logo

logo

logo

logo

logo

إفريقية (التاريخ)

افريقيه (تاريخ)

Africa - Afrique

إفريقية تاريخياً

 

عصور ما قبل التاريخ

تعدّ إفريقية المهد الأول للإنسان والحضارة الإنسانية. ففي جنوبي القارة وشرقيها، وفي تشاد عثر على هياكل عظمية لكائنات أطلق عليها اسم «أوسترالوبيتك» Australopitheque، أشهرها إنسان الزنج الذي عثر عليه في منطقة «الدوفاي» شمالي تنزانية ويعود تاريخه إلى 1.700.000 عام حين بدأت العصور الحجرية، واستمرت في بعض أجزاء إفريقية حتى وقت قريب، كما تم العثور على بقايا عظام بشرية ترجع إلى نحو ثلاثة ملايين سنة وأكثر.  وفي الألف الثاني ق.م بدأ استخدام المعادن في حوض البحر المتوسط مؤذناً بنهاية العصور الحجرية، غير أن صناعة المعادن لم تنتشر في إفريقية جنوب الصحراء الكبرى إلا في السنوات الأولى للميلاد. واستمرت بعض القبائل مثل البوشمن والهوتنتوت في استخدام الأدوات الحجرية حتى القرن الثامن عشر. ومع أن المواقع الأثرية المميزة قليلة العدد في شمالي إفريقية والصحراء الكبرى وإثيوبية (الحبشة)، وكينية، وتنزانية، وزامبية، وجمهورية جنوب إفريقية فهي تشهد على أن إفريقية عرفت ثقافات موغلة في القدم؛ إذ ظهرت ثقافة الدوفاي في العصر الحجري القديم (الباليوليتي)، ووجدت آثارها وبقايا صانعيها في عدد من مناطق إفريقية. ونشأت الثقافة الآشولية ـ الأبفيلية في العصر الحجري القديم الأدنى، كما عثر على بقايا صانعيها ومخلفاتها في جميع أنحاء إفريقية تقريباً، بيد أنها فقدت سيطرتها في العصر الانتقالي من العصر الحجري القديم الأدنى إلى العصر الحجري القديم الأوسط، وظهرت أنماط ثقافية متعددة ومختلفة تعايشت في الزمان والمكان نفسيهما. كما بدأ التمايز في الأنماط الثقافية بين شمالي إفريقية وجنوب الصحراء الكبرى. ففي حين شهدت الأخيرة عودة تدريجية إلى ثقافة العصر السابق، وظهرت فيها أنماط ثقافية جديدة هي الستلنبوشية Stellembosch والفاورسميثية Fawresmith، عرفت مناطق شمالي إفريقية ثقافة جديدة على النمط اللفلوازي ـ الموستيري تمتاز بظهور السكاكين والمقاحف المصنوعة من رقائق حجرية مشذبة. وأصبح هذا التمايز بين شمال الصحراء وجنوبها أشد وضوحاً في العصر الحجري القديم الأوسط حين شهدت إفريقية ظهور الرماح المستدقة الطرف التي زودت بعد ذلك بقبضات لتغدو أسلحة وأدوات أكثر فاعلية. وقد عثر في المناطق الحراجية في غربي إفريقية على أكثر أدوات العصر الحجري القديم تقدماً في القارة وهي رؤوس سهام طويلة وسكاكين. وأصبح للخشب ومنتجاته أهمية في اقتصاديات هذه المناطق، يدل على ذلك أعداد الأزاميل والمظافر والفؤوس التي عثر عليها. وفي حين عرفت مناطق شمالي إفريقية ثقافات العصر الحجري القديم الأعلى النصلية منذ بداياته، فإن معظم أنحاء القارة لم تتأثر بها إلا في مرحلة لاحقة من هذا العصر، عرفت بعض مناطق إفريقية الشمالية ثقافات العصر الحجري الحديث أو النيوليتي كالفيّوم في مصر (الألف الخامس ق.م) ووادي النيل قبل السلالة المصرية الأولى بنحو 1000عام، وانتشرت هذه الثقافات في غربي إفريقية وجنوبي غربيها بعد عام 2500ق.م مع جفاف المناخ الصحراوي، كما تدل على ذلك ثقافة التماثيل النوكية، ثم انتقلت إلى شرقي إفريقية في حين لم تعرف معظم أنحاء القارة جنوب الصحراء الكبرى العصر النيوليتي الحقيقي.

 العصور القديمة (نحو 3200 ق.م ـ 640م)

تقتصر المعلومات المتوافرة عن تاريخ إفريقية في العصور القديمة على المناطق التي تشكل هلالاً رقيقاً يمتد من سواحل الأطلسي غرباً إلى ساحل الزنج شرقاً، وقاعدته مصر.

مصر: أسهمت أرض وادي النيل الخصبة في نشوء أقدم المجتمعات الزراعية وأغناها في إفريقية. وقد تطورت هذه المجتمعات لتؤلف بمرور الزمن دولاً صغيرة، أصبحت بعض مدنها مراكز حكومية وتجارية. وفي نحو سنة 3400ق.م توحدت هذه الدول في مملكتين متنافستين هما مملكة مصر العليا (الصعيد) ومملكة مصر السفلى (الدلتا). وفي نحو سنة 3200ق.م نجح نعرمر ـ مينا حاكم مصر العليا في توحيد المملكتين في مملكة واحدة دامت قرابة ثلاثة آلاف سنة، وحكمت مصر فيها 30 أسرة ملكية. ونجح فراعنة مصر في بناء حضارة إفريقية عظيمة تعدُّ اليوم من أقدم حضارات العالم في التاريخ وأعظمها. وفي عام 525 ق.م، غزا الفرس الأخمينيون وادي النيل، وجعلوا من مصر ولاية (ساترابية) من ولايات الامبراطورية الفارسية. ومنذئذٍ فقدت مصر استقلالها، وأخذ زمام الأمور فيها ينتقل من سيد أجنبي إلى آخر حتى الفتح الإسلامي لها (20هـ/ 640م) وتعاقب على حكمها في تلك المدة كل من الإغريق (البطالمة) (332- 30 ق.م) والرومان (30ق.م - 395م) والبيزنطيين (395- 640م).

مملكة كوش: أطلق الإغريق اسم «كوش» على بلاد النوبة. وكانت كوش منذ البداية قاعدة لمصر تستغل ثرواتها، ومركزاً تجارياً متقدماً لها مع السودان الأوسط وبلاد البونط  (الصومال وإريترية). وفي النصف الأول من القرن العاشر ق.م، استقلت كوش عن مصر، واستغلت انقسام الامبراطورية الحديثة في مصر وضعفها لتستولي عليها، وتؤسس فيها أسرة حاكمة هي الأسرة 25. انتهى حكم كوش لمصر باستيلاء الآشوريين عليها سنة 664ق.م، وفي عام 500ق.م، نقل ملوك كوش عاصمتهم من «نباته» إلى «مروة»، عند ملتقى النيل بنهر عطبرة، وأقاموا فيها حتى نهاية القرن الثالث للميلاد. وفي هذه الحقبة شهدت مملكة مروة تطوراً مستقلاً، وامتازت بطابعها الإفريقي، وازدهار صناعة الحديد فيها، وصلاتها مع الحبشة. وفي نحو سنة 350 ق.م، استولت مملكة أكسوم على كوش، ونهبتها ودمرتها.

إفريقية الشمالية: لم تدخل إفريقية الشمالية، مابين ليبية وساحل الأطلسي، دائرة التاريخ إلا في الألف الأول ق.م على أثر وصول الكنعانيين (الفينيقيين) إلى ساحل تونس. ويبدو أن ظهور السكان المحليين الأمازيغ أو الطميحو Temehu الليبيين، كما يسميهم المصريون القدماء والإغريق، قد بدأ في مدى أربعة آلاف سنة سبقت وصول الكنعانيين إلى المنطقة، وكانوا قبائل زراعية رعوية متمردة بطبيعتها على كل اتحاد ونفوذ أجنبي. وعندما وصل الكنعانيون إلى الساحل الشمالي، كانت هذه القبائل ماتزال تعيش في العصر الحجري الحديث أو العصر الحجري المعدني أو النحاسي. وكان هناك بعض الممالك المحلية أهمها مملكة نوميدية شرقي الجزائر، ومملكة موريتانية Mauretanie مابين وادي نهر المُلوية وساحل الأطلسي المغربي.

وبدءاً من أواخر الألف الثاني ق.م، بدأ الاستيطان والعمران المدني في إفريقية الشمالية مع قيام مملكة صور الكنعانية بتأسيس محطتين تجاريتين، واحدة على ساحل المغرب (ليكسوس = تشيمش اليوم)، والثانية على ساحل تونس (أوتيكا Utique). وفي نحو عام 814 ق.م تأسست «قرت حَدْشت» وهي قرطاج (قرطاجة) في شمالي تونس وامتد نفوذها حتى أواسطها (814- 146ق.م)، كما أقامت الأوليغارشية التجارية وكالات تجارية مابين قرطاجة وغربي المغرب. ومنها انتشرت الحضارة البونية بين أمازيغ المغرب. وعبرت تجارة الكنعانيين الصحراء من غرامنت (فزّان) إلى النيجر. وربما وصلت المراكب الكنعانية إلى السنغال (رحلة هانون ـ حنون ـ الشهيرة 500ق.م)، وأقام الإغريق والرومان بعض المدن والمستعمرات في برقة وفي شمالي إفريقية. وبعد أن دمر الرومان قرطاجة عام 146ق.م تخلصوا من الأمراء الأمازيغ (ماسنيسا أمير نوميدية)، وأسسوا مقاطعة إفريقية (تونس وليبية). وفي المدة بين 74 ق.م و40م بسطوا سيطرتهم تدريجياً على المناطق الساحلية من إفريقية الشمالية بأكملها، وأصبحت برقة ومصر، ومملكتا نوميدية وموريتانية ولايات داخل الامبراطورية الرومانية. لكن انتشار المسيحية بمذاهبها المختلفة أدى إلى عودة حالة الفوضى والتفكك إلى ولايات شمالي إفريقية. وفي عام 429م، نزل الفاندال القادمون من إسبانية بقيادة جيسيرك في مراكش من دون مقاومة. وفي عام 439م أصبحوا سادة قرطاجة. وإن استطاع البيزنطيون استعادة شمالي إفريقية (534م)، فإن نفوذهم فيه بقي ضعيفاً. فقد اضطروا إلى التخلي عن موريتانية لملوك محليين، وظلت اتحادات القبائل الكبرى المحلية (مصمودة، وصنهاجة، وزناته) تسيطر على جميع المناطق الداخلية. وأخذت ولاية إفريقية تنفصل تدريجياً عن بيزنطة وتنظم أمورها بوسائلها الخاصة. في حين احتفظت بيزنطة بمصر حتى الفتح العربي لها.

إفريقية الشرقية: في القرن الخامس ق.م، أسس عرب اليمن مملكة أكسوم في الحبشة. ونقلوا إليها لغتهم وحضارتهم، واختلطوا وعرب حضرموت بالسكان المحليين في هضبة الحبشة وفي ساحل القرن الإفريقي، فنشأت أقوام عربية ـ زنجية أصيلة هي الأحباش أو الإثيوبيون، والغالا Gala والصوماليون. وكان لمملكة أكسوم علاقات تجارية مع إفريقية الوسطى ومصر عن طريق ميناء عدولي Adoulis في خليج زيلع على البحر الأحمر.

ويعتقد أن المصريين القدماء عرفوا ساحل إفريقية الشرقي في عهد الفرعون نخاو (نحو 600ق.م). وكان لمملكتي اليمن وحضرموت علاقات تجارية مستمرة مع ساحلي إفريقية الشرقية والقرن الإفريقي منذ الألف الأول ق.م، كما كان للفرس والإغريق علاقات تجارية مع هذين الساحلين منذ بدايات العصر الميلادي.

أما تاريخ بقية أنحاء إفريقية جنوب الصحراء الكبرى في القرون السابقة للميلاد واللاحقة له فما يزال يكتنفه الغموض لندرة المعلومات حولها. فحضارة مصر وبلاد النوبة، أخذت تسير في طريق الانحطاط، ولم تعد قادرة على التفاعل الحضاري على المستوى الإفريقي على الرغم من إسهامها في حركة هجرة الشعوب الإفريقية إلى داخل القارة. ولم يتم بعد فك رموز كتابة مملكة مروة في عهدها المتأخر. في حين اكتفى الكنعانيون والإغريق والرومان وعرب الجزيرة العربية بالسيطرة على حوضي البحر المتوسط والبحر الأحمر الإفريقيين والبلاد المتاخمة لهما.

العصور الوسطى

إفريقية الشمالية والفتح العربي الإسلامي: في عام 20هـ/ 640م، فتح عمرو بن العاص مصر، وقضى على الحكم البيزنطي فيها. وفي عام 21هـ/ 642م وصلت القوات العربية إلى الجندل الأول، وفتح عمرو برقة، وأرسل حملات استكشافية إلى الجنوب، وصلت إلى فزان وطرابلس. وفي سنة 50هـ/ 670م، أسس عقبة بن نافع مدينة القيروان. وفي سنة 85هـ/ 705م، أصبح موسى بن نصير حاكم إفريقية (تونس وشرقي الجزائر)، وفي سنة 91هـ/ 710م، انتهى العرب من فتح شمالي إفريقية بأكمله، وأصبح المغرب الأوسط والمغرب الأقصى جزءاً من ولاية إفريقية. كان الفتح العربي الإسلامي منعطفاً مهماً في تاريخ إفريقية؛ فانتشر الإسلام بسرعة وبدأ انتشار اللغة العربية بين شعوب المنطقة، وغدت إفريقية الشمالية جزءاً من الدولة العربية الإسلامية.

وكان لانتقال مركز الخلافة من دمشق إلى بغداد (132هـ/ 750م) نتائج مهمة في إفريقية، فبدأ الانحلال يدب في الأقاليم الغربية، وظهرت النزعة الاستقلالية بين القبائل المحلية في المغرب، فقامت دول مستقلة انفصلت تدريجياً عن السلطة المركزية الإسلامية. ففي المغرب الأقصى قامت دولة الأدارسة[ر] (172- 314هـ/ 788- 926م) وعاصمتها فاس. وفي الجزائر أسس الرستميون الخوارج دولة لهم في تاهرت (160- 296هـ/ 776- 908م) واستقل الأغالبة [ر] بما تحت أيديهم في تونس (184- 296هـ/ 800- 908م) مع بقائهم على تبعيتهم للخلافة العباسية اسمياً. كما استقل الطولونيون [ر] في حكم مصر (254- 292هـ/ 868- 905م) ومدوا نفوذهم إلى بلاد الشام. وكذلك فعل خلفاؤهم الإخشيديون [ر] (323- 358هـ/ 935- 969م). ومنذ عهد الإخشيديين استقلت مصر عن الخلافة الإسلامية في بغداد. وفي سنة 297هـ/ 909م، سيطر الفاطميون على إفريقية وأنهوا حكم الأغالبة، وبسطوا نفوذهم على سجلماسة وجنوبي المغرب، بعد أن قضوا على المملكة الرستمية في الجزائر، واستولوا على الأجزاء الشمالية من المغرب، ثم امتد حكمهم إلى مصر وجنوبي الشام ومن ضمنها دمشق (358هـ/ 969م)، ونقلوا عاصمة ملكهم إلى القاهرة (362هـ/ 973م). وأسسوا دولة حكمت مصر أكثر من قرنين (358- 567هـ/ 969- 1171م) وتركوا لأنصارهم من صنهاجة حكم المغرب، ثم فقدوا نفوذهم فيه نهائياً منذ عام 436هـ/ 1045م.

أنهى صلاح الدين الخلافة الفاطمية في مصر، وأقام فيها الدولة الأيوبية (569- 648هـ/ 1171- 1250م) تحت السيادة الاسمية لخليفة بغداد، وضم سورية واليمن إلى دولته، واعترفت به بغداد، وقضى على مملكة القدس الصليبية (581هـ/ 1187م). وبعد مقتل طوران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، بدأ عهد المماليك في مصر (648- 923هـ/ 1250- 1517م). وفي الوقت الذي كانت فيه الأسر الحاكمة تتوالى على مصر الواحدة بعد الأخرى، كانت بلاد المغرب الأدنى تغوص في الفوضى نتيجة غزو قبائل بني هلال لها، وقد نجح المرابطون من قبائل صنهاجة (447- 542هـ/ 1055- 1147م) في توحيد المغرب الأقصى بجمعهم شماليه وجنوبيه في دولة واحدة. وفي عام 542هـ/ 1147م، بدأ حكم الموحدين في المغرب وبسطوا سيطرتهم على دولة بني حمّاد في الجزائر (546هـ/ 1151م)، والدولة الزيرية في إفريقية (555هـ/ 1160م)، وبذلك احتوت دولة الموحدين المغرب العربي كله، وحكمته أكثر من نصف قرن (555- 625هـ/ 1160- 1228م)، وقامت على أنقاض دولتهم ثلاث دويلات مستقلة هي الدولة الحفصية في تونس (625- 981هـ/ 1228- 1573م)، ودولة بني عبد الواد الزيانية التي استمر حكمها في تلمسان من 632 إلى 957هـ/ 1235- 1550م والدولة المرينية في المغرب (646- 831هـ/ 1248- 1427م)، ثم خلفتها الدولة الوطاسية (831- 956هـ/ 1427- 1549م).

إفريقية جنوب الصحراء: تاريخ إفريقية جنوب الصحراء الكبرى، ولاسيما تاريخ شرقي إفريقية وغربيها في العصور الوسطى، هو تاريخ انتشار الإسلام وازدهار الثقافة العربية الإسلامية فيها. وقد دخلها الإسلام عن طريق البحر (شرقي إفريقية) والبرّ (غربي إفريقية).

آ ـ إفريقية الغربية: وهي منطقة السهوب الفسيحة الواقعة بين المناطق الصحراوية أو شبه الصحراوية في الشمال والحافة الغابية في الجنوب، والممتدة من المحيط الأطلسي غرباً إلى سودان وادي النيل شرقاً، وقد أطلق عليها العرب اسم «بلاد السودان»، و«إقليم السودان».

كان اتصال المغرب بإفريقية الغربية عن طريق الصحراء قد سهل منذ القدم قيام علاقات تجارية بين الجانبين فرضتها حاجة بلاد السودان الماسة والمستمرة إلى ملح الطعام من مناجم جنوبي المغرب الأقصى، وكان التجار المغاربة يبادلونه، إضافة إلى سلع ومنتجات أخرى، بالذهب والرقيق والعاج وريش النعام والجلود، وقامت نتيجة لذلك مدن تجارية مهمة على حافتي الصحراء تنظم القوافل التجارية، وتصرّف منتجات بلاد السودان والمغرب. وكانت كذلك نافذة إفريقية المغربية على عالم البحر المتوسط، تجري عن طريقها المبادلات التجارية بينهما. وقامت شبكة من الطرق التجارية خلال الصحراء تصل شمالي إفريقية بغربيها.

ـ مملكة غانة[ر]: يبدو أن مؤسسي هذه المملكة (في القرن الثالث أو الرابع ق.م) كانوا من الأمازيغ المغاربة الذين أقاموا وسط شعب ماندي في المنطقة العشبية المحاذية لحافة الصحراء الجنوبية، وأصهروا إليه واختلطوا به. ولكن منذ أواخر القرن الأول للهجرة/ الثامن للميلاد استولت على السلطة في غانة أسرة زنجية من السوننكي بزعامة «كايا ماجان سيسه». وفي أوج عظمتها (بداية القرن العاشر م)، غدت غانة امبراطورية تمتد من أعالي النيجر (تومبكتو) شرقاً، إلى أواسط نهر السنغال (مملكة تكرور) غرباً، ومن أواسط الصحراء الغربية شمالاً حتى نهري السنغال والباولة Baoulé جنوباً.

وفي القرن السابع للميلاد، أي بعد وصول العرب إلى المغرب، أصبحت غانة تعرف «ببلاد الذهب». ولا تعود ثروتها وعظمتها لكونها غنية بالذهب فحسب، بل لكونها مركزاً تجارياً للسودان الغربي، تبادل فيه السلع الإفريقية، ولاسيما الذهب، بملح الصحراء والسلع المغربية الأخرى التي كان يحملها التجار المغاربة، سادة طرق التجارة الصحراوية الغربية.

ـ انتشار الإسلام ومؤثراته: بعد قدوم العرب المسلمين إلى المغرب، وانتشار الإسلام فيه، نمت الصلات القديمة قوية وتضاعفت بين المغرب وبلاد السودان، ومكّنت الإبل التي أدخلها العرب إلى المغرب قبائل الأمازيغ المغاربة من تعزيز سيادتهم في الصحراء. وبدأ المغرب الإسلامي يوثر في بلاد السودان على جميع المستويات، فالعلاقات بين الجانبين لم تعد هجرات واتصالات تجارية موسمية، أو مجرد احتكاك بين قبائل المغرب والمراكز الأمامية للشعوب الزنجية بهدف التجارة فحسب، بل اتخذت أيضاً طابع هجرات تتوغل نحو الجنوب في حركات مستمرة ملحة بقصد الإقامة الدائمة. وأصهرت تلك القبائل إلى أهل البلاد واختلطت بهم، فأثرت فيهم وتأثرت بهم وامتزجت الدماء العربية والأمازيغية بدماء الزنوج. واعتنق أهل البلاد الإسلام وتعلموا اللغة العربية، وتثقفوا بثقافتها. ونشأت طبقة جديدة عرف أفرادها بالمولدين. ولايعرف بالضبط تاريخ بداية انتشار الإسلام في بلاد السودان.

لكن يبدو أن ذلك بدأ في القرن الثالث للهجرة، بعد إسلام قبائل الأمازيغ الملثمين (لمتونة، وجدَّالة، ومسوفة) واختلاطها بالعرب وتحالفها وتوجهها للجهاد ونشر الإسلام في السودان الغربي، ولا سيما بعد أن انتزعت القبائل المتحالفة من مملكة غانة مدينة أودغشت، بوابة بلاد السودان الجنوبية، ومفتاح الطرق المؤدية إلى المنطقة وجعلتها عاصمتها.

 ـ الممالك والامبراطوريات الإسلامية: استعادت غانة سنة 306هـ/ 918م مدينة أودغشت من الملثمين. غير أن الإسلام كان قد تسرب إلى الامبراطورية. فالبكري حين زارها عام 460هـ/ 1067م وجد في عاصمتها حياً للمسلمين فيه اثنا عشر مسجداً وعدداً من الفقهاء وأهل العلم، وأشار إلى أن معظم وزراء ملك غانة كانوا من المسلمين.

نشر المرابطون الإسلام في مملكة التكرور في السنغال قبل أن ينطلقوا من السودان الغربي لنشر دعوتهم بين قبائل الصحراء، ويستولوا على السلطة في المغرب بأكمله (475هـ/ 1082م). وغدت امبراطورية غانة تابعة لهم بعد أن سيطروا على عاصمتها في عام 469هـ/ 1076م. ومع أن غانة استعادت استقلالها عام 479هـ/ 1086م، فإنها لم تسترد كامل امبراطوريتها وسابق قوتها، إذ استقلت عنها ممالك أنباره، وغَلَم Galam، والسوسو Sosso في كانياغا Kaniaga، واقتصرت سلطتها على أقاليم أوكار وباسيكونو. وفقدت أهميتها التجارية بعد اضطراب أحوال الطرق التجارية الغربية المؤدية إلى السودان الغربي، وبعد أن أسلمت الأسرة الحاكمة فيها أسهمت غانة مع غيرها من الممالك الزنجية المسلمة في نشر الإسلام في بلاد السودان كلها. وآلت التركة التي خلفتها غانة إلى إحدى أسر الماندي في وادي النيجر الأعلى، وهي أسرة كييتا Keita التي أسلمت في القرن الحادي عشر الميلادي. وفي عهد زعيمها سُنْدياتا (1235- 1255م)، ظهرت مملكة مالي [ر]. وفي عهد خلفائه توسعت هذه المملكة، وأصبحت امبراطورية تمتد من السنغال غرباً حتى بحيرة تشاد شرقاً، وتسيطر على معظم بلاد السودان، وأهم مناجم الذهب فيها. ووصلت أوج مجدها وشهرتها في عهد منسى موسى (1312- 1335م) الذي أدى فريضة الحج (1324م)، في موكب مهيب (كما كان يفعل أجداده) أثار دهشة من شاهدوه في مصر والحجاز بكثرة عدد أفراده وكميات الذهب التي يحملها وبذخِ سيده. وفي طريق عودته إلى بلاده اصطحب معه عدداً من العلماء والفقهاء من مكة والمدينة ومصر ليقوموا بنشر  الإسلام على أصوله في امبراطوريته. وكان له الفضل في نشر الإسلام والثقافة الإسلامية في بلاد السودان. وأبدى اهتماماً خاصاً بالفن المعماري الإسلامي الأصيل. وأقام علاقات تجارية وثقافية ودبلوماسية مع مصر والمغرب. وارتقت مالي إلى مصاف دول العالم الكبرى، وذاع صيتها في أوربة فظهرت على خريطة رسمت لإفريقية في أوربة في عام 1375م.

أخذت سلطة مالي تضعف تدريجياً منذ بداية القرن الخامس عشر، فاستقلت عنها مملكة صنغي (صنغاي) Sounghai في غاوه وفي عهد صوني علي (1464- 1492م) تحولت مالي إلى ولايات تابعة إلى صنغي. وفي عهد خليفته اسكي محمد (1493- 1528م)، مجدد تعاليم الإسلام في منطقة النيجر، أصبحت امبراطورية صنغي أضخم من سابقتها مالي، وإن لم يكن لها الامتداد نفسه في الغرب، في حين وصلت إلى قرب مراكش شمالاً وشملت معظم أراضي مملكة بورنو شرقاً، وقد نالت قوتها وثراؤها إعجاب المسلمين في دول إسلامية أخرى، وأدهشهم حسن تنظيمها الإداري والاقتصادي وتنظيم جيشها وقوته، لكن النزاع على العرش بين خلفاء هؤلاء الملوك العظام أضعف الامبراطورية، فكانت نهايتها على يد جيوش سلطان مراكش أحمد المنصور في عام 1590م.

نفذ الإسلام إلى منطقة بحيرة تشاد منذ القرن الحادي عشر للميلاد، وقامت هناك مملكتان إسلاميتان هما كانم وبورنو، وهما تشبهان من عدة وجوه ممالك السودان الغربي. ويعزى قيام مملكة كانم شمال شرق بحيرة تشاد إلى قبائل الزغاوة التي بدأت بالوفود إلى المنطقة منذ بداية القرن التاسع. وفي عام 1050م اعتنق ملك «أومي» الإسلام، واستدعى إلى المملكة عدداً من علماء المسلمين وفقهائهم. وفي بداية القرن الثالث عشر، أصبح نفوذها يمتد من وداي Ouadai شرقاً حتى بلاد الحوصّة Haoussa غرباً، وإلى حدود مصر وطرابلس شمالاً. وسيطرت على درب الأربعين الذي يصل شرقي بلاد السودان بمصر؛ فاتسعت تجارتها، ورسخت الحركة العلمية فيها، توطدت صلاتها الثقافية بمصر والمغرب وغربي إفريقية. ولكن في نهاية القرن الرابع عشر، ثارت قبائل البِلالَةَ، من سكان البلاد الأصليين، واحتلت عاصمة المملكة، فهاجرت الأسرة الحاكمة إلى جنوب غرب البحيرة، وأسست مملكة بورنو التي بلغت أوج قوتها في مطلع القرن السادس عشر في عهد إدريس علومة، بعد أن ضمت إليها كانم. واستعادت مجدها، وذاع صيتها في العالمين الإسلامي والأوربي، وظهرت على الخرائط البرتغالية المعاصرة، وأسهمت في نشر الإسلام في منطقة بحيرة تشاد كلها.

وبدءاً من القرن العاشر نشأت إمارات الحوصّة في منطقة شمال غرب نيجيرية الراهنة. وفي القرن الرابع عشر، بدأ الإسلام يتدفق إليها، وفي أواخر القرن الخامس عشر بدأت كانو وكاتسينا تبرزان في ميدان الثقافة الإسلامية. وقد رعت هذه الممالك والامبراطوريات العلم والعلماء والفقهاء المسلمين، وأسهمت في نشوء عدد من مراكز الدراسات الإسلامية في غاو، وتمبكتو، وجني، وولاتة وغيرها، وأصبحت مراكز للإشعاع العلمي ونشر الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، يفد إليها طلاب العلم من بلاد السودان كلها، ولها صلاتها مع علماء مثيلاتها في مصر وتونس والمغرب وفقهائها. وكان الإسلام والحضارة الإسلامية من أهم العوامل التي أسهمت في نمو هذه الممالك والامبراطوريات وازدهارها، فقد وجدت أسرها الحاكمة في الإسلام نظاماً للحكم ومنهجاً للحياة يضمنان لها ولاء الشعوب والقبائل الخاضعة لها، ويوفران مناخ الأمن والاستقرار اللازمين لازدهارها. وقد ساعدها في ذلك ظهور طبقة متعلمة مثقفة تضم بعض العلماء، أسهمت في تنظيم إدارة امبراطورية مركزية وتجارتها على أكمل وجه، فكانت جزءاً من العالم الإسلامي آنذاك، معترفاً بها منه، من دون أن تفقد شخصيتها السودانية المميزة.

ـ ممالك غينية: أثَّر قيام الممالك في بلاد السودان في الزنوج الذين يعيشون إلى الجنوب منها ضمن نطاق الغابات المداري الكبير في غربي إفريقية الذي أطلق عليه اسم «غينية». ففي المدة مابين القرنين الحادي عشر والثالث عشر بدأ زنوج غينية في إقامة ممالك لهم على نمط  ممالك السودان بفضل تسرب جماعات بشرية من بلاد السودان إلى نطاق الغابات. ويرجع معظم شعوب الإمارات والممالك التي ظهرت في هذا النطاق مثل «الأكان» و«اليوروبا» أصلاً إلى شمال نطاق الغابات الحقيقي، أو عند أطرافه الشمالية. وتسربت المؤثرات الحضارية إلى مناطق غينية الشرقية من السودان الشرقي، ولاسيما من وادي النيل، وإلى مناطق غينية الغربية عن طريق السودان الغربي. أما أهم تلك الإمارات والممالك فهي إمارات الأكان (بوند، وباندا) في منطقة غانة اليوم، وممالك اليوروبا (أويو وبنين، ونوبة Noupe)، في منطقة جنوبي نيجيرية اليوم. وقد بقيت بمعزل عن المؤثرات الإسلامية.

ب ـ إفريقية الوسطى والجنوبية: أدى زحف شعوب البانتو باتجاه الجنوب إلى نشوء عدة ممالك هناك. ففي الغرب نشأت مملكة الكونغو[ر] في المنطقة العشبية المدارية الجنوبية. وفي بداية القرن الخامس عشر، كان ملك الكونغو يبسط نفوذه على ممالك نغويا Ngoya، وكاكونغو، حتى داخل الغابون المعروفة اليوم، على بعد 600كم من مصب نهر الكونغو، وعلى مملكة نغولا جنوب نهر كوانزا. كذلك قامت في الشرق عدة ممالك في منطقة مابين البحيرات مثل مملكة بيغو Bigo. وفي الجنوب تأسست مملكة مونوموتابا، التي أصبحت في القرن التاسع عشر تسيطر على ماعرف فيما بعد بردويسية الجنوبية ثم بزمبابوي اليوم، ومايتاخمها من موزامبيق المعروفة اليوم.

ـ مملكة الحبشة: بقيت الحبشة على الوثنية حتى عام 335م حين تنصر ملكها إزاناس Ezanas، وقام بتوسيع مملكته باتجاه الشمال على حساب قبائل البجة القادمة من الشمال، واستولى على مملكة مروة.

وفي المدة بين 525 و572م، بسطت الحبشة سلطانها على اليمن، لكن الفتح العربي لمصر وقيام المسلمين بتهديم ميناء عدولي (أدوليس) على البحر الأحمر أديا إلى حرمان الحبشة من مصدر ثروتها الرئيسي، وعزلها عن العالمين الهندي والبيزنطي وحوض البحر المتوسط. كما تعرضت لمتاعب داخلية وأخطار خارجية جسيمة. ولما تمكنت من التغلب على مصاعبها الداخلية بتأسيس الأسرة السليمانية (1270) وأخذت تخرج من عزلتها، وجدت نفسها في مواجهة المدّ الإسلامي المحيط بها. واتسم القرنان الرابع عشر والخامس عشر بالصراع مع المسلمين في شرقي إفريقية.

جـ ـ سودان وادي النيل وشرقي إفريقية: تعود العلاقات بين مصر وسودان وادي النيل والساحل الإفريقي الشرقي من جهة، وبين هذا الساحل وشبه الجزيرة العربية من جهة ثانية إلى أقدم العصور. وبعد انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية نمت هذه العلاقات وتوثقت، فمنذ القرن السابع، بدأت الهجرات العربية تحمل الإسلام والثقافة العربية إلى سودان وادي النيل من شرقي ساحل البحر الأحمر عن طريق هجرات من جزيرة العرب إلى السودان الأوسط، ومن شمالي وادي النيل. وبعد أن وقفت الممالك المسيحية في النوبة مثل ممالك نباته ومقرة وعلوة في وجه الفتح العربي للسودان، أخذ الإسلام يتسرب سلمياً إلى هذه الممالك بوساطة التجار والهجرات العربية عن طريق وادي النيل. وفي بداية القرن الرابع عشر بسط العرب سلطانهم على مملكة مقرة، وفي مستهل القرن السادس عشر قضوا على مملكة علوة، وتوغلوا حتى حدود الحبشة (أواخر القرن الخامس عشر) ونشروا الإسلام والثقافة العربية حيثما حلوا. ونجح تيار الهجرات العربية المنحدر من البحر الأحمر وشرق السودان بنشر ثقافته العربية بين قبائل البجة المحلية في الإقليم الساحلي بين سواكن وعيذاب (من القرن التاسع حتى القرن الرابع عشر للميلاد) وفي القرن الخامس عشر، وصل فريق من هذا التيار إلى منطقة عطبرة والنيل وأقام فيها مدة. ومن جهة أخرى أسهمت الطريق البحرية في نقل نفوذ الإسلام من شبه الجزيرة العربية إلى الساحل الإفريقي الشرقي، فالعلاقات التي كانت قائمة بين الجانبين منذ القرن الخامس قبل الميلاد لم تنقطع بعد ظهور الإسلام. ويعود أول اتصال بين الإسلام والحبشة إلى عام 615م (هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة). أما أول احتكاك بين الدولة الإسلامية وساحل إفريقية الشرقي فتم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب حين سيطر العرب على جزيرة دَهْلَك عام20هـ/ 641م بالقرب من مصوّع، واستمرت سيادتهم حتى عصر المأمون. وفي مستهل القرن التاسع أدت عودة العلاقات بين الحبشة واليمن، ثم مع مصر إلى اتساع التجارة وازدهارها بين الحبشة وبلاد العرب، فكثر الوافدون من التجار والوسطاء المسلمين إلى شرقي إفريقية. وشهد هذا القرن نمو المدن الساحلية بالوافدين من المسلمين. وظهرت جاليات إسلامية قوية في دهلك وسواكن وباضع وزيلع وبربرة. وفي المدة بين القرن العاشر ومنتصف القرن الثالث عشر توطد النفوذ الإسلامي في السهل الساحلي، وظهرت مدن إسلامية على طول الساحل الإفريقي الشمالي. ومنها نفذ الإسلام إلى المناطق الداخلية عن طريق التجارة. ثم تحولت المراكز التجارية التي انتشرت فيها إلى إمارات إسلامية، فنشأت إمارة شوا التي وطدت الإسلام في جنوبي شرقي الحبشة، وقامت إمارات عدل (عدولي) ومورة وهوبت وجداية وهدية وفطجار وأوفات ودارة وبالي وأرابيني وشرحا، كما تسرب الإسلام إلى ممالك سدامة (سيدامو) جنوبي الحبشة وإلى مرتفعات شرق شوا. وامتدت هذه الإمارات حتى هرر، وبلاد أروسي جنوباً حتى البحيرات، مطوقة الحبشة من الجنوب والشرق. وفي مستهل القرن السادس الهجري/الثالث عشر الميلادي، نفذ الإسلام إلى هضبة الحبشة نفسها على الساحل الإفريقي الشرقي الجنوبي الممتد من ساحل الصومال جنوباً حتى زنجبار، وقامت مراكز ومدن إسلامية مماثلة.

كان للعرب دورهم في تجارة المحيط الهندي منذ القدم، فقد عرفوا أسرار هذا المحيط قبل الإغريق والرومان بزمن طويل، ووصلوا إلى شواطئ الهند. وكشفوا بحر الزنج والشاطئ الإفريقي الشرقي من رأس «غوردافوي» شمالاً حتى زنجبار جنوباً. وكثر ارتحالهم إلى هذا الشاطئ لمبادلة منتجات آسيا بذهب إفريقية وصمغها وعاجها. ومنذ القرن الثاني للميلاد بدأ العرب بالاستقرار هناك وأنشؤوا مدناً على طول هذا الساحل. وبعد ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية وانتشاره فيها بدأت طوائف من المسلمين بالهجرة إلى هذا الساحل، وجاءت أول هجرة عربية من هذا النوع من بلاد الشام، فاقتحمت ميناء ويوني الحصين، وأخضعت السكان المحليين (695م). وفي القرن الثامن للميلاد، أسس الخوارج العمانيون من قبيلة الأزد مدينة لامو شمال ممباسة، وقام فريق من الشيعة الزيدية بتأسيس شنجايا (بورت دانفر  Portes d’Enfer اليوم) على نهر لوالابا، وفي بداية القرن العاشر، خرج سبعة إخوة من الإحساء، ونزلوا على ساحل الصومال، وأسسوا مدن مقديشو، وبراوة، ومركة عند منتهى نهر ويبي، وقرفاوة وغيرها. وفي القرن الحادي عشر، أسست جماعة من شيراز مدينة كلوة. ولم يأت منتصف القرن الثالث عشر حتى كانت المدن الإسلامية قد انتشرت على طول الساحل الإفريقي الشرقي من سواكن شمالاً حتى موزامبيق جنوباً. وفي عام 1302 تزوج سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني صاحب عُمان أميرة سواحلية هي ابنة إسحاق حاكم باتة Pate، وورث الملك، ونقل بلاطه من عمان إلى شرقي إفريقية، حيث أسس حكم الأسرة النبهانية في باتة.

اشتهرت المدن الإسلامية في المقام الأول بالتجارة، فكانت مراكز لحياة إسلامية فاعلة، وأماكن انطلاق تتجمع فيها المؤثرات الإسلامية لتنتقل إلى ماوراءها. ومن هذا التاريخ أخذت بالنمو، ووضحت شخصيتها الإسلامية وبدأت تتحول إلى سلطنات إسلامية ذات نظم وراثية في الحكم (باتة وكلوة ومقديشو). وبرز بعضها وسيطر على سلطنات أخرى، وكان هذا حال السلطنات الثلاث سالفة الذكر.

العصور الحديثة

كان لفتح العرب شمالي إفريقية وما تبعه من انتشار الإسلام فيه وقيام الحكم الإسلامي في الأندلس عدة نتائج أهمها دخول هذا الجزء من إفريقية في صميم التاريخ الإنساني، وتحول البحر المتوسط إلى بحيرة شبه عربية تلتقي فيها شعوب القارات الثلاث آسيا وإفريقية وأوربة ومؤثراتها الثقافية والحضارية، ومنطقة للتبادل التجاري بينها. كما أصبحت معظم طرق تجارة الشرق الأقصى والهند البرية والبحرية بأيدي العرب المسلمين الذين احتكروا وتجار المدن الإيطالية الجنوبية التبادل التجاري بين الشرق والغرب، وحققوا أرباحاً طائلة. وإن عرف العرب والإغريق والرومان سواحل إفريقية الشمالية والشرقية منذ العصور القديمة، فإن العلاقات المباشرة بين أوربة وإفريقية في العصور الوسطى اقتصرت على ساحل إفريقية الشمالي.

الكشف الأوربي للقارة: مرَّ الكشف الأوربي للقارة بمرحلتين رئيسيتين. امتدت الأولى حتى أواخر القرن الثامن عشر، وفيها قام رحالة من غرب أوربة بكشف سواحل القارة الغربية والجنوبية الشرقية حتى سفالة. وبدأت هذه المرحلة باحتلال البرتغاليين مدينة سبتة المغربية (1415). ومع إشراف القرن الخامس عشر على نهايته تمكن البرتغاليون من كشف الساحل الإفريقي الغربي كله، وداروا حول إفريقية (1497)، ووصلوا إلى ثغر موزمبيق، ودخلوا الإمارات العربية على الساحل الشرقي الجنوبي منها (1498)، ووصلوا بإرشاد البحارة العرب من مثل ابن ماجد إلى قاليقوط على شواطئ الهند الغربية (1499). وفي عام 1500 وصل هؤلاء إلى مدغسكر. واقتصر ماتبقى من هذه المرحلة على جمع بعض المعلومات من داخل القارة. وامتدت المرحلة الثانية من أواخر القرن الثامن عشر حتى مطلع القرن العشرين وانقسمت إلى حقبتين. امتدت الأولى حتى عام 1880 وفيها قام رحالة غرب أوربة بالتوغل داخل القارة، وكشف أنهارها الرئيسية وأحواضها، وجمعوا المعلومات عن شعوب المناطق التي زاروها وثرواتها، وامتدت الحقبة الثانية حتى عام 1902، وفيها رافق الكشف استعمار القارة بأكملها تقريباً وتقاسمها بين دول أوربة الغربية.

  استعمار القارة: مرَّ استعمار القارة بمرحلتين رئيسيتين أيضاً. امتدت الأولى حتى عام 1880، والثانية حتى السبعينات من القرن العشرين.

آ ـ مرحلة استعمار الساحل والجزر: وفيها اقتصر الاستعمار الأوربي على سواحل القارة وبعض الجزر القريبة منها لجهل الأوربيين ما بداخل القارة، ومايقف خلف السواحل من عوائق طبيعية، واهتمامهم بالدرجة الأولى بالوصول إلى الشرق واحتكار تجارته، كما كان للمقاومة الإفريقية العنيفة، وكثرة الأمراض الفتاكة أثرهما في كبح جماح الاستعمار في هذه المرحلة..

بدأ الاستعمار بإقامة وكالات تجارية ومستقرات أوربية على السواحل، واستغلال موارد إفريقية الطبيعية كالتوابل والذهب والعاج والصمغ، وتجارة الرقيق في حدود ضيقة، ولكن مع كشف العالم الجديد وثرواته،  واستغلال الأوربيين لها، فرضت مشكلة نقص اليد العاملة نفسها، ووجد الأوربيون الحل في إفريقية جنوب الصحراء، فاحتلت تجارة الرقيق منذ ذلك الحين المرتبة الأولى بين اهتمامات الأوربيين في القارة. وغدا الساحل الأطلسي، بين الرأس الأخضر (السنغال) ولواندة (أنغولة) مخزناً للرقيق الأسود الذي كان يصدر إلى مزارع العالم الجديد. وعلى مدى القرون الثلاثة التي مارس الأوربيون فيها تجارة الرقيق الأسود (حتى عام 1880) ترسخ في أذهانهم مفهوم إفريقية «البدائية والمتوحشة»، وتجاهلوا مسؤوليتهم الكبيرة عن تخلف إفريقية الاقتصادي والسياسي والثقافي. فقد قضى تحول طرق التجارة بين إفريقية وأوربة من سواحل القارة الشمالية إلى سواحلها الأطلسية على الازدهار الاقتصادي الذي شهدته بلاد السودان بدءاً من القرن الحادي عشر ومارافقه من نهضة سياسية وثقافية. واستنزفت تجارة الرقيق موارد إفريقية البشرية. وقضت على كثير من الممالك الزنجية الساحلية في غربي إفريقية ووسطها (بنين والكونغو) وحرمت إفريقية من خيرة شبابها ومعظم قواها المنتجة اللازمة لحركة التقدم فيها. وأدى انتزاع احتكار التجارة مع الشرق من يد العرب والمسلمين إلى إضعاف الدول الإسلامية وانحطاطها وغلبة الفوضى في شمالي إفريقية، وقضاء البرتغاليين على إمارات الطراز الإسلامي في المدن الإسلامية الساحلية، وامبراطورية مونو ماتابا في شرقي إفريقية إضافة إلى نهب أوربة الغربية موارد إفريقية الطبيعية.

ب ـ احتلال القارة وتقسيمها: تقسم هذه المرحلة إلى حقبتين: الأولى حقبة التوغل داخل القارة وبداية التكالب الاستعماري عليها (1769 - 1880) والثانية حقبة السيطرة السياسية على القارة وتقسيمها (1880 - 1970).

اتسمت المرحلة الأولى بكشف أحواض الأنهار الرئيسة في القارة (الكونغو والنيجر والزامبيزي والسنغال ومنابع النيل) والصحراء الكبرى، وطواف عدد كبير من الرحالة الأوربيين الغربيين في معظم مناطق إفريقية الغربية ووسطها وجنوبيها وشرقيها وجزيرة مدغسكر، وجمع المعلومات عن البلاد وأحوال السكان وتعرّف الكثير من أسرار القارة وخباياها. ورافق هذا كله بدايات الغزو الاستعماري للقارة واحتلالها واستيطان بعض أجزائها، ومن ذلك مثلاً حملة نابليون على مصر (1798- 1801)، والتنافس بين إنكلترة وفرنسة على شمالي إفريقية بفرض نفوذهما غير المباشر على دول المنطقة عن طريق تقديم المساعدات العسكرية والفنية والإسهام في تحديثها (مصر في عهد محمد علي) أو بالسيطرة المباشرة (احتلال فرنسة للجزائر سنة 1830 واحتلال إنكلترة جنوب إفريقية بدءاً من عام 1815). واتسمت الحقبة الثانية بقيام محاولات الدول الأوربية الغربية فرض سيطرتها السياسية على إفريقية كلها وتقاسمها فيما بينها وحكمها مدة تزيد قليلاً على ثلاثة أرباع القرن.

جـ ـ الأوضاع السياسية في إفريقية حتى الاحتلال الأوربي:

ـ المغرب العربي: بدأ الصراع بين الأوربيين والدولة العثمانية من أجل السيطرة على شمالي إفريقية منذ مطلع القرن السادس عشر، وانتهى الأمر إلى احتلال البرتغال وإسبانية بعض المدن الساحلية في المغرب والجزائر وتونس، في حين فرضت الدولة العثمانية سلطانها على الجزائر (1516)، ومصر (1517)، وطرابلس الغرب (1551)، وتونس (1574). وقد عاشت هذه البلدان في القرنين السابع عشر والثامن عشر حالة من الفوضى بسبب ضعف نفوذ ممثلي الدولة العثمانية من باشوات وبايات ودايات على مجاهدي البحر. غير أن الباي حسين في تونس نجح في تأسيس الأسرة الحسينية عام 1705 التي استمرت في الحكم حتى خمسينات القرن العشرين، في حين حافظ المغرب الأقصى على استقلاله، وتوالى على الحكم فيه بعد الموحدين الأشراف السعديون (1549- 1670)، ثم الأشراف العلويون (1670م) وهم أصل الأسرة العلوية، التي ماتزال في السلطة إلى اليوم.

ومنذ عهد محمد علي باشا (1805- 1849) أخذت مصر تستقل تدريجياً عن الدولة العثمانية مع بقائها تابعة لها اسمياً.

وفي القرن التاسع عشر أدت محاولات الإصلاح والتحديث التي شهدتها مختلف دول المغرب العربي إلى تغلغل النفوذ الأوربي فيها، أولاً ثم إلى بسط السيادة الأوربية عليها.

وفي سودان وادي النيل قامت مملكة الفونج في سنار، ومملكة دارفور (مطلع القرن السادس عشر). ودخلت الأولى في صراع مستمر مع الحبشة التي كانت في الربع الأخير من القرن الثامن عشر تعيش عهد انحطاط بسبب ضعف سلطة ملوكها وتنافس كبار الإقطاعيين على السلطة والحروب الأهلية فيها، وفي عامي 1820- 1821 أخضع محمد علي السودان للسيادة العثمانية، وتولى الحكم فيه إدارة تركية مصرية، وفي المدة بين 1881 و1899 شهد السودان قيام الحركة المهدية[ر].

ـ إفريقية الغربية: أدى القضاء على امبراطورية صنغي عام 1591، ونضوب مناجم الذهب في إفريقية والعثور على معدنه في العالم الجديد، وتحول طرق التجارة نحو السواحل الأطلسية إلى انحطاط الأوضاع السياسية فيها، واستمر هذا الانحطاط حتى نهاية القرن الثامن عشر، فقد سيطر المولدون «الأرما» (سليلو المغاربة من زوجات محليات) على تومبكتو وغاو وما حولهما. وتأسست عدة ممالك صنغية صغيرة في أعالي النيجر. وأقام البمبارا مملكتين حول سيغو Segou وتزايدت باستمرار ضغوط قبائل الطوارق في الشمال، والموريتانيين في الغرب، والفولانيين في ماسينة، وحلت الحروب المستمرة محل الازدهار الاقتصادي والسياسي والثقافي الذي شهده السودان الأوسط في المرحلة السابقة وسارت مراكز الدراسات الإسلامية إلى ذبول. في حين عاشت ممالك الحوصّة في الشرق عهد رخاء وازدهار. واعتنق الفولانيون الإسلام، وألفوا دولاً ثيوقراطية (حكومات رجال الدين) في فوتاتورو (السنغال)، وبوندو، وفوتاجالون (غينية). وتوسعوا باتجاه الشرق. وانتصر الحسّانيون في موريتانية على قبائل الأمازيغ. وفي ساحل غينية، أدت تجارة الرقيق إلى قيام اتحاد الأشانتي (غانة اليوم)، ومملكة أبومي أو الداهومي (في جنوبي جمهورية بنين اليوم).

وفي القرن التاسع عشر، تأثرت بلاد السودان باليقظة الإسلامية والحركات السلفية الإصلاحية التي شهدها المشرق العربي وشمالي إفريقية، فشهد السودان الغربي قيام مؤسسات مماثلة كانت وراء يقظته السياسية والثقافية الإسلامية الجديدة، وقيام عدد من الامبراطوريات الإسلامية الزنجية الإفريقية هي امبراطورية الفولاني (1804- 1903) بقيادة الشيخ عثمان بن فودي، وامبراطورية التوكولور (1854- 1893) بزعامة الحاج عمر تال، ومملكة ماسينة (1818- 1862) بقيادة الشيخ أحمدو، وامبراطورية الماندي في أعالي النيجر (1870- 1893) بزعامة ساموري توري.

ـ إفريقية الشرقية: نجحت الإمارات المسلمة الساحلية، ولاسيما كلوة وممباسة بالتحالف مع سلطان مسقط[ر]، في طرد البرتغاليين من ساحل الزنج إلى الشمال من رأس دلغادو. وغدا عرب عمان سادة هذه المنطقة منذ عام 1698م، واعترفت البرتغال بسيادة إمام مسقط عليها بموجب معاهدة 1752. وفي عام 1830، نقل إمام مسقط سعيد بن سلطان حاضرته إلى زنجبار ليُحكم سلطانه على مدن الساحل التجارية مالندي وممباسة وكلوة. وكان لتحرر الإمارات الإسلامية من الكابوس البرتغالي أثر عميق في استعادة الحركة الإسلامية نشاطها. وبدأ الإسلام بالتوغل فعلياً نحو الداخل، ونشط الدعاة في نشر الإسلام في موزمبيق وسفالة، ونفذوا إلى منطقة نياسالاند (ملاوي اليوم)، وهضبة البحيرات ومملكة بوغندة (أوغندة) وكينية وطنغنيقة حتى حدود الكونغو، وأقيمت المساجد في كل مدينة وقرية. وأحرز الإسلام تقدماً مماثلاً في مناطق شمال مقديشو. كما تسرب سلمياً إلى قلب الحبشة طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكان للاتصال المستمر بين هذه الإمارات والعالم الإسلامي أثره الكبير في انتشار الثقافة العربية الإسلامية. كما كان توحيد مسقط وزنجبار على يد سلطان مسقط في أوائل القرن التاسع عشر بداية مرحلة مزدهرة من تاريخ الإسلام في شرقي إفريقية.

د ـ استعمار إفريقية وتقسيمها: شهدت دول أوربة الغربية تحولات مهمة بين عامي 1870 و1880 أدت إلى ظهور النزعة الامبريالية والتقدم الصناعي والحاجة  إلى مصادر جديدة للمواد الأولية، وأسواق لتصريف فائض الإنتاج الصناعي، واستثمار فائض رؤوس الأموال فيها، والرغبة في تأسيس امبراطوريات ضخمة تسعى إلى الارتقاء إلى مصاف الدول العظمى مثل ألمانية وإيطالية أو الحفاظ على هذه المكانة مثل إنكلترة وفرنسة، مع العمل الدؤوب من أجل الوقوف في وجه المد الإسلامي ونشر المسيحية في إفريقية.

فمنذ أواخر القرن الثامن عشر، اقتصر التنافس في إفريقية على إنكلترة وفرنسة، وبعد ظهور الامبرياليات الأوربية، تحول هذا التنافس الثنائي إلى تنافس دولي شاركت فيه ألمانية وإيطالية والبرتغال وإسبانية وبلجيكة التي كشف ملكها النقاب عن أطماعه في تأسيس امبراطورية شخصية في الكونغو، وتدخلت إنكلترة والبرتغال لمعارضة مشاريعه، في حين احتجت كل من فرنسة وألمانية وبلجيكة، والولايات المتحدة على هذا التدخل، وأصبحت المسألة الإفريقية مسألة دولية، وغدا السباق على احتلال القارة واضحاً. ووافقت الدول المعنية بهذه المسألة على دعوة المستشار الألماني بسمارك لعقد مؤتمر في برلين لبحث قضية الكونغو والمشكلات المتعلقة بها. واتفق المشاركون في مؤتمر برلين (تشرين الثاني 1884 - شباط 1885) على القواعد والأسس التي سيتم بموجبها تقسيم القارة مستقبلاً، وأهمها حق الدول الأوربية التي تملك مناطق ساحلية بحرية إفريقية في التوسع في الداخل شريطة ألا يتعارض ذلك مع مصالح الدول الأخرى، وإعلام الدول الأخرى بذلك، وعدم إعلان أي دولة أوربية حمايتها على منطقة ما من دون دعم ذلك باحتلال فعلي أو ممارسة فعلية لسلطتها عليها. وكان هذا بداية سباق مسعور بين الدول الأوربية الغربية لاستعمار إفريقية في المدة بين 1885 و1902، سارعت معه أدوات الاستعمار، من شركات تجارية وبعثات تبشيرية أو عسكرية إلى إثبات ملكية بلادها لأجزاء من مختلف أقاليم القارة. وفي أقل من عشرين عاماً تغيرت الخريطة السياسية للقارة تماماً، ففي حين لم يكن يخضع للسيطرة الاستعمارية حتى عام 1885 أكثر من 10% من مساحة القارة لم يبق في عام 1902 إلا أجزاء بسيطة منها لا تزيد على 8% من المساحة الكلية تتمتع باستقلالها هي ليبيرية والحبشة والمغرب الأقصى الذي لم يلبث أن خضع أيضاً للاستعمار الفرنسي عام 1912. وقد طرأت بعض التعديلات الطفيفة على هذه الخريطة إثر هزيمة ألمانية في الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية وتقاسم ممتلكاتها سنة 1919 بين فرنسة وإنكلترة وبلجيكة وجمهورية جنوب إفريقية. وقد بقيت هذه الخريطة على حالها حتى عام 1951 تاريخ استقلال ليبية واحتكرت ست دول أوربية فقط السيطرة على معظم أجزاء القارة هي: إنكلترة وفرنسة وبلجيكة والبرتغال وإسبانية وإيطالية.

 هـ ـ أنظمة الحكم الاستعمارية: على الرغم من تباين أنظمة الحكم الاستعمارية عقائدياً ونظرياً مثل سياسة الاستيعاب أو الإدماج assimilation الفرنسية، وسياسة الحكم غير المباشر التي تبناها الإنكليز وغيرهم، فإن تلك الأنظمة كانت متشابهة جداً في الجوهر، وتقوم على الأسس التالية: احترام العادات والتقاليد المحلية، وتحويل الزعماء والسلاطين الأفارقة إلى مجرد أدوات في خدمة الإدارة الاستعمارية والفصل بين المجتمع الأوربي والمجتمع الإفريقي، وخضوع السكان المحليين لنظام قضائي خاص، وعدم تمثيل «الأتباع» من السكان المحليين في المجالس النيابية في الوطن الأم، ووضع إدارة المستعمرات في يد إدارات خاصة مثل وزارات المستعمرات وحكام المستعمرات والإداريين المحليين المتخصصين الذين أصبحوا ملوك الأدغال، والاهتمام بتطوير اقتصاد المستعمرات على نحو يخدم مصالح الدولة المستعمرة (اقتصاد اكتفائي وحماية جمركية وخطط تنمية تستجيب لحاجات الدول الاستعمارية من المواد الأولية اللازمة لصناعتها..) ونظام تعليمي لتزويد الإدارة الاستعمارية بما تحتاج إليه من مساعدين محليين يكونون همزة الوصل بينها وبين الإفريقيين.

 حركات التحرر الوطني: شهدت مختلف المستعمرات الإفريقية بين عامي 1902 و1993م تحولات مهمة في جميع مجالات الحياة. كان لها أثر كبير في تغيير سيماء المجتمعات الإفريقية التي تعيش فيها وهيأت لنشوء حركات التحرر الوطني في إفريقية. فقد كان لتقسيم إفريقية بين مختلف الدول الاستعمارية وتكوين وحدات سياسية إقليمية لها حدودها وإداراتها وعاصمتها واسمها الخاص وفرض لغة المستعمر لغة رسمية للإدارة أثرها في سيادة السلام بين مختلف القبائل والمجتمعات الإفريقية التي تعيش داخل حدود كل مستعمرة، وتعوّدها التدريجي على التعايش والتعارف والاختلاط باستخدام لغة المستعمر أداة للاتصال فيما بينها، فتوسع عالمها ليشمل المستعمرة بأكملها، بل تجاوزه أحياناً إلى المستعمرات الأخرى المجاورة، وأخذ الانتماء إلى الأرض والوطن يحل تدريجياً محل الانتماء إلى العشيرة أو القبيلة أو العرق. وساعد إدخال نظام الإنتاج الاقتصادي الرأسمالي وتعميمه على دمج مختلف المجموعات العرقية في كل مستعمرة في دورة اقتصادية رأسمالية واحدة، وبناء وحدات اقتصادية رأسمالية، أفرزت طبقات اجتماعية جديدة، لا يقوم التمايز بينها على الأصل والنسب كما كان عليه الحال سابقاً، وإنما على المهنة ومستوى الدخل ونمط المعيشة. فظهرت نواة لطبقة برجوازية ريفية تتألف من كبار ملاك المزارع من الأفارقة والأوربيين، وأخرى لطبقة برجوازية حضرية تضم كبار أصحاب المتاجر ووسائل النقل وكبار أصحاب الملكيات العقارية، وحملة الشهادات من محامين وأطباء ومعلمين وممرضين وموظفين أفارقة من العاملين في القطاعين العام والخاص من كتبة ومحاسبين ومترجمين، ونواة ثالثة لطبقة عاملة تتألف من العمال المأجورين الدائمين مثل عمال السكك الحديدية والأشغال العامة وعمال المناجم والمنشآت الكبيرة الخاصة والشركات التجارية. وأدى تعرض جميع هذه الفئات لألوان مختلفة من الاستغلال والقمع والاضطهاد، ومرور كل منها بأوضاع خاصة بها، إلى وعيها لهذا الاستغلال، ودفعها إلى الدفاع عن حقوقها إدراكاً منها لوحدة مصالحها، فنشأ نوع من التضامن بين أفراد الفئة الواحدة، ثم بين هذه الفئات المختلفة، وتعزز هذا التضامن بمواجهة قوى القمع والاستغلال، وفي الوقت نفسه، أدى نشر التعليم في المدارس التي أقامها الأوربيون إلى ظهور فئة «النخبة» أو «الصفوة المختارة» من خريجي المدارس العليا والمعاهد الإقليمية والجامعات الأوربية المختلفة، ولا سيما من أبناء المستعمرات الفرنسية والإنكليزية الذين عاشوا في عواصم مستعمراتهم، وتعرفوا عن كثب على الحضارة الأوربية الغربية ومناقبها ومثالبها ووسائلها التي يحاربهم المستعمرون بها، كما تعرفوا المذاهب العقائدية والفلسفية المختلفة وأدوات النضال السياسي وأساليبه في الغرب، فكان لهذه الفئة في الغالبية العظمى من الحالات الدور الأكبر في تعبئة الجماهير الإفريقية وتنظيم حركات التحرر الوطني وقيادتها. وقد مرت حركات التحرر الوطني في إفريقية بوجه عام بمرحلتين رئيستين: مرحلة الكفاح المسلح ومرحلة النضال السياسي من أجل الاستقلال:

 آ ـ مرحلة الكفاح المسلح: تمتد هذه المرحلة عموماً من بداية الغزو الاستعماري الأوربي لإفريقية واحتلالها حتى قيام النظام الاستعماري فيها. وقد تزعمت هذا الكفاح قيادات إفريقية تقليدية قبلية ودينية وحكومية ـ دينية. وتقسم هذه المرحلة إلى حقبتين اختلفت فيهما أهداف النضال باختلاف أهداف الغازي الأوربي، ففي الحقبة الأولى أي حقبة غزو إفريقية واحتلالها وتقسيمها (1880 - 1902) تحددت أهداف الكفاح الإفريقي المسلح بالحفاظ على الاستقلال والسيادة الوطنية للمجتمعات والدول الإفريقية. وفي الحقبة الثانية أي حقبة قيام الإدارة الاستعمارية وفرض النظام الاستعماري (1902 - 1920) كان هدف القيادات الإفريقية التقليدية استعادة الاستقلال والسيادة الوطنية، والدفاع عن الثقافات الإفريقية (الديانات والعادات والتقاليد وأنماط المعيشة) أو التكيف والتلاؤم مع الوضع الاستعماري الجديد والسعي إلى دفع الإدارة الاستعمارية إلى إصلاح الجوانب السلبية في النظام الاستعماري.

ب ـ مرحلة الكفاح السياسي من أجل الاستقلال: تولى الزعامة في هذه المرحلة جيل جديد من المثقفين الذين تخرجوا في المدارس والجامعات الأوربية الغربية وتعلموا لغة المستعمر وتعرفوا ثقافته، والذين حصّلوا تعليمهم في المدارس والجامعات الإسلامية في شمال شرقي إفريقية وشماليها وغربيها. وتقسم هذه المرحلة أيضاً إلى حقبتين: حقبة الإعداد والتهيؤ لقيام الحركات الوطنية، وحقبة ظهور هذه الحركات والنضال من أجل إصلاح النظام الاستعماري أو الحصول على الاستقلال. ففي الوقت الذي كانت فيه الجماهير الشعبية في الأرياف تكافح النظام الاستعماري مستخدمة طرائق وأساليب ووسائل مستمدة من التراث الإفريقي، أو ماعرف بالمقاومة السلبية، أي التهرب من الاستجابة لطلبات الإدارة الاستعمارية كأعمال السخرة والعمل الإجباري والضرائب المباشرة والتجنيد العسكري، أو بالاعتداء على رموز السلطة (جباة الضرائب ورجال الشرطة وممثلي الإدارة من الزعماء التقليديين الموالين لها) أو بالتمرد والعصيان والثورة. فقد ظهرت في المدن جمعيات ونواد وروابط وأحياناً صحافة، غلب عليها تياران أحدهما ديني، والآخر علماني. وقد مثل التيار الديني بعض الجمعيات والحركات الإسلامية الإصلاحية (في شمال شرقي إفريقية وشماليها وغربيها) أكدت الهوية القومية العربية الإسلامية (شمال شرقي إفريقية وشماليها)، أو الهوية الزنجية الإفريقية الإسلامية (غربي إفريقية) لشعوب البلدان التي ظهرت فيها، وتصدت لسياسة الإدماج واستنكرت مساوئ النظام الاستعماري وطالبت بإصلاحه ديمقراطياً، وقامت بفتح مدارس لتحفيظ القرآن وكتاتيب لنشر التعليم باللغة العربية وتعزيز الروح القومية العربية في نفوس تلاميذها.

كما مثل هذا التيار بعض الحركات المسيحية الإصلاحية في إفريقية الجنوبية ووسطها وشرقيها تمثلت بظهور الكنائس الإفريقية المستقلة تعبيراً عن سخطها وغضبها من سياسة الكنائس الأوربية الرامية إلى طمس الشخصية الزنجية الإفريقية وتواطئها مع الإدارة الاستعمارية وممارساتها التعسفية، وتطبيقها لسياسة التمييز العنصري. كما عملت على طبع المسيحية والكنيسة بالطابع الزنجي الإفريقي. ومثّل التيار العلماني جمعيات ونواد وروابط ثقافية ورياضية واجتماعية خيرية وتعاونية، كان لمعظمها اهتمامات سياسية. وقد تجلت هذه الاهتمامات في الدور الفعّال الذي قامت به في توعية أعضائها والتنديد بمساوئ النظام الاستعماري وتناقضاته وممارساته الاستغلالية والتعسفية، وأكدت دور مثقفيها في توعية الفئات المهنية الاجتماعية الجديدة الأخرى، وتوعية الجماهير الإفريقية وإرشادها إلى الوسائل العصرية لمقاومة المستعمر (الإضراب وكتابة العرائض وتأليف وفود للاحتجاج أو تقديم الشكاوى المطلوبة) فنشأ بين هذه الفئات والجماهير الشعبية من جهة والطبقة المثقفة من جهة أخرى، نوع من التضامن مهد السبيل لقيام حركات التحرر الوطني في مختلف المستعمرات الإفريقية، وقد اقتصر النضال في هذه المرحلة على الكشف عن مساوئ النظام الاستعماري وتجاوزاته وتناقضاته وعلى المطالبة بإصلاحه كي يشارك الأفارقة في إدارة شؤون بلادهم وتقرير مصيرهم، وليس المطالبة بالاستقلال الناجز،  إلا في حالات نادرة، وإن لم تغب فكرة الاستقلال على المدى البعيد عن أذهان الفئة المثقفة في بعض المستعمرات، الداهومي والسنغال وساحل الذهب والجزائر، وقد امتدت هذه المرحلة في بعض المستعمرات حتى عام 1935م، وفي بعضها الآخر حتى عام 1939 أو 1945م. ومنذ عام 1935 شهدت إفريقية تأسيس حركات وطنية جماهيرية بقيادة «الصفوة المختارة» تدعو إلى النضال والتضامن من أجل الاستقلال. وقد تقاسم الحركات الوطنية في هذه المرحلة تياران هما التيار المطالب بالاستقلال الفوري مع الارتباط بالدولة المستعمرة أو من دونه، والتيار المطالب بالاستقلال الذاتي المحلي في إطار دولة فدرالية أو كونفدرالية مع الدولة المستعمرة، وقد غلب التيار الأول في المستعمرات الإنكليزية في غربي إفريقية خاصة، كما غلب التيار الثاني في البداية في المستعمرات الفرنسية في إفريقية الغربية والاستوائية، لكن الغلبة في النهاية كانت للتيار الثاني، غير أن أصحاب هذا التيار من قادة الحركات الوطنية سرعان ما أدركوا مدى تمسك الدول الاستعمارية بهيمنتها وأيقنوا أن تحقيق أمانيهم وأماني شعوبهم في التقدم والرخاء مرهون بالحصول على الاستقلال الناجز. وقد اتخذ النضال من أجل ذلك في الغالب طابع النضال السياسي، أما البلدان التي كان فيها عدد كبير من المستوطنين الأوربيين كالجزائر وبلدان جنوبي إفريقية ووسطها فقد اضطر قادة الحركات الوطنية فيها إلى اللجوء إلى الكفاح المسلح والنضال السياسي لنيل الاستقلال. وبدءاً من عام 1951 بدأت الدول الإفريقية تحصل على استقلالها واحدة بعد أخرى، فارتفع عدد الدول الإفريقية المستقلة من دولتين فقط هما ليبيرية وإثيوبية إلى 31 دولة في عام 1963 ثم 51 دولة في عام 1977 و53 دولة في عام 1993.

الوحدة الإفريقية: ظهرت فكرة الجامعة الإفريقية Panafricanisme منذ مطلع القرن العشرين في الأوساط الزنجية بين أبناء إفريقية في المهجر، ولاسيما في لندن ثم الولايات المتحدة. ومنذ منتصف العشرينات بدأت هذه الفكرة تنتشر في الأوساط الزنجية الإفريقية الطلابية (اتحاد طلبة غربي إفريقية، لندن 1925)، والسياسية (اتحاد الدفاع عن الجنس الأسود، باريس 1935) والأدبية (الزنوجة Nigritude) في لندن وباريس.

وبدءاً من عام 1945، بدأ النضال من أجل الوحدة الإفريقية في إفريقية نفسها، فظهرت الأحزاب والتجمعات السياسية والمنظمات المهنية والطلابية، وتمخض هذا النضال بين عامي 1957 و1963 عن ظهور تجمعات ثنائية أو متعددة الأطراف أو سياسية واقتصادية. وفي عام 1961 تبلور موقف دعاة الوحدة الإفريقية في تيارين: تيار ثوري يؤمن بضرورة تحرير إفريقية الداخل، وقيام علاقة سياسية عضوية بين جميع بلدان القارة (الولايات المتحدة الإفريقية)، وترسيخ الشخصية الإفريقية لفرضها على الغرب، وتحقيق الثورة السياسية الكفيلة بضمان التقدم الاجتماعي الاقتصادي أي تغيير وجه إفريقية بالقضاء على علاقات التبعية التي تربطها بالعالم. وتيار معتدل تيار الحلول الوسط والواقعية والممكن، وهدفه تحقيق التعاون والتقدم مع احترام جميع أطراف التعاون من دون تغيير جذري في طبيعة العلاقات بين إفريقية والغرب. وفي أواخر شهر أيار عام 1963 قامت منظمة الوحدة الإفريقية[ر] بحضور 31 رئيس دولة وحكومة إفريقية. واختلفت الآراء حولها، فمن قائل إنها انتصار للتيار المعتدل أو إنها حل وسط بين التيارين المعتدل والثوري. أو إنها تكريس لتجزئة إفريقية وضعفها. وكان على القادة الأفارقة بعد الاستقلال مواجهة المشكلات التي خلفها الاستعمار وأهمها التخلف الاقتصادي والاجتماعي، والتخلف الثقافي والسياسي وبناء الأمة القومية في إطار كل دولة، ومشكلة الجفاف والتصحر، ومشكلة الحدود، ومشكلة التمييز العنصري. ولحل مشكلات التخلف، اختار قسم منهم الطريق الاشتراكي (الاشتراكية الإفريقية) والقسم الآخر الطريق الرأسمالي أو اللارأسمالي. وعلى الرغم من الجهود التي بذلوها في جميع الميادين السالفة الذكر، فإن الهوة بين البلدان الإفريقية المتخلفة والبلدان الصناعية المتقدمة ماتزال تزداد اتساعاً، وتتفاقم مديونية القارة على غنى أراضيها بأهم الثروات المعدنية في العالم.

صباح كعدان

 

 


التصنيف : التاريخ و الجغرافية و الآثار
المجلد: المجلد الثاني
رقم الصفحة ضمن المجلد : 854
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 498
الكل : 31255787
اليوم : 3975

القادرية

المزيد »