الهند (المسرح في-)
هند (مسرح في)
India - Inde
الهند (المسرح في ـ)
يعد فن المسرح في الهند من أقدم الثقافات المسرحية في العالم وأكثرها تنوعاً، فهي ثقافة متعددة القوميات تُعبِّر عن المناطق اللغوية الثماني عشرة الرئيسية في إطار الاتحاد الهندي، وتتفاوت في درجات تطور تراثها وتقاليدها واختلافها عن بعضها بعضاً؛ لكنها مع ذلك تكوِّن وحدة مرتبطة بالحضارة الهندوسية العريقة وبالتراث السنسكريتي المشترك.
وتتحقق هذه الثقافة المسرحية اليوم في مجالات متنوعة متبادلة التأثير والتأثر، مثل رعاية الأشكال الفنية القديمة للمسرح الشعبي، وتشجيع المسرح الراقص الكلاسيكي وإحيائه، ولاسيما الدراما الراقصة ذات الطابع الديني الأسطوري، وفي استعادة الدراما السنسكريتية مع تطبيقاتها العملية على صعيد مكوِّنات العرض المسرحي وأهدافه، المتجسدة في كتاب «قوانين بهاراتا في فنون العرض المسرحي» أو «بهاراتيا ناتيا شاسترا» Bharatiy Natyasastra [ر. بهاراتا]. وثمة جهود تُبذل من أجل تحقيق مسرح واقعي معاصر بموضوعات اجتماعية ووطنية.
كان المسرح الشعبي ومازال ثقافة جماهيرية عامة، وهو من حيث الجوهر ليس تجسيداً لنص أدبي مسرحي، بل هو في أساسه وعناصره التعبيرية دراما راقصة، تُعبِّر عن تصوراتِ الشعب ومُثلِه في شخصيات ملحمية أسطورية مازالت حية في الذاكرة الشعبية. وقد تستمر احتفالات العروض أسابيع عدة يعيش في أثنائها المشاهدون تجربة إبداع جماعي، تجري في العراء أو خارج أحد المعابد أو في إحدى ساحات البلدة أو المدينة.
إن قرب مادة العرض من شعائر العبادة، ومن التعبير الإيمائي الأصلي mimos يشترط توافر صفات أساسية محددة في معظم أشكال المسرح الشعبي: المزج بين الأداء التعبيري الحركي والرقص، وبين التلاوة والغناء، وأسلوب من الأداء غير الطبيعي، المؤسلَب والتقليدي في آن معاً، وتنميط الشخصيات على نحو مستمر؛ وتجريد الشخصيات من فردانيتها، حتى يصير أسلوب الأداء مبالغاً فيه، وكأن المؤدين يضعون على وجوههم أقنعة، حتى تصير إيماءات المؤدي ولفتاته فقط هي محفِّز خيال المشاهد على التصور والتأويل. وهو بالتعبير المعاصر أسلوب الأداء السردي - الملحمي، الذي قد يتضمن راوياً أو معلقاً أو مغنياً أو مزيجاً منهم.
إن لكل مسرح شعبي في المناطق الهندية الكثيرة طابعه الخاص واسمه المميز، مثل ناوتانكي Nautanki في راجَسْتان Rajasthan أو جاترا Jatra في البنغال Bengal وغيرها كثير.
مشهد من مسرح كتاكالي في الهواء الطلق |
تُقام في شمالي الهند أنواع من مسرحيات الأسرار الدينية mistry plays الهندوسية مثل «كريشْنا ليلا» Krisnalila أو «راما ليلا» Ramalila تعود تقاليدها إلى نحو ألفي عام، وهي تتضمن حكايات من سير البطلين الإلهيين كريشنا وراما من ملحمتي «مهاباراتا»[ر] Mahabharata و«رامايانا»[ر] Ramayana. ويبرهن المسرح الشعبي الهندي اليوم على حيويته وصموده عبر الزمن بانفتاحه على أنواع الارتجال improvisation وبتبنيه مضامين وإحالات معاصرة، وثمة كثير من المخرجين والمؤلفين المسرحيين الذين يغرفون من هذا المعين لمسارحهم المعاصرة، مثل هـ. تنوير H.Tanvir و إ. القاضي E.Alkazi وش. د. خانولكار Ch. D. Khanolkar وغ. كارناد G.Kãrnãd. وفي عام 1943 تأسس «اتحاد المسارح الشعبية الهندية» ITPA الذي أخذ على عاتقه رعاية جميع أنواع المسرح الشعبي وتطويره. وفي عام 1953 أسست الدولة «أكاديمية الفنون الدرامية» SNA التي تابعت جهود الاتحاد على نحو أشمل وأكثر علمية.
يُعد الرقص في الهند جزءاً لا يتجزأ من فن المسرح، وهو - على خلاف الأنواع المسرحية لدى الشعوب الأخرى - لا يعتمد على الإيقاع والوضعيات الحركية فحسب، بل هو مرتبط دائماً بإيماء مدروس متطور وبنظام مُقَنن صارم من الإشارات واللفتات gestures. وقد تطورت أنواع الرقص المعاصر عبر آلاف السنين مستمدة جذورها من أصول مختلفة مثل (شعائر العبادة، الرقص الشعبي، الرقص الفني البلاطي). ومن أشهر هذه الأنواع «بهارات ناتيام» Bharat Natyam في مدْراس Madras خاصة، وكَتّاك Kathak في شمالي الهند، وكَتَاكالي Kathakali في منطقة كيرالا Kerala، ويكاسَغانا Yakasagana في منطقة آنْدرا Andhra.
المسرح الراقص في منطقة كيرالا |
كما أن للمسرح الناطق المبني على نصوص درامية أدبية جذوراً ضاربة في عمق التاريخ تعود إلى القرن الخامس ق.م. ويذكر الباحثون أن مسارح العرائس وخيال الظل قد نشأت في أوقات متقاربة مع المسرح الناطق؛ فالمسرحيات الهزلية farce والغنائية الشعبية كانت جزءاً من الحياة اليومية نحو القرن الرابع ق.م، حين نشأت الدراما السنسكريتية التي بلغت أوج ازدهارها في عهد سلالة غوپتا Gupta نحو القرن الرابع/الخامس للميلاد مع أبرز كتابها بهاسا[ر] Bhasa وكاليداسا[ر] Kalidãsa وشودراكا[ر] Sudraka وبهاڤابهوتي[ر] Bhavabhuti. ومنذ القرن التاسع للميلاد بدأ عصر انحطاط الدراما الأدبية تبعاً لانهيار مجتمعات النُخَب الأدبية المرتبطة ببلاطات المدن التي كانت الحامل الرئيسي للدراما والمسرح السنسكريتي. ومنذ ذلك الحين تحولت الثقافة المسرحية الهندية إلى ميادين تعبيرية فنية أخرى؛ ولم يعد المسرح الناطق إلى الظهور مجدداً إلا في القرن التاسع عشر الميلادي، مرتبطاً بيقظة الوعي الوطني الهندي وبقوة حركة التحرر من الاستعمار، ومتأثراً في الوقت نفسه بالمسرح الأوربي الذي دخل الهند عن طريق المستعمرين البريطانيين. وقد واجه هذا الانبعاث المسرحي صعوبات خارجية جمة، إذ لم تكن هناك مبانٍ مسرحية ولا فرق ثابتة ولا دعم مالي من الجهات الحكومية أو الخاصة. وكانت البداية في منطقة البنغال حيث أسس الروسي ليبِديف Lebedev- الخبير في اللغات الهندية - مسرحاً في كلكوتا في عام 1795 مفتوحاً للجميع من دون تمييز طائفي أو طبقي، قُدِّمت على خشبته مسرحيات إنكليزية باللغة البنجابية، أدى تأثيرها القوي إلى إنشاء أندية مسرحية متعددة إلى جانب كثير من مسارح الهواة. وتعد مسرحية «مرآة العامل الهندي» Nildar Pam ت(1858) للكاتب البنغالي د. ميترا D.Mitra ت(1829-1873) أول مسرحية معاصرة مهمة ذات توجه اجتماعي ناقد في المسرح الهندي، افتُتح بها أول مسرح هندي محترف في عام 1872 بإدارة الكاتب والمخرج غ. غوزِه G.Ghose ت(1844-1912). وعلى الرغم من منع الرقابة الإنكليزية عروضها انتقلت بسرعة إلى مناطق الهند الأخرى وصارت مَعْلماً في تاريخ المسرح الهندي الحديث. ونحو نهاية القرن التاسع عشر برز في منطقة غُجَرات الكاتب ر. ب. أودايرام R.B.Udairãm إلى جانب فرق المسرح التجاري التابعة لأثرياء الزارَدَشْتيين في المنطقة، والتي جابت بعروضها المسلية جميع أنحاء شمالي الهند. وكان لكل فرقة كاتبها وموسيقيُّها ومعدُّها الذي كان يُعِدُّ نصوص العروض عن شكسبير والدراما السنسكريتية والأساطير القديمة بمنحى «ميلودرامي».
مسرح كتاكالي الشهير بأقنعته وأزيائه المبهرجة |
ويُعد الكاتب المهم ب. هاريشكاندرا B.Hariscandra ت(1850-1885) مؤسس مسرح اللغة الهندية Hindi، مثلما أن غ. أبَّراو G.Apparao هو مؤسس مسرح لغة تيلوغو Telugu في جنوبي الهند. وفي منطقة لغة كنَّادا Kannada بقي المسرح معتمداً على الترجمة عن شكسبير والدراما السنسكريتية حتى مطلع القرن العشرين؛ وكذلك الأمر في كيرالا أرض الكتاكالي حتى عشرينات القرن العشرين، حين ظهرت المسرحيات ذات المضامين الاجتماعية المعاصرة الناقدة. وهذا الوضع بقي سارياً أيضاً في مَدْراس مركز تاميلْنادو Tamilnadu حيث هيمن المسرح الموسيقي بنوعيه كوراڤانتشي Kuravanci، وباللو Pallu حتى نهاية القرن التاسع عشر.
لقد كان لمسارح الهواة من الشباب المنفتح على قضايا العصر من دون الانسلاخ عن التراث الثري أثر كبير في تطوير الكتابة الدرامية الحديثة بموضوعات اجتماعية واقتصادية وسياسية راهنة، وفي تبني أساليب حديثة في الإخراج والتمثيل و«الديكور» والموسيقى المسرحية. ومنذ مطلع القرن العشرين اتسع نفوذ طاغور[ر] مؤلفاً ومخرجاً وموسيقياً عبر مسارح الهند كلها، حتى وصل إلى جائزة نوبل للآداب. وفي الوقت نفسه في منطقة اللغة الهندية هيمنت مسرحيات الكاتب الرومنسي[ر. الإبداعية] ج. براساد J.Prasãd حتى نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين. وعلى نحو موازٍ لتطور الدراما الحديثة في الهند عمت البلادَ نهضةٌ مسرحية لافتة شملت جميع عناصر العرض المسرحي على صعيد مسارح الهواة والمسرح الجامعي والمسارح الخاصة والأندية المسرحية التي استمدت الكثير من محفزات العمل من نمو حركة التحرر الوطني؛ فاتسمت العروض بطابع وطني اجتماعي سياسي معتمدة على نصوص من ذات الفصل الواحد one act play لكتاب مثل أو. أشْك U.Ask ور. ڤَرْما R.Varma وغيرهم. وفي الأربعينيات برز المسرح السياسي الدعائي التحريضي Agit- prop- theatre الذي عالج قضايا المجتمع الهندي الراهنة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولاسيما مشكلات سكان الأرياف، والأمية، وطبقة المنبوذين outecastes. وعلى صعيد الممارسة المسرحية العملية برزت في هذه المرحلة مسارح محترفة ارتبطت بأسماء فنانين مسرحيين متميزين مثل پ. راج كابور P. Raj Kapur في بومبي وش. ميترا Sh. Mitra في كلكوتا إلى جانب «المسرح الهندوستاني» في نيودلهي، ومجموعة من المسارح الصغيرة ذات الطابع التجريبي على صعيد الإخراج والتمثيل، ولاسيما مسرح أوتبال دوت Utpal Dutt الذي قدم كثيراً من أعمال الواقعية الروسية في كلكوتا.
نشأت بعد حصول الهند على استقلالها من بريطانيا ظروف جديدة ساعدت على تطوير العمل المسرحي على نحو عملي وأكاديمي بغرض دراسة التراث ورعايته والاستفادة من ثرائه في أعمال معاصرة؛ وعلى إقامة المهرجانات المركزية والفرعية لكل نوع من الأنواع المسرحية؛ وإنشاء «المعهد العالي للفنون الدرامية» في نيودلهي، وتأسيس فرع الهيئة الدولية للمسرح ITI الذي نشط على نحو واسع ومفيد في جميع أنحاء الهند، وكان إلى جانب المعهد العالي بإدارة إ. القاضي E.Alkazi مركز للتجريب المحلي على أبرز التيارات العالمية مثل بريخت[ر] والمسرح الياباني ومسارح أوربا الغربية. إلا أن دخول صناعة السينما إلى البلاد كان له كبير الأثر في تطور الفنون المسرحية، وكذلك الأمر على صعيد الدراما التلفازية؛ في حين بقي للمسرحية الإذاعية دور مهم في تطوير الكتابة الدرامية والتأثير في الجمهور العريض بمختلف لغاته، حتى القرن الواحد والعشرين.
نبيل الحفار
التصنيف : الموسيقى والسينما والمسرح
النوع : موسيقى وسينما ومسرح
المجلد: المجلد الواحد والعشرون
رقم الصفحة ضمن المجلد : 528
مشاركة :اترك تعليقك
آخر أخبار الهيئة :
- صدور المجلد الثامن من موسوعة الآثار في سورية
- توصيات مجلس الإدارة
- صدور المجلد الثامن عشر من الموسوعة الطبية
- إعلان..وافق مجلس إدارة هيئة الموسوعة العربية على وقف النشر الورقي لموسوعة العلوم والتقانات، ليصبح إلكترونياً فقط. وقد باشرت الموسوعة بنشر بحوث المجلد التاسع على الموقع مع بداية شهر تشرين الثاني / أكتوبر 2023.
- الدكتورة سندس محمد سعيد الحلبي مدير عام لهيئة الموسوعة العربية تكليفاً
- دار الفكر الموزع الحصري لمنشورات هيئة الموسوعة العربية
البحوث الأكثر قراءة
هل تعلم ؟؟
الكل : 57205304
اليوم : 24589
المجلدات الصادرة عن الموسوعة العربية :
-
المجلد الأول
-
المجلد الثاني
-
المجلد الثالث
-
المجلد الرابع
-
المجلد الخامس
-
المجلد السادس
-
المجلد السابع
-
المجلدالثامن
-
المجلد التاسع
-
المجلد العاشر
-
المجلد الحادي عشر
-
المجلد الثاني عشر
-
المجلد الثالث عشر
-
المجلد الرابع عشر
-
المجلد الخامس عشر
-
المجلد السادس عشر
-
المجلد السابع عشر
-
المجلد الثامن عشر
-
المجلد التاسع عشر
-
المجلد العشرون
-
المجلد الواحد والعشرون
-
المجلد الثاني والعشرون