logo

logo

logo

logo

logo

الإمبريالية

امبرياليه

Imperialism - Impérialisme

الامبريالية

 

الامبريالية Imperialism مرحلة متطورة من الرأسمالية، لها مظاهرها السياسية والعسكرية والاقتصادية، سادت الوضع الدولي في العصور الحديثة، جوهرها التوسع والهيمنة. ويمتد بعدها التاريخي إلى ظاهرة الامبراطوريات التوسعية إبان العصور القديمة، وأعيد إنتاجها على نحو مختلف بعد توسع السوق الرأسمالية. ويؤلف النظام الرأسمالي ونزعاته الاستغلالية مضمونها. وبذلك، فإن مفهوم ظاهرة الامبريالية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاستعمار والرأسمالية.

ومع تنامي الرأسمالية والتدامج بين الدولة القومية والظاهرة الرأسمالية وضيق الدولة القومية عن استيعاب الرأسمالية نشأت الامبريالية نتيجة لهذا التدامج واستجابة لحاجة الرأسمالية، لذلك يعرفها قاموس أوكسفورد بأنها «امتداد الامبراطورية إلى حيث احتاجت التجارة حماية العَلَم». لذا رأى فيها الإنكليز دفاعاً عن الامبراطورية وعنها يقولون إنها «الفخر الأعظم للامبراطورية». ثم اكتسبت معناها الأوضح في عام 1902 كما جاء في كتاب هوبسون «دراسة في الامبريالية» إذ أصبحت تنصرف إلى سياسة التوسع. أما قاموس ليزي فيرى أن الامبريالية تعني رأي الامبرياليين أي أنصار الامبراطور نابليون الثالث في فرنسة. وقد برزت ظاهرة الاستعمار والرأسمالية منذ القرن السادس عشر انطلاقاً من الاكتشافات الجغرافية وما نجم عنها من إحكام السيطرة على حوض المحيط الهندي، الذي كان يؤلف المجال الحيوي لنشاط بعض القوى في العصور القديمة والوسطى. وما فتحه اكتشاف القارة الأمريكية من آفاق أمام المغامرين والتجار، الذين استولوا بغزواتهم الاستعمارية على كنوز ضخمة من سبائك الذهب والفضة، وأخذوا من مناجمها معادن ثمينة ووافرة جداً. انتزعوها من سكانها الأصليين بالقوة والخداع.

تلك الثروات موَّلَت معظم التوسعات اللاحقة في العالم الجديد. وكوَّنت النواة الأولى للامبريالية. اعتماداً على جملة معطيات اقتصادية تمثلت في توسع الكتلة النقدية الناجمة عن قيمة المعادن الثمينة المنهوبة، وفي تحسين التسليف وزيادة الطلب عليه. وتنشيط الصناعة، وقد ترتب على تلك المستجدات تغيُّر في بنية الاقتصاد الأوروبي. وتنشيط التجارة وتعاظم تمركز رأس المال، وزيادة التخصص في الزراعة والصناعة، وتوسع كبير في فروع الصناعة.

وقد أدى التوسع في استغلال أراضي المستعمرات استغلالاً منهَّجاً في أمريكة الجنوبية والشمالية والهند الغربية خاصّة إلى زيادة الطلب على اليد العاملة التي تم توفيرها باستيراد الرقيق الأسود من إفريقية. وأسهم إنتاج هذه المستعمرات من المواد الغذائية والأولية، في تطور أوربة الاقتصادي، إذ أدى تصديرها لهذه المواد إلى ازدهار الصناعة في أوربة، مما ساعد على قيام الثورة الصناعية الأولى. وبعد الثورة الصناعية الثانية، اتخذت الامبريالية أنماطاً عدة بحسب جوهرها الاستغلالي فمنها الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاتفاقات غير المتكافئة ومنها الامبريالية الاستيطانية. ولم يظهر مصطلح الامبريالية بمعناه الحديث قبل سنوات 1880 -1890.

الأصول الفكرية للامبريالية

بدأت نزعة الامبريالية في العصر الحديث، مع نشوء مذهب الرأسمالية التجارية (المركانتيلية). القائل إن قوة بلدٍ ما تقاس بما يملكه من الذهب والفضة. ومن هنا استقر العرف على أن قوة البلد في الخارج تعتمد على قوته في الداخل.

وتتصف المركانتيلية بثلاث خصائص رئيسية:

1ـ جمع الذهب والفضة اللذين يأتيان من بلدان المستعمرات فيما وراء البحار، وتنمية الإنتاج القومي إلى الحد الأعظم، ومن هنا نشأ رد الاعتبار للتجارة.

2ـ تشجيع حماية الصناعات الجديدة من المزاحمة الأجنبية، فهي قومية وحمائية معاً وعد منظروها أن التجار بمنزلة جيوش الملك، والصناعات التحويلية احتياطية، والتجارة ذاتها هي حرب مالية.

3ـ تشجيع إنشاء الشركات التجارية مثل شركة الهند الشرقية الهولندية وشركة الهند الشرقية البريطانية (1600 - 1858) وشركة الهند الشرقية الفرنسية (1664 - 1769)، واعتمدت مبدأ أن الحرية هي جوهر التجارة.

لقد تطلبت المركانتيلية الاقتصادية سياسة سيطرة وأمن، وعززت الحكم المطلق في الداخل كما في إنكلترة وفرنسة، وشجعت الغزو الاستعماري. ثم في مرحلة لاحقة أسهم نمو الرأسمالية في نسف السلطة المطلقة، عندما أنتجت طبقة البرجوازية التي طالبت بالمشاركة في السلطة. وقد شهد تفتح البرجوازية في القرن السابع عشر نهوض الفكر العلمي والعقلانية، الذي أسس لثورة علمية بفضل إنجازات بيكون، وكبلر، وغاليليو، وديكارت، وباسكال، وتوريشللي، ونيوتن وغيرهم.

وكان الحدث الرئيسي لذلك العصر في المجال الاقتصادي، هو نمو التجارة والثروة وتمركزهما في أوربة الغربية، ولاسيما إنكلترة والبلاد المنخفضة. وانتقال المركز الاقتصادي إلى أوربة شمالاً، من مراكزها السابقة في إسبانية وإيطالية، وكذلك حلول مرافئ المانش وبحر الشمال محل مرافئ البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.

وفي موازاة ذلك، فقد كان الفكر السياسي يتطور تبعاً لتطلعات الرأسمالية واندفاعها، فظهر مذهب الحق الطبيعي، الذي سوغ نزعة الامبريالية عند الطبقة الرأسمالية. فقد قال المفكر الهولندي غروسيوس Grotius في هذا السياق «الحق الذي نطالب به، يصدر عن الطبيعة، التي هي أيضاً أم الجميع، والتي تشمل امبراطوريتها جميع أولئك الذين يقودون الأمم ويعظم تقديسهم على قدر تقواهم».

وقد أسفرت الثورة الصناعية التي نهضت في القرن الثامن عشر، عن سلسلة متلاحقة من التغيرات في ثلاثة مجالات:

ـ تبدلت الابتكارات الآلية بالمهارات البشرية.

ـ حلت الطاقة البخارية محل القوة البشرية والحيوانية.

ـ تحسن استخراج المواد الأولية ومعالجتها تحسناً محسوساً.

واتخذ تنظيم الصناعة أشكالاً جديدة تزامنت مع التغيرات الطارئة، فتضخم حجم وحدة الإنتاج، وبدأت تنشأ مراكز التخصص الصناعي، وتغيَّر نظام العمل، وأصبحت العلاقة بين رب العمل والعامل علاقة اقتصادية ينظمها الأجر وعلاقة الإشراف، مما أدى إلى قيام طبقة الصناعيين البرجوازية والتجار وطبقة ملاّك الأراضي القدامى. المتنافرة المصالح من جانب، وطبقة العمال من جانب آخر. وتوسعت الهوة بينهما ونشب صراع الطبقات.

وقد انتصر مذهب الوضعية السياسية إبان الثورة الصناعية، وانتقلت فكرة القومية ذاتها من المرحلة الطوباوية إلى مرحلة العمل السياسي. ومن الدعوات المثالية إلى مرحلة تسابق الإمبرياليات القومية وتصادمها، ورافق هذا الصراع نمو البرجوازية في أوربة في القرن الثامن عشر. وكانت المعادلات الأربع في دورة التقدم عند البرجوازية هي: التجارة كعامل ثروة، والثروة كعامل حرية، والحرية تشجع التجارة والتجارة تحقق عظمة الدولة، وانساقت الليبرالية الإنكليزية في القرن التاسع عشر نحو الانضمام إلى دعاة الامبريالية على يد تشامبرلن الذي كان نصيراً متشدداً للعظمة الامبراطورية، إبان حرب البوير.

وأصبح دعاة الفكر الامبريالي يضفون عليه خصائص أخلاقية وعرقية وعنصرية في إطار صراع الامبرياليات الأوربية حينذاك.

ويقول القرصان البريطاني (من أصل اسكتلندي) كِدْ Kidd «إن تفوق العرق الإنكليزي، والعرق الألماني على العروق اللاتينية، هو تفوق أخلاقي وديني أساساً».

وفي السياق ذاته، أوردت مجلة القرن التاسع عشر عام 1897، ما سمته رسالة بريطانية العظمى «تعيَّن علينا نحن - علينا وليس على الآخرين - واجب محدد، وهو أن ننقل النور والحضارة إلى أشد الأماكن حُلكة في العالم، وأن نوقظ روح آسيا وإفريقية، على أفكار أوربة الأخلاقية، وأن نعطي ملايين البشر، الشروط الأولية للتقدم الإنساني، الملايين والتي لن تعرف بغير ذلك السلام والأمن».

وشهد القرن التاسع عشر سيلاً من كتب التبشير بالامبريالية، ففي عام 1883، أصدر المؤرخ البريطاني سيلي كتابه «توسع إنكلترة» مجَّد فيه مصير إنكلترة الامبريالي، وكتب الشاعر والروائي كيبلنغ الذي عُدَّ مبشر الامبريالية البريطانية عام 1892 «الراية الإنكليزية» و«الأغنية الإنكليزية» عام 1893، و«عبء الرجل الأبيض» عام 1899.

واستجاب دعاة الامبريالية الأمريكية لأصحاب الدعوة الإنكليزية، فقال الكاتب بفريدج عام 1900 «لن نتخلى عن رسالة عرقنا، المنتدب على حضارة العالم، باسم الله، وسنتقدم في عملنا.. شاعرين بالجميل لمهمة جديرة بقوانا، وممتلئين عرفاناً لله الكلي القدرة، الذي عيننا شعبه المختار، من أجل أن نقود العالم نحو تجدده».

وعلى العموم، فإن دعاة الامبريالية يقدمون ثلاثة ذرائع لهذه الظاهرة تتمثل بالتالي:

ـ ذريعة اقتصادية: إذ تمثل المستعمرات للبلدان الغنية، سوقاً مميزة لتوظيف رؤوس الأموال فتأسيس مستعمرة، يعني إنشاء سوق.

ـ ذريعة سياسية: وهي تستند إلى ضرورة إقامة قواعد في العالم قاطبة، بغية تعزيز السيطرة السياسية سواء بالوسائل العسكرية أو السياسية لتوفير الأسواق ومصالح الدول المتحضرة.

ـ ذريعة حضارية: وتستند إلى مبدأ التفوق الحضاري للأعراق العليا (الأوربية) على الأعراق السفلى، وأن الاستعمار هو وسيلة نقل الحضارة إلى الشعوب المتخلفة، وأن هذا التفوق يعطيها الحق العملي لتمدين هذه الشعوب بشتى الوسائل.

وقد تصدى الفكر الاشتراكي، ولاسيما الماركسية، لهذه الظاهرة بالتحليل، وكشف أبعادها ومخاطرها على الطبقات العمالية، وعلى شعوب المستعمرات، التي تؤلف غالبية البشرية المعذبة، من وجهة نظر تؤسسها الماركسية على دوافعها الاقتصادية والاستغلالية، وارتباطها الجوهري بالرأسمالية فكراً ونظاماً.

فقد رأى ماركس: «أن نشوء الرأسمالية وتطورها، أوجد الشروط اللازمة لتفتحٍ لا حدود له لجميع البشر، وأوجد في الوقت نفسه شروط انسحاق الإنسان ودماره».

الامبريالية والرأسمالية

يستند النظام الرأسمالي إلى أساسيات توجه نشاطاته، وهي تتمثل جوهرياً في الملكية الخاصة والفردية لوسائل الإنتاج والتوزيع، ومبدأ المنافسة والربح الفردي، وما يترتب عليه من فائض القيمة وفيض الإنتاج، الذي يقتضي توافر أسواق خارجية، لتوفير المواد الأولية للإنتاج، من جهة، وتصريف البضائع المنتجة من جهة أخرى.

هذه الحاجة إلى الأسواق اقتضت اتخاذ إجراءات عسكرية وسياسية، تستجيب لمصالح النظام الرأسمالي واستقرارها ومصالح الطبقات الاقتصادية المتحكمة في عملية الإنتاج، وتصريفه خارج الأسواق الوطنية والقومية، وضمان الهيمنة على الأسواق الخارجية في بلدان العالم، وفي طليعتها البلدان الغنية بالموارد الأولية اللازمة للإنتاج الصناعي والزراعي والتقني، كما اقتضت استثمار رؤوس الأموال الفائضة والمتراكمة الناجمة عن فائض القيمة، وتعزيز حرية التجارة بين القوى المنتجة والقوى المستهلكة في الأسواق الدولية.

وقد تسببت الإجراءات العسكرية والسياسية لضمان مصالح الطبقات الرأسمالية في الأسواق العالمية، في نمو ظاهرة الإمبريالية، التي تطورت أشكالها وأساليبها، باختلاف المراحل التي طرأت على النظام الرأسمالي والوضع الدولي.

فقد شهدت مرحلة الاستكشافات الجغرافية المبكرة، نمو الرأسمالية التجارية والاستعمار الاستيطاني المباشر، وخاصة في البلدان التي تمتلك الثروات المعدنية، وفي طليعتها الذهب والفضة. كما شهدت إحكام السيطرة على طرق الملاحة البحرية. ورافق الاحتلال العسكري المباشر نمو الامبراطوريات القومية التي تسعى إلى التوسع والامتداد، وإلى التسابق في السيطرة على أكبر قدر ممكن من الأسواق العالمية، للحصول على المواد الأولية وتصريف إنتاجها وتعزيز عظمتها. وترتب على هذا تسابق الامبراطوريات الأوربية وتنافسها، وتقاسم السوق الدولية، غير أن طبيعة النظام الرأسمالي، الذي تطور من رأسمال فردي إلى قومي، قد أدى تلقائياً إلى تضارب مصالح الرأسماليات القومية، وإلى حروب بين بلدانها، لتعزيز حضور كل منها في السوق الدولية وتحقيق تفوقها. على الرغم من الذرائع السياسية والعنصرية والعرقية التي كانت تتذرع بها سلطات هذه البلدان لتسويغ حروبها.

وفي مرحلة لاحقة من نمو الرأسمالية، أي مرحلة البرجوازيات الصناعية الناهضة ومصالحها، سعَّرت هذه الطبقة الصراع القومي في أوربة، ونشأ الصراع الطبقي مع عمال المصانع في داخل بلدانها، واتخذ هذا الصراع بعداً عالمياً، بعد قيام الثورة الشيوعية في روسية عام 1917. التي رفعت شعار الطبقة العاملة في مناهضتها للبرجوازية ونظامها الرأسمالي. وقد نجم عن صراع الامبرياليات القومية نشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية، ليطال أذاهما شعوب العالم التي لم يكن لها مصلحة في هذه النزاعات، بل كانت ضحيتها ووقودها.

تمخضت الأوضاع الدولية بعد الحربين العالميتين، عن بروز متغيرات دولية جديدة كان أبرزها ظهور معطيات خارجة عن نطاق قارة أوربة، ولاسيما الغربية منها مركز قيادة الامبرياليات التاريخي. ومن هذه المعطيات قوة الرأسمالية الأمريكية في الولايات المتحدة من جهة وقوة الاتحاد السوفييتي وحلفائه من الدول الاشتراكية من جهة أخرى. ونمو حركات التحرر الوطني في بلدان العالم والمستعمرات التي كانت ترزح تحت الاحتلال العسكري الامبريالي الأوربي المباشر. ونجم عن ذلك سباق التسلح والنزوع نحو سياسة توازن القوى العسكرية، وتحريض نضال الشعوب على الاستقلال السياسي والاقتصادي.

وقد كونت هذه المعطيات الدولية المهمة، تحديات جديدة أمام الرأسماليات القومية ممَّا دعاها إلى التكيف مع الواقع الجديد، والسعي لتجاوز تناقضاتها، والسعي إلى توحيد قوى رأس المال، وفق الأحوال الجديدة التي يجري فيها صراع النظامين. والبحث عن وسائل الارتقاء بالإنتاج وتحسين إدارته. وذلك بغرض تجنب الهزيمة في الميدان الاقتصادي، وقد حققت ذلك باندماج الاحتكارات التي نشأت بعد الحربين الأولى والثانية في جهاز الدولة الاحتكاري، وتشكيل اتحادات احتكارية جبارة، مثلتها التكتلات الاقتصادية، والاستفادة من إنجازات الثورة العلمية والتقنية في تحقيق كفاية إنتاجية عالية.

وشهد النظام الامبريالي بعد الحرب العالمية الثانية، تطوراً تجاوز فيه المرحلة التقليدية التي أسستها الإمبرياليات الأوروبية (الإنكليزية والفرنسية. وغيرهما) وحل محله نظام إمبريالي متطور يستهدف الهيمنة على القرار السياسي والاقتصادي في بلدان آسيا وأمريكة اللاتينية. عن طريق إحكام قبضتها على اقتصاديات هذه البلدان واستغلالها وإضعافها وإبقائها في حالة تبعية لاقتصاديات الدول الإمبريالية المتقدمة بعد أن استنفد الاستعمار التقليدي المتمثل بالاحتلال العسكري المباشر أغراضه في تخريب البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه البلدان، وإبقائها في شروط موضوعية ملائمة لحالة التبعية. وقد قادت الولايات المتحدة هذه النقلة النوعية الجديدة في أداء النظام الرأسمالي. وسياساته الإمبريالية.

كان الاتجاه نحو الوحدة الاقتصادية بين الدول الإمبريالية، أهم ملامح تطور الرأسمالية بعد الحرب العالمية  الثانية، ولاسيما في ظل مشروع مارشال الأمريكي. وقد عكس هذا التكامل الإمبريالي، عملية تدويل الحياة الاقتصادية والرأسمال والعلم والتكنولوجية. وتمثلت أشكال ظهورها في مختلف التكتلات الاقتصادية بين دولها كالسوق الأوربية المشتركة والسوق الأوربية للفحم، ومنطقة التجارة الحرة الأوربية، والاتحاد الأوربي.

ويعود تكامل الاحتكارات الإمبريالية إلى التغيرات الأساسية في تطور القوى المنتجة بالارتباط مع الثورة العلمية، وأسهمت عوامل سياسية في توحيد التكامل تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لتعزيز الصراع مع النظام الاشتراكي وحركات التحرر الوطني في البلدان التي تكافح من أجل الاستقلال والتحرر الاقتصادي والسياسي.

وقد عمل هذا التحالف بين الاحتكارات وأجهزة الدولة الاحتكارية في البلدان الإمبريالية. على حل مشكلة الأسواق الخارجية باستخدام طرق جديدة لتنظيم علاقات التجارة الخارجية. كاتفاقات التجارة مع البلدان النامية، وإحداث تكتلات احتكارية «فوق القومية» يطال نشاطها أسواقاً عالمية متعددة كالشركات المتعددة الجنسيات[ر].

وفي إطار الصراع الدولي الذي قام بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي وحلفائه من حركات التحرر الوطني، والذي شمل المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية كافة، انهار النظام الاشتراكي، ليفتح الباب مشرعاً لنشوء وضع عالمي جديد تسوده قيادة وحيدة للنظام الرأسمالي الاحتكاري الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. يعمل من أجل سوق عالمية واحدة مفتوحة أمام الإنتاج المتطور للنظام الرأسمالي، وتصريف فائض إنتاجه ورؤوس أمواله واستثماراته، في ظل انكفاء حركات التحرر الوطني في بلدان العالم النامي.

الإمبريالية والبلدان النامية

يطلق مصطلح البلدان النامية، على معظم بلدان العالم التي عانت التبعية للإمبريالية وكانت حقلاً لممارسة نشاطها الاستغلالي والتوسعي قروناً طويلة. وإذا كان مستوى النمو غير متساوٍ بين هذه البلدان، واستطاع بعضها أن يحقق تقدماً في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، فإن أذى الإمبريالية ونتائجه على شعوب هذه البلدان أصابها جميعاً، ووسمها بسمتي التخلف والتبعية وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة..

فالتخلف، حالة اقتصادية واجتماعية وثقافية، تتصف بتناقض داخلي خطير، وهو يؤدي إلى تكاثر سكاني سريع، ويشل النمو الاقتصادي الذي يتيح لشعوب هذه البلدان إشباع حاجاتهم. وينجم أساساً عن تغلغل النظام الرأسمالي في مجتمعات متقوقعة ذات بنى اجتماعية وثقافية أقل تطوراً لمصلحة أقلية ذات امتيازات سياسية واقتصادية.

وقد أدت الإجراءات والممارسات المبكرة للنشاط الإمبريالي إلى حالة التبعية بين المستعمرين والبلدان المستعمرة، بموجب بنود ما سمي «الميثاق الاستعماري» الذي حدد علاقات الدول المستعمرة بمستعمراتها. والذي جاء في أهم بنوده:

ـ تعد سوق المستعمرة وقفاً على منتجات الدول المستعمِرة، ويحرم تصريف منتجات غيرها فيها.

ـ يحصر تصدير منتجات المستعمرة بأسواق الدول المستعمِرة.

ـ تحصر عمليات الشحن بين المستعمرات والدول المستعمِرة بأساطيلها.

ـ تستفيد منتجات المستعمرة من معاملات تفضيلية في سوق الدول المستعمِرة.

وقد استمر العمل بهذه القواعد حتى منتصف القرن التاسع عشر، وألغي العمل بها، وحل محلها "نظام التمثيل" وبمقتضاه تعد المستعمرة من الناحية الجمركية امتداداً للبلد المستعمِر، وتخضع للقوانين النافذة فيه.

ومع تطور الإمبريالية ونظامها الرأسمالي، واختلاف مظاهر التعبير عن الهيمنة، فإن ناظم هذه العلاقة مع دول البلدان النامية، بقي ينصرف إلى الحيلولة دون ظهور منافس في البلاد التابعة وأدت السيطرة السياسية والإكراه الإداري إلى تعطيل سير آلية النظم الاقتصادية في هذه البلدان، بغية توفير الحد الأعلى من الأرباح الفورية لرؤوس الأموال الأجنبية.

إن المسافة التي تفصل بين عدد قليل من البلدان المتقدمة، وكتلة البلدان النامية الفقيرة المتفاوتة في درجة تبعيتها، دفعت عدداً من المؤلفين إلى وصف طبيعة العلاقة بين هاتين الكتلتين، بأن البلاد المتقدمة طبقة من الأمم المسيطرة. أما البلاد النامية فهي الأمم البروليتارية. وعدها المؤرخ توينبي «البروليتارية الخارجية للغرب».

وقد ضاعفت الثورة الصناعية والتقدم التقني والعلمي الذي تمتلكه الدول الامبريالية الفجوة بين الأمم المتقدمة والمتخلفة. وأحجمت الامبريالية الرأسمالية عن إيصال وسائل التقدم التقني إلى البلدان النامية وحال دون امتلاكها أسبابه لمنع قيام وضع منافس اقتصادي وسياسي وحضاري.

ولعل ذلك يعود إلى المنطلقات الفكرية لمروجي الإمبريالية، وتقديمهم الذرائع التي لا تستند إلى أساس موضوعي، وإنما لأسباب متعددة الأغراض والدوافع من أجل تسويغ وضع لا إنساني تمارسه الإمبريالية، وأهم هذه الأسباب:

ـ أسباب تعود إلى شروط طبيعية مناخية، كما عبر عنها هيننغتون. فالبلاد المتقدمة عنده تقع في المنطقة المعتدلة، ومعظم البلاد المتخلفة في المناطق الحارة الاستوائية، والتخلف يستقر في البلدان التي تفقد المناخات الحافزة الخاصة بالمناطق المعتدلة.

ـ أسباب عرقية: تقوم على نظرية أن العرق الأبيض يمتلك طاقات عقلية وإبداعية، وأن هذه الطاقات تفتقدها الشعوب الملونة الموجودة في البلاد المتخلفة.

ـ أسباب دينية: وهي نظرية تذهب إلى أن أكثر البلاد تقدماً هي الشعوب البروتستنتية، وأن معظم البلدان المتخلفة تدين بأديان قدرية. وقد عبر عن ذلك فيبر حين قال «إن البروتستنتية تدعو إلى التقشف طريقة في الحياة بدلاً من الزهد الرهباني الكاثوليكي». وعمم هذه النظرية على بقية الأديان. وأن البروتستنتية عنده تدعو الإنسان إلى التعامل مع العالم الواقعي والمادي، في حين تدعوه الأديان الأخرى إلى عالم الروح والمثل.

ـ إن الطبقة البرجوازية التي تمخضت عنها الرأسمالية، هي التي تحقق التقدم بامتلاكها للتقنية ووسائلها، وغياب هذه الطبقة في البلدان النامية هو الذي يفقدها قابلية التقدم.

غير أن مجمل هذه الذرائع التي قدمها الفكر الإمبريالي لإضفاء الشرعية على الامبريالية، لا تعكس أساساً موضوعياً بل تنحو نحواً ذرائعياً.

ولقد استقر الفكر في البلدان النامية، ولاسيما الاستنتاجات الناجمة عن معاناة شعوبها وتجربتها المرة مع الإمبريالية بأشكالها المختلفة على أن الاستغلال الذي مارسته المؤسسات الإمبريالية كان السبب الجوهري وراء حالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي من جهة، وحالة التبعية السياسية والثقافية التي تعانيها شعوب البلدان النامية من جهة أخرى، والتي تمثلت في تخلف البنى الاجتماعية والثقافية. وبقاء هذه البلدان في مثل هذه الحالة، أضحى هدفاً وضرورة لاستمرار الإمبريالية، بمختلف أشكالها ومظاهرها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وكان الفكر الاشتراكي العالمي وحركات التحرر الوطني قد أدركت هذه الحقيقة في مراحل كفاح هذه الشعوب للخروج من قوقعة التبعية والتخلف التي فرضها الواقع الامبريالي عليها.

الامبريالية والعولمة

هناك صلة وثيقة بين أداء النظام الرأسمالي الامبريالي، ومصطلح العولمة الذي تروج له الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، في محاولة لإنشاء نظام عالمي واحد بقيادتها يستند إلى عدّ السوق الدولية سوقاً واحدة أمام الاستثمارات المالية ونشاط الاحتكارات الرأسمالية العالمية. ومن أجل تسهيل قيام هذا النظام، لا بد من إحكام الهيمنة على الأسواق العالمية ومناطق الإنتاج الأساسية فيه، سواء بوسائل السيطرة السياسية أو القوة العسكرية.

هذه المرحلة المتطورة، عكست حركة متقدمة للاحتكارات الرأسمالية والامبريالية السياسية والعسكرية، أنجزتها في صراعها مع النظام الاشتراكي وحركات التحرر الوطني، إبان الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

وفي عملية الصراع بين النظامين، اتجهت الإمبريالية نحو تحقيق التكامل الاقتصادي بين الاحتكارات الرأسمالية من أجل ترسيخ مواقعها في إطار المزاحمة الاقتصادية بين النظامين وقد أدى هذا التكامل إلى إقامة اتحادات وتكتلات اقتصادية إقليمية مثل اتحاد أوربة الغربية وإنشاء نظام من الأجهزة المشتركة بينها، ودمج البلدان النامية في أسواق إقليمية تابعة لقوى الاحتكارات الدولية الرأسمالية. وقد أدى هذا التوجه إلى عملية تدويل الحياة الاقتصادية ورأس المال والعلم والتقنية، وإيجاد شبكة من الاتحادات الإقليمية في بلدان آسيا وإفريقية وأمريكة اللاتينية، تدور في فلك الاحتكارات الدولية.

في أوائل التسعينات من هذا القرن، انهار النظام الاشتراكي في صراعه مع الامبريالية وسجلت الاحتكارات الرأسمالية حضوراً عالمياً، تمثل في هيمنتها على الوضع العالمي في المجالات الاقتصادية والسياسية، والعودة إلى الحضور العسكري على المسرح العالمي، بغية حراسة مصالحها في المناطق الاستراتيجية منه. وشهدت هذه المرحلة تفرد هذه الاحتكارات بقيادة الولايات المتحدة  بالهيمنة على العالم وشروعها في التبشير بنظامها الدولي، في ضوء معطيات انهيار النظام الاشتراكي وتراجع حركات التحرر الوطني في بلدان العالم.

وعلى الجانب الآخر من مشهد سيطرة الاحتكارات الرأسمالية، بقواها الأمريكية والصهيونية، تظهر صورة البؤس والمعاناة لشعوب العالم التي تبحث عن طريق خلاصها.

هذه الأوضاع العالمية المستجدة، التي تحاول الاحتكارات الامبريالية من خلالها إشادة نظامها الخاص وفق مشروع ينطوي على الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية لعولمة البشرية وإخضاعها لمبادئ القوة الامبريالية في شتى المجالات وقوانينها. تطرح تساؤلات مشروعة حول مقولة لينين المشهورة التي شكلت دليلاً للفكر الاشتراكي إبان مسيرة زمنية طويلة: أن «الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية». وأن التطور يسير باتجاه تروست واحد ووحيد. تروست عالمي يبتلع المؤسسات بلا استثناء، ولكن التطور يسير نحو ذلك في ملابسات ووتائر وتناقضات واصطدامات وهزات، ليست اقتصادية فحسب، بل سياسية وقومية.

ولا بد من أن تنهار الامبريالية، وتتحول الرأسمالية إلى نقيضها قبل أن يصل الأمر إلى التروست العالمي الواحد. أو مقولة كاوتسكي «ليس بعيداً جداً التوحيد العالمي لطواغيت رؤوس الأموال في تروست عالمي موحد يستبدل بصراع رؤوس الأموال المنعزلة دولياً رأس المال الموحد عالمياً».

لقد تجاوزت الرأسمالية الامبريالية، تناقضاتها، وأنتجت مرحلة متقدمة في حياة نظامها. ولكن تناقضها الجوهري مع شعوب العالم المستَغَلة يزداد عمقاً واتساعاً مما يترك تساؤلات حول مستقبلها، ومشروعية نظامها العالمي الذي تبشر به، تحت مصطلح العولمة[ر] الذي يقوم على علاقات عدم التكافؤ بين الشعوب، ويفتقد العدالة والمساواة.

سامي هابيل

 

الموضوعات ذات الصلة

 

الاستعمار ـ البرجوازية ـ رأس المال ـ الرأسمالية ـ الشيوعية ـ العولمة ـ الماركسية.

 

مراجع للاستزادة

 

ـ دافيد. س. لاند، أوربة التقنية، ترجمة روزيت خوري (منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1984).

ـ مجموعة من الاقتصاديين السوفييت، الاقتصاد السياسي للرأسمالية الاحتكارية، ترجمة كمال زبيدة وحمزة برقاوي (مكتبة ميسلون).

ـ روجيه غارودي، في سبيل نموذج وطني للاشتراكية، ترجمة فؤاد أيوب (دار دمشق للنشر).

ـ إيف لاكوست، البلاد المتخلفة، ترجمة كمال غالي (المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، دمشق).


التصنيف : السياسة
المجلد: المجلد الثالث
رقم الصفحة ضمن المجلد : 469
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 499
الكل : 31179177
اليوم : 4334

أوكرانية (الأدب)

المزيد »