logo

logo

logo

logo

logo

العقاب والثواب في التربية

عقاب ثواب في تربيه

Punishment and reward in education - Punition et Récompense en éducation

العقاب والثواب في التربية

 

العقاب والثواب في التربية punishment and reward in education أسلوبان في التحكم بالسلوك عن طريق الألم واللذة، وقد يطلق عليهما أسماء أخرى مثل الترغيب والترهيب، والتعزيز الإيجابي والتعزيز السلبي والعقاب (الإيجابي والسلبي)، والجزاء والقصاص، والعصا والجزرة، وغير ذلك من الأساليب التي تتحكم بالسلوك بالقبول وبالرفض.

ويستخدم هذان الأسلوبان بعد قيام الفرد بسلوك ما، فإذا كان مُرضياً للمعلم أو المربي يتبعه بالثواب وإلا فالعقاب.

وهذا الربط والتناوب بين الأسلوبين شائع في معظم مظاهر الحياة بما فيها التربية الأسرية والتربية المدرسية، وأقل من ذلك في التربية غير المدرسية، أو العَرضية المستخدمة في تعليم الكبار، والتعلم من الحياة.

العقاب والثواب في تاريخ الإنسان:

استخدم الإنسان منذ القديم الثواب والعقاب في تدجين الحيوانات وتطويعها لتوفير غذائه وحاجاته الأخرى، واستخدم أساليب زاجرة لمنع الحيوانات الأليفة من القيام بأعمال لا تخدم أغراضه وحاجاته، كاستخدام العصا والسوط لتدريب الحيوان. كما سيطر الإنسان على سلوك غيره من الناس في عهود الرق والإقطاع، واستخدم في ذلك أسلوب العقاب القسري.

وفي عهود لاحقة خفف الإنسان من اللجوء إلى العقاب أو التهديد به، وزاد الاهتمام بالأساليب الجذابة في التحكم بالسلوك الإنساني والحيواني، وصار العقاب والثواب تقانة علمية في التحكم بالسلوك. واشتهر في هذا الميدان دوروف ومكارنكو Makarenko في الاتحاد السوڤييتي سابقاً، وسكنر[ر] Skinner في الولايات المتحدة الأمريكية الذي استخدم التعزيز وجداوله لهندسة السلوك وتقانته العلمية.

البعد النفسي للثواب والعقاب:

فسّر بعض علماء النفس الثواب والعقاب على الشكل الآتي:

يستخدم الثواب تعزيزاً للسلوك المرغوب فيه، والتعزيز نوعان: الإيجابي وهو يسهم في زيادة احتمال تكرار السلوك المرغوب بعد حدوثه أول مرة، وذلك بتقديم التشجيع والمكافأة بمقدار محدد وفوري. أما التعزيز السلبي فهو الذي يدل الإنسان على ما يجب عليه تجنبه وقلما يدله على ما يجب عليه عمله، أي إنه لا يكافئ السلوك المرغوب فيه، ولكنه يهدد بالعقوبة في حال المخالفة. وكذلك العقاب نوعان: الإيجابي وذلك عندما يقتنع الفرد المعاقب بخطئه ويتقبل عقوبته الفورية بقدر ذلك الخطأ. أما العقاب السلبي فهو يقع عندما لا يفهم الفرد لماذا يعاقب أو عندما يتأخر ذلك العقاب كثيراً أو يكون العقاب ليس بمقدار السلوك المعاقَب.

ويمكن تلخيص هذا التفسير كما في الجدول.

العلاقة بين التعزيز والعقاب ونتائجهما:

العملية إعطاء + سحب - النتيجة القورية
التعزيز الإيجابي (+) السلبي (-) +
العقاب الإيجابي (+) السلبي (-) -
الجدول

ويلاحظ من الجدول أن نتائج المعززين الإيجابي والسلبي دائماً إيجابية وتعلم ونمو، أما نتائج العقابين الإيجابي والسلبي فهي سلبية، وربما يكون للعقاب نتائج انفعالية تجعل الحيوان أو الإنسان يتجنب العمل حتى يتجنب العقاب أو يبقيه.

إن المكافآت أحسن أثراً من العقاب في تحسين التعلم، أما العقاب فهو يضعف التعلم بل يمحوه أحياناً. ولكن بعض أشكال العقاب قد تكون مفيدة في التعلم وخاصة عندما يقتنع المتعلم بها فالتوبيخ مثلاً قد تكون له آثار إيجابية في التعلم.

وهذا الشرح الرياضي يمكن إيضاحه بالمصطلحات الرياضية الأربعة الآتية:

1ـ التعزيز الإيجابي (+ ´ + = +)

2ـ التعزيز السلبي (- ´ - = +)

3ـ العقاب الإيجابي (+ ´ - = -)

4ـ العقاب السلبي (- ´ + = -)

ولكن هذه المصطلحات والاحتمالات لا تستخدم كثيراً لدى علماء النفس والمربين لأن الاحتمالات الأربعة تهوِّن الأمور الحياتية المعقدة، ولا تميز بين عملية التعزيز، والمثير المعزز، كما لاتبين الفرق بين التعزيز الفوري أو المباشر والتعزيز المؤجل، فقد يؤدي التعزيز إلى لذة فورية مباشرة، في الإدمانات على الكحول والتدخين والمخدرات، ولكن آثارها البعيدة أو المؤجلة قد تؤلم الشخص وأسرته ومجتمعه، وتؤدي إلى تدميره وتدمير أسرته، وعندها لا يصلح عمل المعلم أو المربي، ويحتاج المدمن إلى مؤسسات متخصصة في العلاج السلوكي والطبي والاجتماعي للتخلص من هذا الإدمان المدمر.

يطرح سكنر جداول التعزيز لضبط السلوك، ويربط التعزيز الإيجابي (الثواب) بالكرامة، ولذلك فإن إعطاء المعززات المستحقة للإنسان لا بد أن تكون مناسبة لعمله، ومن ثمّ لكرامته. كما يربط بين التعزيز السلبي والحرية أو (التحرر)، أو التخلص، لأن التحرر يعني التخلص من العوائق والصعوبات وإتاحة الفرصة للإنسان للخلاص من المصائب والآلام. ويستخلص سكنر أن الحرية المطلقة، يجب أن تتحول إلى حرية نسبية تتفق مع القيم والمصالح الاجتماعية.

ومازال الجدل قائماً حول ضرورة استخدام العقاب والثواب في التربية أو ترك استخدامهما، لأن الإنسان يجب أن يعمل الخير للخير بذاته، من دون انتظار منافعه أو مضاره، إذ (لا شكر على واجب). ومن الناحية الأخلاقية يجب أن يقوم الإنسان بأعمال الحق والخير والجمال؛ لأنها قيم راقية بذاتها لا ترتبط بالمنافع والملذات الخارجية.

أشكال تطبيق العقاب والثواب في التربية:

شرعت التربية، بعد انتشار علم التعلم، باستخدام تقانات ضبط السلوك بحيث تكون البيئة أكثر راحة وسعادة للمتعلمين، ولذلك زادت من الأساليب الجذابة، وقللت من الأساليب القهرية. فحسّنت المؤسسات التربوية من أساليب الثواب والعقاب، وأصدرت تعليمات في النظام الداخلي المركزي أو المدرسي. وفيها تضع المكافآت والعقوبات، في سلم متدرج بالشدة، ويختلف باختلاف الزمان والمكان والثقافة العامة في المجتمع وظروف البيئة، فقد يستخدم المعلم المكافآت بأشكال عدة منها المعنوية كالتشجيع الشفاهي أو الكتابي أو التكريم والتقدير الرمزي بالأوسمة وغيرها أو تربط المكافآت المعنوية بمكافآت وجوائز مادية وتقديرية من مال وهدايا، وقد يعلن اسم المتعلم المجيد في وسائل الإعلام كاللوحات المدرسية، أو المحلية من صحف وإذاعة وتلفزيون وشبكة إنترنت وفق الإمكانات المتوافرة.

يكثر استخدام الجوائز المادية في التعليم بالروضة، والمرحلة الأولى من التعليم الابتدائي والأساسي، وتتحوَّل إلى جوائز معنوية وشهادات تقدير رقمية، وشارات تكريم ورموز أخرى عدة تستخدم وفق الثقافة والبيئة المحلية وظروف المدرسة. وتتناقص الجوائز والمكافآت المادية والمعنوية مع الارتقاء في السلم التعليمي افتراضاً بأن الانتقال من نجاح إلى نجاح هو بحد ذاته متعة ولذة داخلية، ومن ثمّ تغذية راجعة[ر] إيجابية ينتقل فيها المتعلم المجيد من صعيد إلى صعيد أرقى، وهذا ما يشاهد لدى النابغين والمبدعين وكبار المتخصصين. ولكن إشاعة قيم الشهادة والتضحية قد يكون لها قوة عظيمة التكريم، لأن المضحي أو الشهيد ينال جزاءه ومكافآته بالآخرة، أو بعرض مآثره وصوره بالدنيا، ويذكر اسمه في وسائل الإعلام التي تحترم قيمة التضحية والشهادة، ويكرر تكريمه في المناسبات.

تنظم أشكال العقاب ضمن النظام الداخلي المركزي أو المدرسي، فقد تتدرج من التنبيه والتحذير الشفاهي إلى الكتابي، أو الحسم من علامات السلوك، وأحياناً من درجات الاختبارات الشفاهية أو الكتابية، وقد يتدرج إلى الفصل المؤقت أو الدائم من المدرسة، وهي أقصى العقوبات التي تحرم المتعلم من حقه في التعلم.

وقد يكون العقاب على شكل عمل إصلاحي، فالتوسيخ يعالج بالتنظيف، وكسر الزجاج يعالج بإصلاحه، والكتابة على المقعد أو الجدران يعالج بتنظيفها، أو يعالج بغرامات مادية للتعويض عن التخريب، وتحسين البيئة المدرسية، بأقل تدخل من السلطات العليا. ويستخدم العقاب في آخر الجهود المبذولة أو عند تفاقم الأمور، ولكن العقاب، قد يولّد سلوكاً انفعاليا،ً يقتل المبادرة عند الفرد أو سلوكاً عدوانياً يؤدي إلى الاستمرار في (دائرة الشرّ)، أي إن عدوان الفرد على الآخرين يسبب عنفاً وانتقاماً وثأراً، وإرهاباً لا ينتهي، لأن زيادة أحدهما يؤدي إلى زيادة الآخر.

ويحتاج المعلم الذي يضبط سلوك متعلميه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالأساليب اللطيفة إلى تعديل سلوك المتعلم نحو التعلم والنمو والرقي، أما المتعلم الذي يكره معلمه الظالم، فإنه يسيء إلى نفسه مرغماً، ويحاول الانتقام من المعلم بالذي يراه مناسباً وفق ظروفهما وقد ينقل هذا الكره إلى الرموز التي تقوم مقام المعلمين في المجتمع، كالشرطة ورجال الأمن، ولذلك تحرّم كثير من الدول استخدام العقاب البدني في البيت والمدرسة.

يفضل أن يتابع المعلم نتائج ممارسته للثواب والعقاب لدى كل متعلم فرد، إذ إن بعض التلاميذ قد يجد في عقاب المعلم له لذة ومتعة، لأنه صار «زعيماً» في جماعة الزملاء، أو امتلك حرية في التصرف، أو تصريفاً لطاقته ونشاطه الزائد، أو تأكيداً على أنه كان مظلوماً في عقاب المعلم، ولذلك فإن صفة العدالة ضرورية عند إعطاء الثواب أو العقاب، بحيث لا يكون الثواب رشوة أو دين عليه، أو العقاب ظلماً، وإذا أقنع المعلم تلميذه المعاقب بعدالة العقاب فقد يكون ذلك حافزاً للمتعلم على التفكير بخطئه، والاعتذار عنه، وقبول المعلم له، وهذا يعد ثواباً للمتعلم، وتأكيداً على العدالة في النظام، وطمأنينة من الأهل والمسؤولين المباشرين على التربية والتعليم.

وتحرّم الأنظمة الداخلية للتربية العقوبات الجسدية للمتعلمين، لأن ذلك يسيء إلى كرامتهم، ولكن المعلم قد يجد في استخدام العقوبات الجسدية تحكماً مؤقتاً بسلوك المتعلمين، إذ لايدوم طويلاً لأن المتعلمين المظلومين في العقوبات الجسدية، قد يلجؤون إلى الأهل الذين يلجؤون أنفسهم إلى الإدارة المدرسية أو التربوية أو ربما لسلطات أمنية إذا أدت العقوبة إلى عاهة في جسد المتعلم أو نفسيته، وهذا يؤدي إلى انتقال تطبيق العقوبة على المعلم الذي مارس العقوبات الجسدية خلافاً للنظام الداخلي. وفي الأدب ووسائل الإعلام كثير من الشواهد على بطلان الأساليب المنفرة في ضبط سلوك الإنسان الآخر، بل تهتم بجدوى الأساليب الجذابة، لأن نتائجه بعيدة المدى أفضل من نتائج الأساليب القهرية والقمعية والعقابية.

إرشادات لتطبيق العقاب والثواب في التربية:

يجب على المعلم أن ينظم بيئته المدرسية بحيث يعمل المتعلم ويرى نتيجة عمله فوراً، فالاهتمام بالعمل وعواقبه أو نتائجه هما أفضل خطوتين في التربية لكل من المتعلم والمعلم لأنهما تربطان بين العمل وتعزيزه بعد وقوعه، فإذا طلب من المتعلمين في درس الإملاء كتابة كلمات أو جمل مناسبة لمستواهم فيجب تقويمها فوراً، لأن صحة إجابة المتعلم الفورية تعزز وتدعم التعلم الصحيح، ويصدق هذا في جميع العصور وخاصة في عصر المعلومات، لأن معداتها الإلكترونية لا تقبل الخطأ في العمل بها، بل تتطلب الإتقان التام من دون أي خطأ.

ويراعي المربي الظروف الفردية عندما لا يطبق القوانين المدرسية الصارمة، فلا يمارس العقاب في بعض الظروف؛ لأن التربية فن وتقنية تمارس وفق قواعد مرنة يتغير تطبيقها وفق الظروف، والأهداف التربوية.

فخر الدين القلا

 الموضوعات ذات الصلة:

الانفعال ـ التعزيز في علم النفس ـ الحاسوب ـ سكنر ـ العدوان، المخدرات.

 مراجع للاستزادة:

 

ـ ليف غوردين، الثواب والعقاب في تربية الأطفال، ترجمة غسان نصر (دار معد، دمشق 1994).

ـ ب. ف. سكنر، تكنولوجيا السلوك الإنساني، ترجمة عبد القادر يوسف, سلسلة عالم المعرفة، رقم 32، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت، 1980).


التصنيف : تربية و علم نفس
المجلد: المجلد الثالث عشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 305
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1059
الكل : 56544201
اليوم : 51857

الإنكماش الإقتصادي

الانكماش الاقتصادي   الانكماش الاقتصادي deflation حالة تنتاب الحياة الاقتصادية نتيجة سياسة متعمدة في غالب الأحيان، يميل معها مستوى الطلب الكلي ليغدو أدنى من مستوى العرض الكلي، مما يؤدي إلى تقليص الفاعليات والتداول النقدي، وارتفاع قيمة العملة الوطنية وكلفة القروض، مع ميل مستوى الأسعار والأجور نحو الانخفاض. ومهما بدا هذا التعريف شاملاً فإنه لا يستطيع أن يحيط وحده بجميع أوجه الانكماش الاقتصادي. التطور التاريخي لمفهوم الانكماش إن مصطلح الانكماش حديث في الفكر الاقتصادي مثل مصطلح التضخم[ر] inflation. ففي المرحلة التي غلبت فيها المدرسة الكلاسيكية كان الانكماش ملحوظاً بوصفه نوعاً من الكساد الاقتصادي depression يحدث مؤقتاً بانتظار عودة التوازن العفوي بين العرض والطلب، أي بين الإنتاج والاستهلاك إلى حالته الطبيعية. لكن دخول الاقتصاد الرأسمالي في أزمات دورية منذ عام 1825 لفت النظر إلى ظاهرة الانكماش بوصفها وجهاً من أوجه الأزمة يظهر قبل الركود. وكان التضخم الذي لحظه الاقتصادي جان بودان في القرن السادس عشر قد غدا في القرن التاسع عشر مألوفاً. ولما دخل التضخم في الأدبيات الاقتصادية باسمه الإنكليزي المشار إليه أعلاه باتت كلمة الانكماش تعني عملية مقصودة لإزالة التضخم. وقد ارتبط مفهوم الانكماش بمفهوم التضخم ارتباطاً وثيقاً، لكنه بقي ارتباطاً وحيد الطرف، فالانكماش حلٌ للتضخم، في حين لا يقول أحد بأن الانكماش يجد حلّه في التضخم، بل في عودة التوازن. مع ذلك، فإن الانكماش حالة يمكن أن تصيب الاقتصاد على نحو عفوي. وهو يثير في الفكر الاقتصادي جملة من التعاريف، وتكمن صعوبة تحديده في طبيعته، وفي كونه مقصوداً أو غير مقصود، وخاصة عندما يختلط بغيره من الظواهر النقدية والاقتصادية. مهما يكن الأمر فإن الحدود التي يمكن حصر الانكماش فيها هي حدود العرض والطلب الكليين: كلما نزع الأول نحو الارتفاع نسبة إلى الثاني كان هناك انكماش، والعكس في التضخم، بغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى ذلك. ومن هنا أيضاً كان الانكماش أمراً ملحوظاً في كل الاقتصاديات، رأسمالية كانت أم اشتراكية أم نامية. ففي الرأسمالية يمكن ملاحظة الانكماش، مثلاً، عندما يفقد اقتصاد السوق توازنه بعد بلوغه نقطة التشغيل الكامل بمفهوم الاقتصادي البريطاني كينز Keynes، كما يظهر كلما ارتسمت علامات التشاؤم على الحياة الاقتصادية نتيجة لإلغاء احتمالات الربح أو الإفلاس في المشروعات أو تعطيل عوامل الإنتاج أو زيادة نفقات الإنتاج. وفي الاشتراكية، يظهر الانكماش نتيجة تحديد أهداف للخطط الاقتصادية قاصرة عن استخدام جميع الموارد المتاحة أو لأن الإنفاق الإجمالي أقل من قيمة الناتج الإجمالي. أما في البلدان النامية، فيمكن أن يظهر الانكماش ردة فعل للسياسة الهادفة إلى رفع معدلات التنمية بأساليب تضخمية، مما لا تستجيب له البنية الاقتصادية الاجتماعية، فيقع الانكماش. الانكماش والركود يختلف الانكماش عن الركود Stagnation في أن الأول، وإن اتسم بتباطؤ الفاعليات، ينتظم في مجموعة من التدابير التي من شأنها إعادة التوازن إلى الاقتصاد، أمّا الركود فهو حالة تجتاح الاقتصاد فيصاب بانخفاض الإنتاج فارتفاع الأسعار ووقوع البطالة، وتنعكس آثار  ذلك كله على الحياة الاجتماعية. وقد يختلط الركود بالتضخم فيدعى آنذاك بالركود التضخمي Stagflation وهي الحالة التي تسيطر اليوم على اقتصاديات الدول الرأسمالية، إذ يقترن التضخم النقدي بالركود الاقتصادي. وإذا كان الانكماش هو الوجه الآخر للتضخم، فإن الركود هو الوجه الآخر للازدهار Prospérité. لكن لابد من الإشارة أيضاً إلى أن الانكماش، حينما يستوطن، يؤدي إلى الركود ومن هنا جاءت بعض الالتباسات في تحديد كل منهما. الانكماش النقدي باستثناء بعض الحالات النادرة التي كانت تقع فيما يعرف بالاقتصاديات الاشتراكية، إذ قد يحصل الانكماش النقدي نتيجة لتقديرات خاطئة غير مقصودة تقلل من تدفقات الكتلة النقدية مقارنة بالتدفقات السلعية، فإن الانكماش النقدي لا يكون إلا نتيجة لسياسة نقدية متعمدة تهدف إلى تقليص الكتلة النقدية المتداولة وتصل إلى حدود ما يسمى بالبزل النقديPonction Monétaire. وهذا البزل النقدي هو بقصد كبح جماح الأسعار أو إجبارها على الانخفاض بفعل التقليص القسري للكتلة النقدية. وتملك الدولة، من أجل ذلك، عدداً من الوسائل أهمها: الإقلال من الإصدار النقدي وسحب بعض فئات العملة من التداول، مما يرفع، في كل الأحوال، من قيمة العملة الوطنية وينعكس في انخفاض الأسعار. وتقوم التغطية في ضبط الإصدار النقدي وتعريف الوحدة النقدية بطريقة سليمة لتحقيق الاستقرار النقدي. لذلك تحرص الدولة على هذه التغطية حرصها على استقرار أسعار عملتها. قامت بلجيكة في الأعوام 1944-1946 بعملية انكماشية جمدت بها الأوراق النقدية والحسابات المصرفية، وقد أدى ذلك إلى استقرار التداول النقدي وازدياد القوة الشرائية بنسبة نمو الإنتاج وإلى انخفاض الأسعار. وأجرت ألمانية الاتحادية عام 1948 إصلاحاً نقدياً حدّت به من التدفقات النقدية المرتفعة في اقتصادها بتحويل المارك، عملة الرايخ القديمة، إلى دوتش مارك بنسبة: 1 إلى 10. وتظهر العلاقة بين الكتلة النقدية والأسعار بسهولة: فالأسعار = الكتلة النقدية/ كتلة المنتجات أو نسبة الكتلة النقدية إلى كتلة المنتجات فإذا نقصت الكتلة النقدية (مع بقاء كتلة المنتجات على حالها) أدى ذلك إلى انخفاض الأسعار. لكن هذه السياسة الانكماشية ما كان لها أن تنجح، كما يقول ريمون بار، لولا أن بلجيكة استطاعت تحقيق استيرادات مكثفة سمحت بها موجوداتها من القطع الأجنبي (الدولار)، ولولا أن ألمانية كان عليها أن ترد إلى الشعب عملته. وسياسة الانكماش النقدي تنطوي كذلك على محاذير اجتماعية وخاصة ما له علاقة بخسارة المدينين وتقوية مركز المدخرين، وقد تعجز وحدها عن تخفيض الأسعار، وقد اعتمدت أمريكة على هذه السياسة، في عهد نيكسون في السبعينات، غير أن الحدّ من السيولة النقدية في الاقتصاد الأمريكي أدى إلى تقليص الفاعليات الاقتصادية واستمرار الأسعار في الارتفاع، نتيجة للتضخم الناجم عن زيادة الكلفة، وكان لابد من مزج التدابير النقدية المقترحة من مدرسة شيكاغو بتدابير أخرى. وتفرض سياسة الانكماش النقدي نفسها على البلدان النامية، بيد أن نمط الإنتاج الغالب في معظمها يملك آلية يستحيل معها تطبيق هذه السياسة لمعالجة التضخم، وهذا النمط نفسه ينتقص من مسألة التغطية ويضرب عرض الحائط بكل المعايير لدى إصداره النقدي المكشوف، فيخلق بذلك توترات تضخمية تجبر السلطات النقدية على السير في اتجاه سياسة معاكسة. إن ارتفاع أسعار السلع الضرورية والفاخرة في هذه البلدان، نتيجة لنقص الإنتاج من جهة وانخفاض قيمة العملة الوطنية من جهة أخرى، يحدث نوعاً من الادخار الإجباري بالكف عن الاستهلاك، لكنه ادخار يذهب جله إلى الاكتناز والمضاربات والمتاجرة بالعملات الأجنبية وتهريبها فيستشري التضخم، وبذلك تتبخر رغبات «التقشف» المعلنة. الانكماش التسليفي وهو جانب من سياسة متعمدة للتسليف تلجأ إليها الدولة من أجل توجيه عملية توافر النقود وتحقيق الأهداف الاقتصادية والمالية في مرحلة التضخم. وقد تلجأ الدولة إلى تحقيق نوع من التنمية من دون تضخم، يتسم معه الاعتدال في السياسة التسليفية بنوع من الانكماش. وأهم التدابير في إطار الانكماش التسليفي هو تحكم مصرف الإصدار بالسيولة النقدية ورفع كلفتها، تارة عن طريق سعر إعادة الحسم مما يجبر مصارف الودائع على رفع معدلات الحسم لديها والإبطاء  في العمليات التي من شأنها إيجاد وسائل الدفع وطوراً عن طريق منح الاعتمادات، وذلك بالتأثير في معدلات الفائدة في السوق المالية، وسلوك سياسة السوق المفتوحة open market فتبيع الدولة ما لديها من أوراق مالية تمتص بفضلها جزءاً من الودائع لدى البنوك مقلصة بذلك السيولة لدى هذه الأخيرة مما يحدّ من قدرتها على التسليف. وتعمد السلطات المالية إلى تدابير متممة منها تطبيق نظام الاحتياطي الإلزامي على المصارف، بحملها على إيداع نسبة من الأموال لدى المصرف المركزي معادلة لجزء من ودائع الزبائن، كما تفرض رقابة صارمة على السيولة النقدية يحظر بموجبها على المصارف تجاوز الاعتمادات، التي تمنحها، للمعدل الوسطي لمجموع المبالغ المودعة لديها. ويمكن أن يضاف إلى ذلك ترشيد تخصيص الاعتمادات للمشروعات وفئاتها بطريقة اصطفائية ومنع منح هذه الاعتمادات لغايات المضاربة، وذلك بتحديد سقف الاعتماد الممنوح لبعض المشروعات. وتلجأ أكثر الدول النامية إلى سياسة الانكماش التسليفي لمجابهة التضخم ومنها سياسة سعر الفائدة، لكن هذا الإجراء الأخير محكوم عموماً بأسعار الفائدة في الأسواق المالية الدولية. كما أن أسلوب التمويل بعجز الميزانية المنتشر في هذه الدول يستدعي الاقتراض من المصارف، إذ تلجأ الدولة إلى ذلك مقابل أذونات خزينة، وغالباً من دونها، مما يعرقل سياسة الانكماش ويفتح الباب لضدها. الانكماش في الإنفاق حين يقع الخلل بين حجم الإنتاج وحجم الإنفاق من تزايد هذا الأخير واتساع «الفجوة التضخمية»، تبدو سياسة الحدّ من الإنفاق الخاص والعام (حين لا يمكن زيادة الإنتاج) مسألة لابدّ من حلها وتأخذ الصور التالية: 1ـ في مجال الإنفاق الخاص: أول ما يخطر على البال هو تخفيض الأجور. والمعلوم أنه ليس لتخفيض الأجور والرواتب مكان واسع في الفكر الاقتصادي ولا هو مستحب في مراحل التطور الاقتصادي الاجتماعي. وأمام قضية ربط الأجور بالأسعار وتثبيت الأجور، وربط الأجور بالإنتاجية اختفت نغمة تخفيض الأجور. وقد يمكن تصور سياسة لتخفيض الأجور في الاقتصاديات الاشتراكية لدى زيادة فوائض الكميات المنتجة وانخفاض الأسعار. لكن هذا يبقى غير مستحب من الناحية النفسية، ولذلك تستعيض الدولة عن تخفيض الأجور بزيادة الضرائب لامتصاص القوة الشرائية الزائدة. وتفضل الضرائب الشخصية المباشرة بشرط أن تصيب جميع الدخول المعلنة التي كان من السهل التهرب من إعلانها. أما الضرائب غير المباشرة فهي، لاشك، تحدّ من الاستهلاك لكنها تؤدي أيضاً إلى ارتفاع الأسعار نتيجة ثقل عبئها، مما يقود إلى نوع آخر من التضخم. لذا فإن استعمال الضرائب غير المباشرة لا يكون على العموم مجدياً إلا إذا أصاب سلع الاستهلاك الترفي. 2ـ في مجال الإنفاق العام: تلجأ السلطات المعنية إلى السياسة الانكماشية في الموازنة العامة وذلك بالإقلال من النفقات من جهة وتحقيق وفر في الموازنة من جهة أخرى. وهو أمر يمكن أن ينجح في الاقتصاديات الرأسمالية والاشتراكية. أما في الاقتصاد المتخلف، والمعلوم هنا أن نسبة كبيرة من النفقات العامة الحكومية تميل إلى الارتفاع، كالرواتب والنفقات الإدارية والدفاعية والأمنية، فإن الحد من الإنفاق العام مهما تصدت له السلطات المعنية لا يذهب إلا إلى الإنفاق الاستثماري. ومن هنا كانت المفارقة؛ فالتنمية تتطلب زيادة في الإنفاق الحكومي لزيادة كمية المنتجات، والانكماش (التقشف) يعمل، بتخفيض هذا الإنفاق، على تخفيض إنتاج البضائع والخدمات الضرورية. ولذا كان لابد لهذه السياسة من أن تأخذ بالحسبان صعوبة تقليص النفقات والتعويض منها بالحصول على الموارد. ولا ينجح ذلك إلا في مرحلة يتهيأ فيها الاقتصاد المتخلف للانتعاش. وفي هذه البلدان المتخلفة ذاتها لابد لسياسة الانكماش في الإنفاق من أن تعمل على امتصاص القوة الشرائية الإضافية لدى ذوي الدخول العالية لردها إلى الدولة وتوجيهها نحو الاستثمار وزيادة التراكم. كما أن استقرار الأسعار، ولو بصورة نسبية، يبقى ضماناً لنجاح سياسة الانكماش في الإنفاق، إضافة إلى أن هذا الاستقرار يساعد على الاستقرار في أسعار الصرف وتحسين مركز البلد النسبي في التصدير. ومن ثم لابد من إخضاع أسعار الخدمات للمراقبة وإلا فإن الفعاليات الخدمية تنشط على حساب الفعاليات السلعية، مما يوجد خللاً يصعب إصلاحه، يسير في خط التضخم نفسه الذي يراد كبحه. الانكماش والاقتصاد الوطني درج الفكر الاقتصادي على دق ناقوس الخطر كلما سار الاقتصاد الوطني في طريق الانكماش. لأن الانكماش يؤدي إلى الكساد وهذا يحمل أسوأ العواقب على العمالة والفعاليات الاقتصادية. ولعل أكبر سابقة من هذا النوع كانت أزمة الثلاثينات (1929 وما بعدها). هذه الأزمة وضعت الفكر الاقتصادي أمام حالة من الانكماش أدت إلى الكساد إذ اجتاحت البطالة الولايات المتحدة وبريطانية وأكثر الدول الأوربية. مما دعا الاقتصاديين إلى التفكير بالوسائل الضرورية للخروج من الأزمة. أسهمت التدابير الكينزية إسهاماً تاريخياً حين طالبت برفع الأجور الاسمية لرفع مستوى الطلب الفعال، وحين اشتركت الدولة في هذا وفي حل مشكلة البطالة عن طريق زيادة الإنفاق الحكومي وتمويل عناصره، ولاسيما «التمويل بعجز الموازنة» إذ تخطت الاقتصاديات الرأسمالية أزمتها بفضل هذه التدابير منتقلة إلى مرحلة من الازدهار، ثم عاشت بعدها في نشوة زيادة الإنتاج والاقتراب من مستوى التشغيل الكامل حتى بداية السبعينات حين اندلعت الأزمة الرأسمالية الجديدة، وهي أزمة جديدة اجتمع فيها التضخم والركود، فكان من الطبيعي أمام الركود التضخمي أن تفقد التدابير الكينزية مسوغاتها، وأن تعود الرأسمالية إلى تدابيرها التقليدية (الكلاسيكية) لمعالجة التضخم بتوازن الموازنة والاستقرار النقدي وضغط الإنفاق، مكتشفة أهمية السياسة الانكماشية، أي أن تعود إلى تدابيرها التقليدية لمكافحة الركود ومن أهمها الاتجاه بقوة نحو الأسواق الخارجية وجبهات القتال لتصريف فائض الإنتاج ولاسيما فائض إنتاج «العهد الصناعي الثالث» الذي تمخضت عنه الأزمة نفسها. لكن التدابير الكينزية مازالت تجد تطبيقاتها في البلدان النامية والمنطقة العربية منها خاصة في شروط لم تخطر على بال كينز، مما يؤجج التضخم ويقضي على التضامن الاجتماعي في هذه البلدان، حيث العمالة ذات دلالات مختلفة عما هي عليه في البلاد الرأسمالية، يتعايش التضخم الجامح مع البطالة بمختلف صورها، ولكن ليس لأسباب انكماشية قادت إلى الركود، بل لأسباب تضخمية سابقة، هي على العموم من منشأ نقدي (تواتر الإصدار النقدي الكينزي بلا تغطية) ولوجود آلية تخريبية في نمط الإنتاج الغالب تعطل الفعاليات السلعية لصالح النشاطات الخدمية الطفيلية. ولذلك، فإن الإمعان في استعمال «الوسائل الكينزية»، لأنها أسهل الوسائل، يؤدي إلى توفير سيولة نقدية تفوق المقدرة الإنتاجية الحقيقية، مما يطلق التضخم ولا يسمح لأي سياسة انكماشية أن تعمل بأي حال من الأحوال. في هذه البلدان النامية لابد إذن من إحداث «الانعكاس» في الآلية المذكورة للتصدي بحزم للتضخم،) لأن البطالة في عوامل الإنتاج ليست بسبب الانكماش). ويجب أن تعمل سياسة الانكماش في هذه البلدان للتأثير في العرض والطلب الكلي معاً، ويكون ذلك حتماً بالحدّ من زيادة الكتلة النقدية للحدّ من جموح الطلب الاستهلاكي، وبالعمل على ساحة العرض لزيادة إنتاج السلع الزراعية والصناعية، وفي هذا المجال يجب إعادة هيكلة الجهاز الإنتاجي واتخاذ جميع التدابير للتركيز على زيادة الإنتاجية وتنمية الموارد. وهكذا يؤمل الحصول على توازن في مستوى معين من الأسعار يتعامل مع مستوى معين من الأجور والرواتب. إن عدم أخذ السياسة الانكماشية لمسألة الطلب الكلي في الحسبان هو كعدم مراعاة «سياسات التنمية بالتضخم» لقضية العرض الكلي في البلدان النامية. ولذا فإنه من أجل الحد من القوة الشرائية المتزايدة لابد من التعرض للريوع السهلة والأرباح الناشئة عن الوضع الاقتصادي الاجتماعي المتخلف ويكون ذلك بالضرائب المباشرة. إن تعقيم القوة الشرائية المتراكمة بين أيدي فئات المستغلين والمضاربين والعابثين بمؤسسات الدولة يستدعي توجيه الفوائض إلى حساب خاص في الخزينة يخصص لزيادة الإنتاج. إلى ذلك كله يضاف ما له علاقة بمراقبة الاستيراد والتصدير ومعدلات الصرف ومكافحة التهريب وتسرب العملات إلى الخارج. ولعل ذلك يستدعي بالضرورة تغيير نمط الإنتاج الغالب.    إسماعيل سفر   الموضوعات ذات الصلة:   التضخم.   مراجع للاستزادة:   ـ إسماعيل سفر، محددات السياسة الاقتصادية العربية المعاصرة (1983)، أزمة الرأسمالية وعاملها الخارجي (1984)، النظرية الكينزية والمأساة الاقتصادية ـ الاجتماعية (1985): منشورات جامعة الدولة بمونص (بلجيكة) مركز الدراسات والبحوث العربية (CERA). -PR.R. BARRE , Economie politique (PUF, Paris 1964).
المزيد »