رباعي
رباعي
-
¢ الرباعي
الرباعي (العصر -)
غياث كلسلي
مرّ على الكرة الأرضية منذ نشأتها قبل نحو ٤.٦ مليار سنة حتى هذا اليوم مجموعة من التغيرات الجيولوجية والمناخية العميقة، بدأت من خلال توزع المحيطات واليابسة إلى ظهور الكائنات الحية بمختلف مراتبها وأشكالها، والتي تتوّجت بظهور أسلاف الإنسان مع بدايات العصر الرباعي .
فهذا العصر الأخير من تاريخ الأرض والحياة سمي بالرباعي لأول مرة من قبل الباحث جول ديسنوير J. Desnoyer ١٨٢٩ من خلال دراسته توضعات رسوبية من حوض نهر السين في فرنسا، والتي كانت أحدث من صخور العصر الثالث. إن الحدود الدنيا للعصر كانت موضوع جدل للعديد من المناقشات العلمية التي بقيت صعبة التحديد حتى التوصل إلى طرق التأريخ المطلق باستخدام النظائر المشعة حيث تم تأريخ بدايته بحدود ٢.٦ مليون سنة.
يقسم الباحثون العصر الرباعي إلى عصرين جيولوجيَّين هما: البليستوسين Pleistocene التي تعني الزمن الجديد كثير التقلبات المناخية حيث بدأ مع عودة الجليديات، يمتد من ٢.٦مليون سنة حتى ١٥ ألف سنة قبل الميلاد؛ والهولوسين Holocene أي الزمن الحديث جداً الذي بدأ من نحو ١٢ ألف سنة والمستمر حتى هذا اليوم.
![]() | ![]() |
صورة متخيلة من عصر أواخر البليتوسين في شمالي إسبابنا تظهر فيها خيول برية وماموث صوفي ورنة وأسد الكهوف الأوربي ووحيد القرن | ماموث |
تمَّيز العصر الرباعي بالتقلبات المناخية خلال فترة البليستوسين حيث وصفت بالباردة، حصلت فيه مجموعة من التغيرات المناخية الكبيرة التي يرى الباحثون أنها تعود إلى أسباب عدة من أكثرها انتشاراً التحولات الطفيفة في زاوية ميلان محور دوران الأرض حول الشمس؛ ممّا أدى إلى اختلاف بُعد الأرض عن الشمس، ومن ثمَّ اختلاف كمية أشعة الشمس الواردة؛ فكان بالنتيجة تناوب عصور الجليد مع الفترات ما بين الجليدية (الدافئة) على اليابسة، والتي ترافقت وحركات المد والجزر في مياه البحار القديمة. تُقدِّم التشكلات الجيولوجية الرباعية معلومات مهمة عن طبيعة البيئة والمناخ والأنواع النباتية والحيوانية التي كانت سائدة؛ أي الوسط الذي عاش فيه إنسان ما قبل التاريخ، والتي ترك فيها الكثير من أدواته الحجرية. وقد دلتَّ الأبحاث التي أجريت في منطقة جنوبي أوربا على أن نصف الكرة الشمالي شهد في البليستوسين عصوراً جليدية متتالية عدة زحف فيها الجليد من الشمال إلى الجنوب، وغطى مساحات مختلفة من اليابسة؛ ممَّا سبب انحساراً في الغطاء النباتي والحيواني وتراجعاً في مياه البحر؛ في حين حدث بين العصور الجليدية مدٌّ بحري وانتشار أوسع للغطاء النباتي والحيواني. أما في المنطقة الواقعة في نصف الكرة الجنوبي فقد ترافقت عصور الجليد في نصف الكرة الشمالي وعصوراً مطيرة وباردة وأخرى جافة بين ماطرة تقابل العصور الدافئة أو بين الجليدية الشمالية، حيث تجلت هذه العصور من خلال ترسبات الرمل والحصى التي جرفتها ورسبتها المياه في أثناء الهطل المطري في وديان الأنهار الكبيرة و الموسمية، ومن ثمّ تمَّ حتّها في العصور المطرية (الجافة) لتشكل مصاطب متتالية، والتي تعدّ دليلاً على المجرى القديم للنهر.
ومع انتهاء البليستوسين وبداية عصر الهولوسين، أي بنحو ١٢ ألف سنة قبل الميلاد؛ بدأ تراجع الجليديات للمناطق القطبية وتحسن المناخ عموماً على الرغم من حدوث تقلبات مناخية بين الباردة والدافئة خلال العصر، كما دلَّت عليها الدراسات البيئية القديمة من خلال تغيّر أنواع الحيوانات والنباتات وطبيعة الترسبات الجيولوجية.
![]() |
كهف الديدرية |
كما عدّ الرباعي بأنه عصر الإنسان Age of Humans، وذلك مع ظهور الإنسان المنتصب في إفريقيا؛ فقد دلّت البحوث على أن منطقة جنوبي القارة الإفريقية وشرقيها التي ظهر فيها الإنسان الأول مع بداية الرباعي؛ توفرت فيها الشروط البيئية المناسبة من حيث المناخ المعتدل وتراجع الجليديات، رافقتها تغيرات بنيوية في الحيوانات الرئيسية دفعتها إلى اكتساب بعض شروط الإنسان الرئيسية كالانتصاب وتسطح القدم وزيادة حجم الدماغ وتعقيده. كما أصبح قادراً على اختراع أدواته وأسلحة الصيد، وذلك من خلال نشاط إنساني هادف ضمن إطار جماعة بشرية متعاونة. وأول آثار لكائن منتصب تمَّ العثور عليها في إفريقيا في كل من إثيوبيا وتنزانيا وكينيا أطلق عليه الباحثون اسم أوسترالوبيتك ِ Australopithecus ؛ أي قرد الجنوب حيث تعددت أماكن اكتشاف هذا الكائن في إفريقيا ، ولم يتم العثور على أدوات مرافقة له إلا مع مطلع الرباعي حيث عُثر على الأدوات الحجرية الأولى في بدء العصر الحجري القديم (الباليوليت)، وسميّ باسم الإنسان الصانع homohabilis ، وهو يعد أقدم نوع بشري، ولم يتم العثور عليه خارج إفريقيا ممّا يدل على أنه لم يغادر حدود هذه القارة. ومنذ نحو ١.٥ مليون سنة ظهر نوع بشري جديد أكثر تطوراً، وهو ما أطلق عليه اسم الإنسان منتصب القامة الهومو إركتوس Homoerectus الذي عثر عليه في مناطق مختلفة من العالم القديم؛ حيث طوّر قدراته في صناعة الأدوات الحجرية وصيد الحيوانات وحفر التربة وقطع الأشجار والدفاع عن نفسه، ونظم حياة اجتماعية ولغة تخاطب بين أفرادها سمحت بتشكيل رابط بين أفراد الجماعة. وفي نحو ١٠٠ ألف سنة قبل الميلاد ظهر إنسان نياندرتال Neanderthal الذي اكتشف لأول مرة في وادي النياندر Neander في ألمانيا، ومن ثم تتابعت الاكتشافات من مختلف القارات؛ فقد كان أكثر عدداً وانتشاراً ولا سيما في الأماكن الباردة من أوربا حيث سكنوا المغاور والملاجئ الطبيعية واستفادوا من النار وابتكروا أسلحة جديدة. تطوّر إنسان النياندرتال على نحو كبير ليتحول -بحسب الكثير من المؤشرات- إلى الإنسان العاقل Homosapiens الذي ظهر بين نحو ٣٥- ٤٠ألف سنة قبل الميلاد، وهو الأقرب إلى إنسان اليوم من حيث الشكل والحياة الاجتماعية، وصنع الأدوات والفن والبناء والمعتقدات، ومن ثمَّ توجّه إلى الاستقرار والزراعة ونشوء القرى والتجمعات السكنية واختراع الكتابة وتطور التبادل التجاري بين المجتمعات المختلفة للشرق القديم.
![]() | ![]() | |
هيكل عظمي لطفل النياندرتال الأول في الديدرية | أيل إيرلندي مزدوج الأصابع |
مراجع للاستزادة: - سلطان محيسن عصور ما قبل التاريخ، جامعة دمشق، ٢٠٠٣. - M. Rossignol-Strick, Late Quaternary climate in the Eastern -Mediterranean Region Paleorient 1993 vol. 19/1.CNRS editions. |
- التصنيف : عصور ما قبل التاريخ - المجلد : المجلد الثامن مشاركة :