logo

logo

logo

logo

logo

البويهيون

بويهيون

BUWAYHIDS - BUWAYHIDES

البويهيون

 

البويهيون سلالة من أبرز السلالات التي ظهرت في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، سيطرت على الهضبة الإيرانية والعراق، وهي ذات تقاليد شيعية، وكانت تقطن بلاد الديلم جنوب غربي بحر قزوين.

اتسم شعب الديلم بالقسوة وحب القتال والنزوع إلى الاستقلال. حتى إن الدولة الساسانية وجدت من الضروري الاحتفاظ بحصون على الحدود لتكون خطوطاً دفاعية تصد غاراته.

وبعد قيام الإسلام والشروع بالفتوحات الكبرى، اصطدم العرب بهذا الشعب، ولم يفلحوا في إخضاع الديلم بقوة السلاح، ولكن شعب الديلم اعتنق الإسلام مع مرور الزمن عن طريق التغلغل السلمي، إلا أنهم استطاعوا تأكيد شخصيتهم الذاتية ضمن إطار هذا الدين سياسياً وعقائدياً، سياسياً بظهور أسر حاكمة مستقلة، وعقائدياً بتبني مذاهب غير سنية.

تنسب الأسرة البويهية إلى أبي شجاع بويه، رجل ديلمي فقير كان يعمل صياداً على شواطئ بحر قزوين، على أن التواريخ بعد نجاح أولاد بويه الثلاثة، علي والحسن وأحمد، حملت عليهم أنساباً مختلفة، فبعضهم ربطهم ببهرام جور الملك الساساني، وبعضهم الآخر ربطهم بوزيره، مهرنرسي، أما أبو إسحاق الصابئ، فقد أرجع نسبهم في كتابه «التاجي» الذي كتبه لتمجيد البويهيين بأمر عضد الدولة إلى بني ضَيَّة في العرب وإلى بُهرام جور في آن واحد.

ويرافق غموض النسب البويهي غموض آخر في نشأة الأخوة الثلاثة، فما يذكر عنهم يكاد يشبه الخرافة، على أنه يستنتج من كل ما ذكر نشأتهم الفقيرة، وقد كان معزّ الدولة بعد تملكه البلاد يعترف بنعمة الله تعالى ويقول «كنت أحتطب الحطب على رأسي».

وقد برز أكبر الأخوة علي، بمهارته الحربية وشجاعته وسماحته حتى أضحى هو وأخوه الحسن من القوَّاد البارزين في جيش «ماكان بن كاكي» القائد في خدمة الداعي إلى الحق «الحسن بن القاسم» آخر رجال الدولة العلوية في طبرستان، فلما هزم ما كان على يد مرداويج وانتقل إلى خدمة السامانيين انتقل الأخوان إلى خدمة مرداويج الجيلاني الذي علا شأنه سنة 315هـ/927م، وهو مؤسس الدولة أو الأسرة الزيارية التي كانت أول سلالة ثبتت مركزها غرب أراضي السامانيين في إيران، وامتد نفوذها من غربي إيران إلى الأهواز، ولكنها استقرت أخيراً في منطقة جرجان، واستمر حكمها حتى سنة 470هـ/1077م.

أظهر أولاد بويه أيام مرداويج مقدرة وكفاية، وترقَّى منهم علي حتى ولاه مرداويج على الكرج، فأصاب نجاحاً وأظهر له الكرج الحب، فأثار ذلك شكوك مرداويج، وكاد الشر يقع بينه وبين أبناء بويه، لكن مقتل مرداويج بيد الأتراك سنة 323هـ/934م، أتاح الفرصة أمام الأخوة الثلاثة، فتمكن علي وأخوه الحسن من السيطرة على بلاد فارس والجبَل، وبقي أخوهما الأصغر أحمد بغير ولاية يستبد بها، فرأيا أن يسيِّراه إلى كرمان ففعل، ثم ازداد طموح أحمد فأخذ يهاجم ممتلكات الخليفة ما بين سنتي 331 و334هـ، موغلاً في كل هجمة في بلاد العراق، وكانت أحوال بغداد السياسية في غاية السوء والفوضى بعدما أخفق نظام إمرة الأمراء إخفاقاً ذريعاً، وفي سنة 334 توفي توزون أمير الأمراء، فخلفه في منصبه قائد آخر يعرف بابن شيرزاد، وبعد تسلمه لمنصبه ببضعة أشهر، تحرَّك أحمد بن بويه من الأهواز واستطاع الوصول إلى بغداد دون عناء كبير، فاستقبله الخليفة المستكفي 333-334هـ في دار الخلافة، وخلع عليه، ولقَّبه معزّ الدولة كما لقَّب أخاه علياً بعماد الدولة ولقَّب أخاه الحسن بركن الدولة.

لم يكن الأخوة الثلاثة متفقين في العمل لواحد منهم، بل كان كل منهم على تساندهم يعمل لحسابه الخاص، ولهذا فقد استقرّ أصغرهم أحمد (معز الدولة) في بغداد. بينما بقي أخوه الأوسط حسن (ركن الدولة) في الري وهمذان وأصبهان بعد أن استخلصها من (وشمكير) أخي مرداويج، أما الأخ الأكبر علي (عماد الدولة)، وهو سبب مجد البويهيين فأقام في فارس وكرمان، فتألف من هؤلاء الأخوة الثلاثة أسرة حاكمة واحدة في ثلاثة مواقع. وكان للبويهيين في العراق الأثر البارز.

البويهيون في العراق وعلاقتهم بالخلفاء العباسيين

لم يكن دخول البويهيين إلى بغداد شبيهاً بدخول الأمراء الآخرين، وما كان مجرد استبدال أمير بأمير، فقد أنشأ البويهيون إمارة وراثية في قلب عاصمة الخلافة منفصلة عن الخليفة نفسه، كما أنهم جاؤوا على رأس جيش أجنبي استولى على عمل الخليفة وعاصمته. فساد الاتجاه العسكري في مؤسسات الدولة، ويلاحظ ذلك في كل أعمالهم وفي طريقة الإدارة التي اتبعوها، وكان بنو بويه شيعة لا يعترفون بحق العباسيين في حكم العالم الإسلامي، ولم يُبق البويهيون هؤلاء الخلفاء إلا لاعتبارات سياسية، فقد أراد معز الدولة نقل الخلافة للمعز لدين الله الفاطمي أو لغيره من العلويين، فحذَّره خواصه من سخط الناس ومخالفتهم، وبينوا له الخطر على مركزه في حالة تعيين خليفة علوي قائلين: «ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوا».

تميز موقف الأمراء البويهيين من الخلفاء بعدم احترامهم والتعدي على سلطتهم وألقابهم وشاراتهم. وتجلّى هذا في مظاهر كثيرة من عزل وإهانة وسجن ومصادرة. وسلب البويهيون الخليفة كل سلطة سلباً شرعياً، فقد جعلوا الخلفاء يفوضونها إليهم تفويضاً رسمياً، ففي سنة 367هـ وفي حفل مهيب فوَّض الطائع إلى عضد الدولة السلطان قائلاً: «قد رأيت أن أفوّض إليك ما وكّل الله تعالى إليّ من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصتي وأسبابي، فتولّ ذلك مستخيراً الله». وفي سنة 381هـ اجتمع الأشراف والقضاة والشهود عند الخليفة القادر (381-422هـ) وسمعوا يمينه بالوفاء لبهاء الدولة وبتقليده ما وراء بابه مما تقام فيه الدعوة.

لم يقتنع البويهيون بالسلطة وحيازتها، بل شاركوا الخلافة في امتيازاتها الأخيرة، فالخطبة في بغداد كانت رمز السيادة السياسية للخليفة، ولكن لم يمض ربع قرن حتى اغتصب البويهيون هذا الامتياز، وأدخلوا اسمهم مع اسم الخليفة في خطبة الجمعة، وتسلم البويهيون السكة وهي الرمز الثاني للخليفة، فحذفوا لقب أمير المؤمنين واكتفوا بذكر اسم الخليفة في حين ذكر الأمير البويهي اسمه ولقبه وكنيته.

وكان من شارات الخلافة، قرع الطبول على أبواب دار الخلافة في أوقات الصلوات الخمس، وقد حاول معز الدولة أن يسهم في هذا الامتياز فأخفق، ولكن عضد الدولة أجبر الخليفة الطائع على منحه هذا الامتياز ثلاث مرات في اليوم، ثم تجاوز سلطان الدولة (404-415هـ) ومن أتى بعده المرّات الثلاث إلى خمس، على احتجاج الخليفة، وهكذا لم يبق للخليفة إلا السلطان الديني، ويعلق على ذلك البيروني: «إن الذي بقي في أيدي العباسية إنما هو أمر ديني اعتقادي لا ملكي دنيوي». وقد اضطر البويهيون على طموحهم وتطاولهم على الخليفة أن يراعوا سلطانه الشرعي، فلم يكن الأمير منهم يعتبر شرعياً ما لم يصدر عهد الخليفة بتوليته، ويجري تسليم العهد في حفل رسمي، ويختم بقسم الخليفة للأمير بخلوص النية، ومن الأمير للخليفة بالولاء وصدق الطاعة، وبقي للخليفة كذلك سلطة منح الألقاب.

الوزارة والوزراء في العهد البويهي

 بزوال سلطة الخليفة العملية بسيطرة البويهيين كان من الطبيعي أن يرافق ذلك ويتبعه تنحية سلطان الوزير، وهكذا كانت سنة 334هـ سنة هامة في تاريخ الوزراء العباسيين، إذ أُلغي المنصب بالنسبة للخلافة، ولم يبق للخليفة وزير، وإنما كان له كاتب يدير إقطاعه وإخراجاته ليس غير، ولذلك فإن هلالاً الصابئ في كتابه «تحفة الأمراء» سمى وزراء العهد البويهي (كُتّاب الأيام الديلمية) على أن هؤلاء الكتاب اتخذوا لأنفسهم لقب الوزارة وإن كانوا لغير الخلفاء، ولذلك يحكى أن جوهراً الصقلي يوم فتح مصر، توقف عن مخاطبة أبي الفضل العباس بن حسين الشيرازي وزير عز الدولة (358-362هـ) في كتابه إليه بالوزير، ولم يخاطبه بذلك إلا بعد مراجعة وقال: «ما كان وزير خليفة»، وكان للوزير عند البويهيين كما كان عند السامانيين، صفة إدارية وعسكرية، فقد كان يقوم بمهام الوزارة والقيادة معاً، فنجد مثلاً الصاحب بن عباد الأديب المبرز يقود الجيوش في وزارته. وكذلك سائر الوزراء، إلا أن الوزير البويهي لم يكن مطلق السلطة؛ وإنما هو موظف يُشترط فيه رضى الأمير عنه.

أحدث عضد الدولة أمرين في منصب الوزارة لم يعهدا قبله، أولهما أنه اتخذ وزيرين معاً، والثاني أنه قبل استيزار الذميين، وأحد هذين الوزيرين كان نصرانياً وهو ابن منصور (نصر بن هارون)، وقد أبقاه عضد الدولة في بلاد فارس، بينما أخذ معه إلى بغداد المطهَّر بن عبد الله، وحينما أخفق المطهَّر في القضاء على الحسن بن عمران بن شاهين المتغلب على أعمال البطائح، خاف أن تنقص منزلته عند عضد الدولة ويشمت به أعداؤه فانتحر بقطع شريان يده. ومشى بهاء الدولة على رسم أبيه في إقامة وزيرين سنة 382هـ. ولكننا يجب أن نضيف أن عدداً من الوزراء البويهيين في العراق والجبل، تميزوا بالصفة الأدبية، وكان من بينهم كاتبان من أشهر كتاب العربية هما ابن العميد الأب الذي قيل إنه قد خُتمت به الكتابة، والصاحب إسماعيل بن عبّاد، وهو أول من لُقِّب بالصاحب من الوزراء لأنه كان يصحب ابن العميد الأب، أو لأنه كان يصحب الأمير البويهي الذي استوزره وهو مؤيد الدولة (في أصبهان وهمذان)، وليست شهرة ابن عبّاد الحقيقية في السياسة وإنما في الأدب.

السياسة المالية

كان الأمر الأساسي الذي يطيح الخلفاء والوزراء في أواخر العصر العباسي الثاني هو الأزمة المالية، وكان فراغ الخزينة علَّة مزمنة ينهار بسببها كل الجهاز الحاكم، وجاءت الفوضى التي ملأت عهد إمرة الأمراء، فزادت الخزينة فراغاً بسبب ما لحق بأرض السواد خاصة من تخريب. وجاء البويهيون فأبدى بعضهم كمعزّ الدولة وعضد الدولة رغبة صادقة في إصلاح نظام الري وتحسين شؤون الزراعة. ولكن إهمال الآخرين وقلة خبرة البويهيين بصورة عامة في الإدارة، وسوء تصرفات الجيش أضرت بالسكان وجعلت عصر البويهيين عصر تدهور مالي.

حاول معز الدولة القيام بعملين متعارضين: إصلاح نظام الري وإحياء موات الأرض من جهة، وإيجاد إقطاعات عسكرية زراعية من جهة أخرى، فكان هذا بداية قيام الإقطاع العسكري الذي سيتطور في العصر التالي ويصير أحد ركائز العمل الزراعي، وأدّى قيام الإقطاع العسكري إلى تحكم الجند بالأرض وبزراعتها، كما أنهم كانوا يستغلون كل موارد الأرض ولا يؤدون شيئاً يذكر لخزانة الدولة، فتعذَّر على معز الدولة جمع ذخيرة تكون للنوائب والأحداث.

وجاء بختيار (عزّ الدولة) إلى الحكم دون خبرة بالسياسة والإدارة، بل اشتغل باللهو واللعب ومعاشرة المغنين والنساء، ولم يكن همه إلا جمع المال اللازم لترفه وجنده، وكان لا ينظر في دخل ولا خرج إنما يلزم وزيره تسيير الأمور، ولكنه لا يعينه ولا ينصره، فإذا أخفق وزيره في توفير المال عُزل، ولذلك حدثت في عهده تبدلات وزارية سريعة. ولعلَّ البلاد ذاقت بعض الرفاهية في عهد عضد الدولة، فقد كان أقدر البويهيين الذين حكموا العراق وأبعدهم نظراً في السياسة والإدارة. بدأ عضد الدولة إصلاحاته الزراعية بإصلاح نظام الري وتنظيم الجباية، واهتم خاصة بإصلاح البثوق وكري أنهار أرض السواد وبناء القناطر على أفواهها لتنظيم مجرى الماء، ووضع الحرّاس في بعض النقاط الهامة لحراسة القنوات والسدود في الليل والنهار، وأضاف عضد الدولة إلى هذا مهمة إصلاح الجباية، فوضع لها نظاماً ثابتاً، وأخّر افتتاح الخراج إلى النيروز المعتضدي ليتفق ونضج الغلاّت، (وكان يؤخذ سابقاً قبل نضج الغلاّت) وألحَّ على العدل والإنصاف في الجباية، فأمضيت للرعية الرسوم الصحيحة وحذفت منها الزيادات، وشجع الزرَّاع على عرض مظالمهم ليرجع إليهم حقوقهم حتى من المقطعين العسكريين، وعني باختيار الأمناء للاهتمام بمصالح السواد وتحسينه.

كانت هذه الإصلاحات ممكنة في عهد عضد الدولة لقوته التي أرجعت الأمن وضبطت الجند ولرغبته الصادقة في تحسين الأوضاع، على أن الرفاهية لم تدم طويلاً، إذ عاد الشقاق بين البويهيين وسادت الفوضى بعد عضد الدولة، ولم يخلفه أحد له من اتساع الوقت والكفاية ما يستطيع به الاستمرار على إصلاحات سلفه، وإذا استثنيت بعض الإصلاحات من سد بثق نهر أو حفر قناة فإننا لا نكاد نسمع بعد عضد الدولة إلا الحديث عن الفقر والخراب، وتكرر فيضان دجلة الذي خرَّب الأرض والغلاّت لعدم تنظيم مياهه.

عوامل انهيار الحكم البويهي

أسهمت عوامل عدة في انهيار الحكم البويهي أهمها نظرة البويهيين إلى الحكم، وتكوين الجيش وسياستهم المالية والإدارية الفاشلة، واضطراب التوازن الاجتماعي في عهدهم، فلما ظهرت أخيراً القوة السلجوقية حملت إليهم الضربة القاضية.

نظرة البويهيين إلى الحكم والصراع فيما بينهم: كان البويهيون في بدء عهدهم يشعرون بأن المملكة ملك لأسرتهم يوزع بينهم، ولكنهم كانوا يشعرون في الوقت نفسه برابطة الأسرة ويقرّون جميعاً بسيادة كبير الأسرة، وقد اضطرب هذا الشعور سريعاً بعد الجيل الأول، وظهر فقده بظهور عضد الدولة بن ركن الدولة عميد الأسرة بعد وفاة عماد الدولة سنة 338هـ.

على أن قوة عضد الدولة جمعت في يده كل الملك البويهي في الري وأصبهان وشيراز والعراق ومدنه حتى عُمان، فلم يظهر أثر التفكك الأسري في الدولة، ولكن بعد وفاته سنة 372هـ نشب النزاع بين أبنائه، شرف الدولة، وصمصام الدولة وبهاء الدولة فدعا أشراف الري فخر الدولة من منفاه، ونصبوه أميراً على الجبال وطبرستان وجرجان، وانتهت الحرب بين الأخوة بانتصار بهاء الدولة سنة 380هـ الذي حكم في بغداد حكماً طويلاً مضطرباً، وبعد وفاته سنة 403هـ اشتد النزاع بين أبنائه حتى تقدَّم طغرل بك على رأس السلاجقة فاحتل بغداد سنة 447هـ، وسجن آخر ملك بويهي الملك الرحيم، ثم استولى على فارس، واختفت بذلك فروع البويهيين في الري وأصبهان وبغداد وشيراز على التعاقب النزاع بين عناصر الجيش: كانت كتلة الجيش مؤلفة من عنصرين أساسيين الديلم والأتراك، فكانا صاحبي السيطرة والكلمة الأولى، فإذا تركنا جانباً المنافسة الطبيعية الناتجة عن التكالب على الامتيازات والنفوذ بين الفريقين، فإن سوء سياسة الأمراء البويهيين تجاه الجيش بتقريب فريق دون آخر أو بإثارة بعضهم ضد بعض، قسم الجيش على نفسه وجعله يعصي أمراءه ويصبح الخطر الرئيسي على الناس ومصدر البلاء. فكان الجند في ثورات مستمرة بين عامي 418 و446هـ، يطلبون عزل هذا الأمير أو تولية ذاك ولا يهدؤون إلا بأعطيات إضافية، فأفرغوا الخزينة وأضعفوا الأمراء.

سوء الأوضاع الاقتصادية والإدارية: فقد تركت سياسة البويهيين المالية الفاشلة آثارها في الزراعة والتجارة، وأدت إلى انحطاط مستوى المعيشة سواء في الأرياف أو المدن، فقد فرض على الفلاحين في العصر البويهي الكثير من الضرائب العالية، وعانوا من ضعف الرقابة على الجباة ومن سوء نظام الري، فسياسة معز الدولة سواء في الإقطاع العسكري أو في إعطاء الأراضي بالضمان لم ينتج منها إلا خراب الأراضي الزراعية، ولم تنج الأملاك الخاصة من الخراب، فقد أدى الظلم إلى انتشار نظام الإلجاء، وسرعان ما امتلك الأتراك ما ألجئ إليهم من الأرض، «وتملكوا البلاد واستعبدوا الناس»، واستمر ذلك إلى ما بعد القرن الرابع الهجري وشمل الشلل الاقتصادي المدن، فركد الإنتاج وانحط مستوى المعيشة فيها، فبغداد العظيمة الشهيرة بترفها وعمارتها، تدهورت للدرجة التي قال فيها المقدسي «فأما المدينة فخراب وهي كل يوم إلى وراء مع كثرة الفساد والفسق وجور السلطان». وإذا استثنيت بعض الفترات التي لا تتجاوز سنوات قلائل، لم نجد في البويهيين من تخلى عن صفة القائد العسكري المرتزق، وما كان اهتمامهم بحسن الحكم، ولكن باستغلاله.

وشهد عصر بني بويه تحولات اجتماعية كبيرة وتغيرات اقتصادية فازداد الفقر وانعدم الأمن بين صفوف الغالبية العظمى من الشعب، فنجم عن ذلك قيام بعض الحركات التي أوقعت الاضطراب والخلل في المجتمع، وكان أبرزها في العراق حركة العيّارين، ووسم معظم المؤرخين العيّارين باللصوصية وحب الفوضى والفساد، وكان ظهورهم وليد الفوضى السياسية والظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي.

المظاهر الحضارية في العصر البويهي

كان بنو بويه بعيدين عن الثقافة عامة وعن الثقافة العربية بوجه خاص، ولم يقتبسوها إلا اقتباساً في أجيالهم التالية، فحين جاء معز الدولة إلى بغداد وملكها احتاج إلى أن يترجم له كلام الوزير علي بن عيسى، وقد بقيت أسماء البويهيين فارسية (كخسرو ورستم وفيروز وكاليجار) على أن هذا لم يمنع نشوء طبقة من الكتّاب المشاهير في العربية تحت ظلهم كابن العميد الأب وزير ركن الدولة، والصاحب ابن عباد (القاسم بن إسماعيل) وزير مؤيد الدولة، وكان عضد الدولة محباً للفضلاء مشاركاً في عدة فنون، محباً للعلوم وأهلها مقرّباً لهم محسناً إليهم، وكان يجلس معهم ويعارضهم في المسائل، فقصده العلماء من كل بلد وصنفوا له الكتب ومنها «الإيضاح والتكملة» في النحو لأبي علي الفارسي و«الملكي في الطب» لأبي العباس المجوسي و«التاجي في التاريخ» لأبي إسحاق الصابئ، وكان يحب الشعر ويقوله وينقده ويعطي الشعراء ويؤثر مجالسة الأدباء على منادمة الأمراء، وقد قصده فحول الشعراء ومنهم أبو الطيب المتنبي، قدم عليه وهو بشيراز سنة 354هـ، وقصده أيضاً أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي، وكان من مشاهير شعراء بغداد.

وفي سنة 369هـ شرع عضد الدولة في عمارة بغداد، وكانت قد خربت بتوالي الفتن، فعمر مساجدها وأسواقها، وأدر الأموال على الأئمة والمؤذنين والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد، وأجرى الجرايات على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين والشعراء والنسابين والأطباء والمهندسين،وأمر ببناء بيمارستان مكان قصر الخلد في بغداد وببناء بيمارستان في شيراز، وكانت له ولحاشيته دور كتب مشهورة في بغداد وشيراز والري وأصبهان، وبنى شرف الدولة للفلكيين مرصداً في بغداد وكان من أشهر، العلماء في الفلك والرياضيات أبو الوفاء البوزجاني (ت 388هـ/998م). ومن المعروف أن الطبيب الفيلسوف ابن سينا وجد ملجأ لنفسه عند شمس الدولة بن فخر الدولة حاكم همذان وأصبهان.

ولئن شجع البويهيون ووزراؤهم الأدب والعلوم العربية إنهم في الوقت نفسه أظهروا اهتماماً بالأدب الفارسي الحديث ولاسيما في أجيالهم التالية، إلا أن أثرهم في تشجيع الأدب الفارسي لا يمكن مقارنته بأثر السامانيين الذين أفسحوا في المجال لغلبة اللغة الفارسية لتغدو لغة الكتابة، وشجعوا الشعراء الفرس على أن ينظموا شعرهم باللغة الفارسية التي انشقت عن لهجات محلية متعددة، فلما كتب الفردوسي الشهنامه، استطاع بعمله أن يحقق نصراً كبيراً للفارسية.

 

نجدة خماش

 

الموضوعات ذات الصلة:

 

السامانيون ـ  ابن عبّاد ـ ابن العميد (الأب) .

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ ابن الأثير، الكامل في التاريخ (دار الكتاب العربي، بيروت).

ـ ابن طباطبا، الفخري في الآداب السلطانية (دار بيروت للطباعة والنشر 1400هـ/1980م).

ـ ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (حيدر أباد 1358هـ).


التصنيف : التاريخ
النوع : أعلام ومشاهير
المجلد: المجلد الخامس
رقم الصفحة ضمن المجلد : 647
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 511
الكل : 31574946
اليوم : 9801

الفن الخام

الفن الخام   ظهرت فكرة الفن الخام art brut نحو عام 1945، ونسبت بدايته للفنان الفرنسي جان دوبوفِّيه Jean Dubuffet الذي عرّفه بالقول: «إنه نتاج مجموعة من الناس لا تملك ثقافة فنية، مما يجعل نتاجها، من كافة الجوانب، يمثِّل شخصيات مبدعيه، ولا تخضع هذه المجموعة لقواعد الفن المعروفة ولأسسه، وللتيارات والنزعات الفنية السائدة».
المزيد »