logo

logo

logo

logo

logo

أنتاركتيكا (القارة القطبية الجنوبية)

انتاركتيكا (قاره قطبيه جنوبيه)

Antarctica (South Pole) - Antarctique (Pôle Sud )

أنتاركتيكا (القارة القطبية الجنوبية)

 

أنتاركتيكا Antarctica هي القارة القطبية الجنوبية المؤلفة من كتلة من اليابسة مغطاة بالجليد وبالثلوج الدائمة. وتعود تسميتها بالقارة القطبية الجنوبية إلى موقعها في المنطقة المحيطة بالقطب الجنوبي الذي يقع في أواسطها. ويطلق عليها بعضهم اسم القارة المتجمدة الجنوبية، وهذا يعود إلى كونها قارة متجمدة دائماً، لأن درجة الحرارة المتوسطة لا ترتفع فيها إلى ما فوق التجمد (الصفر المئوي) في أي فصل من فصول السنة.

تقع القارة جميعها تقريباً ضمن الدائرة العرضية 60 جنوباً حتى القطب الجنوبي عند نهايات المحيطات الكبرى الثلاثة (الهادئ والأطلسي والهندي) (الشكل 1)، بعيدة عن قارات العالم الجنوبية مسافات شاسعة، فهي تبتعد عن إفريقية[ر] 3600كم، وعن جزيرة تسمانية[ر] 2500كم، وعن القارة الأمريكية الجنوبية[ر] نحو 1000كم. وهي بخطوطها الكبرى تأخذ شكل دائرة تقريباً يراوح نصف قطرها بين 2200 - 2300كم، وتشغل مساحة تقدر بنحو 12.5 مليون كم2. ويصل طول شواطئها إلى نحو 28 ألف كم بما في ذلك من عتبات الجليد العائمة.

الكشف والسيادة على أجزائها

هناك جدل كثير في شأن الكاشف الفعلي للقارة القطبية الجنوبية. وتعدّ البعثة التي قادها الإنكليزي جيمس كوك بين عامي 1772 - 1775 البعثة الأولى الفعلية التي اقتربت من القارة الجنوبية عام 1773. وفي 30 كانون الثاني عام 1820م كشف الإنكليزي «برانسفيلد» الطرف الشمالي لشبه جزيرة القارة الجنوبية. وفي المدة بين 1820ـ1822 اقترب الروسي بلينغهاوزن منها، وتمكن من رؤية أطرافها، ووصل إلى المنطقة التي وصل إليها برانسفيلد، وفي أيلول عام 1823 كشف وِيدّل البحر الذي يحمل اسمه والذي يمتد جنوباً حتى خط العرض الجنوبي 74ْ من دون أن يتجمد.

وفي عام 1841 كشفت البعثة الإنكليزية بقيادة روس Ross البحر الذي حمل اسمه (بحر روس) والعتبة الجليدية (عتبة روس الجليدية). كما كشف روس الجبال الممتدة عبر القارة. وفي المدة من عام 1902 إلى 1904 قام الإنكليزي سكوت برحلة محلقاً بالمنطاد فوق جزء من القارة، فبلغ درجة عرض 82 درجة و17دقيقة جنوباً ثم عاود الانطلاق إلى قلب القارة القطبية في عام 1910 من محطة ماك موردو متجهاً نحو القطب الجنوبي. وفي يوم 14 كانون الأول عام 1911 استطاع النرويجي روالد أموندسن R.Amundsen بفريقه المؤلف من خمسة رجال أن يصل إلى القطب الجنوبي. وفي المدة بين 1911 و1914 استطاع الأسترالي دوغلاس ماوسون D.Mawson's أن يكشف الشواطئ المقابلة مباشرة لأسترالية.

وفي المدة من 1928 - 1948 قاد الأمريكي ريتشارد بيرد R.Byrd عدة بعثات أمريكية إلى القارة القطبية، حتى تمكن في بعثته الرابعة (1946 - 1948) من كشف معظم معالم القارة، حيث التقط من الطائرة ما يزيد على 70 ألف صورة جوية.

وتمكن البريطاني السير فيفيان فوش V.Fuchs في عامي 1957 - 1958 من عبور أرض القارة مسجلاً وصوله إلى القطب الجنوبي بتاريخ 12 كانون الثاني عام 1958. وفي المدة من 1957 إلى 1960 تمكن الكاشفون الأمريكان من التجوال في بقع مختلفة من القسم الغربي من القارة. وفي الوقت نفسه كان الكاشفون السوفييت يحاولون عبور القسم الشرقي من القارة (الشكل 2). ومنذ تلك الأيام لم تتوقف بعثات الكشف والدراسة عن التوجه إلى القارة القطبية الجنوبية، من دول مختلفة كبريطانية وفرنسة والنروج والاتحاد السوفييتي (سابقاً) والولايات المتحدة وأسترالية والتشيلي وغيرها.

ولقد بسطت كل دولة من الدول التي وجهت بعثات كاشفة نحو القارة الجنوبية، نفوذها على مناطق معينة، وأقامت في مناطق أخرى محطات أو مراكز تخصها، ومن تلك الدول: الولايات المتحدة وبريطانية وفرنسة والنروج وأسترالية والأرجنتين والاتحاد السوفيتي (سابقاً) وتشيلي ونيوزيلندة وبلجيكة واليابان وإفريقية الجنوبية وبولندة (الشكل 3).

تضاريس القارة وجيولوجيتها ومناخها

تتصف القارة القطبية الجنوبية بكثرة البروزات والخلجان في سواحلها، ومن أكبر تلك الخلجان، خليجا بحر روس وبحر وِيدّل، اللذان يتوغلان في القارة حتى يقل طولها أو عرضها عندهما إلى قرابة 1200كم. ويقسم هذان الخليجان القارة إلى قسمين، أحدهما غربي محدود المساحة، والآخر شرقي يؤلف نحو 75% من مجموع مساحة القارة. ويمتد على طول الحد الفاصل بين القسمين سلسلة جبلية هي الجبال العابرة للقارة القطبية الجنوبية (الشكل 4).

وتبدو القارة بشكل هضبتين مختلفتي الارتفاع. أما وسطي الارتفاع العام للقارة فهو بحدود 1900م (متوسط ارتفاع القسم الغربي 1240م، والقسم الشرقي 2590م). وأعلى قمة جبلية صخرية فيها هي قمة جبل فنسون (5140م) في جبال السوورث في برزخ جبال الحرس عند خط عرض 79ْ جنوباً، وطول 85ْ غرباً. ويبلغ ارتفاع القبعة الجليدية التي تغطي القارة 4720م في أعلى نقاطها في الجزء الشرقي، في حين لا ترتفع القبعة الجليدية في القسم الغربي إلى أكثر من 2250م. ونسبة أراضي القارة الخالية من الجليد محدودة جداً لا تزيد على 0.02% (2500كم2) من مساحة القارة، وتشمل بعض قمم الجبال الهَرَمية، المعروفة باسم نوناتاك Nunatak، كما في قمم أرض فيكتورية، وقمة جبل تاكاهي (112 درجة غرباً)، كما تشمل الشواطئ المنخفضة، ورأس آدار، وهاليت، وبعض الجزر. وهناك بعض الأودية الخالية من الجليد، كأودية تايلور ورايت، وفيكتورية، التي تضمحل فيها ألسنة الجليد الهابطة من القبعة الجليدية والجليديات المحلية، وتنتهي غالباً فيها بجرف شديد الانحدار. وتتصف الأودية بشكلها المعلفي المميز الذي يقترب من حرف U، وهي السمة المميزة للأودية الجليدية التي يوجد في قاعها الحصى والرمال التي وضعتها مياه الذوبان النادرة.

كانت القارة القطبية الجنوبية في تاريخ الأرض القديم جزءاً من قارة غوندوانة التي كانت تضم، إفريقية وقسماً من شبه الجزيرة العربية وأمريكة الجنوبية وأسترالية وشبه جزيرة الهند ثم انفصلت عنها منذ نحو 200 مليون سنة (أوائل الحقب الجيولوجي الثاني) متباعدة في حركة جنوبية لتستقر وفق شكلها الحالي وموضعها منذ أواخر الحقب الثالث. وتتركب على العموم من ركيزة صخرية قديمة من صخور الغنايس Gneiss والصخور الأخرى المتحولة التي تعرضت للالتواء في أزمنة ما قبل الكمبري، وفي العصر الديفوني من الحقب الأول أيضاً، ثم تعرضت فيما بعد لعملية تسوية شديدة، وتغطت بعدئذ برسوبات صخرية. ولقد تعرضت لنشاط اندفاعي أدى إلى تدفق الحمم البركانية عليها في العصر الجوراسي من الحقب الثاني. وشهدت القارة تصدعات كبيرة في الحقب الثالث سببت ظهور الجبال العابرة، والاندفاعات البركانية. وفي الحقب الرابع بدأ عهد الجليد الكبير القاري، الذي ما يزال مستمراً حتى اليوم.

المناخ

ومناخ القارة القطبية الجنوبية قطبي، فحرارتها منخفضة عادة إلى حد لا يستطيع الإنسان تحمله حتى في فصل الصيف إلا إذا حمى نفسه. ورياحها عاصفة دائمة تقريباً، وهطلها ثلجي في معظمه، مطري في أقله.

ويتركز قطب البرد الأرضي اليوم في القارة القطبية الجنوبية، إذ سجلت درجة حرارة مقدارها -88.3 درجة مئوية في محطة فوستوك السوفييتية في شهر آب عام 1960، في حين لم تسجل فيها درجة حرارة عظمى مطلقة تزيد على 12 درجة مئوية في أي جزء من أجزائها (12 درجة مئوية في شبه الجزيرة، +5.6 درجة مئوية في هاليت، +4 درجة مئوية في محطة ماك موردو). وممّا يدل على تجمدها الدائم أن المتوسط السنوي لدرجة الحرارة فيها يراوح بين -5 درجات مئوية عند الأطراف المجاورة لسواحل المحيطات حتى دون -55 درجة مئوية في شرقي القطب بنحو 1000كم، حيث محطة فوستوك الواقعة على ارتفاع 3500م، ومتوسط درجة حرارة شهر تموز فيها بحدود -70 درجة مئوية، وبالقرب من القطب -60 درجة مئوية، وتبلغ عند مستوى سطح البحر في محطة «ليتل أمريكة» الواقعة على العتبة الجليدية نحو -37 درجة مئوية، وفي محطة ميرني -17.4 درجة مئوية، في حين تكون بين 10 إلى 15 درجة مئوية في المجموعات الجزرية الشمالية (الشكل 5).

يسود القارة نظام ضغط جوي عال نسبياً، مع مرور بعض الأعاصير الجبهية فوق البحار الجنوبية متنقلة من الغرب إلى الشرق تجاه حواف القارة. ويكون اتجاه الرياح شرقياً. وتهب الرياح من الشرق والجنوب الشرقي إلى الجنوب والجنوب الغربي في الأجزاء الخارجية من القارة القطبية، ويكثر هبوب الرياح القادمة من الغرب على شبه الجزيرة. وتتباين سرعة الرياح من منطقة إلى أخرى، فتكون سرعتها معتدلة في أواسط القبعة (8م/ثا عند القطب)، وتتزايد بالاتجاه نحو الأطراف لتبلغ 22م/ثا عند الساحل، فإذا تجاوزت سرعة الرياح 10م/ثا فإنها تكنس الثلوج فتنخفض الرؤية.

والرطوبة المطلقة منخفضة جداً. فضغط بخار الماء لا يزيد على 0.003 مليبار. والرطوبة النسبية مرتفعة يقارب وسطيها 70%. ومن شدة البرد فإن الهطل يكون جميعه تقريباً على هيئة ثلوج. ولا يعرف المطر إلا في شمالي شبه الجزيرة. ولا تسمح الرياح الشديدة السرعة بتسجيل القيم الفعلية للهطل الثلجي، ولكن مع ذلك فإن التقديرات والقياسات كافة تعطي قيماً للهطل الثلجي بما يكافئه من هطل مطري بحدود 100 - 350 مم وسطياً، وإن كان يهبط في أواسط القبعة الجليدية إلى ما دون 70مم ويصل إلى نحو 400مم وسطياً في شبه الجزيرة، وإلى نحو 200 - 250مم في شواطئ القارة الأخرى. ومما يميز هذه القارة أيضاً عواصفها الثلجية التي تذهب بجزء من الثلج إلى البحار والجزء الآخر يتراكم ليؤلف الحقول الجليدية.

الغطاء الجليدي

القارة القطبية الجنوبية هي قارة الجليد، فيابسها تجلله قبعة هائلة من الجليد يصل أعلى ارتفاع لها إلى 4720م. وهذه القبعة الهائلة الامتداد والثخانة هي انعكاس لظروف المناخ الشديدة القسوة. وتشير التقديرات إلى أن ثخانة الغطاء الجليدي عموماً نحو 2000م، في حين تبلغ أكبر ثخانة تم قياسها 4335م على بعد 200كم إلى الشرق والجنوب الشرقي من بيرد.

ويتكون الجليد في القارة على نحو مستقر وثابت كما يظهر على شكل عتبات جليدية طافية ومتلاحمة مع الصخر من جهة البحر، والتي تتركز في فجوات البحار كما في عتبتي روس وفيلكنر، أو في الخلجان كعتبة إيمري، أو بين الجزر والقارة كعتبة غيتز وعتبة جورج السادس، أو أنها تمتد بين الجزر كعتبة الغرب وبين الرؤوس كعتبة الليدي نيونيس، أو بين هذه وتلك كعتبة لارسن. وتراوح الثخانة المتوسطة للعتبات الجليدية بين 200 - 500م. وقد دلت الأسبار على أن بنيتها مكونة من الأعلى إلى الأسفل: من 10 أمتار من الثلج وتحتها 10ـ 50 م من الثلج المتراص، ودون ذلك الجليد.

وفي المناطق الجبلية، كالجبال العابرة وغيرها، تنتشر جليديات محلية مشابهة لجليديات جبال الألب، يصل بعضها إلى البحر ممتداً فيه كلسان من الجليد الطافي. ومياه البحار المحيطة بالقارة تتعرض للتجمد شتاءً حتى الدائرة القطبية الجنوبية مؤلفة بذلك حقولاً جليدية تعرف بالبانكيز Banquise. وتشتمل القارة على بعض البحيرات المائية الصغيرة في الصيف، أكثرها اتساعاً بحيرة فاندا، وأعمقها بحيرة فيغورنوي، وأشدها ارتفاعاً بحيرة أوبرسي.

النبيت والوحيش

تتركز الحياة كلها تقريباً في القارة القطبية الجنوبية في البحر أو على هوامشه وأطرافه. فالبحر وهوامشه غنيان بالبلانكتون (نباتات وحيوانات مجهرية مائية). وفي البحار قريباً من شواطئها تكثرالطحالب. وفيما بين سطح الماء وعمق 4م قليل من اللافقاريات، التي تزداد عدداً وحجماً بين عمقي 4 - 200م. وقد تم إحصاء أنواع كثيرة من الديدان الحلقية، والإسفنجيات، والقشريات وخاصة الجنس إيفوزيا Euphausia الذي يتغذى بالبلانكتون مؤلفاً بذلك غذاء للأسماك والحيتان، وتوجد كذلك أنواع من الرخويات (المحار). يضاف إلى ما تقدم أنواع كثيرة من الأسماك الشاطئية (قرابة 66نوعاً). وتعد الحيتان والفقمة (عجول البحر) وسباع البحر otary من أهم حيوانات البحار القطبية الجنوبية.

والحياة على بر القارة الجنوبية أقل وفرة مما هي في مياهها. فبالإضافة إلى الطحالب والفطور العليا، توجد الأشنيات والكبديات، وهي نباتات قريبة الشبه بالطحالب. وتقل النباتات ذوات الجذور كثيراً فلا يوجد منها سوى نوعين، أحدهما نوع من الحبوب، والآخر نوع من القرنفل الصغير. كما لا يوجد في القارة الجنوبية أي نوع من الثدييات أو الزواحف. ولكنها غنية نسبياً بالحشرات، ففيها 22 نوعاً منها. يضاف إلى ذلك أنواع متعددة من الطيور التي تعيش على هوامش القارة وفوق حقول الجليد (البانكيز)، وتعتمد في غذائها على البحر، ومن أهم أنواع الطيور البطريق eudyptula والمانشو وضامة الكاب، وطيور السكووا skua، إضافة إلى أكثر من مئة نوع آخر من الطيور، بعضها مستقر، والآخر فصلي مهاجر.

محطات الإقامة الدائمة للعاملين في القارة

يعدّ عام 1904 تاريخ إنشاء أول محطة دائمة للعاملين في القارة، وهي التي أنشأها الأرجنتينيون في جزيرة لوريا من جزر أوركاد Orcad الجنوب. ومنذ عام 1942 حتى عام 1955 تأسست في شبه جزيرة القارة 21 محطة تخص الأرجنتين وبريطانية والتشيلي. وفي عام 1958 كان على أرض القارة المتجمدة 41 محطة دائمة تقوم 11 دولة على رعايتها. وتقهقر هذا العدد إلى 35 محطة بين عامي 1962 - 1965، ثم أخذ بالتزايد فيما بعد. وهذا يعني حدوث استقرار دائم لعدد محدود من الناس، بلغ 17 شخصاً في عام1942 و79 شخصاً في عام1950 و902 في عام 1958 و800 شخص في عام 1965 من جنسيات مختلفة (أمريكية وسوفييتية وبريطانية وأرجنتينية وتشيلية وفرنسية وغيرها). وهنالك أعداد أخرى من المحطات الفصلية المؤقتة وقد وصل عددها إلى 40 محطة عام 2000. ويتركز معظم المحطات في الأجزاء القريبة من ساحل البحر، وخاصة غربي القارة. وتعدّ الزحافات التي تجرها الكلاب أهم وسيلة نقل فوق جليد القارة. وإن كانت تستخدم في هذه الأيام العربات المجنزرة، والدراجات النارية المزودة بسلاسل، والطائرات، والزحافات ذات المحرك النفاث.

أهمية القارة ومستقبلها

تعد القارة مصدر الكثير من الموارد الأساسية في المستقبل لسكان القارات الأخرى. إذ يمكن أن تؤلف أحد مصادر استخراج الصادات (مضادات الحيوية) المتركزة في النباتات المجهرية البحرية. وهي تحتوي على ثروة معدنية وافرة لم يكشف بعد إلا القليل منها كالأورانيوم والنحاس وقليل من الفحم. وتكمن أهميتها أيضاً في جبالها الجليدية المصدر الاحتياطي للمياه العذبة، وفي رياحها التي هي مصدر لتوليد الكهرباء، وفي جليدها الذي يجعل منها برّاداً طبيعياً لحفظ الأغذية. وهي بلا شك أرض خصبة للأبحاث الأساسية في علوم المناخ والجليديات والمحيطات وغيرها. ويتوقف مستقبل هذه القارة على درجة الاتفاق بين الدول التي وطئت أرضها أقدام أبنائها. ومدى إمكان تدويلها وجعلها قارة محبة وسلام.

أقامت 12 دولة قواعد لها في القارة القطبية الجنوبية والجزر البعيدة عن الشاطئ. وشاركت الولايات المتحدة الأمريكية مشاركة فعّالة بقواعدها. ونظمت حملة بحرية أمريكية في تشرين الثاني عام 1955 لإقامة قواعد علمية على خليج الويلز Bay of Whales. كما أسست الأرجنتين قاعدة بلغرانو Belgrano Base  على الرصيف الجليدي في فلشنر Filchner Ice Shelf في عامي 1954ـ 1955 إضافة إلى عمليات طيرانية نحو جنوب هذه المنطقة المعروفة. وأقام الفرنسيون قاعدة على شاطئ أديلي Adelie Coast، بينما أقام اليابانيون قاعدة البرنس أولاف Prince Olav Coast، وأقام البلجيكيون محطة العام الجيوفيزيائي العالمي IGY في قاعدة كوين مود لاند Queen Maud Land في حين أنشأ النروجيون محطاتهم نحو الداخل من شاطئ برنس مارثاكوست Prince Martha Coast. وأنشئت المحطة النيوزيلندية - الاسكتلندية في موقع برام Pram Point في جزيرة روْس Ross Island في كانون الثاني عام 1957. وجدد الروس اهتمامهم في البحر القطبي الجنوبي فأرسلوا سفينة لقاعدتهم ميرني Mirnny على شاطئ كوين ماري Queen Mary وقاعدة ذات موقع متقدم تدعى بيونيرسكايا Pionerskaya، وأعاد الأستراليون تزويد القاعدة ماوسون.

وقام برنامج العام الجيوفيزيائي العالمي في31 كانون الأول من عام 1958 بوساطة فريق عالمي وهو لجنة البحث الخاصة؛ على القارة القطبية الجنوبية لمتابعة مظاهر متعددة من البحث. فقامت بعض الدول بإنقاص أنشطتها وأوقفت دول أخرى الاشتراك وزادت أخرى من جهودها العالمية.

وفي نهاية عام 1966 قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتزويد محطات مثل: محطة القطب الجنوبي، ومحطة بيرد Byrd، ومحطة ايتو Eighto ومحطة بلاتو Plateau، ومحطة بالمر  Palmer بما يلزم من تجهيزات. وذلك من أجل إجراء دراسات أوقيانوغرافية وبيولوجية على جزيرة أنفرس Anvers Island. ومنذ عام 1962 تقوم القاعدة القومية العلمية بإجراء بحث أوقيانوغرافي وبحث يتعلق بالغلاف الأيوني من المخبر العلمي العائم.

 

علي موسى

 

الموضوعات ذات الصلة

 

الأوزون - الأطلسي (المحيط ـ) - الهادئ (المحيط ـ) - الهندي (المحيط ـ) - المناخ (علم ـ).

 

مراجع للاستزادة

 

ـ علي موسى وعبد الهادي سعيد، جغرافية القارة القطبية الجنوبية (دمشق 1976).

- A.CAILLEUX, «L'Antarctique», Que sais- je, No.1249 (Paris 1967).

- F.DEBENHAM. Antarctica (London 1959).


التصنيف : التاريخ و الجغرافية و الآثار
المجلد: المجلد الثالث
رقم الصفحة ضمن المجلد : 734
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1095
الكل : 40569897
اليوم : 99712

الإنكماش الإقتصادي

الانكماش الاقتصادي   الانكماش الاقتصادي deflation حالة تنتاب الحياة الاقتصادية نتيجة سياسة متعمدة في غالب الأحيان، يميل معها مستوى الطلب الكلي ليغدو أدنى من مستوى العرض الكلي، مما يؤدي إلى تقليص الفاعليات والتداول النقدي، وارتفاع قيمة العملة الوطنية وكلفة القروض، مع ميل مستوى الأسعار والأجور نحو الانخفاض. ومهما بدا هذا التعريف شاملاً فإنه لا يستطيع أن يحيط وحده بجميع أوجه الانكماش الاقتصادي. التطور التاريخي لمفهوم الانكماش إن مصطلح الانكماش حديث في الفكر الاقتصادي مثل مصطلح التضخم[ر] inflation. ففي المرحلة التي غلبت فيها المدرسة الكلاسيكية كان الانكماش ملحوظاً بوصفه نوعاً من الكساد الاقتصادي depression يحدث مؤقتاً بانتظار عودة التوازن العفوي بين العرض والطلب، أي بين الإنتاج والاستهلاك إلى حالته الطبيعية. لكن دخول الاقتصاد الرأسمالي في أزمات دورية منذ عام 1825 لفت النظر إلى ظاهرة الانكماش بوصفها وجهاً من أوجه الأزمة يظهر قبل الركود. وكان التضخم الذي لحظه الاقتصادي جان بودان في القرن السادس عشر قد غدا في القرن التاسع عشر مألوفاً. ولما دخل التضخم في الأدبيات الاقتصادية باسمه الإنكليزي المشار إليه أعلاه باتت كلمة الانكماش تعني عملية مقصودة لإزالة التضخم. وقد ارتبط مفهوم الانكماش بمفهوم التضخم ارتباطاً وثيقاً، لكنه بقي ارتباطاً وحيد الطرف، فالانكماش حلٌ للتضخم، في حين لا يقول أحد بأن الانكماش يجد حلّه في التضخم، بل في عودة التوازن. مع ذلك، فإن الانكماش حالة يمكن أن تصيب الاقتصاد على نحو عفوي. وهو يثير في الفكر الاقتصادي جملة من التعاريف، وتكمن صعوبة تحديده في طبيعته، وفي كونه مقصوداً أو غير مقصود، وخاصة عندما يختلط بغيره من الظواهر النقدية والاقتصادية. مهما يكن الأمر فإن الحدود التي يمكن حصر الانكماش فيها هي حدود العرض والطلب الكليين: كلما نزع الأول نحو الارتفاع نسبة إلى الثاني كان هناك انكماش، والعكس في التضخم، بغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى ذلك. ومن هنا أيضاً كان الانكماش أمراً ملحوظاً في كل الاقتصاديات، رأسمالية كانت أم اشتراكية أم نامية. ففي الرأسمالية يمكن ملاحظة الانكماش، مثلاً، عندما يفقد اقتصاد السوق توازنه بعد بلوغه نقطة التشغيل الكامل بمفهوم الاقتصادي البريطاني كينز Keynes، كما يظهر كلما ارتسمت علامات التشاؤم على الحياة الاقتصادية نتيجة لإلغاء احتمالات الربح أو الإفلاس في المشروعات أو تعطيل عوامل الإنتاج أو زيادة نفقات الإنتاج. وفي الاشتراكية، يظهر الانكماش نتيجة تحديد أهداف للخطط الاقتصادية قاصرة عن استخدام جميع الموارد المتاحة أو لأن الإنفاق الإجمالي أقل من قيمة الناتج الإجمالي. أما في البلدان النامية، فيمكن أن يظهر الانكماش ردة فعل للسياسة الهادفة إلى رفع معدلات التنمية بأساليب تضخمية، مما لا تستجيب له البنية الاقتصادية الاجتماعية، فيقع الانكماش. الانكماش والركود يختلف الانكماش عن الركود Stagnation في أن الأول، وإن اتسم بتباطؤ الفاعليات، ينتظم في مجموعة من التدابير التي من شأنها إعادة التوازن إلى الاقتصاد، أمّا الركود فهو حالة تجتاح الاقتصاد فيصاب بانخفاض الإنتاج فارتفاع الأسعار ووقوع البطالة، وتنعكس آثار  ذلك كله على الحياة الاجتماعية. وقد يختلط الركود بالتضخم فيدعى آنذاك بالركود التضخمي Stagflation وهي الحالة التي تسيطر اليوم على اقتصاديات الدول الرأسمالية، إذ يقترن التضخم النقدي بالركود الاقتصادي. وإذا كان الانكماش هو الوجه الآخر للتضخم، فإن الركود هو الوجه الآخر للازدهار Prospérité. لكن لابد من الإشارة أيضاً إلى أن الانكماش، حينما يستوطن، يؤدي إلى الركود ومن هنا جاءت بعض الالتباسات في تحديد كل منهما. الانكماش النقدي باستثناء بعض الحالات النادرة التي كانت تقع فيما يعرف بالاقتصاديات الاشتراكية، إذ قد يحصل الانكماش النقدي نتيجة لتقديرات خاطئة غير مقصودة تقلل من تدفقات الكتلة النقدية مقارنة بالتدفقات السلعية، فإن الانكماش النقدي لا يكون إلا نتيجة لسياسة نقدية متعمدة تهدف إلى تقليص الكتلة النقدية المتداولة وتصل إلى حدود ما يسمى بالبزل النقديPonction Monétaire. وهذا البزل النقدي هو بقصد كبح جماح الأسعار أو إجبارها على الانخفاض بفعل التقليص القسري للكتلة النقدية. وتملك الدولة، من أجل ذلك، عدداً من الوسائل أهمها: الإقلال من الإصدار النقدي وسحب بعض فئات العملة من التداول، مما يرفع، في كل الأحوال، من قيمة العملة الوطنية وينعكس في انخفاض الأسعار. وتقوم التغطية في ضبط الإصدار النقدي وتعريف الوحدة النقدية بطريقة سليمة لتحقيق الاستقرار النقدي. لذلك تحرص الدولة على هذه التغطية حرصها على استقرار أسعار عملتها. قامت بلجيكة في الأعوام 1944-1946 بعملية انكماشية جمدت بها الأوراق النقدية والحسابات المصرفية، وقد أدى ذلك إلى استقرار التداول النقدي وازدياد القوة الشرائية بنسبة نمو الإنتاج وإلى انخفاض الأسعار. وأجرت ألمانية الاتحادية عام 1948 إصلاحاً نقدياً حدّت به من التدفقات النقدية المرتفعة في اقتصادها بتحويل المارك، عملة الرايخ القديمة، إلى دوتش مارك بنسبة: 1 إلى 10. وتظهر العلاقة بين الكتلة النقدية والأسعار بسهولة: فالأسعار = الكتلة النقدية/ كتلة المنتجات أو نسبة الكتلة النقدية إلى كتلة المنتجات فإذا نقصت الكتلة النقدية (مع بقاء كتلة المنتجات على حالها) أدى ذلك إلى انخفاض الأسعار. لكن هذه السياسة الانكماشية ما كان لها أن تنجح، كما يقول ريمون بار، لولا أن بلجيكة استطاعت تحقيق استيرادات مكثفة سمحت بها موجوداتها من القطع الأجنبي (الدولار)، ولولا أن ألمانية كان عليها أن ترد إلى الشعب عملته. وسياسة الانكماش النقدي تنطوي كذلك على محاذير اجتماعية وخاصة ما له علاقة بخسارة المدينين وتقوية مركز المدخرين، وقد تعجز وحدها عن تخفيض الأسعار، وقد اعتمدت أمريكة على هذه السياسة، في عهد نيكسون في السبعينات، غير أن الحدّ من السيولة النقدية في الاقتصاد الأمريكي أدى إلى تقليص الفاعليات الاقتصادية واستمرار الأسعار في الارتفاع، نتيجة للتضخم الناجم عن زيادة الكلفة، وكان لابد من مزج التدابير النقدية المقترحة من مدرسة شيكاغو بتدابير أخرى. وتفرض سياسة الانكماش النقدي نفسها على البلدان النامية، بيد أن نمط الإنتاج الغالب في معظمها يملك آلية يستحيل معها تطبيق هذه السياسة لمعالجة التضخم، وهذا النمط نفسه ينتقص من مسألة التغطية ويضرب عرض الحائط بكل المعايير لدى إصداره النقدي المكشوف، فيخلق بذلك توترات تضخمية تجبر السلطات النقدية على السير في اتجاه سياسة معاكسة. إن ارتفاع أسعار السلع الضرورية والفاخرة في هذه البلدان، نتيجة لنقص الإنتاج من جهة وانخفاض قيمة العملة الوطنية من جهة أخرى، يحدث نوعاً من الادخار الإجباري بالكف عن الاستهلاك، لكنه ادخار يذهب جله إلى الاكتناز والمضاربات والمتاجرة بالعملات الأجنبية وتهريبها فيستشري التضخم، وبذلك تتبخر رغبات «التقشف» المعلنة. الانكماش التسليفي وهو جانب من سياسة متعمدة للتسليف تلجأ إليها الدولة من أجل توجيه عملية توافر النقود وتحقيق الأهداف الاقتصادية والمالية في مرحلة التضخم. وقد تلجأ الدولة إلى تحقيق نوع من التنمية من دون تضخم، يتسم معه الاعتدال في السياسة التسليفية بنوع من الانكماش. وأهم التدابير في إطار الانكماش التسليفي هو تحكم مصرف الإصدار بالسيولة النقدية ورفع كلفتها، تارة عن طريق سعر إعادة الحسم مما يجبر مصارف الودائع على رفع معدلات الحسم لديها والإبطاء  في العمليات التي من شأنها إيجاد وسائل الدفع وطوراً عن طريق منح الاعتمادات، وذلك بالتأثير في معدلات الفائدة في السوق المالية، وسلوك سياسة السوق المفتوحة open market فتبيع الدولة ما لديها من أوراق مالية تمتص بفضلها جزءاً من الودائع لدى البنوك مقلصة بذلك السيولة لدى هذه الأخيرة مما يحدّ من قدرتها على التسليف. وتعمد السلطات المالية إلى تدابير متممة منها تطبيق نظام الاحتياطي الإلزامي على المصارف، بحملها على إيداع نسبة من الأموال لدى المصرف المركزي معادلة لجزء من ودائع الزبائن، كما تفرض رقابة صارمة على السيولة النقدية يحظر بموجبها على المصارف تجاوز الاعتمادات، التي تمنحها، للمعدل الوسطي لمجموع المبالغ المودعة لديها. ويمكن أن يضاف إلى ذلك ترشيد تخصيص الاعتمادات للمشروعات وفئاتها بطريقة اصطفائية ومنع منح هذه الاعتمادات لغايات المضاربة، وذلك بتحديد سقف الاعتماد الممنوح لبعض المشروعات. وتلجأ أكثر الدول النامية إلى سياسة الانكماش التسليفي لمجابهة التضخم ومنها سياسة سعر الفائدة، لكن هذا الإجراء الأخير محكوم عموماً بأسعار الفائدة في الأسواق المالية الدولية. كما أن أسلوب التمويل بعجز الميزانية المنتشر في هذه الدول يستدعي الاقتراض من المصارف، إذ تلجأ الدولة إلى ذلك مقابل أذونات خزينة، وغالباً من دونها، مما يعرقل سياسة الانكماش ويفتح الباب لضدها. الانكماش في الإنفاق حين يقع الخلل بين حجم الإنتاج وحجم الإنفاق من تزايد هذا الأخير واتساع «الفجوة التضخمية»، تبدو سياسة الحدّ من الإنفاق الخاص والعام (حين لا يمكن زيادة الإنتاج) مسألة لابدّ من حلها وتأخذ الصور التالية: 1ـ في مجال الإنفاق الخاص: أول ما يخطر على البال هو تخفيض الأجور. والمعلوم أنه ليس لتخفيض الأجور والرواتب مكان واسع في الفكر الاقتصادي ولا هو مستحب في مراحل التطور الاقتصادي الاجتماعي. وأمام قضية ربط الأجور بالأسعار وتثبيت الأجور، وربط الأجور بالإنتاجية اختفت نغمة تخفيض الأجور. وقد يمكن تصور سياسة لتخفيض الأجور في الاقتصاديات الاشتراكية لدى زيادة فوائض الكميات المنتجة وانخفاض الأسعار. لكن هذا يبقى غير مستحب من الناحية النفسية، ولذلك تستعيض الدولة عن تخفيض الأجور بزيادة الضرائب لامتصاص القوة الشرائية الزائدة. وتفضل الضرائب الشخصية المباشرة بشرط أن تصيب جميع الدخول المعلنة التي كان من السهل التهرب من إعلانها. أما الضرائب غير المباشرة فهي، لاشك، تحدّ من الاستهلاك لكنها تؤدي أيضاً إلى ارتفاع الأسعار نتيجة ثقل عبئها، مما يقود إلى نوع آخر من التضخم. لذا فإن استعمال الضرائب غير المباشرة لا يكون على العموم مجدياً إلا إذا أصاب سلع الاستهلاك الترفي. 2ـ في مجال الإنفاق العام: تلجأ السلطات المعنية إلى السياسة الانكماشية في الموازنة العامة وذلك بالإقلال من النفقات من جهة وتحقيق وفر في الموازنة من جهة أخرى. وهو أمر يمكن أن ينجح في الاقتصاديات الرأسمالية والاشتراكية. أما في الاقتصاد المتخلف، والمعلوم هنا أن نسبة كبيرة من النفقات العامة الحكومية تميل إلى الارتفاع، كالرواتب والنفقات الإدارية والدفاعية والأمنية، فإن الحد من الإنفاق العام مهما تصدت له السلطات المعنية لا يذهب إلا إلى الإنفاق الاستثماري. ومن هنا كانت المفارقة؛ فالتنمية تتطلب زيادة في الإنفاق الحكومي لزيادة كمية المنتجات، والانكماش (التقشف) يعمل، بتخفيض هذا الإنفاق، على تخفيض إنتاج البضائع والخدمات الضرورية. ولذا كان لابد لهذه السياسة من أن تأخذ بالحسبان صعوبة تقليص النفقات والتعويض منها بالحصول على الموارد. ولا ينجح ذلك إلا في مرحلة يتهيأ فيها الاقتصاد المتخلف للانتعاش. وفي هذه البلدان المتخلفة ذاتها لابد لسياسة الانكماش في الإنفاق من أن تعمل على امتصاص القوة الشرائية الإضافية لدى ذوي الدخول العالية لردها إلى الدولة وتوجيهها نحو الاستثمار وزيادة التراكم. كما أن استقرار الأسعار، ولو بصورة نسبية، يبقى ضماناً لنجاح سياسة الانكماش في الإنفاق، إضافة إلى أن هذا الاستقرار يساعد على الاستقرار في أسعار الصرف وتحسين مركز البلد النسبي في التصدير. ومن ثم لابد من إخضاع أسعار الخدمات للمراقبة وإلا فإن الفعاليات الخدمية تنشط على حساب الفعاليات السلعية، مما يوجد خللاً يصعب إصلاحه، يسير في خط التضخم نفسه الذي يراد كبحه. الانكماش والاقتصاد الوطني درج الفكر الاقتصادي على دق ناقوس الخطر كلما سار الاقتصاد الوطني في طريق الانكماش. لأن الانكماش يؤدي إلى الكساد وهذا يحمل أسوأ العواقب على العمالة والفعاليات الاقتصادية. ولعل أكبر سابقة من هذا النوع كانت أزمة الثلاثينات (1929 وما بعدها). هذه الأزمة وضعت الفكر الاقتصادي أمام حالة من الانكماش أدت إلى الكساد إذ اجتاحت البطالة الولايات المتحدة وبريطانية وأكثر الدول الأوربية. مما دعا الاقتصاديين إلى التفكير بالوسائل الضرورية للخروج من الأزمة. أسهمت التدابير الكينزية إسهاماً تاريخياً حين طالبت برفع الأجور الاسمية لرفع مستوى الطلب الفعال، وحين اشتركت الدولة في هذا وفي حل مشكلة البطالة عن طريق زيادة الإنفاق الحكومي وتمويل عناصره، ولاسيما «التمويل بعجز الموازنة» إذ تخطت الاقتصاديات الرأسمالية أزمتها بفضل هذه التدابير منتقلة إلى مرحلة من الازدهار، ثم عاشت بعدها في نشوة زيادة الإنتاج والاقتراب من مستوى التشغيل الكامل حتى بداية السبعينات حين اندلعت الأزمة الرأسمالية الجديدة، وهي أزمة جديدة اجتمع فيها التضخم والركود، فكان من الطبيعي أمام الركود التضخمي أن تفقد التدابير الكينزية مسوغاتها، وأن تعود الرأسمالية إلى تدابيرها التقليدية (الكلاسيكية) لمعالجة التضخم بتوازن الموازنة والاستقرار النقدي وضغط الإنفاق، مكتشفة أهمية السياسة الانكماشية، أي أن تعود إلى تدابيرها التقليدية لمكافحة الركود ومن أهمها الاتجاه بقوة نحو الأسواق الخارجية وجبهات القتال لتصريف فائض الإنتاج ولاسيما فائض إنتاج «العهد الصناعي الثالث» الذي تمخضت عنه الأزمة نفسها. لكن التدابير الكينزية مازالت تجد تطبيقاتها في البلدان النامية والمنطقة العربية منها خاصة في شروط لم تخطر على بال كينز، مما يؤجج التضخم ويقضي على التضامن الاجتماعي في هذه البلدان، حيث العمالة ذات دلالات مختلفة عما هي عليه في البلاد الرأسمالية، يتعايش التضخم الجامح مع البطالة بمختلف صورها، ولكن ليس لأسباب انكماشية قادت إلى الركود، بل لأسباب تضخمية سابقة، هي على العموم من منشأ نقدي (تواتر الإصدار النقدي الكينزي بلا تغطية) ولوجود آلية تخريبية في نمط الإنتاج الغالب تعطل الفعاليات السلعية لصالح النشاطات الخدمية الطفيلية. ولذلك، فإن الإمعان في استعمال «الوسائل الكينزية»، لأنها أسهل الوسائل، يؤدي إلى توفير سيولة نقدية تفوق المقدرة الإنتاجية الحقيقية، مما يطلق التضخم ولا يسمح لأي سياسة انكماشية أن تعمل بأي حال من الأحوال. في هذه البلدان النامية لابد إذن من إحداث «الانعكاس» في الآلية المذكورة للتصدي بحزم للتضخم،) لأن البطالة في عوامل الإنتاج ليست بسبب الانكماش). ويجب أن تعمل سياسة الانكماش في هذه البلدان للتأثير في العرض والطلب الكلي معاً، ويكون ذلك حتماً بالحدّ من زيادة الكتلة النقدية للحدّ من جموح الطلب الاستهلاكي، وبالعمل على ساحة العرض لزيادة إنتاج السلع الزراعية والصناعية، وفي هذا المجال يجب إعادة هيكلة الجهاز الإنتاجي واتخاذ جميع التدابير للتركيز على زيادة الإنتاجية وتنمية الموارد. وهكذا يؤمل الحصول على توازن في مستوى معين من الأسعار يتعامل مع مستوى معين من الأجور والرواتب. إن عدم أخذ السياسة الانكماشية لمسألة الطلب الكلي في الحسبان هو كعدم مراعاة «سياسات التنمية بالتضخم» لقضية العرض الكلي في البلدان النامية. ولذا فإنه من أجل الحد من القوة الشرائية المتزايدة لابد من التعرض للريوع السهلة والأرباح الناشئة عن الوضع الاقتصادي الاجتماعي المتخلف ويكون ذلك بالضرائب المباشرة. إن تعقيم القوة الشرائية المتراكمة بين أيدي فئات المستغلين والمضاربين والعابثين بمؤسسات الدولة يستدعي توجيه الفوائض إلى حساب خاص في الخزينة يخصص لزيادة الإنتاج. إلى ذلك كله يضاف ما له علاقة بمراقبة الاستيراد والتصدير ومعدلات الصرف ومكافحة التهريب وتسرب العملات إلى الخارج. ولعل ذلك يستدعي بالضرورة تغيير نمط الإنتاج الغالب.    إسماعيل سفر   الموضوعات ذات الصلة:   التضخم.   مراجع للاستزادة:   ـ إسماعيل سفر، محددات السياسة الاقتصادية العربية المعاصرة (1983)، أزمة الرأسمالية وعاملها الخارجي (1984)، النظرية الكينزية والمأساة الاقتصادية ـ الاجتماعية (1985): منشورات جامعة الدولة بمونص (بلجيكة) مركز الدراسات والبحوث العربية (CERA). -PR.R. BARRE , Economie politique (PUF, Paris 1964).
المزيد »