logo

logo

logo

logo

logo

الحج الشامي (طريق-)

حج شامي (طريق)

-

 ¢ الحج الشامي

الحج الشامي (طريق -)

مسار طريق الحج الشامي

 

طريق الحج الشامي هو الدرب الذي سارت عليه قوافل الحجاج المسلمين من دمشق إلى مكة منذ دخول الإسلام إلى سورية في سنة ١٤هـ/٦٣٥م حتى بداية الحرب العالمية الأولى ١٣٣٣هـ/١٩١٤م، ويُقدَّر طول هذا الطريق بـ ١٣٠٧كم من دمشق إلى المدينة المنورة، والواقع أن هذا الدرب يسلك الطريق الطبيعي بين الحجاز والشام، وقد عُرف باسم «التبوكية» نسبة إلى بلدة تبوك التي تعد من أهم محطاته.

درب الحج الشامي

كانت الأهمية الكبيرة لفريضة الحج «خامس أركان الإسلام» هي المحفز لنشوء طرق الحج التي تسهل لحجاج بيت الله الحرام في العالم الإسلامي الوصول إلى الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، حيث صارت رعاية هذه الطرق وحمايتها من أهم مسؤوليات الدول التي تزعمت العالم الإسلامي عبر عصوره المختلفة، فقد عدّت حماية الأماكن المقدسة في مكة والمدينة؛ وتسهيل وصول قوافل الحجاج براً وبحراً إليها؛ وبسط الأمن على المسالك والمشاعر؛ وتنظيم إقامتهم وقيادة الحجيج في أداء مناسكهم وتقديم مختلف الخدمات لهم من أبرز مسؤوليات الدولة الإسلامية، ومن هنا نشأت وظيفة «أمير الحج» المكلف رسمياً بتجهيز قافلة الحج وتسييرها في موعدها المحدد؛ وقيادتها وحمايتها حتى الأماكن المقدسة؛ ومتابعة أداء الحجاج لمناسكهم ثم الرجوع بهم إلى نقطة انطلاقهم.

وقد بدأت العناية بطرق الحج مبكراً، وبذلت الدولة الإسلامية منذ نشوئها عناية خاصة بالطريق ما بين المدينة المنورة ومكة المكرمة، فقد اهتم الخليفة عمر بن الخطاب (١٣–٢٣هـ/٦٣٤–٦٤٤م) بإنشاء المحطات والاستراحات والنُّزل ليتمكن الحجاج من النزول بها خلال سفرهم، ويذكر المؤرخون أن أول قافلة للحج في الإسلام كانت في سنة ٩هـ/٦٣١م، وقد تضمنت نحو ٣٠٠ حاج وكانت تحت إمرة الصحابي أبي بكر الصديق .

وطبقاً للمصادر التاريخية المختلفة فإن قوافل الحج من العالم الإسلامي كانت تتجمع في أربع قوافل وتسير على أربعة طرق رئيسية هي: طريق الحج العراقي، وطريق الحج المصري، وطريق الحج اليمني، وطريق الحج الشامي. وإضافة إلى هذه الطرق الرئيسية هناك طرق فرعية متعددة برية أو بحرية كان يستخدمها الحجاج القادمون من أقصى البلاد المختلفة ليصلوا إلى نقاط تجمع قوافل الحج على الطرق الرئيسية الأربعة وانطلاقها، أو ينتظرونها في مراحل متعددة من الطريق فيلتحقون بها للحصول على الحماية والعون اللذين اعتادت قوافل الحج تقديمها؛ لكونها مشمولة بعناية مركزة من العواصم الإسلامية الكبرى على مر العصور الإسلامية، وكان ذلك يتم في مواعيد محددة التزمتها قوافل الحج ولم تتبدل؛ ووفقاً لنظام محدد تحت مسؤولية «أمير الحج» الذي صارت وظيفته هذه من الألقاب الإسلامية المهمة التي أضيفت إلى لقب الأمير، وقد كان يرافقه أيضاً قوة عسكرية كبرى مهمتها حماية قافلة الحج، ويشارك في قيادتها أمراء وضباط متعددون.

وكان لكل طريق من هذه الطرق أيام عز ومجد ارتبطت بفترة سيطرة الدول وقوتها وامتداد سلطانها، ففي أيام الدولة العباسية ١٣٢-٦٥٦هـ/٧٥٠-١٢٥٨م كان طريق الحج العراقي هو الطريق الأكبر والأنشط، واشتهر باسم «درب زبيدة» نسبة إلى السيدة زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد التي أسهمت في عمارته، حيث كان يتجمع به حجاج المشرق وفارس والعراق والشام؛ لأمانه وتوفر الخدمات الكثيرة فيه؛ كالبرك والاستراحات، واستمر هذا الطريق نشطاً مميزاً حتى انهارت الدولة العباسية، كما استُخدِم لاحقاً بفترات متقطعة على نطاق ضيق.

وقد صار لطريق الحج اليمني عبر تهامة قوة وأهمية مضاعفة أيام دولة «بني رسول» التي حكمت بلاد اليمن في الفترة (٦٢٦–٨٥٨هـ/١٢٢٩–١٤٥٤م)، حيث كانت الخيرات تأتي معه لأهل الحجاز. كما عرف طريق الحج المصري في أيام الدولة المملوكية (٦٥٨-٩٢٢هـ/١٢٦٠-١٥١٦م) تميزاً وأهمية ارتبطت بعظمة هذه الدولة وقوتها وغناها حتى صار طريق الحج الأهم، وكان ينضم إليه جميع حجاج المغرب والأراضي الإفريقية، وكان يسير من القاهرة عبر سيناء إلى العقبة ثم يتابع الحجاج طريقهم عبر طريق ساحلي؛ أو يلتحقون بطريق الحج الشامي عند محطة السقيا (الخشيبة) التي كان يلتقي عندها طريقُ الحج الشامي طريقَ الحج المصري.

من المؤكد أنه كان للموقع الجغرافي المهم لبلاد الشام دور كبير في منحها أهمية كبيرة بالنسبة إلى الحجاج منذ صدر الإسلام؛ إذ لم تلبث دمشق أن صارت مركز تجمع للحجاج المسلمين القادمين من الأراضي الإسلامية في شمال بلاد الشام وسائر بلدان الأقاليم الإسلامية الشرقية؛ نظراً لأن الطريق البري بين دمشق والحجاز هو الأقصر لقوافل الحجاج المتوجهين لأداء فريضة الجح، إضافة إلى أن هذا الطريق كان معروفاً ومطروقاً؛ لكونه يُستخدم طريقاً للقوافل والرحلات التجارية منذ القديم وقبل الإسلام، وقد اعتادت قريش القيام برحلة في صيف كل عام للتجارة مع بلاد الشام.

صورة لوداع قافلة الحج الشامي في الميدان التحتاني

اكتسب طريق الحج الشامي مكانة مميزة منذ قيام الدولة الأموية (٤١-١٣٢هـ/٦٦١-٧٥٠م) حيث صارت دمشق عاصمة الدولة الإسلامية الشاسعة، ومنها انطلقت أولى قوافل الحج الرسمية المنظمة التي أشرفت عليها الدولة الإسلامية مباشرة بهدف تسهيل وصول الحجاج إلى المدينتين المقدستين من خارج حدود الجزيرة العربية، حيث نالت هذه القافلة عناية خاصة من قبل خلفاء الدولة من حيث الإعداد والتجهيز والحماية؛ ومن حيث تسهيل الطريق والعناية وتزويده بالمنارات والعلامات، فقد عمد الخليفة عبد الملك بن مروان مثلاً إلى تزويد الطريق بما سمي أميال الطرق [ر] التي كانت علامات تحدد مسافات الطريق وتهدي السائرين عليه، كما جدد الخلفاء الأمويون عمارة العديد من محطات الطريق ومساجده كمسجد الرسول في تبوك، وكذلك جددوا البرك والصهاريج والقنوات؛ وأمروا بحفر البرك والآبار على امتداد هذا الطريق بين دمشق ومكة.

صورة مرسومة لمحمل الحج

وعلى الرغم من زوال المكانة السياسية العالية لمدينة دمشق في العصر العباسي (١٣٢-٦٥٦هـ/٧٥٠-١٢٥٨م) فإن طريق الحج الشامي قد حافظ على مكانته المهمة للأسباب المتعلقة بموقع بلاد الشام وأهمية دمشق؛ إذ تؤكد الشواهد الأثرية أن مدن هذا الطريق قد لقيت في هذا العصر عناية جيدة من الناحية العمرانية والخدمية، وكذلك محطاته التي زادت من حيث العدد والخدمات؛ ولا سيما تلك الواقعة في منطقة وادي القرى كالعلا وقرح والرحبة والسقيا.

قافلة الحج الشامي

وقد شهد طريق الحج الشامي في القرن ٦هـ/١٢م فترة حرجة في تاريخه بسبب التواجد الصليبي في بلاد الشام، حيث كان الصليبيون يهددون من قلاعهم في الكرك والشوبك أمن هذا الطريق ويهاجمون قوافل الحجاج التي تسلكه. وظل الحال هكذا حتى تمكن الأيوبيون من السيطرة على مقاليد الأمور في بلاد الشام (٥٧٠-٦٥٨هـ/١١٧٤-١٢٦٠م)؛ حيث عمل ملوك دمشق الأيوبيون على إعادة الأمان والاستقرار والنشاط للطريق، فبسط السلطان صلاح الدين سيطرته على كافة أجزاء الطريق وعاقب الأمراء الصليبيين الذين تورطوا في مهاجمة الحجاج المسلمين، وحاصر قلعة الكرك التي كانت تهدد سلامة الطريق حتى أسقطها سنة ٥٨٤هـ/١١٨٨م. كما نال الطريق اهتماماً كبيراً من خلفاء صلاح الدين؛ إذ يعد الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أكثر حكام دمشق اهتماماً بالطريق؛ فقد أورد المؤرخون أنه سار بنفسه على طريق تبوك، وأمر ببناء بركة المعظم المشهورة؛ إضافة إلى العديد من البرك الأخرى، كما أمر بمسح الطريق بين دمشق وعرفات وتسهيل مواضع عدة فيها كانت معروفة بوعورتها، فيذكر المؤرخ محمد بن طولون الحنفي الدمشقي في رسالته «البرق السامي»: «أن المعظم عيسى ابن العادل سنة إحدى عشر وستماية، سار من الكرك على الهجن حادي عشر ذي القعدة ومعه بعض خواصه، وجدد البرك والمصانع، وتلقاه سالم أمير المدينة وخدمه وقدم له الخيل والهدايا، ثم سار إلى مكة ونزل بالأبطح، ثم بات بمنى ليلة عرفة وصلى بها الصلوات الخمس وكانت الوقفة يوم الجمعة، وحج على مذهب أبي حنيفة قارناً وما غطّى رأسه ولا كتفه ثلاثة عشر يوماً حتى انكشط كتفه وقيّح….».

صورة لمحمل الحج

وفي أثناء العصر المملوكي (٦٥٨-٩٢٢هـ/١٢٦٠-١٥١٦م) نال الطريق اهتماماً متزايداً من حكام دمشق وزادت أعداد سالكيه من الحجيج، وقدَّر بعض الرحالة قافلة الحج الشامية التي ساروا معها سنة ٦٧٤هـ/١٢٨٦م بستين ألف راحلة من دون الخيل والبغال والحمير، فقد ساهمت سيطرة الدولة المملوكية على مصر وبلاد الشام والحجاز معاً في تسهيل التحكم بالطريق والسيطرة على كل القبائل التي تعيش على أراضيه؛ ومن ثمّ سهولة إقامة مشاريع خدمية عليه، كما تشير العديد من الدراسات إلى وجود كثير من النقوش الكتابية المملوكية على طريق الحج الشامي تشير إلى قيام المماليك بترميم العديد من منشآته؛ على الرغم مما عُرف عن العصر المملوكي من تنافس بين الطريقين الشامي والمصري الذي شهد في هذا العصر عناية فائقة جعلته متفوقاً على طريق الحج الشامي، لكونه الطريق الذي كانت تسلكه القافلة الرسمية الأولى للسلطنة.

صورة لموكب الحج يظهر فيها حامل سنجق الحج

تؤكد المصادر التاريخية أن طريق الحج الشامي قد عرف خلال سيطرة الدولة العثمانية (٩٢٠-١٣٣٨هـ/١٥١٦-١٩١٩م) على الشام ومصر والحجاز تطوراً ونشاطاً ومكانة غير مسبوقة، فقد أصبحت دمشق الميناء البري للقوافل التجارية من بين مختلف مناطق الدولة العثمانية؛ وواحدة من أهم أسواقها، فهي محط القوافل التجارية القادمة من مكة والهند وبلاد فارس محمّلة بمختلف السلع؛ ومكاناً لصناعة الأقمشة التي اشتهرت بها المدينة؛ ونقطة تجمّع لقوافل الحجاج المسلمين؛ حتى أُطلق عليها في المراسلات الرسمية للدولة اسم «شام شريف»، فقد صار طريق الحج الشامي هو طريق القافلة الرسمية العظمى للحج للعالم الإسلامي كافة، فالسلطان العثماني اتخذ لنفسه لقب حامي الحرمين الشريفين؛ أي مكة والمدينة المنورة، ممّا أوجب عليه مسؤولية تأمين سلامة الحجيج إلى هذين الحرمين، فاختار العثمانيون مدينة دمشق لما تتمتع به من موقع جغرافي وعمراني ومعماري وثقافي وتجاري لتصبح مركز تجمع الحجاج من كبار رجال الدولة العثمانية؛ إضافة إلى الشاميين والعراقيين والفرس وأهل القوقاز ومسلمي الأناضول وأوربا، وأولوا المدينة عناية خاصة لتسهيل قيامها بهذه المهمة، حيث شهدت مدينة دمشق نهضة عمرانية ومعمارية ماتزال شواهدها قائمة حتى اليوم، فكان مبنى التكية السليمانية [ر] من أوائل المشيّدات العثمانية في دمشق، حيث استقبلت هذه التكية وفود الحجاج القادمين للتجمع في دمشق بأرض مرج السلطان (أرض معرض دمشق الدولي قديماً)؛ وقدمت لهم العديد من الخدمات التي سهلت إقامتهم وخففت فترة انتظارهم، فقد كان السلطان سليمان القانوني (٩٢٦-٩٧٤هـ/١٥٢٠-١٥٦٦م) هو أول السلاطين العثمانيين الذين اهتموا بسلامة طريق الحج الشامي وكذلك طريق الحج المصري، وقد شهر بإنجازاته المتعددة فيه والتي منها بناء القلاع وإرسال الحاميات لحراسة الحجاج.

صورة من قافلة الحج

وقد سار السلاطين العثمانيون بعده على هذا النهج يقومون بعمل طيب في تسهيل درب الحج الشامي حتى ضعفت امبراطوريتهم بداية من القرن ١٣هـ/١٩م، حين ضعفت السلطة المركزية في إسطنبول، كما تزايد إهمال ولاة الأقاليم التي يمر بها طريق الحج الشامي، فتم إفساد كثير من المنجزات، وخُرِّبت القلاع، ونقص الجنود الحماة، وتلاعب الباشوات بالصرر المالية السلطانية التي كانت تخصص لزعماء القبائل المكلفة بحماية الطريق، ورد هؤلاء لضعف دينهم بنهب قوافل الحجيج، مما كان له أبعد الأثر في سلامة طريق الحج، وسلامة حجاج بيت الله الحرام.

قافلة الحج

والواقع أن السلطان عبد الحميد كان آخر السلاطين العثمانيين الذين كانوا يرسلون كل سنة قافلة حج رسمية مجهزة بكل متطلباتها؛ تنطلق من دمشق «شام شريف» حيث ينضم إليها حجاج قادمون من الصين والهند وكردستان والقفقاس وفارس وأفغانستان ومنطقة الفرات ولبنان وفلسطين وغيرها؛ إذ أنجز هذا السلطان الخط الحديدي الحجازي [ر] بطول ١٣٢٠ كم بكامله خلال ثماني سنوات بدءاً من الإعلان عنه؛ إذ تمَّ تدشينه في ٢٢ رجب ١٣٢٦هـ الموافق لـــ ٢٨ أيلول/سبتمبر ١٩٠٨م، وتمَّ الاحتفال بوصول أول قطار انطلق من محطة الحجاز [ر] في دمشق ووصل إلى محطة العنبرية في المدينة المنورة عبر رحلة لم تستغرق سوى سبعة أيام، بعد أن كانت رحلة الحج تستغرق من دمشق إلى مكة المكرمة ٥٠-٥٥ يوماً، وبذلك كان الحاج في ذهابه إلى الأماكن المقدسة وعودته منها يستغرق أشهراً عديدة قد لا تقل عن أربعة أشهر.

صورة الاحتفال بوصول محمل الحج إلى مكة المكرمة

مسار طريق الحج الشامي:

بعد اكتمال التجهيزات كانت قافلة الحج الشامي تستعد للتحرك باتجاه الأراضي المقدسة في السادس عشر من شهر شوال من كل سنة في جو احتفالي بهيج اعتادت جميع طبقات المجتمع الدمشقي على المشاركة به؛ حيث تتنوع مظاهر الفرح والاحتفال في ذلك اليوم المشهود، وكان يرافق القافلة- إضافة إلى أميرها- قاضي الركب وعدد كبير من الجنود يزيد على المئة من العساكر المسلحين، وكان يتقدم الجميع محمل الحج وسنجقه، وجرت العادة أن يرافق القافلة حتى أقصى مناطق الميدان التحتاني أو ما كان يسمى جوازاً «بوابة الله» التي كانت تعد نهاية الجزء الدمشقي من طريق الحج جميع الأمراء وأركان السلطات المختلفة في المدينة. وفي العصر المملوكي كان نائب دمشق يخلع على أمير القافلة أو الركب قبيل توجه القافلة إلى الأراضي المقدسة.

كانت قافلة الحج تضم في أغلب السنوات (٥٠) ألف حاج أو أكثر، وكان هذا العدد يرتفع في الأوقات التي يعقبها كارثة أو حرب ما، مما يقتضي التوجه إلى الحج لشكر الله على انتهائها. وكان ينخفض هذا العدد كثيراً في بعض السنوات نتيجة قلة الأمان على طريق الحج كما حصل بعد سنة ١١١٧هـ/١٧٥٧م حين نهبت القافلة التي كانت تحوي ستين ألف حاج بكامل ما تحمل؛ إذ انخفض عدد الحجاج بعد ذلك إلى نحو ألفي حاج فقط. وقد توقف الحج الشامي لسنوات عدة في فترة سيطرة الصليبيين على بلاد الشام قبيل قيام الناصر صلاح الدين الأيوبي بتأمينه كما ذُكِر سابقاً، كما أُغلق الطريق نتيجة لتكرار اعتداءات الأعراب من سنة ٩١١هـ/١٥٠٥م حتى سنة ٩١٩هـ/١٥١٣م، وأُغلق لاحقاً أيضاً في سنوات مختلفة لأسباب مشابهة.

وكان طريق الحج الشامي بعد دمشق يسير جنوباً باتجاه الحرمين الشريفين ماراً اليوم بثلاث دول هي سورية والأردن والسعودية، وكانت قافلة الحج تقف بالعديد من المدن والقرى في محطات عرفت باسم منازل قافلة الحج.

وتشير المصادر إلى أن طريق الحج الشامي كان يمتد إلى مسافة ١٣٠٧كم، ويمر بمحطات أو منازل عديدة هي على الترتيب: الكسوة فالصنمين فبصرى فأذرعات (درعا) التي تعد آخر محطات الطريق في الأراضي السورية، ويتضح من قراءة المصادر أن عدد محطات طريق الحج الشامي قد زادت خــلال العصور المتأخرة، فأصبحت كالتالي: دمشق، الكسوة، خان دنون، غباغب، الصنمين، الشيخ مسكين، المزيريب، ثم درعا. وبعدها يدخل الطريق أراضي المملكة الأردنية الحالية حيث يعد خان المفرق أولى محطاته، وكان الطريق في القرون الإسلامية الأولى يسير بعدها إلى القسطل ثم الحفير الذي تقع فيه بلدة القطرانة، ثم معان، ثم سرغ التي تعد آخر محطات الطريق في الجزء الأردني، ولكن هذه المحطات تغيرت بعد العصر الأيوبي فأصبح الطريق يمر بعد الزرقاء بزيزياء؛ ثم القطرانة؛ ثم الكرك؛ ثم معان؛ ثم عقبة الصوان؛ ثم سرغ التي صارت تعرف باسم المدورة، كما شهدت هذه المحطات بعض التغيير في العصر العثماني لتصبح كالتالي: المفرق، الزرقاء، خان الزبيب، البلقاء، القطرانة، الحسا، عنيزة، معان، بطن الغول، المدورة، ثم يتابع الطريق جنوباً ليصل إلى حالة عمار وهي أول منازل الطريق في الأراضي السعودية.

وتترتب محطات الطريق بعد حالة عمار بداية من ذات حاج؛ ثم تبوك التي تعد من أبرز محطات طريق الحج الشامي؛ ثم يمر الطريق بالمعظم؛ وبعدها الدار الحمراء؛ ثم وادي الأخيضر الذي تقع فيه محطة المحدثة؛ ثم الأقيرع؛ ثم جبل الطاق (أبو طاقة)؛ ويليه المبرك (مبرك الناقة) أو الشق؛ ثم الحجر (مدائن صالح) وبعدها العلا؛ ثم القرح (مدينة وادي القرى).

ومن الثابت أن المسلمين بين مدائن صالح حتى القرح استخدموا عبر القرون طريقين: الأول استخدم في القرون الهجرية الأولى، وسمي باسم «درب الحاج»، حيث يسير الطريق بعد الحجر إلى الجنوب الشرقي نحو قاع المعتدل ثم قاع رم ليصل إلى القرح، ويسمى الطريق الثاني «طريق العلا» حيث يسير الطريق بعد الحجر إلى العذيب ثم إلى العلا حتى يصل إلى القرح. وقد استخدم هذا الطريق بعد القرن ٧هـ/١٣م.

كما تشير المصادر إلى أن طريق الحج الشامي بعد القرح انقسم طريقين قديم وجديد: القديم استخدم قبل القرن ٦هـ/١٢م، وكان يمتد من القرح إلى السقيا (الخشيبة) التي كان يلتقي عندها طريق الحج الشامي مع طريق الحج المصري الداخلي، ومنها كان الطريق يتابع إلى الرحبة (الكتيفة)؛ ثم إلى ذي المروة؛ ومنها إلى ذي مر وصولاً إلى إسطبل عنتر (قلعة شجوى)؛ ومنه إلى السويداء؛ ثم إلى ذي الخشب (وادي المندسة) وهي آخر محطات الطريق إلى المدينة المنورة.

أما الطريق الجديد فقد صار يسير بعد القرح إلى قلعة الفقير (مغيرة)؛ ومنها إلى سهل المطران ثم قلعة زمرد ثم الصورة (البئر الجديدة)؛ وبعدها إلى قلعة هدية وصولاً إلى إسطبل عنتر أيضاً؛ ثم إلى الفحلتين؛ ثم إلى آبار نصيف (المليليح)؛ ثم الحفيرة قبل المدينة المنورة، وقد نال هذا الطريق عناية الحكام، وسارت عليه أجزاء كبيرة من سكة حديد الحجاز التي سبقت الإشارة إليها، ويشير تتبع المصادر إلى أن العديد من أسماء محطات طريق الحج الشامي قد تغيرت عبر مرور القرون.

وطبقاً للروايات فإن رحلة الحجاج على طريق الحج الشامي من دمشق إلى المدينة كانت تستغرق (٤٥) يوماً؛ ومنها إلى مكة المكرمة حيث تستغرق (١٠) أيام إضافية، وبذلك كان الحاج في ذهابه إلى الأماكن المقدسة ثم أدائه لمناسك الحج ثم عودته على الطريق ذاته يسير برحلة شاقة محفوفة بالمخاطر كانت تستغرق ما لا يقل عن أربعة أشهر بأحسن الظروف والأحوال.

جرت العادة أن تقوم السلطة في دمشق بإعداد قافلة دعم محملة بالمؤن تخرج من دمشق بهدف إسعاف قافلة الحج الشامي في طريق عودتها إلى دمشق خشية أن يكون ما تحمله من طعام قد نفد، وقد أطلق على هذه القافلة اسم «قافلة الجردة»، وحمل قائدها اسم «سردار الجردة»، وكان يُختار من الأعيان أو الوزراء.

وكان أمير الحج في طريق عودته يكلِّف أحد أفضل رجاله بأن يسبق قافلة الحج ليبشر بعودتها قبل وصولها إلى دمشق بنحو سبعة أيام، وكان يطلق عليه اسم «الجوخدار»، كما يقوم «الكتَّاب» بتكليف من أمير الحج بحمل رسائل الحجاج؛ ويسبق وصوله إلى دمشق القافلة بثلاثة أيام، حيث كان الحجاج يبدؤون بدخول دمشق بالفترة بين ٢-٥ صَفَر، حيث يتجمع أهل دمشق في الميدان التحتاني عند «بوابة الله» لاستقبال الحجاج بمثل ما ودعوهم به من احتفالات وأهازيج، يُضاف إليها أجواء روحانية سببها البركة التي حملها معهم الذين كتب لهم الله زيارة بيته العتيق؛ والذين كان يستمر دخولهم المدينة عدة أيام، وعادة يكون أمير الحج مع محمله آخر من يدخل مدينة دمشق بعد هذه الرحلة الشاقة الغنية بقصص كثيرة للتضحية والإلهام؛ غاصت كتب التاريخ والرحالة والسير بذكر تفاصيلها.

وتشير الدلائل الأثرية إلى أنه كان لطريق الحج الشامي أثر كبير في تنشيط الحركة العمرانية والمعمارية في كل محطاته ومنازله؛ إذ ساهم هذا الطريق في حفاظ مدينة دمشق على مكانة صناعية وتجارية عالية مميزة لم تفقدها على مر العصور الإسلامية، كما يشير مورس لومبر Moores Lumber في كتابه «العصر الذهبي للإسلام» The Golden Age of Islam؛ إذ أسهم تجمع الحجاج القادمين من شرقي العالم الإسلامي وشماليه في تنشيط جميع أنواع الصناعات في المدينة، حتى نشأت أهم أسواقها على جانبي الجزء الدمشقي من طريق الحج الشامي، وقد سُمِّيت في العصر المملوكي «أسواق تحت القلعة»، وكلها تخصصت في خدمة طريق الحج والحجاج؛ مثل سوق الخيل وسوق النحاسين وسوق الحدادين وأسواق البياطرة والسروجية، كما نشأت في جنوب المدينة القديمة باتجاه طريق الحج الشامي في حي الميدان أسواق تخصصت بتجارة الحبوب والمواد الغذائية، ولم تلبث هذه الأسواق أن تطورت لتصبح حياً متكاملاً عرف باسم «حي السويقة» المشهور حتى اليوم بهذا الاسم، إضافة إلى الأسواق الموسمية التي كانت تقام في أشهر الحج حيث كانت هذه الأسواق حافلة بشتى أصناف الأطعمة والألبسة ولوازم الحياة إجمالاً، وكل هذا أفرز مهناً دائمة على مدار المواسم، مثل: المقوّمين (متعهّدو المطايا)، الجمّالة (الدّوجيّة)، والبغّالون (القاطرجيّة)، ومُكرو الدّواب (العكّامة)، والحمّالون (العتّالة)، والأجراء، والأدلاء، والسُّقاة، والحرّاس، والمهاترة (الخيميّة). وبفضل الشهرة العالية لدمشق في صناعة الأقمشة كانت تصنع فيها كسوة الكعبة الشريفة من قِبل صنّاع دمشقيين مهرة يقيمون بدمشق ويتقاضون رواتبهم من الدولة.

وقد كان طريق الحج هو السبب في حفاظ مدينة دمشق على مكانة تجارية عالية بعد اكتشاف البرتغاليين لرأس الرجاء الصالح ٩٠٤هـ/١٤٩٨م الذي أفقد مدينة دمشق العديد من المميزات والمكانة التي اكتسبتها بكونها محطة مهمة للتجارة مع الشرق الأقصى، فقد أدت زيادة مكانتها في العصر العثماني بوصفها محطة تجمع لقوافل الحجاج إلى توسع أسواقها توسعاً كبيراً في الجنوب خارج الأسوار باتجاه طريق الحج، فامتدت الأسواق بمحاذاة حي السويقة بين منطقتي الشاغور وقصر الحجاج؛ واندمجت مع أسواق منطقتي باب مصلى والميدان؛ وامتدت حتى باب الجابية والقلعة لتشكل محوراً تجارياً حافظ على أهميته لفترة طويلة، كما امتد النشاط التجاري إلى داخل المدينة فانتشرت بها الخانات الضخمة مثل خان الزيت في سوق مدحت باشا وخان الجمرك وخان المرادية وخان الحرير في سوق البزورية، كذلك خان أسعد باشا الذي يعد أشهر خاناتها، كما أقام العثمانيون داخل المدينة أسواقاً ضخمة؛ إذ أقام الوالي محمد باشا العظم سوق الحميدية سنة ١١٩٤هـ/١٧٨٠م، كذلك أقام الوالي مدحت باشا سنة ١٢٩٤هـ/١٨٧٧م سوق مدحت باشا على الجزء الغربي من الشارع المستقيم، كما كان لفتح قناة السويس سنة ١٢٨٦هـ/١٨٦٩م تأثير سيئ في أسواق دمشق؛ إذ تحول الحجاح الأتراك وغيرهم عن الطريق البري المار عبر دمشق وركبوا السفن للوصول بها عبر القناة إلى الأماكن المقدسة، وبالتأكيد فقد كان لفتح خط سكة حديد الحجاز بين دمشق والمدينة المنورة دور كبير جداً في إقبال الناس على التوجه إلى الأماكن المقدسة عبر طريق الحج الشامي.

وعموماً فقد كانت قافلة الحج الشامي وقوافل العمرة المتعددة تحقق الوفرة النقدية للدمشقيين؛ إذ يذكر بدر الحاج في كتابه «دمشق صور من الماضي» أن هذا المردود الاقتصادي كان يقدر في حينه بما لا يقل عن ربع مليون من الدنانير الذهبية.

وفي الوقت ذاته شهدت جميع محطات طريق الحج الشامي ومنازله حركة تجارة رائجة، وأسهمت قبائل البدو في انتعاش هذه الأسواق حيث كانت تتم مقايضة مشترياتهم من الأسلحة والرصاص والملابس والتوابل والبن والسكر بالإبل والغنم والحليب والسمن.

كما تشير المسوحات الأثرية إلى جميع أجزاء طريق الحج الشامي لوجود آثار إسلامية متنوعة تعد شواهد حضارية تظهر أهمية الطريق، وتؤرخ لنشاطاته، وتبين درجة الاهتمام به خلال فترات التاريخ الإسلامي، وتشمل هذه الآثار: الآبار والبرك والعيون والقنوات المائية- التي أنشئت لتوفير المياه في منازل الطريق- إضافة إلى القلاع والأبـــراج التي أقيمت في العديد من منازله الرئيسة لتوفير الأمن لمستخدميه، كذلك الجسور والمنارات وأعمال الرصف وتمهيد العقبات وتنظيف المناطق الوعرة من الصخور التي تمت لتسهيل الطريق وتيسير الحركة عليه، إضافة إلى آثــار المــدن والــقــرى التي ازدهـــرت في بعض منازله؛ ولا سيما خــلال العصور الإسلامية المبكرة، ويُضاف إلى ذلك النقوش الكتابية التذكارية التي كــان الحجاج والمسافرون ينقشونها عند مرورهم على الصخور في محطات الطريق وعلى طول مساره تذكاراً وتأريخاً، وتمثل كل أنواع هذه الآثار مصادر معلومات مازالت تحمل الكثير من أسرار هذا الطريق التاريخي الذي كان شرياناً حضارياً لم تتوقف دماؤه الطيبة عن التدفق لأكثر من ثلاثة عشر قرناً.

وخلاصة القول إن طرق الحج المختلفة هذه قد لقيت عنايات خاصة بسبب أهميتها الدينية أولاً؛ إذ يصل عدد المستخدمين في كل منها كل عام عشرات الآلاف، وعليه فقد اهتم الخلفاء المسلمون بهذه الطرق؛ فخُططت مساراتها بطريقة عملية وهندسية مميزة، وسهلت ووسعت ورصفت أرضيتها بالحجارة في المناطق الرملية والموحلة، وأقيمت على امتدادها المحطات والاستراحات، فضلاً عن تزويدها بالمنافع والمرافق المتعددة اللازمة؛ كبناء أحواض المياه وحفر الآبار وإنشاء البرك والسدود وإقامة علامات الطرق والمنارات التي توضح مسارات الطرق نهاراً وليلاً ليهتدي بها الحجاج والمسافرون، حتى صارت صالحة للاستخدام من قبل الحجاج والمسافرين ودوابهم، ولم تلبث هذه الطرق أن صارت إضافة إلى أهميتها الدينية ذات أهمية إدارية وتجارية وعسكرية؛ إذ صار استخدامها منظماً وميسراً بدرجة كبيرة، حتى تحولت محطاتها الكبيرة إلى حواضر اجتماعية وتجارية مهمة، وتحولت مراكز المياه وأماكن الرعي والتعدين الواقعة عليها إلى محطات رئيسية عليها، إضافة إلى أن هذه الطرق كانت طرق تواصل ثقافية نقلت عليها المعارف والمؤثرات الحضارية التي أثرت في النسق الاجتماعية للتجمعات الواقعة على تلك الطرق، حتى يمكن القول إنها كانت جسوراً للتواصل الحضاري بين مختلف الأمصار الإسلامية وعلى مرِّ القرون.

غزوان ياغي

مراجع للاستزادة:

- منير كيال، محمل الحج الشامي (وزارة الثقافة، دمشق ٢٠٠٦م).

- صالح موسى درادكة، طرق الحج الشامي في العصور الإسلامية: الطرق في شرق الأردن خاصة (اللجنة العليا لكتابة تاريخ الأردن، الأردن ٢٠٠٧م).

 - آمنة حسين محمد علي جلال، طرق الحج ومرافقه في الحجاز في العصر المملوكي (٦٤٨-٩٢٣هـ/١٢٥٨-١٥١٧م) (٢٠٠٥م).

 


التصنيف : آثار إسلامية
المجلد: المجلد الخامس
رقم الصفحة ضمن المجلد :
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1106
الكل : 45683533
اليوم : 84216