logo

logo

logo

logo

logo

البيريسـترويكا

بيريسترويكا

Perestroika - Perestroïka

البيريسترويكا

 

أثارت سياسة البيريسترويكا Perestroika أي «إعادة البناء» صدى واسعاً في مختلف أصقاع العالم بسبب مركز صاحب هذه السياسة ميخائيل غورباتشوف، رئيس الدولة السوفييتية آنئذ، وشخصيته والأفكار الجديدة والآراء الجريئة التي طرحها.

والمفهوم العام للبيريسترويكا كما ينظر إليها غورباتشوف، يعني الانعطاف الحازم نحو العلم، وتوحيد الثورة العلمية التقنية والاقتصاد المبرمج، مع وضع مبادئ المركزية والديمقراطية في إدارة الاقتصاد موضع المساءلة والنقد، كما يعني تلبية حاجات المواطن وفق كفاية عالية، ويعني كذلك تطويراً متعدد الاتجاهات للديمقراطية والإدارة الذاتية والاشتراكية، والتوسع في سياسة العلانية، واحتراماً رفيع المستوى لقيم الفرد، وتطبيقاً سليماً لمبادئ العدالة الاجتماعية. فهي بالإجمال تطوير لأفكار ثورة أكتوبر الاشتراكية نحو الأفضل.

فعند استعراض الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الداخلية في الاتحاد السوفييتي آنذاك توقفت سياسة إعادة البناء الجديدة ملياً عند الأخطاء التي ظن أنها ارتكبت في الخمسينات والستينات حتى السبعينات من القرن العشرين واستعرضت بعد ذلك أسس الاصلاح الاقتصادي لمعالجة الأوضاع غير الصحيحة، مع التركيز على أهمية تحويل المؤسسات إلى النظام الاقتصادي المستقل وإلى نظام الأسعار، وإعادة بناء العلاقات الاقتصادية الخارجية على أساس الانفتاح على النظام الرأسمالي، وأن يكون البدء في تطبيق الإصلاحات من المؤسسة والمجمع الإنتاجي، إذ تتداخل مصالح الناس الشخصية والجماعات الاجتماعية من دون أن يعني ذلك، بأي شكل من الأشكال، التحول عن الاشتراكية إلى نظام آخر. إن ما تسعى إليه البيريسترويكا هو ترسيخ الاشتراكية وتوطيدها لا استبدال نظام آخر بها.

وللبحث في أهمية إشاعة الديمقراطية في البلاد، فقد ركزت سياسة إعادة البناء على أهمية حض الفرد على الاهتمام بمصير البلاد، والمشاركة في الإدارة عن طريق المؤسسات، واختيار القادة من ذوي الكفاية والشعور بالمسؤولية. إن جوهر البيريسترويكا يعني إشاعة الديمقراطية، بما يكفل إقامة الهيئات التشريعية، وضمان حقوق المواطنين وحرياتهم، والتقيد بالمبادئ الديمقراطية، وترسيخ الدعائم القانونية للاشتراكية.

أما في المجال الاجتماعي، فإن البيريسترويكا تعني العمل على رفع المستوى المعيشي لأقل السكان يسراً، وتحسين نوعية الرعاية الطبية، وحل مشكلة توفير المستحضرات الطبية، وحل مشكلة السكن والمشكلات التي تعانيها المرأة، والاهتمام بحماية البيئة، واجتثاث المساواة الظاهرية والاتكالية أخذاً بمبدأ «من كل بحسب قدراته ولكل بحسب عمله».

وفي المجال الثقافي فإن البيريسترويكا هدفت إلى العمل بالمفهوم اللينيني للثقافة الشاملة في كل مجال من مجالات تعامل الإنسان مع العالم والمجتمع، ومع نفسه، ونبذ أساليب الأمر والنهي وفرض التصورات الذاتية، واعتبار العمل الذهني ثروة يمتلكها المجتمع لا تقدر بثمن، وقوة هائلة محركة له في درب التطور، وانتهاج الموقف نفسه في الميادين العلمية الأخرى وفي التعليم، وكذلك تشجيع التبادل الثقافي والعلمي الواسع والحرّ مع البلدان الأجنبية، وتطوير نظام التعليم العام والتقني بكل مراحله وفقاً لمتطلبات العصر السريعة التغير، وتربية الناشئة تربية ثقافية إنسانية رفيعة.

وفي المجال القومي، تعني البيريسترويكا تحديث السياسة القومية، بالعودة إلى سياسة لينين تجاه القوميات القائمة على مبدأ حرية القوميات في تقرير مصيرها، وإيجاد اتساق حقيقي في العلاقات القومية يضمن مصالح كل أمة على حدة ومصالح الجماهير عامة، ويكون ذلك بتوسيع حقوق الجمهوريات والكيانات القومية الأخرى، ورفع درجة استقلالية الأجهزة الجمهورية والمحلية، وتحديد صلاحياتها ومسؤلياتها وصلاحيات الحكومة الاتحادية بدقة، والاعتراف الفعلي بتنوع الثقافات القومية وعدم الانتقاص منها والتفريط بها، لأن كل واحدة منها فريدة في بابها.

ومن جملة اهتمامات البيريسترويكا إصلاح الحزب من الداخل، والفصل الدقيق بين وظائف هيئات الحزب ووظائف الدولة والأجهزة الاقتصادية، ووضع الحزب تحت رقابة الهيئات المنتخبة، وإعادة بناء العمل الحزبي أيديولوجياً انطلاقاً من مبادئ الماركسية اللينينية ليصبح عملاً مبدعاً هدفه الناس وقضاياهم، والاستعاضة عما تعوده الحزب في الماضي من حوار مع الذات بحوار واسع مع المجتمع في ظل تعددية الرأي وإشاعة الروح الديمقراطية داخل الحزب نفسه.

وعن موقف البيريسترويكا من النظم الاشتراكية، أشارت السياسة الجديدة إلى الصعوبات والنجاحات التي عاشتها النظم الاشتراكية، وركزت على الأزمات التي تعرضت لها بعض البلدان الاشتراكية، مثل هنغارية وتشيكوسلوفاكية (سابقاً) وبولندة، وحَّملت قيادات هذه الدول والأحزاب الحاكمة فيها، وفي الاتحاد السوفييتي، المسؤولية عن الأخطاء التي جرّت وراءها تلك الأزمات، وبّرأت الاشتراكية منها، وأكدت أن دسائس الغرب ومداخلاته الهادفة إلى تقويض النظام الاشتراكي قد أسهمت فيما حدث. ومع ذلك ترى السياسة الجديدة أن قيام علاقات جيدة بين أعضاء الأسرة الاشتراكية مشروط بأن يحرص كل حزب وكل دولة على المصالح الذاتية والمشتركة. وهي تؤكد أن الاعتماد على التقدم العلمي وإبداع الجماهير وتطوير الديمقراطية ستكون عناصر ضمان للكشف عن الطاقة الكامنة  في الاشتراكية في المرحلة المقبلة.

أما نظرة البيريسترويكا إلى الدول النامية، فقد ركزت على ما تعانيه هذه الدول من القهر والظلم، وتقدر في الوقت ذاته أهمية كون أكثر من مئة دولة قد تمكنت من الفوز باستقلالها السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، مما يعد إحدى الحقائق العظمى في التاريخ المعاصر. ولكن السمة المميزة لحياة مليارين ونصف من سكان هذه الدول، مع سعيها لشق طريقها وتطوير مجتمعاتها واقتصادها، هي الفقر والجهل وانتشار الأمراض والحياة غير الإنسانية، يضاف إلى كل ذلك الديون الخانقة التي تطالبها بها دول الغرب. ونتيجة لهذا الوضع، يصبح من المستحيل على هذه البلدان أن تتطور، ومن المحتَّم عليها مجابهة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المعقدة. وترى السياسة الجديدة أنه حان الوقت كي يتخلى قادة الغرب عن التصورات التي كانت قائمة في زمن الامبراطوريات الاستعمارية. كما أنه ليس لديهم مفر من الإقدام على ذلك. فمن حق شعوب الدول النامية أن تستغل مواردها في خدمة تطورها وخلاصها من الجوع والأمراض، وأن تتمكن من الحصول على استقلالها الاقتصادي.

أما رؤية البيريسترويكا للتكتل الأوربي الحديث، فإنها تركز على الأحداث المهمة التي مرت على أوربة قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وما عانته شعوب هذه البلدان من ويلات، خاصة في أثناء مكافحة النازية. إذ قدم الاتحاد السوفييتي وشعوب أوربة ضحايا غالية وجسيمة، الأمر الذي يدعو هذه الشعوب إلى التقارب. وتهاجم البيريسترويكا قصر مفهوم كلمة أوربة على أوربة الغربية، وإخراج الاتحاد السوفييتي من أوربة. فالعلاقات والروابط التاريخية، سواء كانت ثقافية أو سياسية أو تقليدية، تجمع بين غربي أوربة وشرقيها، وتحذر ممن يحاول منع تلاحم شطريها. ولذلك فإن السياسة الجديدة رفعت شعار «أوربة بيتنا المشترك».

وترى السياسة الجديدة أن الأسلحة النووية والأسلحة التقليدية الموجودة في أوربة، شرقاً وغرباً، تنذر بأخطار كبيرة تهدد سلامتها وأمنها. والقضاء على هذه الأسلحة سيؤدي إلى إيجاد وضع جديد في أنحاء أوربة. كما أن إقامة البيت الأوربي يتطلب أساساً مادياً يقوم على التعاون العملي. وتشير السياسة الجديدة في النهاية إلى أنه لايمكن لأحد أن يكون بديلاً من أوربة بتجربتها وإمكاناتها الهائلة. وسيبقى دورها بناءً مجدداً وخلاقاً.

كان للبيريسترويكا ردود فعل واسعة في أوربة الغربية. فالجماهير الشعبية في مختلف البلدان الأوربية استقبلت البيريسترويكا بالتأييد، وتمنت لها النجاح، ووقف منها السياسيون بعيدو النظر في أوربة موقف المؤيد، وحذروا الغرب من عدم الاستجابة للمبادرات الإيجابية الصادرة عن موسكو، إلا أن هناك أوساطاً سياسية في الغرب حاولت الترويج لوجهة نظر معاكسة، وحاولت تشويه الخط السياسي للبيريسترويكا ولأهدافها، وكل ذلك من مخلفات الحرب الباردة، ومعاداة السوفييت. وهناك أوساط سياسية، عملت على زرع الشك، في نفوس المواطنين السوفييت، وصورت البيريسترويكا بأنها اتجاه ليبرالي، يجري تحت ضغط الغرب، وتنبأت بحتمية بروز الظاهرات المرضية كالبطالة وارتفاع الأسعار، وكل ما يزخر به المجتمع الرأسمالي، مما سيؤدي إلى بروز المعارضة، سواء في مختلف الهيئات الحزبية، وفي صفوف المجتمع، وحتى في صفوف الجيش. ولكن غورباتشوف كان يرى أن السياسة الجديدة لن تترك المجال لهذه الأحلام أن ترى النور، وأن نجاح البيريسترويكا سيعطي الدليل على أن السيرورة الجدلية للتاريخ هي التي ستحدد أكثر النظم استجابة لمصالح الناس.

الواقع أن البيريسترويكا أدت إلى إطلاق الحريات من دون ضوابط، ومن دون تمهيد، مما أشاع التسيب والفوضى، وأدى إلى خلل اجتماعي واقتصادي وسياسي، بات من المتعذر، ضبطه وتوجيهه والتغلب على آثاره. وقد استفادت العناصر المعارضة للنظام من هذا الخلل وهذه الفوضى، ودعمتها قوى وعناصر خارجية كانت منذ زمن تسعى إلى زعزعة كيان هذه الدولة الكبرى، ونجحت أخيراً في تفكيك عراها وإضعافها إلى أن انهارت تماماً.

وفي نهاية عام 1991 أعلن غورباتشوف زوال الدولة التي كانت تحمل اسم الاتحاد السوفييتي، وحاول أن يبني على أنقاضها ما سماه، اتحاد الدول المستقلة، غير أن الأحداث قد تسارعت من غير ضوابط، وازداد تفكك الاتحاد السوفييتي، وتسابقت كل جمهورية من جمهورياته إلى إعلان استقلالها. وقد جرت محاولة سميت انقلاباً، لوقف الانهيار الكبير، إلا أنها أخفقت، واضطر غورباتشوف إلى تقديم استقالته من مسؤولياته جميعها. وتسلم السلطة في روسية، وهي أكبر جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، أنصار العودة إلى النظام الرأسمالي واقتصاد السوق؛ فعملوا على تصفية بقايا النظام الاشتراكي السابق، وأخذت كل جمهورية من تلك الجمهوريات تسعى إلى الانتساب إلى هيئة الأمم المتحدة دولة مستقلة ذات سيادة، كما تسعى لإقامة علاقات تجارية وسياسية مع البلدان الأوربية ومع بعض بلدان آسيا.

ومن اللافت للنظر ظهور النزعات العرقية والعصبيات القومية التي أدت في بعض الأحيان إلى نشوب حروب حقيقية بين تلك الجمهوريات، كما حدث في جمهوريتي أرمينية وأذربيجان، أو بين جورجية وأبخازية، كما ارتفعت أصوات المناطق ذات الحكم الذاتي تطالب بالانفصال والاستقلال عن روسية.

ويبقى الحكم للتاريخ على ما سيكون عليه مستقبل هذه الدول الجديدة وكيف سيتحدد مصيرها.

 

مصطفى أمين

 

الموضوعات ذات الصلة:

 

الاتحاد السوفييتي ـ الاشتراكية ـ رابطة الدول المستقلة ـ روسية ـ  الشيوعية ـ الماركسية.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ م.س. غورباتشوف، البيريسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم، ترجمة محمد شومان ورفاقه (دار الفارابي، بيروت).  


التصنيف : السياسة
المجلد: المجلد الخامس
رقم الصفحة ضمن المجلد : 721
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 558
الكل : 29616001
اليوم : 70917

الشرعية (مبدأ-)

الشرعية (مبدأ ـ)   يقصد بالشرعية مبدأ Principe de la légalité الخضوع للقانون، ولا تكون الدولة دولة قانونية L’État de droit إلا إذا خضع كل من الحكام والمحكومين للقانون، وشمل تطبيق القانون جميع السلطات الحاكمة في الدولة. وبناء على ذلك، فالسلطة التشريعية[ر] يتعين عليها أن تخضع للقانون الدستوري، وأن تباشر وظيفتها في حدود أحكامه، كما يجب أن تحترم القوانين العادية التي تضعها، فلا تخرج على أحكامها طالما هي قائمة ونافذة، وكذلك تلتزم السلطة القضائية بأداء وظيفتها، وهي تطبيق القانون على النزاعات التي تعرض عليها، وليس لها أن تخالف أحكام القانون الملزمة بتطبيقه، والسلطة التنفيذية[ر] بدورها يجب أن تحترم القوانين سواء في مباشرتها لوظيفتها الحكومية أوفي نطاق أدائها وظيفتها الإدارية.
المزيد »