logo

logo

logo

logo

logo

أبو هريرة (تل-)

ابو هريره (تل)

Abû Hurayra (Tell-) - Abou Hourayra (Tell-)



أبو هريرة (تل (-

 

 

يقع تل «أبو هريرة» في ريف محافظة الرقة على الجانب الأيمن لنهر الفرات عند الانعطاف الكبير للنهر باتجاه الشرق. ويأخذ التل شكل شبه منحرف ولا يرتفع سوى بضعة أمتار. عملت في هذا الموقع بعثة أثرية مشتركة من جامعة أكسفورد ومعهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاغو، تحت إدارة الباحث أ.م.ت. مور A.M.T.Moore  لموسمين فقط، وذلك في 1972-1973م. وقد أمكن خلال مدة التنقيب القصيرة هذه تحديد مناطق الاستيطان الرئيس في التل. ويعود هذا الاستيطان إلى عصور ما قبل التاريخ، ووجدت بقاياه في سويتين رئيستين: الأولى تعود إلى فترة ما بعد العصر الحجري القديم (12500- 10000 ق.م)، والثانية تعود إلى العصر الحجري الحديث، وتشمل على ثلاث طبقات.

إن الطبقة الأولى تنتمي إلى ما يسمى «الثقافة النطوفية» التي وجدت في بضعة مواقع فقط في سورية، مثل موقع يبرود إلى الشمال من دمشق، وتل مريبط على الفرات. وعلى الرغم من ضيق نطاق التنقيب أمكن معرفة الخصائص العامة للعمارة وقوامها، فالبيوت كانت دائرية الشكل بقطر من نحو 2م، وهي محفورة في الأرض لعمق 70سم، السقوف كانت مستندة إلى حوامل خشبية وقوامه أغصان الأشجار والقصب يغطيها، أما الأرضيات فكانت من الطين. ووجدت بين البيوت مساحات مكشوفة تحتوي على مواقد ويمكن إعادة تخيلها برسم افتراضي.

تل أبي هريرة
 
موقع تل أبي هريرة على نهر الفرات

استعمل الصوان الأسود أو البني اللون - المتوافر في منطقة الفرات - في صناعة الأدوات الحجرية التي شملت الأدوات الدقيقة (الميكروليتية) والأدوات الهلالية lunate، وكذلك أزاميل صغيرة وكبيرة ومجارش لسحق الحبوب. وقد وجدت هذه الأدوات الصوانية بكثرة في مواقع «أبو هريرة». أما الأدوات المصنعة من أحجار أخرى فكانت طاسات وأقداحاً من الحجر الكلسي ورحى لطحن الحبوب، وهناك أدوات عظمية مثل المثاقب والإبر، كما عثر على بعض الألياف التي قد تكون استعملت في صناعة البسط والسلال. واهتم سكان «أبو هريرة» القدما بالحلي، فقد عثر على قلائد من الحجر والصدف. كل هذا يعبر عن علاقة الموقع بالبيئة الفراتية واستغلال سكانه لها حين كان معدل الأمطار كافياً لنمو الأشجار والنباتات، فقد أثبتت الدراسات المخبرية الدقيقة أن مجموعة كبيرة من الحبوب والنباتات والفواكه البرية كانت مستهلكة لدى سكان هذا الموقع، ويمكن تقدير عددها بـ 250 نوعاً. يذكر منها على سبيل المثال الجاودار ryes، والقمح wheat، والقمح وحيد الحبة einkorn. كما عثر على الكثير من الأعشاب الفراتية، والدُخن البري wild millets، ونبات رجل الإوز البري wild chenopods.

كما وفرت الحيوانات في هذه البيئة مصدراً غذائياً مهماً، وقد دلت دراسة البقايا العظمية في موقع أبي هريرة على أن صيد الغزال الفارسي كان يأتي بالدرجة الأولى وتصل نسبة استهلاكه إلى 80%، أما البغل البري فكان استهلاكه بنسبة 11%، ويماثله الأرنب البري، وتقل أعداد الغنم والماشية، أما يكون الخنزير فنادر الوجود في السويات المتأخرة من الطبقة النطوفية. لقد كانت هذه النشاطات من الاستقرار إلى العمل على توفير القوت من البيئة المحيطة بمنزلة تمهيد للتوصل إلى الزراعة والتدجين في العصر الحجري الحديث الذي تعود إليه السوية الثانية.

فبعد الانقطاع في الاستيطان - الذي أعقب السوية الأولى - عادت السكنى في السوية الثانية خلال العصر الحجري الحديث، وذلك في النصف الأول من الألف الثامن ق.م، أي في مرحلة ما قبل الفخار الثانية التي يصطلح عليها بـ PPNB. وقد أقيمت أولى بيوت هذه المرحلة فوق الاستيطان النطوفي في القسم الجنوبي من الموقع. وهذه البيوت متعددة الغرف وذات مخطط مستطيل الشكل، السقف كان محمولاً على جسور خشبية ومغطى بالقصب والأغصان، المداخل بين الغرف بدت بشكل طاقات كبيرة، وهذا مشابه لعمارة البيوت في موقع بقرص على الفرات الأسفل. لقد رافق هذا التطورَ في العمارة، وتبني الشكل المستطيل تطورٌ على صعيد صناعة الأدوات الحجرية، فقد كشف عن رؤوس سهام من نمط صناعة جبيل الحجرية، وهي التي استخدمت فعالية ممتازة للصيد. كما وجدت أزاميل صوانية ومخارز ونصال مركبة على مقاشط وكذلك رحى لطحن الحبوب. وعثر لأول مرة في هذا الموقع على فؤوس مصقولة من الحجر الأخضر، وهو ما يذكر بفؤوس تل مريبط من العصر نفسه. وقد تفردت مواقع الفرات بإنتاج هذا النوع من الفؤوس التي لم يعثر عليها في مكان آخر.

مخطط طبوغرافي لتل أبي هريرة

إن هذا المستوطن قدم على الرغم من صغر مساحته مثالاً مهماً على القرى الأولى من العصر الحجري الحديث التي تبنت العمارة المستطيلة لأول مرة في منطقة المشرق العربي القديم، وقامت بدور رائد في التوصل للزراعة والتدجين. وقد تطور هذا المستوطن الصغير في النصف الثاني من الألف الثامن قبل الميلاد تطوراً واضحاً؛ فالطبقة الثانية من السوية الثانية توسعت لتغطي مساحة 300×400م، أي ما يعادل 12 هكتاراً. استمرت بيوت هذه الطبقة بمخططاتها ذات الشكل المستطيل، ويكشف البيت الوحيد الذي استظهر كاملاً عن مخطط مستطيل يضم خمس غرف تراوح أبعادها ما بين 4×3م و2×1.2م. يصل ارتفاع ما تبقى من الجدران إلى 1.7م، وقد طليت أجزاؤها السفلى مع الأرضيات باللونين الأسود والأحمر اللامعين، أما أجزاؤها العليا فقد كسيت بالجص الأبيض. واكتشفت في بعض الغرف مصاطب للنوم، كما احتوت إحدى الغرف موقداً أرضياً. كما عثر تحت أرضيات الغرف 1-4-5 على هياكل مدفونة وكذلك جماجم مدفونة بمفردها.

إعادة تصور للبيوت النطوفية في تل أبي هريرة

وجد في موقع «أبو هريرة» عدد كبير من القبور أحصي منها 162 قبراً مورس فيها الدفن الفردي، وأحياناً الجماعي. ومواضع هذه القبور إما تحت أرضيات البيوت وإما في ساحات بين البيوت. ومورست أيضاً طرق دفن الجمجمة وحدها، بعد فصلها عن الجسد. وتوفر الدليل على دفن بعض الموتى بعد دهن أجسادهم بالمغرة الحمرا ولفها بالبسط. وقد عزا بعض الباحثين هذا التنوع في طرق الدفن ومواضعه إلى مكانة الشخص المتوفى ودوره في التجمع السكني القديم. وفي هذا إشارة إلى مستوى ملموس من التطور في العلاقات الاجتماعية السائدة وتزايد دور بعض الأفراد في إدارة العلاقات وتنظيمها.

 نصيلة مستقيمة :a





نهاية نصلية ملتوية :b





نصيلة ملتوية :c






نصيلة مثلثية :d- e







نصال :
f- s
الأدوات الحجرية من موقع أبي هريرة

تنوعت الأدوات الصوانية المكتشفة وازداد عددها. وقد عثر على أدوات كثيرة مشظاة من نوى صوانية سفينية الشكل، ومن هذه الأدوات رؤوس السهام، المقاشط، الأزاميل والمناجل المركبة التي ساعدت على تحسين عملية حصاد المزروعات. وعثر على لقية تعدّ نادرة الوجود في هذه المرحلة المبكرة من العصر الحجري الحديث السابقة لانتشار الفخار، وهي إنا من الطين المشوي خلطت طينته بالقش ومن ثم طلي باللونين البني والأسود.

بعض الحيوانات التي تعد مصدراً غذائياً في تل أبي هريرة

لقد تمتع هذا الموقع بأهمية بالغة نظراً لكونه من أوائل المواقع التي كشف فيها عن نوع من الاتصال بمناطق أخرى بعيدة. فقد وجدت فيه مواد وحلي مصنوعة من الأوبسيديان الذي جلب من الأناضول، وكذلك عثر على حلي مصنوعة من الفيروز المتوافر في سينا ، والأصداف ذات اللون المائل للاحمرار من البحر الأحمر أو الخليج العربي، فضلاً عن القار والهيماتيت من المناطق المجاورة، وهذا كله يدل على نوع من العلاقات المنظمة التي امتدت إلى أنحا ومناطق عديدة.

مخطط لبيوت من مرحلة ماقبل الفخار الثانية E : القطاع

إن الزراعة في «أبو هريرة» كانت متنوعة؛ فقد انتشرت زراعة الشعير والذرة والعدس واللوبيا ، ولكن لم تتوقف عملية جمع البذور والثمار البرية مثل العنب والكمون. ودجن سكان الموقع أصنافاً من الحيوانات مثل الغنم، مع محافظتهم على ممارسة الصيد، وهذا ما تشهد عليه كثرة رؤوس السهام والنصال المكتشفة. ووجد الدليل على استهلاك مصادر غذائية مائية مثل الأسماك والمحار. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بين المكتشفات التي عثر عليها دمية مصنوعة من الحجر الكلسي تمثل رأس غزال، والدمية مصقولة بشكل جميل ومتقن. وعثر أيضاً على كسر لدمى إنسانية ولكنها غير واضحة المعالم.

بيوت من مرحلة ماقبل الفخار في تل أبو هريرة

إن ما قدمه تل «أبو هريرة» من مكتشفات - سوا على صعيد العمارة والزراعة والتدجين أم على صعيد الصناعة الحجرية، واتساع مساحة المستوطن - ما هو إلا دليل واضح على التطور الحاصل للتجمعات الصغيرة التي توصلت إلى الزراعة. وإذا ما علم أن عدد سكان قرية «أبو هريرة» بحسب بعض الباحثين بلغ عدة آلاف، فهذا يشير حتماً إلى وجود نوع من حكومة أهلية، ليس فقط لتنظيم العلاقات بين العائلات والأفراد، وإنما للإشراف على أمن المجموعة واستقرارها إجمالاً، وكذلك تنظيم استغلال الأراضي حول القرية، وتنظيم أعمال الري البسيطة. ومن الجدير بالذكر أن هذه القرية تعدّ أكبر قرية اكتشفت حتى الآن تعود إلى أواخر مرحلة ما قبل الفخار في العصر الحجري الحديث. وقد وصفت بأنها «المركز الإقليمي» للمواقع المعاصرة الموجودة في منطقتها.

تقلصت مساحة الاستيطان في الطبقة الثالثة اللاحقة من السوية الثانية، وتقترن هذه الطبقة بانتشار صناعة الفخار، وذلك مع بداية الألف السابع ق.م. وفي هذه الطبقة استمرت عناصر العمارة نفسها، وكذلك الأدوات الحجرية مع بعض التعديلات في صناعتها. فقد بدأ استعمال تقنية جديدة في استخلاص الشظايا الصوانية، وخاصة في تصنيع رؤوس السهام من أمثلة العمق وأوغاريت، وهي تقنية الضغط. وتتم هذه التقنية باستعمال قطعة من الخشب، أومن قرون الحيوانات القاسية، ويتم تثبيتها على طرف النواة التي يراد تشظيتها، ومن ثم تطبق عليها قوة مركزة بالضغط حتى تنشطر القطعة المطلوبة. وهذه التقنية استعملت عندما كانت هناك حاجة إلى توفر الدقة في حجم القطعة المستخلصة.

هجر موقع «أبو هريرة» في نحو 5500ق.م مع نهاية السوية الثانية. وقد اقترن اسمه المحلي الحالي بالمسجد العائد إلى القرن السادس الهجري والمبني بالقرب من التل، حيث توجد القرية الحديثة، وهو المعروف بمسجد «أبي هريرة». لم يتبقَّ من هذا المسجد سوى مئذنته التي يصل ارتفاعها إلى 28م، وقطرها 3م، وحين تعرضت بعض أجزا المئذنة للتآكل تم ترميمها في عام 1939م، وعند البد بأعمال تشييد سد الطبقة خشي على هذه المئذنة الفريدة من الغرق فقامت المديرية العامة للآثار في سورية بتفكيكها ومن ثم إعادة تركيبها في ساحة عامة في مدينة الطبقة، وقد استغرق هذا العمل قرابة تسعة أشهر.

 

عمار عبد الرحمن

 

مراجع للاستزادة:

 - مور، الحفريات في تل أبي هريرة، الحوليات الأثرية العربية السورية، مج 25 (1975م).

     -A.M.T. MOORE, & G.C.HILLMAN, Village on the Euphrates: From Foraging to Farming at Abu Hureyra,  (Oxford University Press, 2000). 

-A.M.T. MOORE  & G.C.HILLMAN, The Pleistocene to Holocene Transition and Human Economy in Southwest Asia: The Impact of the Younger Dryas, American Antiquity, Vol. 57, No. 3,  (Jul.,1992), pp.482-494.


التصنيف : عصور ما قبل التاريخ
النوع : مواقع وأحياء
المجلد: المجلد الأول
رقم الصفحة ضمن المجلد : 143
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1095
الكل : 40569848
اليوم : 99663