التوطين
توطين
Sedentism - Sédentarisation
التوطين
التوطين
يستخدم مفهوم التوطين sendentarism للدلالة على العمليات التي يراد منها تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لمجموعات متنقلة من السكان توصف بعدم الاستقرار لأسباب متعددة تختلف بين حين وآخر، تبعاً لطبيعة الشروط الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها هذه المجموعات. وتختلف عوامل عدم الاستقرار بين مكان وآخر، أو دولة وغيرها، باختلاف البيئة الطبيعية التي يعيش فيها السكان.
وتعد عمليات التوطين، والعمل على تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والمهني للسكان في حدود مكانية تتوافر فيها شروط الحياة والعمل، حديثة نسبياً، ولها أشكال متعددة، منها التوطين السكاني، والتوطين السياسي، والتوطين الصناعي، وتأخذ في الوقت نفسه مفهومات أخرى أيضاً، كتوطين رؤوس الأموال وتوطين الوظائف وتوطين العمالة وغيرها.
أمَّا التوطين السكاني فيراد منه العمل على تحقيق الاستقرار للسكان الذين تتصف حياتهم بالتنقل والترحال بشكل دائم أو نسبي، بسبب غياب عوامل الاستقرار في موقع محدد، وبسبب مجموعة كبيرة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية وغيرها. ويعد مفهوم «توطين البدو» واحداً من المفهومات التي يراد من خلالها توفير الشروط الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل أهل البادية أميل إلى الاستقرار والإقامة في أماكن محددة، تتوافر فيها شروط الحياة والعمل وإمكانية تبادل المنافع والخيرات مع غيرهم من أبناء التجمعات السكانية الأخرى. وقد شهد المشرق العربي منذ بدايات القرن العشرين محاولات واسعة لتوطين البدو وتحقيق استقرارهم في مدن وقرى، تتوافر فيها الخدمات التي تساعد على الاستقرار، ذلك أن القسم الأكبر من سكان شبه الجزيرة العربية كانوا يوصفون بالتنقل والترحال وعدم الاستقرار، الأمر الذي يشكل عائقاً أمام تفعيل النشاطات الاقتصادية الممكنة، ويجعل النشاط الاقتصادي وقفاً على الاقتصاد الرعوي، في الوقت الذي يمكن تحقيق تنمية أوسع في مجال الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها من الفعاليات، مع تحقيق الاستقرار والإقامة في مواقع محددة مكانياً.
ويختلف تعبير «التوطين السياسي» اختلافاً بيناً، إذ يراد به تحقيق الاستقرار في الإقامة لمجموعات سكانية محددة دون غيرها، بغية جعلها تأخذ موقع الصدارة من حيث عددها ونسبتها في المجتمع المعني، بالموازنة مع المجموعات السكانية الأخرى التي تعد أكثر انتشاراً أو أقل، تبعاً لمجموعة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة. ويرتبط هذا المفهوم أحياناً كثيرة بتعبير «الاستيطان» الذي يهدف إلى إحلال مجموعات سكانية ذات انتماء عرقي أو مذهبي محدد، بدل المجموعات السكانية التي توارثت المكان منذ عصور طويلة. ومثال ذلك ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية التي استطاع فيها الوافدون من أوربة أن يقوموا مقام السكان الأصليين، ويأخذوا مواقعهم بدعم الدولة وتأييدها، مما دفع السكان الأصليين إلى الابتعاد عن مراكز المدن، ومواقع اتخاذ القرار، والعيش في الأطراف، بسبب عدم قدرتهم على الاستقرار والإقامة مع الوافدين، وساعدت قوانين الدولة وسياساتها على ذلك في حينه.
والنموذج الثاني، هو الاستيطان اليهودي في فلسطين، الذي يهدف إلى إحلال مجموعات كبيرة من اليهود بدلاً من الفلسطينيين أصحاب المكان الأصليين، ذلك أن عدد اليهود الذين وفدوا إلى فلسطين حتى بدايات الحرب العالمية الثانية، لم يكن يجعلهم قادرين على الشروع بإنشاء الدولة بالمعنى المتعارف عليه سياسياً، فاندفعت القوى المعنية لدعم الهجرات اليهودية الكبيرة إلى فلسطين بغية تحقيق التفوق العددي لهم من جهة، والعمل على طرد السكان الأصليين والإقلال من نسبتهم من جهة ثانية.
ويلاحظ أن التوطين بالمعنى السياسي يختلف عنه بالمعنى السكاني والاقتصادي والاجتماعي، ذلك أنه بالمعنى السياسي يقوم على مواقع سكانية مستقرة في أساسها، وتتوافر فيها الشروط الأساسية للحياة والعمل والاستقرار. غير أن هويتها الثقافية والحضارية قد تأتي مختلفة عن الهوية الثقافية التي يريدها المعنيون بعملية التوطين، لذلك فإن الغايات التي ينطوي عليها التوطين السياسي تخص واقع جماعات دون غيرها، ولأغراض سياسية بالدرجة الأولى، وقد تكون ضارة بالسكان الأصليين، بينما يراد بالتوطين الاجتماعي والسكاني تحقيق الفوائد التي تعود إلى السكان الأصليين أنفسهم وتوفير الخدمات المناسبة لهم.
وفي سياق عمليات التوطين الاجتماعي والسكاني، يستخدم الباحثون في مجالات التنمية الاجتماعية مفهومات تنطوي على الدلالة نفسها، مطبقة على جوانب مختلفة من الحياة الاجتماعية، ومثال ذلك تعبير «التوطين الصناعي» الذي يراد به العمل على إعادة تكوين بنية الصناعة في البلد المعني، وفق ما تقتضيه عمليات التنمية فيه. وقد ظهر هذا المفهوم إثر النمو المتزايد للصناعات في المدن والمراكز الحضرية عشوائياً، ممَّا دفع المخططين والعاملين على شؤون المدن الكبرى للتفكير بجعل هذا النمو مخططاً وفق شروط المكان من النواحي الطبيعية والسكانية والاجتماعية والاقتصادية، وبالشكل الذي يحقق أفضل مستوى من التوافق بين جوانب التنمية المختلفة.
وفي مراحل لاحقة، أخذت تظهر مفهومات قريبة من «التوطين الصناعي» ولكنها تختلف عنه في موضوعها، فإثر التزايد الكبير في الهجرات السكانية بين الدول والبلدان، ومع غياب إمكانية ضبطها وظهور آثار متعددة على أبناء البلاد الأصليين، أخذ المعنيون بهذه البلدان بالبحث عن الوسائل التي تضمن المحافظة على مقوماتها، والحيلولة دون جعل الهجرة سبباً من أسباب نزيف الخيرات إلى غيرها من البلدان، فظهر تعبير «توطين الوظائف»، و«توطين التقانات» و«توطين رأس المال».
أما المفهوم الأول «توطين الوظائف» فيراد منه بذل كل الجهود الممكنة لجعل الأفضلية في تعيين العاملين لأبناء الدولة نفسهم، وفي مختلف مجالات العمل بغية الوصول إلى مرحلة تصير فيها الدولة قادرة على الاعتماد على نفسها كلياً دون اللجوء إلى أبناء غيرها من الدول. وكذلك مفهوم «توطين التقنية» التي يراد منها العمل على تشجيع المنتجات التقانية المحلية، والسعي نحو الاعتماد على ما هو محلي، والامتناع عن استيراد التقانات إلا في حالات الضرورة القصوى. كما يُستخدم أيضاً تعبير «توطين رأس المال» للعمل على تقليل حجم الاستثمارات الخارجية واستبدالها بالاستثمارات الوطنية بالقدر الذي يمكن أن يكون ممكناً.
ويلاحظ في هذه المفهومات بشكل عام أنها مبنية على مفهوم أوسع هو التخطيط، فعملية التوطين بأشكالها المختلفة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والصناعية، لا تحدث على نحو مباشر وتلقائي، إنما تحتاج إلى عناصر أساسية مثل وضوح الهدف في ذهن الفاعل، وخطة العمل موزعة على مجالاته، وفتراته الزمنية المناسبة، والوسائل المعتمدة في تحقيق الخطة، والأدوات المستخدمة في إنجازها، وغير ذلك من العناصر التي تظهر مفصلة في عمليات التخطيط.
محمد أكرم القش
الموضوعات ذات الصلة: |
البدو ـ البادية ـ التحضر ـ التخطيط.
- التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد - المجلد : المجلد السابع، طبعة 2003، دمشق - رقم الصفحة ضمن المجلد : 156 مشاركة :