logo

logo

logo

logo

logo

الإجماع

اجماع

al-ijmaa / consensus - l’'ijma / consensus

 الإجماع

الإجماع

وهبة الزحيلي

 

تعريفه: الإجماع Consesus - Al Ijma في اللغة يطلق على التصميم والعزم، يقال: أجمع فلان على أمر، أي عزم عليه، ويطلق أيضاً على الاتفاق، يقال: أجمع القوم على كذا، أي اتفقوا عليه. وفي الاصطلاح الأصولي: هو اتفاق جميع المجتهدين المسلمين بعد وفاة النبيr في عصر من العصور على حكم شرعي في واقعة معينة. وهو نوعان: إجماع صريح، وإجماع سكوتي، كما سيأتي بيانه.

ركنه: صدور الاتفاق بين جميع المجتهدين، بالاشتراك في الاعتقاد أو في القول أو في الفعل، فلا يعتد باتفاق العوام غير المجتهدين.

وضوابطه، أو شرائطه سبعة:

Œ أن يكون الاتفاق صادراً من جميع مجتهدي العصر في الواقعة المجمع عليها، فإذا خالف أحدهم لم ينعقد الإجماع، فلا يكون إجماعاً إجماع الحرمين (مكة والمدينة) وإجماع أهل المدينة، وإجماع قطر واحد، أو فئة واحدة كأهل السنة، أو آل البيت (الشيعة)، أو اتفاق أكثر المجتهدين، أو إجماع الخلفاء الراشدين.

 لابد من كون الإجماع حاصلاً من جماعة أو عدد من المجتهدين في وقت وقوع الحادثة؛ لأن الاتفاق يتطلب التعدد، فإذا كان الرأي من مجتهد واحد انفرد في زمن معين فلا ينعقد الإجماع، إذ لابد من اتفاق عام من عدد مقبول من جميع مجتهدي العالم الإسلامي في عهد حدوث الحادثة كما تقدم.

Ž أن يصدر رأي واحد عن المجمعين: فإذا اختلف المجمعون على رأيين فقط فلا ينعقد الإجماع، ولا يجوز حينئذٍ في رأي جمهور الأصوليين إحداث قول ثالث في المسألة؛ لأن انحصار الخلاف في رأيين دال على الاتفاق بأنه ليس في المسألة رأي ثالث، ويكون القول برأي ثالث خرقاً للإجماع، وهو لا يجوز.

 أن يتم الاتفاق بإبداء الرأي قولاً أو عملاً: فإن تكلم بعض المجتهدين وسكت الآخرون فيسمى ذلك إجماعاً سكوتياً لا قولياً، والإجماع السكوتي مختلف فيه كما يأتي بيانه.

 أن يحصل الاتفاق في موقف واحد، سواء انقرض عصر المجمعين فماتوا جميعاً أم لا، أفتوا عن اجتهاد أم عن نص. والاتفاق يحدث إما بإبداء كل مجتهد رأيه في عصر وقوع الحادثة، وإما بعد تبادلهم وجهات النظر، واتفاقهم جميعاً على حكم واحد في الواقعة.

أن يصدر الرأي عمن توافرت فيه أهلية الاجتهاد أو مَلَكَته بوجود شروط ثلاثة:

 العلم بأحكام القرآن الكريم لغة وشرعاً، وأحكام السنة النبوية سنداً ومتناً، والعلم بمسائل الإجماع السابقة.

والعلم بقواعد أصول الفقه.

ƒ والإلمام بعلوم اللغة العربية التي يتوقف عليها فهم النصوص الشرعية إلماماً تاماً بمعرفة القدر الضروري اللازم للفهم السديد، من غير اشتراط التبحر في هذه العلوم؛ وهي النحو والصرف والمعاني والبيان وفقه اللغة؛ لأن مصدري الأحكام الأصلية وهما القرآن والسنة وردا بلسان العرب.

أن يتصف المجمعون بصفة العدالة (وهي ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى ومقتضيات المروءة)، ومجانبة البدعة المكفرة.

الفرق بين الإجماع وبين اتفاق أكثر المجتهدين:

الإجماع - كما تبين - يتطلب اتفاق جميع مجتهدي الأمة الإسلامية في وقت وقوع الحادثة، وفي عصر واحد، أما اتفاق أكثر المجتهدين فينقصه توافر آراء جميع المجتهدين، وللأصوليين آراء في حجية اتفاق الأكثرين وهي ما يأتي:

? اتجه جمهور علماء أصول الفقه إلى أنه لا ينعقد الإجماع بأكثر المجتهدين؛ لأن أدلة حجية الإجماع من القرآن والسنة تدل على عصمة الأمة من الخطأ، مثل قوله تعالى: )وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مَنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً((النساء511) وقولهr: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، والمراد به على الأرجح كل الأمة عملاً بمدلول حقيقة اللفظ؛ لأنه يؤدي إلى العمل بما يريده الرسول r قطعاً، وحمل كلمة (الأمة) على الجميع أحوط، وهو أولى من إرادة الأكثر من الأمة.

ولأنه لو كان اتفاق الأكثر حجة لأنكر الصحابة على من خالفهم من الأقلية، ولكنهم لم ينكروا، مثل اتفاق أكثر الصحابة على عدم قتال مانعي الزكاة في مبدأ الأمر، مع إصرار أبي بكر الصديق على قتالهم، فلم ينكروا عليه، ثم أقنعهم بوجهة نظره.

? واتجه بعض الأصوليين إلى عد اتفاق أكثر المجتهدين إجماعاً أو حجة فقط، فقال ابن الحاجب المالكي: «اتفاق الأكثر حجة لا إجماعاً؛ لأنه يدل بحسب الظاهر على وجود دليل راجح أو قاطع استند إليه المتفقون؛ إذ من المستبعد أن يكون دليل المخالف هو الراجح، أو أن يطلع الأكثر على دليله ثم يخالفونه عمداً أو خطأ». قال الإمام أبو حامد الغزالي: «المعتمد أن العصمة من الخطأ تثبت للأمة بكليتها، وليس إجماع الأكثر إجماع الجميع، بل هو مختلف فيه».

وقال أبو الحسين الخياط المعتزلي، وابن جرير الطبري، وأبو بكر الرازي: «ينعقد الإجماع مع مخالفة الواحد أو الاثنين»؛ لأن المراد من لفظ (الأمة) في الأحاديث النبوية هو الأكثر، كما يقال: «الأمة العربية تأبى الضيم»، وقال الرسولr: «عليكم بالسواد الأعظم». مما يدل على أن إجماع الأكثر حجة لدلالة النصوص عليه.

والواقع أن هذه الدلالة مجاز عن الكل، ولا يلجأ إلى العمل بالمجاز إلا إذا تعذر العمل بالمعنى الحقيقي للفظ، وهذا ممكن، فيجب حمل لفظ (الأمة) على الكل؛ لأن الحجة في الإجماع حجة قطعية، والقطع يكون باتفاق الكل لا الأكثر.

وأما استدلالهم بالعمل بالأكثر في انعقاد الإمامة (الخلافة) كإمامة أبي بكر، أو بترجيح رواية الكثرة في الأحاديث فغير دقيق؛ لأن (الإمامة) لا تحتاج إلى الإجماع، ويكفي فيها الأكثرية أو الأغلبية، وأما الترجيح بالكثرة في الرواية فلا يحصل بها الترجيح في الاجتهاد، فهو قياس مع الفارق، لأن الرواية يطلب فيها غلبة الظن دون اليقين، وأما الإجماع فيطلب فيه القطع واليقين، فليس الترجيح في الاجتهاد كالترجيح في العمل برواية الأخيار، فلا يصح القياس بينهما.

حجية الإجماع:

الإجماع أحد مصادر التشريع الإسلامي، ومرتبته هي الثالثة بعد القرآن والسنة النبوية، وهذا هو رأي جمهور علماء أصول الفقه إذا توافرت أركان الإجماع وضوابطه - كما تقدم - للبراهين الآتية:

 Œالقرآن الكريم: دلت آيات من القرآن الكريم على حجية الإجماع، منها: أن الله تعالى أمر بطاعة الله والرسول وأولي الأمر في قوله: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ((النساء95)، وأولو الأمر يشمل الأمر الديني والأمر الدنيوي، وأولو الأمر الدنيوي: هم الملوك والرؤساء والأمراء والولاة الحاكمون، وأولو الأمر الديني: هم المجتهدون وأهل الفتيا، فيكون الظاهر من الآية التفسير بما يشمل الفريقين وبما يوجب طاعة كل فريق فيما يتعلق به، فإذا أجمع أولو الأمر في الشريعة والاجتهاد - وهم المجتهدون - على حكم وجب اتباعه والتزام حكمهم بنص القرآن.

وذلك بدليل الآية الأخرى وهي: )وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ((النساء38).

وتوعد الله سبحانه بعقاب من يشاقق (يعادي) الرسول، ويتبع غير سبيل المؤمنين فيما اتفقوا عليه في آية: )وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مَنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً((النساء 511)، أي جعل الله من يخالف سبيل المؤمنين مثل مشاقة الرسول؛ لأنه جعل جزاءها واحداً وهو الوعيد الشديد بتركه مهمَلاً فيما اتبعه، وإدخاله جهنم. وإذا حرم اتباع غير سبيل المؤمنين فاتباع سبيلهم واجب، إذ لا واسطة بينهما، ويلزم من وجوب اتباع سبيلهم كون الإجماع حجة، لأن سبيل الشخص: هو ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد.

 السنة النبوية: الحكم المجمع عليه في الحقيقة هو رأي الأمة ممثلة في مجتهديها، وورد في السنة أحاديث وآثار عن الصحابة تجعل إثبات حجية الإجماع أقوى الأدلة، كما قال الغزالي، منها قولهr: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، «لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلال» وفي رواية: «على خطأ»، «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن».

وتعد هذه الأحاديث ثابتة بالتواتر المعنوي (وهو ما دلت عليه الروايات التي اختلفت في بعض ألفاظها، ولكن معناها واحد) والمتواتر دليل قطعي يقيني، ثم إن اتفاق المجتهدين على حكم واحد دليل على وحدة الحق والصواب التي جمعتهم على كلمة واحدة وحكم واحد.

Ž لابد في كل إجماع من بنائه على مستند شرعي، ومستند الإجماع: هو الدليل الذي يعتمد عليه المجتهدون فيما أجمعوا عليه؛ لأن المجتهد في الإسـلام محكوم بحدود الشـريعة، واجتهاده لا يتعدى تفهم النص ومعرفة ما يدل عليه، ولأن الإفتــاء من دون مستند خطأ، لأنـه يعدّ قولاً في الدين بغير علم، والله تعالى يقول: )وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولا((الإسراء 63).

وقد قرر جمهور الأصوليين أنه يجوز أن يكون المستند دليلاً قاطعاً وهو القرآن والسنة المتواترة، فيعد الإجماع مؤكداً للحكم، وحاسماً للخلاف من غير تردد أو شك، ويجوز أن يكون دليلاً ظنياً وهو خبر الواحد والقياس، فيرتقي الحكم بالإجماع من مرتبة الظن الغالب إلى مرتبة القطع واليقين.

هذا مع العلم أنه لا يشترط نقل مستند أو دليل الإجماع، اكتفاء بالإجماع، فإن الإجماع وعدم نقل الدليل لا يدل على عدمه كما هو معلوم.

ويترتب عليه أن مستند الإجماع إما أن يكون آية قرآنية وإما حديثاً نبوياً متواتراً، أو مروياً بطريق الآحاد، وإما قياساً على أمر منصوص على حكمه، لاتفاق المقيس والمقيس عليه في العلة (أي الوصف الجامع المشترك بينهما)،  وإما مصلحة مرسلة، وإما استحساناً، وإما استصحاباً، وإما ذريعة (سداً أو فتحاً) وإما عرفاً صحيحاً لا يتصادم مع أحكام الشريعة، وإما إعمالاً لقواعد شرعية أو مبادئ عامة، وإما تأويلاً لنص أو تفسيره. وهذه كلها أدلة معول عليها في مجال الاجتهاد في ضوء مقاصد الشريعة العامة.

أنواع الإجماع:

الإجماع بمقتضى طريقة تكوينه نوعان: صريح أو قولي، وسكوتي كما تقدم:

Œ الإجماع الصريح: هو أن تتفق آراء جميع المجتهدين بأقوالهم أو أفعالهم على حكم في مسألة معينة، كاتفاقهم على وجوب ضمان المغصوب بالمثل أو بالقيمة، وعلى بطلان زواج المسلمة بغير المسلم، ونحو ذلك مما يعتمد على نص شرعي. وقد يتفقون على مسألة اجتهادية معينة، كمسألة عقد القراض أو المضاربة بتقديم رأس المال من واحد، وأداء العمل الاقتصادي من آخر.

 الإجماع السكوتي: هو أن يعلن مجتهد رأيه في مسألة في عصر واحد، ويسكت بقية المجتهدين بعد اطلاعهم على القول المعلن من غير إنكار، لأن السكوت في موضع الحاجة إلى البيان بيان، ولأن المسلمين لا يسكتون على باطل؛ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ولكن لابد من وجود أمارة أو قرينة على الموافقة والرضا، بحيث يعد السكوت بياناً حتماً من غير خوف ولا مجاملة، كالسكوت على إباحة شيء أو تحريمه من غير اعتراض أحد.

وللعلماء فيه رأيان مشهوران:

1- مذهب المالكية والشافعية وآخرين: الإجماع السكوتي لا يكون إجماعاً ولا حجة.

2- مذهب أكثر الحنفية، والإمام أحمد: يعد إجماعاً وحجة قطعية، لكن هؤلاء اشترطوا لحجيته خمسة شروط هي:

الأول: أن يكون السكوت مجرداً عن علامة الرضا أو الكراهية.

الثاني: أن ينتشر الرأي المقول به من مجتهد بين أهل المصر.

الثالث: أن تمضي مدة كافية للتأمل والبحث في المسألة.

الرابع: أن تكون المسألة اجتهادية.

الخامس: أن تنتفي الموانع التي تمنع من عد السكوت موافقة، كالخوف من سلطان جائر، أو عدم مضي مدة كافية للبحث، أو أن يكون الساكت ممن يرى أن كل مجتهد مصيب، فلا يُنكر ما يقوله غيره؛ لأنه من مواضع الاجتهاد، أو يعلم أنه لو أنكر لا يلتفت إليه ونحو ذلك.

وبرهنوا على رأيهم بدليلين:

الدليل الأول: اتفق العلماء على أن الإجماع السكوتي دليل قطعي في الاعتقادات، فيقاس عليها الأحكام العملية الفرعية.

والدليل الثاني: أنه لو شرط لانعقاد الإجماع تصريح كل واحد بقوله وإظهار موافقته، أدى إلى انتفاء الإجماع لاحتمالين:

أولهما - أن سماع رأي كل مجتهد متعذر عادة، وإنما العادة انتشار الفتوى من بعض العلماء وسكوت الباقين.

والثاني - أن العادة في كل عصر أن يفتي أكابر العلماء في الحادثة، ويسكت الأصاغر تسليماً وموافقة لهم، فالسكوت موافقة ضمنية.

وأما المانعون فقد استدلوا على إنكار حجية الإجماع السكوتي بدليلين:

الأول - آثار منقولة: منها: ما روي في حديث ذي اليدين (الخرباق بن عمرو) الذي كان يصلي مع أبي بكر وعمر والصحابة خلف رسول الله r، فقصر الصلاة الرباعية بعد ركعتين، فقال ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال: لم أنسَ ولم تقصر (أي في ظني) ثم سأل الرسول r أبا بكر وعمر: أصحيح ما يقول ذو اليدين؟ فقالا: نعم. فلو كان سكوت أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة أو ترك النكير يعدُّ موافقة لقول ذي اليدين ما سألهما الرسول\، واكتفى بما يقوله ذو اليدين من غير حاجة إلى السؤال.

ومنها: ما روي أن عمر t عنه شاور الصحابة في مال فضل عنده من الغنائم، فأشاروا عليه بتأخير القسمة، والإمساك إلى وقت الحاجة، وعلي t ساكت، حتى قال عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: لم نجعل يقينك شكاً، وعلمك جهلاً، أرى أن تقسم ذلك بين المسلمين. وروى فيه حديثاً في قسمة الفاضل.

فهذا دليل أيضاً على أن عمر لم يعد سكوت علي موافقة حتى سأله، واستجاز علي كرَّم الله وجهه السكوت مع كون الحق عنده في خلاف الصحابة، ونحو ذلك من الآثار التي ذكرها البزدوي.

والدليل الثاني - المعقول: وهو أنه يشترط في الإجماع أن ينقل عن كل عالم رأيه، وتتفق الآراء جميعاً في هذا الأمر، فلا يصح قول بعضهم وسكوت الآخرين؛ لأنه «لا ينسب إلى ساكت قول»؛ لأن الساكت يحتمل أن يكون موافقاً، أو لم يجتهد في حكم الواقعة، أو أنه اجتهد، ولكن لم يؤدِّه اجتهاده إلى شيء وإن أداه اجتهاده إلى شيء، فيحتمل أن يكون رأيه مخالفاً للقول الذي ظهر، لكنه لم يظهره، إما للتروي والتأمل أو التفكر في ارتياد وقت يتمكن فيه من إظهاره، وإما لاعتقاده أن القائل مجتهد، ولم يرَ الإنكار على المجتهد، لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب - وهذا رأي المصوِّبة - أو لأنه سكت خشية إثارة الفتنة وخوفاً منها، كسكوت ابن عباس على رأي عمر في الأخذ بقاعدة العَوْل في الإرث (وهو زيادة أصل المسألة ونقص حصص المستحقين فعلاً)، ثم أظهر معارضته لعمر بعد وفاته، فلما سئل عن سبب سكوته قال: هبته وكان رجلاً مهيباً.

ومع قيام هذه الاحتمالات السبعة لا يكون سكوت المجتهدين مع اشتهار قول مجتهد فيما بينهم إجماعاً، فإن الساكت تحيط بسكوته عدة ظروف وملابسات نفسية وغير نفسية، كما تبين.

والظاهر أن انتفاء هذه الاحتمالات يجعل الإجماع السكوتي حجة.

ما يثيره شرط كون الإجماع في عصر من العصور:

الإجماع كما تقدم: هو أن تتفق آراء جميع المجتهدين في عصر واحد، وهو عصر حدوث الواقعة، فلا يؤخذ بمن يأتي بعد ذلك من مجتهدين آخرين، فالمطلوب رأي الموجودين في كل عصر على حدة، والمراد بالعصر: هو عصر من كان من أهل الاجتهاد في وقت حدوث المسألة الجديدة التي تتطلب حكماً شرعياً، فلا يؤخذ برأي من صار مجتهداً بعد حدوث تلك المسألة، وينعقد الإجماع باتفاق المجتهدين الذين كانوا موجودين في عصر معين على حكم الحادثة. وهذا يثير مشكلات ثلاثاً هي:

المشكلة الأولى- حكم إجماع الصحابة مع مخالفة تابعي:

يرى جمهور الأصوليين أنه إن كان التابعي من أهل الاجتهاد قبل انعقاد إجماع الصحابة فيكون هو منهم، ولا يعتد بإجماعهم مع مخالفته، وإما إن بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد إجماع الصحابة فلا يعتد بمخالفته؛ لأن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة إنما هي الأخبار الدالة على عصمة الأمة من الخطأ، وإجماعهم من دون التابعي لا يكون إجماع جميع الأمة، بل هو إجماع بعضهم، فلا يكون إجماعهم من دونه حجة، لأن الحجة في إجماع الكل.

والصحابة سوغوا للتابعين المعاصرين لهم الاجتهاد معهم في الوقائع الحادثة في عصرهم. وليس لمرتبة الصحبة ميزة متميزة في ميدان الاجتهاد، فلا يتخصص الإجماع بهم.

المشكلة الثانية - هل يختص الإجماع بعصر الصحابة؟

يرى جمهور علماء الأصول: أن إجماع المجتهدين في أي عصر يعدّ حجة، ولا يختص ذلك بعصر الصحابة، لأن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة من القرآن والسنة والعقل لا تفرق بين عصر وعصر، فالتابعون إذا أجمعوا فهو إجماع من جميع الأمة، ومن خالفهم فهو سالك غير سبيل المؤمنين.

وادعاء قصر الإجماع على الصحابة تخصيص من دون مخصص؛ لأن أدلة حجية الإجماع لا تفرِّق بين أهل عصر وعصر، وإنما هي بإطلاقها متناولة لأهل كل عصر  كتناولها لأهل عصر الصحابة، لقوله r: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم خلاف من خالفهم، حتى يأتي أمر الله».

المشكلة الثالثة - هل يتقيد انعقاد الإجماع بعدم وجود خلاف سابق؟

تصوير المشكلة: إذا اختلف علماء عصر في مسألة على قولين، ولم يتفقوا على رأي واحد، فهل ينعقد إجماع من بعدهم على أحد القولين؟

اتجه أكثر الحنفية وكثير من الشافعية إلى أنه يجوز الإجماع على أحد القولين المتقدمين في عصر سابق، لأن الأدلة الدالة على حجية الإجماع لا تفرّق بين ما إذا سبق الإجماعَ خلافٌ أو لم يسبقه.

واتجه الإمام أحمد بن حنبل وإمام الحرمين الجويني والآمدي الشافعي وجماعة من الأصوليين إلى أنه يمتنع الإجماع على أحد القولين، ويشترط ألا يسبق الإجماع خلاف؛ لأن من مات من السلف يبقى قوله، ولا يموت بموته، فيكون هذا القول قائماً حال إجماع الخلف، فإذا كان هذا القول مخالفاً لما أجمع عليه الخلف فلا ينعقد الإجماع؛ لأن المطلوب هو إجماع كل الأمة.

ولأن إجماع المجتهدين لا يحصل عادة بعد سبق الخلاف، لأن العادة تقضي بالتمسك بالآراء الدينية، ولاسيما بعد التابعين لمن سلفهم، وحينئذٍ لا يمكن الاتفاق بين الخلف والحالة هذه.

والظاهر هو الرأي الأول؛ لأن المعول عليه في الإجماع إنما هو إجماع من كان على قيد الحياة في حال وقوع الحادثة، سواء سبقهم خلاف في المسألة أم لا، فهو سبيل المؤمنين الواجب اتباعه، وأن خلاف السابقين لا يمنع انعقاد الإجماع.

إمكان الإجماع ووقوعه:

أما إمكان انعقاد الإجماع عادة فهو متحقق، إذ لا يترتب على فرض وقوعه محال في العادة، ولأن اتفاق المجتهدين متصور، وقد أمكن الإجماع في عصر الصحابة لأنهم كانوا قلة محصورين في بلدان وأماكن محدودة، فلا يمتنع إجماعهم عادة، وكان الخليفة الراشدي إذا طرأت مسألة جديدة بجمع رؤساء القوم، فيستشيرهم فيها، فإذا اتفقوا على حكم عمل به، وعلى الرغم من أنه في هذا العصر إذا اتحدت سلطة المسلمين فيمكن لولي الأمر دعوة المجتهدين واجتماعهم في دولة معينة، كجمعهم في المؤتمرات الحالية، بعد ترشيح كل دولة أعيان مجتهديها، ولأن اتفاقهم على دليل قاطع أيسر وأسهل، فهو كفيل بتوحيدهم، وكذلك إذا كان الدليل ظنياً جلياً لا تختلف فيه الأفهام، ولا تتباين فيه الأنظار، أو غير جلي؛ لأن الجمع الكثير كما نشاهد في هذا العصر وفي كل عصر قد يتفقون على شبهة باطلة قطعاً، كاتفاق النصارى على التثليث، واتفاقهم مع اليهود على إنكار نبوة محمدr، واتفاق الفلاسفة على قِدَم العالم ونحوه، فيكون الاتفاق على الدليل الظني الذي لم يعارضه دليل قاطع أولى بإمكان حصوله عادة، وخاصة إذا كانت المصلحة العامة هي المنطلق، مما يحمل الجماعة على الاتفاق عليها.

والمعقول والعمل يؤيدان هذا الاتجاه، بدليل وقوع الإجماع فعلاً في كثير من الأحكام الظنية غير القطعية، وليس أدل على الجواز العقلي من الوقوع، فالوقوع - كما سيتبين - دليل التصور وزيادة كما قال الآمدي، مثل إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وعلى جمع القرآن في مصحف واحد، وعلى تحريم الربا في الأصناف الستة الربوية (الذهب، والفضة، والبُر، والشعير، والتمر، والملح) التي ورد الحديث الصحيح بها، بعد الاختلاف الذي حدث أولاً، ثم أعقبه الاتفاق.

وإذا أمكن تصور الإجماع عقلاً وعادة وفعلاً فمن الممكن معرفته والاطلاع عليه في رأي أكثر العلماء، بأن يجمعهم ولي الأمر في قطر معين، أو أن يكتب إلى كل واحد منهم لاستطلاع رأيه، أو أن توجه الدعوة اليوم بعد انقسام الدولة الإسلامية إلى علماء البلاد عن طريق حكوماتهم، فتعرف آراؤهم بطريق سهل، قال الغزالي: «إذا انحصر أهل الحل والعقد، فكما يمكن أن يعلم قول واحد، أمكن أن يعلم قول الثاني إلى العشرة والعشرين».

ومن الأدلة الواقعية: أنه أمكن معرفة آراء المجتهدين في الماضي معرفة تفصيلية للمذاهب الإسلامية لحرص الناس على البحث عن تلك الآراء والمذاهب، وتتبعها، بقصد الانتفاع والعمل بها، على الرغم من بطء المواصلات وصعوبة وسائل النقل.

كذلك لم يتعذر الوقوف على الإجماع في عصر الصحابة، فإنهم كانوا قليلين محصورين ومجتمعين في الحجاز، ومن خرج منهم بعد فتح البلاد كان معروفاً في موضعه. وإذا حصل الإجماع من غير الصحابة فإنه يكون حجة ويمكن معرفته والاطلاع عليه ولاسيما في العصر الحاضر، إذ أصبح العالم بوسائل الاتصال الحديثة كالقرية الصغيرة.

أما وقوع الإجماع فذكر جمهور الأصوليين أنه وقعت إجماعات كثيرة من الصحابة وغيرهم مما يعتمد على نص شرعي، مثل الإجماع على إعطاء الجدة السدس في الميراث، والإجماع على منع بيع الطعام قبل قبضه، وعلى تحريم شحم الخنزير قياساً على حكم لحمه المنصوص عليه في القرآن، وعلى وجوب ضمان المغصوب بالمثل أو بالقيمة، ورد العارّية أو الوديعة لصاحبها، وعلى بطلان زواج المسلمة بغير المسلم، وعلى صحة عقد الزواج من غير تسمية مهر، وعلى بطلان بقاء المرأة المسلمة في عصمة زوجها بعد انتهاء عدتها، وعلى حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في الزواج، وعلى وجوب العدة بموت الزوج أو الطلاق، ونحو ذلك.

أما الإجماع في المسائل الاجتهادية فهناك آراء كثيرة لا يعلم فيها خلاف بين الصحابة أو غيرهم، وهذا داخل في الإجماع الظني. قال الإمام الشافعي: ما لا يعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع. ويمكن القول إن مثال الإجماع في هذا المجال هو عقد القراض أو المضاربة.

وأما المقصود من عبارة الإمام أحمد: «من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا» فهو ضرورة التثبت من نقل الإجماع أو ادعائه من غير أن يوافقه غيره على نقله والاطلاع عليه، كما يُشاهد في نقول الإجماع في كتب المذاهب الفقهية في أبواب الفقه، ولا يريد الإمام أحمد قطعاً إنكار أصل حجية الإجماع، فهو يقرّ به، ويعده أحد مصادر التشريع بعد الكتاب والسنة.

وأما الإمام الشافعي فيحصر الإجماع الذي لا خلاف فيه في جملة الفرائض وأصول العلم والدين التي لا يسع أحداً الجهل بها.

فإذا ظهر حديث نبوي يقضي بخلاف مضمون الإجماع المتوهم فيجب الرجوع إلى أصل هذا الحديث إذا ثبتت صحته للعمل به.

وإذا وقع الإجماع فعلاً فيمكن نقله إلى من يحتجون به نقلاً يفيد العلم به، إما بطريق التواتر (وهم عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب) الذي يفيد القطع واليقين - وإن كان ذلك ليس بشرط - ولكن يمكن تحققه لتوافر الدواعي والطموحات على نقله، وإما بطريق أخبار الآحاد (الذي يرويه واحد أو اثنان أو ثلاثة مثلاً) قياساً على نقل السنة النبوية، فكل من السنة والإجماع دليل يجب العمل به، فلا يتعين التواتر طريقاً لنقل الإجماع.

والإجماع ممكن في كل عصر بطريق اتفاق أولي الأمر في الأمة على حكم مسألة لم ينص على حكمها في الكتاب أو السنة؛ مما للرأي فيه مجال من مصالح الأمة الدنيوية التي تختلف باختلاف الزمان أو المكان، كالإجماع على إعلان حرب على عدو، أو على وضع حدّ أعلى للملكية في الأراضي الزراعية إذا كان في ذلك مصلحة ظاهرة للأمة، فيكون إجماع كل عصر إجماعاً صحيحاً، أما الأمور السياسية كانعقاد البيعة لأحد الحكام فلا حاجة للإجماع فيها، ويكفي فيها رأي الأغلبية أو الأكثرية.

ومما ينبغي العلم به أن «الإجماع لا يُنسَخ ولا ينسخ به شيء» كما قرر علماء الأصول؛ لأن النسخ لا يكون إلا في عصر النبوة دون غيره من العصور. وكذلك لا ينسخ حكم ثابت بالإجماع بإجماع آخر؛ لأن الإجماع متى ثبت صار حجة قطعية، ولا يصح مخالفته، ولا يعتد بإجماع آخر، كما قال جمهور الأصوليين، ولأن خطأ الإجماع محال، فما أدى إلى المحال محال.

ومن أراد الاطلاع على الإجماعات في أغلب أبواب الفقه، فليرجع إلى كتاب «مراتب الإجماع» لابن حزم، حيث ذكر (110) إجماعات، علماً أن ابن حزم لا يقر إلا الإجماع المستند إلى نص من قرآن أو سنة، وأمثلة الإجماع لديه تشمل العبادات والمعاملات، كما تشمل الاعتقادات التي يكفر من خالف الإجماع فيها، كوحدانية الله تعالى، وأنه خالق كل شيء، وأن النفس الإنسانية مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق لا قديم، خلافاً لرأي الفلاسفة، والنبوة والرسالة حق، ودين الإسلام هو دين الحق الذي لا دين لله في الأرض سواه، وأنه ناسخ جميع الأديان السابقة، ولا ينسخه دين بعده، لانقطاع النبوات، ومن خالفه ممن بلغه مخلَّد في النار أبداً، وأن التحليل والتحريم وإيجاب الأحكام الشرعية يحتاج إلى دليل من قرآن أو سنة أو إجماع أو نظر واجتهاد مقبول.

مراجع للاستزادة:

- عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار على أصول البزدوي (مكتبة الصنايع، 1307هـ).

- أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، الطبعة الأولى (مطبعة مصطفى محمد، القاهرة 1356هـ).

- الشيخ عبد الوهاب خلاَّف، علم أصول الفقه، الطبعة السابعة (مطبعة النصر، القاهرة 1376هـ/1956م).

- وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي، الطبعة الثانية (دار الفكر، دمشق 1418هـ/1986م).

 


التصنيف : العلوم الشرعية
النوع : العلوم الشرعية
المجلد: المجلد الأول: الإباحة والتحريم ـ البصمة الوراثية
رقم الصفحة ضمن المجلد : 39
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 551
الكل : 31638255
اليوم : 73110