في شريط الدنا تكون غير متاحةٍ لارتباط عوامل الانتساخ بسبب كثافة بروتينات الهستون المحيطة بتلك الجينات. من أجل ذلك تقوم إنزيمات مؤستلة للهستون histone acetylases بإضافة جذور أستيل إلى تكرارات من الحمض الأميني الليزين الموجودة في النهاية الكربوكسيلية لبعض بروتينات الهستون عند تلقي الخلية أمراً لتفعيل انتساخ جينات معينة، مؤديةً بذلك إلى تغيّر شكلي conformational change في الهستونات، وابتعادها عن مناطق محددة من شريط الدنا (الشكل-3 أ وب)، وبشكلٍ يسمح لعوامل الانتساخ بتحفيز التعبير الجيني للجينات في تلك المناطق. إنّ كلاً من نمط أستلة الكروماتين ودرجتها من العوامل الموروثة التي تتفاعل مع البيئة المحيطة بالخلية مؤدّيةً إلى تغاير مستويات التعبير الجيني لبعض الجينات. وجدير بالذكر أنّه -وفي لحظة معينة من حياة الخلية الحيّة- يمكن تمييز المناطق غير الكثيفة من الكروماتين داخل النواة، حيث تكون درجة الأستلة مرتفعة عن المناطق الكثيفة حيث الأستلة ضعيفة. تسمى المناطق غير الكثيفة والفعالة انتساخياً بالكروماتين الحقيقي (المغاير) euchromatin، والمناطق الكثيفة المثبطة انتساخياً بالكروماتين غير الحقيقي heterochromatin (الشكل3- ج).

الشكل (3) بنية الكروماتين الحقيقي والمغاير: أ- كروماتين غير مؤستل، وتبدو فيه البروتينات مكدّسة ومتجمّعة بكثافة حول شريط الدنا.
ب- تغير بنية الكروماتين بعد أستلة ذيل الهستون
H4، وتبدو هنالك منطقة من الدنا خالية من الهستونات بحيث يمكن لعوامل الانتساخ الارتباط بها. ج- بنية الكروماتين الحقيقي (المنطقة غير الكثيفة)، والكروماتين غير الحقيقي (المنطقة الكثيفة) داخل نواة nucleus الخلية في الطور G1، وتبدو في الشكل أيضاً النويّة nucleolus منطقة كثيفة في منتصف النواة.

ب. مثيلة الدنا DNA methylation: يُضاف خلال عملية مثيلة الدنا جذر مثيل methyl إلى الكربون C5 الواقع في حلقة البيريميدين لنوكليوتيد السيتوزين السابق لنوكليوتيد الغوانين، أي عند تسلسل CpG في شريط الدنا. تتميز مثيلة الدنا بالانتقائية، فعلى الرغم من أنّ قرابة 70% من مواقع CpG تكون مُمَثيلة methylated في الثدييات تتركّز ثنائيات النكليوتيد CpG غير الممثيلة non-methylated في المواقع السابقة للجينات، والتي يكون المحضض promoter من أهمها، وتسمى عندها بجزر سيتوزين -غوانين CpG Islands. تؤدي مثيلة الدنا الانتقائية دوراً مهماً في تحديد مسار تمايز الخلايا الجذعية والطليعية stem and progenitor cells، حيث يمكن لمثيلة جزر CpG لجينات معينة أن تؤثّر سلباً في التعبير الجيني عبر حجب مواقع ارتباط عوامل الانتساخ في تلك الجينات، في حين يتم انتساخ جينات أخرى ذات جزر CpG غير ممثيلة، بحيث تحدد هذه الجينات الأخيرة وُجهَة تمايز الخلية. وهكذا فإن مثيلة محضض عامل انتساخ أو عدم مثيلته تحدد درجة التعبير الجيني لذلك العامل، والذي ينعكس على جمهرة من الجينات المرتبطة به، وبالتالي على نمو الخلية نفسها أو تمايزها. من جانبٍ آخر تبين حديثاً أن أكثر من نصف الجينات التي ترمّز البروتينات الكابتة للورم tumor suppressors تكون عُرضةً لمثيلة جزر CpG عند منطقة المحضض؛ مما ينجم عنه تحريض الانقسام العشوائي للخلايا وحدوث السرطان؛ لهذا السبب تطورت عدة مقايسات لتحديد درجة المثيلة لمحضضات جينات معينة، حيث تعدّ المثيلة بمنزلة واسم حيوي biomarker لتشخيص بعض الأمراض وتحديد إنذارها، وتوقع الاستجابة للأدوية المختلفة.

ج. الرنا الأصغري/المكروي micro RNA (miRNA):

يعدّ التحكم بالتعبير الجيني عبر جزيئات الرنا الأصغري miRNA أحد أهم تعديلات ما بعد الانتساخ post-transcriptional modifications العديدة داخل الخلية. إنّ جزيئات الرنا الأصغري هي جزيئات رنا قصيرة وغير مرمزة non-coding تحوي 20 إلى 23 نوكليوتيد، وتؤدي دوراً مهماً في تنظيم تكاثر الخلايا وتمايزها، والموت المبرمج للخلايا Programmed Cell Death (PCD) عبر كبت ترجمة الرّنا المرسال mRNA، وذلك من خلال ارتباطها بتتالٍ مكمِّل لتسلسل نوكليوتيداتها في المنطقة 3 غير المترجَمة (3&http://arab-ency.com.sy/tech/details/759/6#39;UTR) على الرنا المرسال الهدف، ومنع ارتباط الريبوزومات الضرورية لعملية الترجمة. لقد اكتشف حديثاً أن نحو 3% من الجينات البشرية ترمّز جزيئات miRNA، وأن التعبير الجيني لأكثر من 30% من الجينات المرمّزة للبروتينات البشرية ربما يتم التحكّم به من قبل تلك الجزيئات. إن من بين جزيئات الرنا المرسال الهدف لجزيئات miRNA تلك التي تنجم عن انتساخ جينات ورمية oncogenes أو جينات كابتة للورم tumor suppressor genes؛ لذلك شهدت السنوات الأخيرة اهتماماً واسعاً في دور miRNA في نشوء الأورام tumorigenesis، حيث يمكن لكل من انخفاض مستوى الـ miRNA المثبّط لرنا جين مولّد للورم، أو زيادة مستوى الـ miRNA المثبّط لرنا جين كابت للورم أن يؤدّي إلى زيادة فعالية الانقسام الخلوي، ومن ثمَّ نشوء السرطان. إضافةً إلى ذلك يمكن للتبدلات الوراثية وفوق الوراثية في الجينوم، مثل حذف الجينات أو تضاعفها أو الطفرات أو المثيلة غير الطبيعية للـ DNA أن تسبب تبدّلاً في مستويات جزيئات رنا هدف نوعية داخل الخلية، الأمر الذي قد يظهر في شذوذات مَرَضية متنوعة.

البيولوجيا الجزيئية والسرطان

على الرغم من أن لعلم البيولوجيا الجزيئية كموناً كبيراً في فهم عموم الحالات المرَضية وتدبيرها، فإن للمعرفة المنبثقة من هذا العلم خصوصيةً في تحديد الآليات الجزيئية التي تحول الخلية الطبيعية إلى سرطانية، حيث إن هذا التحول ينجم في معظم الأحيان عن خلل في طبيعة واحدة أو أكثر من الجزيئات الخلوية أو تركيزها أو وظيفتها. لقد تمكّن باحثو البيولوجيا الجزيئية في العقدين الأخيرين من تحديد المئات من أنواع الخلل الجزيئي في العديد من أنواع السرطانات، والتي من أهمّها التبدّلات الصبغية خلال انقسام الخلايا، وطفرات الدنا، وتغيّر مستويات عوامل الانتساخ وجزيئات الرنا الأصغري والفسفرة داخل الخلايا. ولا شك في أنّ المعرفة المتراكمة قد ساهمت في تطوير سبل التشخيص المبكر للسرطانات، وأحياناً في طرق الوقاية والمعالجة؛ الأمر الذي ساهم مؤخّراً في انبثاق العديد من الأدوية الجزيئية توفّر بعضها فعلياً للمستفيدين منها، في حين لا يزال بعضها الآخر قيد التثبت من فعاليته في مراحل مختلفة من التجارب السريرية وما قبل السريرية.

إن من أهم ما يميز تطور علم البيولوجيا الجزيئية خلال العقدين الماضيين هو الانتقال من مفهوم الجين gene إلى مفهوم الجينوم genome، ولاحقاً إلى علوم الجينوم genomics، حيث أُضيفت اللاحقة ome - التي تعني باللاتينية الجميع أو الكل- إلى مفهوم الجين لتعبّر عن مجموع الجينات في شريط الدنا المميز لنوع الكائن الحي. وامتد هذا المفهوم ليشمل مؤخّراً جمهراتٍ أخرى من الجزيئات الحيوية، مثل مجموع الرنا المنتسخ transcriptosome ومجموع البروتينات proteome ومجموع التفاعلات الاستقلابية metabolome ومجموع الجزيئات المتآثرة بين كائنين حيين interactome، مثل المتطفل والثوي، وغير ذلك. إن هذا التوسع في المفاهيم لم يكن ليحدث لولا التقدم الهائل في الوسائل التقانية التي مكّنت من دراسة التعبير الجيني لآلاف الجينات في الآن ذاته بعد أن اقتصرت الدراسات في القرن الماضي على دراسة مجموعة من الجينات لا يتجاوز عددها أصابع اليدين. لا شك في أن هذا المنظور الشامل للمكونات الحيوية ضروريٌ في فهم التآثرات المتعددة المستويات بين الجزيئات داخل الخلية نفسها، وبينها وبين بيئتها المجاورة، وهو لابد أن يعمّق فهم آليات التعبير الجيني الذي سيؤثر إيجاباً في تحديد الآليات الفيزيولوجية والمرَضية، وتطوير سبل فعالة في معالجة العديد من الأمراض التي يبدو كثير منها مستعصياً حتى هذا اليوم.

مراجع للاستزادة:

- D. Clarck, Molecular Biology, Academic Cell, 2010.

- A. Hofmann, S. Clokie, Wilson and Walker&http://arab-ency.com.sy/tech/details/759/6#39;s Principles and Techniques of Biochemistry and Molecular Biology, Cambridge University Press, 2018.

- Y. Kasahara, R.M. Nakamura, P.S. Kim, The Role of Micro-RNAs in Cancer. In: Molecular Diagnostics, Academic Press, 2010.

- B. Lewin, Transcription in Genes IX, Jones and Bartlett Publishers, Sudbury, 2008.

- R.M. Nakamura, Y. Kasahara, Molecular Diagnostics in the Evaluation of Cancer: Modern Concepts and Overview. In: Molecular Diagnostics, Academic Press, 2010.

- L. Pecorino, Molecular Biology of Cancer: Mechanisms, Targets, and Therapeutics, Oxford University Press, 2016.

- T. Strachan, A. Read, Human Molecular Genetics, Garland Science, 2010.

 


التصنيف : الوراثة والتقانات الحيوية
النوع : الوراثة والتقانات الحيوية
المجلد: المجلد السادس
رقم الصفحة ضمن المجلد : 0
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 569
الكل : 31510357
اليوم : 26762