logo

logo

logo

logo

logo

الأهلية في الفقه الإسلامي

اهليه في فقه اسلامي

capacity in islamic jurisprudence - capacité dans la jurisprudence islamique

 الأهلية في الفقه الإسلامي

الأهلية في الفقه الإسلامي

وهبة الزحيلي

تعريفها وقسمتها

أهلية الوجوب

أهلية الأداء

أهلية الأداء الناقصة

أهلية الأداء الكاملة

 

تعريفها وقسمتها:

الأهلية في اللغة: الصلاحية لصدور الشيء عن الإنسان ومطالبته به، أو الاستحقاق. وهو المراد بها في قوله تعالى: }وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا{ [الفتح 26].

وفي الفقه الإسلامي: هي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، أو صلاحية الشخص للإلزام والالتزام.

فهي ملازمة للإنسان من يوم ظهوره في الحياة، فيصير أهلاً للإلزام والالتزام.

وهي قسمان: أهلية وجوب وأهلية أداء.

أهلية الوجوب: هي صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات. وأساس ثبوتها وجود الحياة. وهي تختلف في الواقع عن الذمة التي هي وصف شرعي يصير به الإنسان أهلاً لما يجب له وعليه، فهي وعاء اعتباري مفترض أو مقدر وجوده في الإنسان، وتلازمه منذ بدء الحياة إلى نهايتها. أما الأهلية: فهي صلاحية اكتساب الحقوق ووجوب الواجبات، لكن أغلب الفقهاء المسلمين يعبرون عن أهلية الوجوب بالذمة.

والذمة عند القانونيين: مجموع ما للشخص من حقوق وما عليه من التزامات، لذا يقال لها: الذمة المالية. وكلمة (الشخص) تشمل الشخص الطبيعي (الإنسان) والشخص المعنوي كالدولة والشركة والمؤسسة ونحوها، فهي إذن ذمة مالية يقوم مفهومها على أساس مادي هو أموال الشخص، أما في الفقه الإسلامي فليست الذمة فكرة متصورة بالمال، وإنما تتصور بصورة محل مقدَّر في الشخص تثبت فيه الديون، فهي ذمة شخصية.

وأهلية الوجوب نوعان:

1ـ أهلية وجوب ناقصة: وهي الصلاحية لثبوت الحقوق دون الواجبات. وهي تختص بالجنين في بطن أمه، وتثبت له الحقوق التي لا تحتاج إلى قبول بشرط ولادته حياً، وهي أربعة حقوق: حقه في النسب، والإرث، والوصية، والوقف. أما الحقوق التي تحتاج إلى قبول كالشراء والهبة فلا تثبت له؛ لأن الجنين لا عبارة له، فلا يصح منه الشراء والهبة والصدقة، ولا يجب في ماله شيء من نفقة أقاربه المحتاجين.

والسبب في نقص أهلية الوجوب للجنين: هو كونه ذا اعتبارين: اعتبار بأنه جزء من أمه، واعتبار بأنه نفس مستقلة آيلة إلى الظهور، فبحسب الاعتبار الأول لم يجعل له ذمة كاملة صالحة لاكتساب الحقوق والتزام الواجبات، وبالاعتبار الثاني جعل له ذمة ناقصة تؤهله لاكتساب بعض الحقوق كما تقدم بيانه.

2ـ أهلية وجوب كاملة: وهي تثبت للإنسان منذ ولادته دون أن تفارقه في جميع أطوار (أدوار) حياته، فيصلح لتلقي الحقوق والتزام الواجبات، وليس هناك إنسان فاقد لهذه الأهلية.

لكن الصبي قبل سن السابعة ليس له إلا أهلية الوجوب كاملة، فيصلح لاكتساب الحقوق وتحمل الواجبات التي يجوز لوليه أداؤها بالنيابة عنه كالنفقات، وأداء الزكاة وصدقة الفطر، وضمان المتلفات والمخالفات والجنايات، وليس له أهلية أداء مطلقاً لضعفه وقصور عقله وقلة خبرته، وإذا كلف بعض الواجبات المالية؛ فيكون الخطاب موجهاً لوليه أو لوصيه، وليس هو المخاطب أو المطالب مباشرة صوناً لحقوق الآخرين، ومراعاة لكونه غير مكلف.

أما أهلية الأداء: فهي صلاحية الإنسان المكلف (البالغ العاقل) لصدور الأفعال والأقوال منه على وجه يعتدّ به شرعاً. وأساس ثبوتها شرعاً التمييز أو البلوغ عاقلاً. وهي ترادف المسؤولية، فالصلاة والصيام ونحوهما من الواجبات الشرعية التي يؤديها الإنسان تسقط عنه الواجب، والجناية على مال الغير توجب المسؤولية.

ويلاحظ الفرق بين التعريف الشرعي والقانوني، فالأول يذكر فيه كلمة (الإنسان) وعند رجال القانون يذكر لفظ (الشخص) ليشمل الشخص الطبيعي كالأفراد، والشخص المعنوي أو الاعتباري كالهيئات والمؤسسات العامة والشركات.

والمقرر لدى أكثر فقهاء العصر أن الفقه الإسلامي يعترف بالشخصية المعنوية، فقد يكون المحكوم عليه غير إنسان، فيقال: "بيت المال وارث من لا وارث له". وتصح الوصية للمسجد (أي تثبت له الحقوق والالتزامات)، ويقال: "للمسجد وقف". ويجوز الوقف على الجنين، ويثبت له الإرث، ويفترض بقاء ذمة الميت بعد وفاته حتى تنفّذ الحقوق المتعلقة بالتركة من مؤونة التجهيز والتكفين والدفن وسداد الديون وتنفيذ الوصايا.

نوعا أهلية الأداء:

إما أن تكون هذه الأهلية ناقصة وإما أن تكون كاملة:

أهلية الأداء الناقصة: هي التي تثبت للإنسان بقدرة قاصرة في دور التمييز إلى البلوغ والمعتوه الذي لم يصل به العته إلى درجة اختلاف العقل أو فقده، وإنما هو ضعيف الإدراك والتمييز، فهو كالمميز.

ويفرق في هذه الأهلية بين حقوق الله وحقوق الناس.

أما حقوق الله تعالى: فتصح من الصبي المميز أو الفتاة المميزة كالإيمان والكفر والصلاة والصيام والحج وإمامة الصلاة، لكنها لا تكون ملزمة له إلا على جهة التأديب والتهذيب، ولا يستتبع فعله عهدة في ذمته، فلو شرع في صلاة لا يلزمه المضي فيها، ولو أفسدها لا يجب عليه قضاؤها.

أما صحة الكفر منه في أحكام الدنيا ففيها رأيان:

أ ـ رأي أبي حنيفة ومحمد: تعتبر منه ردته، فيحرم من الميراث، وتبين منه امرأته.

ب ـ ورأي أبي يوسف والشافعي: لا يحكم بصحة ردته في أحكام الدنيا؛ لأن الارتداد ضرر محض لا يشوبه منفعة، وهو لا يصح من الصبي، فلا يحرم من الإرث، ولا تبين امرأته.

واتفق الفريقان على اعتبار الكفر من المميز ونحوه في أحكام الآخرة.

وأما حقوق العباد أو الناس: فيرى الإمام الشافعي والإمام أحمد أن عقود الصبي وتصرفاته باطلة. وأما الحنفية فيقولون تنقسم تصرفاته المالية إلى ثلاثة أقسام:

أولاً ـ تصرفات نافعة نفعاً محضاً: وهي التي يترتب عليها دخول شيء في ملكه من غير مقابل، كقبول الهبة والصدقة، وتجب له الأجرة إذا أجر نفسه، وتصح وكالته عن غيره بلا التزام عليه؛ لأن فيها تدريباً له على التصرفات، لقوله تعالى: }وَابْتَلُوا الْيَتَامَى{ [النساء 6]، أي اختبروهم ودربوهم على المعاملات، فهذه التصرفات تصح من الصبي، وتنفذ دون حاجة إلى إذن وليه أو إجازته.

ثانياً ـ تصرفات ضارة ضرراً محضاً: وهي التي يترتب عليها خروج شيء من ملكه دون مقابل، كالطلاق والهبة والصدقة والوقف والكفالة بالدَّين أو بالنفس. وهذه لا تصح من الصبي المميز ولو بإجازة وليه؛ لأن الولي ذاته لا يملك هذه التصرفات.

ثالثاً ـ تصرفات دائرة بين النفع والضرر: وهي التي تحتمل الربح والخسارة، كالبيع والشراء والإجارة والنكاح ونحوها. وهي تصح من الصبي المميز، وتنعقد صحيحة بإذن الولي، بناء على ثبوت أصل أهلية الأداء له، أي إن التمييز لا البلوغ هو شرط عاقد البيع ونحوه في رأي الحنفية والمالكية.

فإن لم يأذن الولي له تكون تصرفاته موقوفة على إجازته في رأي الحنفية والمالكية بسبب نقص هذه الأهلية، فإذا أجاز نفذت، وإلا بطلت، فالإجازة تجبر النقص، فيصير العقد أو التصرف صادراً من ذي أهلية كاملة.

أهلية الأداء الكاملة: وهي تثبت بقدرة كاملة لمن صار بالغاً (بلغ الحلم) عاقلاً، والبلوغ: يحصل إما بالأمارات الطبيعية كالاحتلام أو رؤية الحيض، وإما بتمام الخامسة عشرة عند جمهور الفقهاء.

والأصل أن أهلية الأداء تتحقق بتوافر العقل، ولما كان العقل من الأمور الخفية ارتبط بالبلوغ لأنه مظنّة العقل، والأحكام ترتبط بعلل ظاهرة منضبطة، فيعدّ الشخص عاقلاً، وتثبت له حينئذ أهلية أداء كاملة، ما لم يعترض عارض من عوارض الأهلية كالجنون أو السفه.

وإذا اكتملت أهلية الأداء أصبح الإنسان أهلاً للتكاليف الشرعية، فيجب عليه أداؤها، ويأثم بتركها، وتصح منه جميع العقود والتصرفات، وتترتب عليها مختلف آثارها، ويؤاخذ على جميع الأعمال الصادرة منه.

أطوار الأهلية أو مراحلها:

يتعرض كل إنسان منذ بدء حياته جنيناً إلى بلوغه ورشده وتمام حياته لخمسة أطوار أو أدوار، تكون فيها أهليته ـ كما تقدم ـ إما ناقصة وإما تامة أو كاملة، وهي مرحلة الاجتنان، ثم الطفولة أو الصبا، ثم التمييز، ثم البلوغ عاقلاً ثم الرشد.

ففي حالة الاجتنان (كونه جنيناً) تكون للجنين أهلية وجوب ناقصة، تثبت له حقوق أربعة فقط، دون أن تترتب عليه واجبات بشرط ولادته حياً كما سبق بيانه.

وفي مرحلة الطفولة: تكون للطفل قبل سن السابعة أهلية وجوب كاملة، فيصلح الطفل لتلقي الحقوق، والتزام الواجبات كما تقدم، وليس له إلا هذه الأهلية، فلا تكون له أهلية أداء. وتلازمه هذه المرحلة من تاريخ الولادة، وتلازمه في جميع أحوال الحياة.

وفي مرحلة التمييز: وهي من سن السابعة إلى البلوغ، تثبت للمميز ونحوه ـ وهو المعتوه عتهاً ضعيفاً ـ أهلية أداء ناقصة، فتكون تصرفاته المالية المترددة بين النفع والضرر كالبيع موقوفة على إجازة وليه إن لم يأذن له وليه بممارستها، فإن أذن له وليه بها كانت نافذة غير متوقفة على الإجازة كما تقدم بيانه.

وفي مرحلة البلوغ: وهي ما بعد البلوغ عاقلاً إلى نهاية الحياة، تثبت للبالغ أهلية أداء كاملة، ويصبح مكلفاً بجميع الأحكام الشرعية ومسؤولاً عنها، وتصح منه جميع التصرفات، ويتلقى جميع الحقوق، وتترتب عليه كل الواجبات أو الالتزامات المالية؛ ما لم يطرأ عليه عارض من عوارض الأهلية.

وفي طور الرشد: وهو تمام النضج العقلي والخبرة المالية العملية، يكون للرشيد الحق في تسلُّم أمواله وممارسة حرية التصرف التامة بها كما يشاء، لقوله تعالى: }وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا{ [النساء 6].

عوارض الأهلية:

هي ما يتعرض له الشخص من الطوارئ، فتزيل أهليته، أو تنقصها، أو تغير بعض أحكامها، وهي نوعان:

1ـ عوارض سماوية: وهي التي لم يكن للشخص فيها اختيار واكتساب.

2ـ عوارض مكتسبة: وهي التي يكون للشخص فيها دخل باكتسابها أو ترك إزالتها.

أما العوارض السماوية: فهي أحد عشر عارضاً، وهي الجنون، والصغر، والعته، والنسيان، والنوم، والإغماء، والرق ـ الذي كان في الماضي ـ والمرض، والحيض، والنفاس، والموت. ونذكر تعريف كل عارض منها وحكمه بإيجاز:

1ـ الجنون: هو اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهجه إلا نادراً. وهو مسقط لجميع العبادات، ويبطل جميع التصرفات، لكن يؤاخذ المجنون بضمان الأفعال دون الأقوال، ويحكم بإسلامه تبعاً لأحد أبويه، ولا يحكم بردته تبعاً لأبويه.

2ـ العته: آفة توجب خللاً في العقل، فيصير صاحبه مختلط الكلام، فيشبه مرّة كلام العقلاء، ومرّة كلام المجانين. وحكم المعتوه: حكم الصبي المميز، كما تقدم.

3ـ الصغر: الصغير قبل التمييز كالمجنون، فيؤاخذ بضمان الأفعال في إتلاف الأموال، ولا يعتد بأقواله، فلا تصح إقراراته وعقوده وإن أجازها الولي.

4ـ النسيان: هو عدم استحضار الشيء في وقت الحاجة إليه. وحكمه: أنه يعدّ عذراً في حقوق الله تعالى، فيما يخص رفع الإثم عن الناسي، ولا ينافي ثبوت أهلية الوجوب له؛ لبقاء القدرة بكمال العقل، وينافي وجوب أداء الحقوق كسائر الأعذار، لكن لا يجعل النسيان عذراً في حقوق الناس، فلو أتلف مال غيره، وجب عليه ضمانه.

5ـ النوم: هو عجز الإنسان عن الإدراكات الظاهرة والحركات الإرادية، يوجب تأخير الخطاب التكليفي بالأداء إلى وقت اليقظة لامتناع الفهم، ولكنه لم يوجب تأخير الوجوب نفسه، لأن النوم لا يخل بالذمة والإسلام، ولأن النائم يمكنه الأداء حقيقة بالانتباه، وإلا فبالقضاء لما فاته وهو نائم. ولا تصح تصرفاته كالطلاق والبيع والشراء، والإسلام والردة، ولا تفسد صلاة النائم نوماً خفيفاً بالكلام.

6ـ الإغماء: هو تعطل القوى المدركة والمحركة حركة إرادية بسبب مرض يعرض للدماغ أو القلب، وحكمه: أنه ينقض الصلاة، وينافي أهلية الوجوب، وكذا أهلية الأداء في حال الإغماء، ويطالب المغمي عليه بقضاء الصلاة إن كان الإغماء قصير المدة، كالنوم، ويسقط القضاء كالمجنون إن طالت المدة بأن أغمي عليه مدة يوم وليلة.

7ـ الرق: هو ضعف حكمي يتهيأ به الشخص لقبول ملك الغير. وهو يبطل أهلية التملك للأشياء، فهي لسيده، فلا تصح منه التصرفات المالية، ولا يجب الحج على الرقيق لعدم الاستطاعة المالية، ولكن يجب عليه الصلاة والصيام، وهو أهل للنكاح، ودمه مصون لا يحل الاعتداء عليه، ويصح إقراره بموجب العقوبات على القتل والسرقة والزنى والقذف والسُّكر ونحو ذلك، ومن المعلوم أن الإسلام ألغى جميع مصادر الرق إلا رق الأسر معاملة بالمثل لغير المسلمين في الماضي، ونبه الضمير الإنساني على ضرورة تصفية الرق من طريق الترغيب الشديد في إعتاق الرقاب.

8ـ المرض (مرض الموت): هو هيئة غير طبيعية في بدن الإنسان، ينجم عنها بالذات آفة في الفعل. وحكمه: أنه لا ينافي أهلية الوجوب في حقوق الله وحقوق الناس وأهلية العبادة، لكن يحجر على المريض مباشرة التبرعات كالهبة والصدقة والوصية إلا في حدود ثلث ما يملك، فلا تنفذ تبرعاته إلا في حدود الثلث، وتصح منه المعاوضات كالبيع، إذا لم يتعلق بها حق الغير كالإجارة والرهن.

9ـ10: الحيض والنفاس: الحيض: دم يخرج من أقصى رحم المرأة وقت الصحة، والنفاس: هو الدم الخارج عقب الولادة، وهما لا يسقطان أهلية الوجوب، ولا أهلية الأداء إلا في الصلاة والصيام، فلا يصحان من الحائض والنفساء، ولا يمنعان صحة الحج والعمرة فيما عدا الطواف، فيؤجل إلى وقت الطهر إن أمكن، وإن لم يمكن يجوز الطواف بشرط التصون والتحفظ من تلويث المسجد بالدم، مع وجوب الجبران بإراقة شاة على الأقل، في رأي بعض الفقهاء.

11ـ الموت: هو عجز ظاهر كله، أي ليس فيه القدرة على أداء شيء، فتسقط فرضية العبادات عن الميت، فلا صلاة عليه ولا صيام ولا زكاة ولا نفقة للمحارم، ولكنه يظل مطالباً بحقوق الغير في المرهون والمأجور والمغصوب والودائع والأمانات، والديون؛ لأن حقوق الناس تتعلق بالمال، وتتحملها التركة أو الكفيل عن الميت إن وجد. وتكون نفقات تجهيز الميت ودفنه من تركته إن وجدت، وإلا فعلى أقاربه، وتنفذ وصاياه في حدود ثلث التركة الباقي بعد النفقات.

وأما العوارض المكتسبة:

فهي التي يكون للإنسان فيها كسب واختيار في حصولها، وهي سبعة أنواع، وكلها يتسبب بها الإنسان بنفسه، إلا الإكراه فهو من غيره، وهي الجهل، والسُّكْر، والهزل، والسفه، والسفر، والخطأ، والإكراه.

1ـ الجهل: صفة تضاد العلم عند احتماله وتصوره، وهو أربعة أنواع:

أ ـ جهل باطل لا يصلح عذراً أصلاً في الآخرة، كجهل غير المسلم بالإسلام؛ لأنه مكابرة وعناد.

ب ـ وجهل لا يصلح عذراً لكنه دون جهل الكافر، كجهل البغاة: وهم الذين خرجوا عن طاعة الإمام الحق اعتماداً على تأويل فاسد، وكجهل من خالف في اجتهاده الكتاب والسنة من المسلمين العلماء.

ج ـ وجهل يصلح عذراً وشبهة، كالجهل في موضع الاجتهاد أو في غير موضع الاجتهاد، لكن في موضع الشبهة، كالمحتجم إذا أفطر في رمضان على ظن أن الحجامة فطَّرته.

د ـ وجهل مسلم في بلاد أهل الحرب، لم يهاجر إلى ديار المسلمين، فإذا لم يصلِّ ولم يصم مدة، ولم يتمكن من معرفة الإسلام، لا يجب عليه قضاؤهما.

2ـ السُّكْر: وهو المؤدي إلى تعطل عقل الإنسان المميز بين الحسن والقبيح، فإذا كان بطريق مباح كسكر المضطر والمستكره، فحكمه كالإغماء يمنع صحة جميع التصرفات حتى الطلاق. وإذا كان بطريق محظور: وهو السكر بالاختيار من شراب حرام، فيلزم جميع الأحكام الشرعية، وتصح عباراته كلها بالطلاق والبيع والشراء والإقرار والتزويج والإقراض والاقتراض وسائر التصرفات، ويصح منه الإسلام، ولا تصح منه الردة لعدم الاعتقاد والقصد. ويعاقب على جرائمه؛ لأن السكر لا يُعدم العقل.

3ـ الهزل: وهو اللعب، وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له، كالعقود الصورية، وحكمه: أنه لا ينافي الأهلية أصلاً ولا اختيار المباشرة والرضا بها، وإنما ينافي اختيار الحكم والرضا به. وحكمه في التصرفات كالبيع والإجارة أنه لا أثر له في رأي الجمهور لعدم القصد والإرادة، باستثناء الزواج والطلاق والرجعة واليمين، حيث جعلوا الهزل فيها كالجِدّ. ومن صوره: بيع التلجئة لا قيمة له لأن باطنه خلاف ظاهره. وذهب الشافعية إلى أن الهازل خلاف المخطئ يؤاخذ بما تدل عليه عبارته من إنشاء التزام وإبرام عقد؛ عملاً بظاهر الكلام دون مراعاة القصد.

4ـ السفه: في اللغة الخفة والتحرك، وشرعاً: هو العمل بخلاف موجب العقل والشرع، وغلب في اصطلاح الفقهاء على تبذير المال وإتلافه على خلاف مقتضى العقل والشرع. وهو لا ينافي الأهلية، فيظل السفيه أهلاً لمباشرة التصرفات وأداء العبادات، إلا الصبي إذا بلغ سفيهاً يمنع منه ماله؛ أي يحجر عليه لقوله تعالى: }وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً{ [النساء 5].

 ويجوز الحجر على السفيه عند الفقهاء ما عدا أبا حنيفة؛ لأن الحجر إهدار لكرامته الإنسانية. والغفلة كالسفه من ناحية الحجر وعدمه، لكن السفيه كامل الإدراك، وإنما هو سيئ الاختيار في تصرفه، والمغفل: ضعيف الإدراك للخير والشر.

5ـ السفر: هو لغة قطع المسافة، وفقهاً: الانتقال من موضع الإقامة إلى موضع آخر بينهما مسافة القصر (قصر الصلاة الرباعية) وتقدّر بـ(86)كم أو (89)كم.

وحكمه: أنه لا ينافي شيئاً من الأهلية، ولا يمنع شيئاً من الأحكام الشرعية، ولا من التصرفات المدنية أو العقود، ويقتصر أثره على تخفيف أداء بعض العبادات مثل قصر الصلاة الرباعية، والجمع بين صلاتي الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير، وإباحة الفطر في رمضان، لكن مع مراعاة مبدأ: }وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم{ [البقرة 184] وذلك بمجرد إنشاء السفر بعد مجاوزة آخر عمران بلد الإقامة، كما هو مبين في السنة النبوية.

6ـ الخطأ: هو قول أو فعل يصدر عن الإنسان بغير قصد بسبب ترك التثبت عند مباشرة أمر مقصود سواه. وأثره واضح في جريمة القتل حيث يختلف حكم القتل خطأ عن حكم القتل عمداً. وحكم الخطأ يختلف بحسب حقوق الله وحقوق الناس.

 أما حقوق الله تعالى: فيصلح الخطأ فيها عذراً في سقوطها إذا حصل عن اجتهاد، وكذلك يصلح شبهة في إقامة العقوبات، فلا يأثم المخطئ، ولا يؤاخذ بحد الزنى إذا وطئ من زفت له غير امرأته وهو لا يعلم، ولا قصاص في القتل الخطأ.

وأما حقوق الناس: فلا يصلح الخطأ فيها عذراً، فيجب ضمان المتلفات ولو خطأ، وإنما يصلح عذراً مخففاً كإيجاب الدية والكفارة في القتل الخطأ. واختلف الفقهاء في طلاق المخطئ فيقع في رأي أبي حنيفة، ولا يقع في رأي الشافعي.

وينعقد بيع المخطئ عند الحنفية، كبيع المستكره، خلافاً للشافعية.

7ـ الإكراه: هو حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختار مباشرته لو كان حراً، فيكون معدماً للرضا، لا للاختيار. والاختيار: هو ترجيح فعل الشيء على تركه، أو العكس. والرضا: هو الارتياح إلى فعل الشيء والرغبة به. وللإكراه شروط تعرف في موضعها.

والإكراه عند الحنفية نوعان: إكراه ملجئ أو كامل، وإكراه غير ملجئ أو ناقص.

والإكراه الملجئ: هو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار كالتهديد بالقتل أو قطع عضو، أو بالضرب الشديد. وحكمه: أنه يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار.

والإكراه غير الملجئ: هو التهديد بما لا يتلف النفس أو العضو كالتهديد بالقيد أو الحبس لمدة أو بالضرب الذي لا يؤدي إلى التلف.

والإكراه في الجملة لا ينافي الأهلية بنوعها، ولا يؤدي إلى سقوط خطاب التكليف بحال؛ سواء أكان ملجئاً أم لا؛ لأن المستكره مبتلى، ولا ينافي الإكراه عنصر الاختيار.

والخلاصة: عوارض الأهلية ثلاثة أقسام: إما أن تزيل الأهلية كالجنون والإغماء والنوم، وإما أن تنقص الأهلية كالعته ينقص الأهلية ولا يزيلها، فيكون المعتوه كالصبي المميز، وإما أن تغير بعض الأحكام كالسفه والغفلة والمديونية، فلا تزول الأهلية بسببها، بل تغيِّر بعض أحكامها، كالحجر على السفيه والمغفل حفاظاً على مالهما، والمديون حفاظاً على حقوق الدائنين، والمريض مرض الموت لا تصح منه التبرعات فقط كالمديون.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه (الطبعة السابعة، مصر 1376هـ/1956م).

ـ وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي (دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى 1406هـ/ 1986م والطبعات اللاحقة 1418هـ/ 1998م).


التصنيف : العلوم الشرعية
النوع : العلوم الشرعية
المجلد: المجلد الرابع: الرضاع ــ الضمان المصرفي
رقم الصفحة ضمن المجلد : 264
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 524
الكل : 29667616
اليوم : 47626