الدولة
دوله
state - L’état
جميلة الشربجي
تعريف الدولة | |
أركان الدولة | |
الاعتراف بالدولة | |
الشخصية القانونية للدولة | |
يعد موضوع الدولة L’état المدخل الأساسي لجميع دراسات القانون العام بفروعه المختلفة، فهو ضروري لكل فروع القانون العام مع اختلاف الزاوية التي تهم كل فرع في دراسته لها.
ومرجع ذلك أن الدولة هي العنصر المميز لعلاقات القانون العام، إذ تختلف طبيعة قواعد القانون العام عن قواعد القانون الخاص على أساس وجود الدولة بما لها من سيادة طرفاً في روابط وعلاقات القانون العام، حتى عُرف القانون العام بأنه (قانون الدولة) باعتباره القانون الذي يحكم العلاقات التي تكون الدولة طرفاً فيها.
أولاً- تعريف الدولة:
يختلف تعريف الدولة، باختلاف مدلولها اللغوي والاصطلاحي والفقهي:
1- الدولة في المدلول اللغوي:
مصطلح الدولة، في اللغة العربية، هو مصطلح فارسي الأصل مشتق من فعل (دال) أي تغير وتحول من حال إلى حال، وهي تعني ما يجري تداوله من مال ومتاع، كما تعني الغلبة، كما في التعبير (دالت الدولة لفلان على فلان) إن انتصر عليه.
وهذا المعنى ذكر في القرآن الكريم، حين قال الله تعالى في الآية السابعة من سورة الحشر ]مَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَللَّهِ وَلِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبَى واليَتَامَى وَالمسَاكِينِ وابنِ السَبِيلِ كَي لا يَكُونَ دُوْلَةً بَيْنَ الأَغْنِياء مِنْكُم[ ومعنى الآية الكريمة: حتى لا يقع مال الفيء في أيدي الأغنياء فيتداولوه بينهم دون الفقراء، ومعنى التداول هنا انتقال الشيء من شخص إلى آخر، ومن ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران: ]وَتِلكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ[ بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يجعلها يوماً لجماعة ويوماً لأخرى وذلك كما يتم تداول النقود بين الأيدي.
وقد استخدمت كلمة الدولة في هذا المعنى في الكتابات السياسية العربية القديمة لتعني السلطة التي تتداول على مرور الزمن، إلى أن استقر معناها في العصر الحديث على البلاد أو على سلطتها بحيث إنها أصبحت مرادفة لعبارة Status اللاتينية التي تعنى (الوقوف واستقرار الوضع) وهو المعنى الذي اشتقت الكلمة منه في مختلف اللغات الأوربية.
ومن ثم فالدولة في اللغة العربية تشير إلى معنى مغاير تماماً للمعناها في اللغات الأوربية، إذ يقصد بها حالة التبدل والتغير وعدم الثبات، في حين يعني المصطلح الأوربي state الكيان السياسي الذي بلغ مرحلة من الثبات والاستقرار.
2- الدولة في المدلول الاصطلاحي:
يستخدم اصطلاح الدولة، في اللغة الشائعة، للدلالة على ثلاثة معانٍ، المعنى الأول: هو المعنى الأوسع انتشاراً، والذي يعرف الدولة بأنها جماعة منظمة ترتبط بروابط اجتماعية وقومية مشتركة، فيكون معنى الدولة مرادفاً لمعنى الأمة، كأن يقال دولة ألمانيا، أو دولة إيطاليا. أما المعنى الثاني: فهو أضيق من المعنى الأول، إذ يقصد بالدولة (السلطات العامة) أي الحكام دون المحكومين، وذلك المعنى هو المقصود عند الحديث عن قدرة الدولة أو عدم قدرتها على حل المشاكل التي تعترض حياة المواطنين.
وفي معنى ثالث وأخير: يقصد بكلمة الدولة (السلطة المركزية) التي تتخذ لها مقراًَ بعاصمة الدولة فقط دون السلطات اللامركزية، بمعنى أنها تدل على جانب واحد من السلطات العامة وهي السلطة المركزية وتستبعد بذلك، الوحدات اللامركزية سواء أكانت إقليمية كالمحافظات والمدن والقرى، أم مرفقية كالمؤسسات العامة والمنشآت العامة، وهذا المعنى هو المقصود عندما يقال (إن المحافظ عليه الحصول على إذن من الدولة لإبرام قرض يتجاوز مبلغاً معيناً) فلفظ الدولة هنا، يدل على الوزير المختص بالموافقة على إبرام القرض.
3- الدولة في المدلول الفقهي:
اختلف الفقهاء في تعريف الدولة، تبعاً لاختلاف المعايير التي اعتمد عليها كل منهم في تعريفها، مما أدى إلى تعدد التعريفات بشأن الدولة وتباينها:
أ - تعريف الدولة في الفقه الفرنسي: عرف الفقيه Esmein (اسمان) الدولة بأنها (التشخيص القانوني لأمة ما) مركزاً في تعريفه على الشخصية المعنوية للدولة، من دون أن يبين الأركان اللازمة لوجودها.
في حين ذهب الفقيه Bonnard (بونارد) إلى تعريفها بأنها (وحدة قانونية دائمة تتضمن وجود هيئة اجتماعية تباشر سلطات قانونية معينة إزاء أمة مستقرة على إقليم عن طريق القوة المادية التي تحتكرها) مبرزاً في تعريفه الشخصية المعنوية والقانونية للدولة إضافة إلى أركانها.
أما الفقيه Duguit (ديجي) فقد رأى (أن الدولة توجد في كل حالة يثبت فيها انقسام الأفراد في جماعة معينة إلى حكام ومحكومين سواء أكان هذا الانقسام في مرحلة فطرية أم في مرحلة معقدة ومتطورة) فالأساس لدى (ديجي) في وجود الدولة هو السلطة وما تؤدي إليه من تمايز بين الحكام والمحكومين، مغفلاً ضرورة توافر ركن الإقليم ومنكراً وجود إرادة متميزة للدولة، ففي رأيه أن الشخصية المعنوية للدولة محض خيال والإرادة العامة ليست إلا إرادة الحكام التي تفرض على المحكومين احترام القوانين التي تتفق ومقتضيات التضامن الاجتماعي، عدا عن أن التعريف الذي قال به من السعة، بحيث ينطبق على أي جماعة تنشأ فيها سلطة كالأسرة والقبيلة وهو ما لا يسلم به جمهور الفقهاء.
أما الفقيه Carré de Malberg (كاري دي ملبير) فيؤكد في تعريفه أهمية الإقليم إلى جانب السلطة الآمرة فيعرفها على أنها (مجموعة من الأفراد، توجد على إقليم محدد ولها من التنظيم ما يجعل للجماعة في مواجهة الأفراد سلطة عليا آمرة).
ب - تعريف الدولة في الفقه الأنغلوسكسوني: عرف الفقيه Woodrow Wilson (ودرو ويلسون) الدولة بأنها (شعب يخضع للقانون على إقليم معين).
وعرفها الفقيه Holland (هولاند) بأنها (مجموعة من الأفراد يقطنون إقليماً معيناً ويخضعون لسلطان الأغلبية أو لسلطان طائفة منهم).
أما الفقيه Salmond (سالموند) فيعرفها بأنها (مجموعة من الأفراد مستقرة على إقليم محدد لإقامة السلم والعدل عن طريق القوة).
وواضح من التعاريف السابقة إجماعها على ضرورة توافر الأركان الثلاثة للدولة ، الشعب والإقليم والسلطة.
ج - تعريف الدولة في الفقه الألماني: عرف الفقيه Bluntschli (بلانتشلي) الدولة بأنها (التشخيص القومي والسياسي والتنظيمي لأمة ما) مساوياً في تعريفه بين اصطلاحي الأمة والدولة.
أما الفقيه Jellinek (جيلينك) فيعرفها بأنها (جماعة لها إرادة لا تتقيد إلا بذاتها ولها نظامها الخاص بها والذي يكفل لها أن تحيا حياة كاملة ومستقلة) مبرزاً في تعريفه الشخصية المعنوية والقانونية للدولة مهملاً الإشارة إلى أركانها.
د - تعريف الدولة في الفقه العربي: عرف وحيد رأفت الدولة بأنها (جماعة كبيرة من الناس تقطن على وجه الاستقرار أرضاً معينة من الكرة الأرضية وتخضع لحكومة منظمة تتولى المحافظة على كيان تلك الجماعة وتدير شؤونها ومصالحها العامة).
أما فؤاد العطار فيعرفها بأنها (ظاهرة سياسية وقانونية تعني جماعة من الناس يقطنون رقعة جغرافية معينة بصفة دائمة ومستقرة ويخضعون لنظام سياسي مستقل).
ويعرفها سليمان الطماوي بأنها (مجموع كبير من الناس يقطن على وجه الاستقرار إقليماً معيناً ويتمتع بالشخصية المعنوية والنظام والاستقلال السياسي).
ويذهب كمال الغالي في تعريفها على أنها (مجموعة متجانسة من الأفراد تعيش على وجه الدوام في إقليم معين وتخضع لسلطة عامة منظمة).
وواضح مما سبق، اتفاق الفقهاء العرب على الأركان اللازمة لوجود الدولة والتي هي الشعب والإقليم والسلطة السياسية.
ثانياً- أركان الدولة:
يقصد بأركان الدولة، العناصر الواجب توافرها لوجود الدولة، فلا توجد الدولة إلا بتوافرها، وهذه الأركان هي: الجماعة البشرية (الشعب) والإقليم والسلطة السياسية.
1- الشعب:
لا يتصور وجود الدولة من دون وجود مجموعة من الأفراد الذين يكونون شعب هذه الدولة، وهم أولئك الأفراد الذين يقيمون على أرضها ويحملون جنسيتها، بمعنى أن الشعب في المعنى الاصطلاحي يشمل فقط المواطنين الذين تثبت لهم جنسية الدولة طبقاً للدستور والقانون مع ما يترتب على صفة المواطن من حقوق سياسية ومدنية وواجبات في علاقته بالدولة.
ومن ثم فإن مفهوم الشعب، من الناحية الاصطلاحية، أضيق من مفهوم سكان الدولة، ذلك أنه قد يقطن الدولة أجانب لا يتمتعون بجنسيتها، وهؤلاء مهما طالت مدة إقامتهم، فهم يعدّون من سكان الدولة ولكن ليسوا من شعبها الذي يقصر مفهومه على من يحمل جنسيتها فقط.
ولا يشترط الفقه عدداً معيناً من الأفراد لتوافر ركن الشعب، فقد يبلغ هذا العدد مئات الملايين (كالصين) وقد لا يتجاوز الآلاف (كالڤاتيكان) ولكن تنبغي الإشارة إلى أن كثرة عدد شعب الدولة هو مظهر من مظاهر قوتها وهيبتها، إذ كلما زاد عدد شعب الدولة قويت شوكتها وكثر إنتاجها وتضاعفت ثروتها واستطاعت فرض نفوذها واحتلال مكانة ممتازة في المجتمع الدولي، طبعاً بشرط أن يتحقق لهذا الشعب قدر مناسب من التقدم والرقي الحضاري وإلا انقلب هذا العدد عبئاً على الدولة، تضطر معه إلى الحد من التكاثر السكاني، تخفيفاً للآثار السلبية المصاحبة له. هذا الشعب - أياً كان تعداده - لا يشترط أن يوجد بين أفراده روابط مادية وروحية، كوحدة الجنس (بمعنى انحدار جميع أفراد الشعب من جنس واحد، كالجنس العربي أو الجنس الأمازيغي أو الجنس الجرماني …) أو وحدة اللغة أو الدين أو العادات أو المصالح أو الآمال المشتركة وغيرها من الروابط المطلوبة لوجود الأمة.
وبمعنى آخر لا يشترط في شعب الدولة أن يكون مكوناً من أمة واحدة، فدولة كالولايات المتحدة الأمريكية يتكون شعبها من عدة أمم، وأمة واحدة كالأمة العربية يتوزع أفرادها بين عدة دول.
فلا تطابق بين فكرة الشعب والأمة، فالشعب ظاهرة سياسية تتمثل في ارتباط مجموعة من الأفراد بنظام سياسي في إقليم معين، أما الأمة فحقيقة اجتماعية تتمثل في ارتباط الأفراد بمصالح وأهداف مشتركة تستند إلى مقومات وخصائص مشتركة نتيجة تراث مشترك من العادات والأخلاق ومجموعة من الروابط التي ترجع إلى الدين واللغة والجنس.
والشعب ركن أساسي من أركان الدولة، يرتبط بها وجوداً وعدماً فإذا ما زالت الدولة لأي سبب، كاندماجها في غيرها من الدول، فإن شعبها يصبح جزءاً من شعب الدولة الجديدة.
2- الإقليم:
يجب لوجود الدولة أن يستقر شعبها على وجه الدوام في بقعة معينة من الأرض تسمى (الإقليم) إذ لا يمكن أن تقوم دولة بغير إقليم معين، تختص به ويكون له حدود واضحة.
ومن ثم فالقبائل الرحل، مهما كانت روابطهم، لا يمكن أن تتكون منهم دولة، لأنهم لا يعيشون بصورة مستقرة ودائمة على أرض محددة، بل يتنقلون من مكان إلى آخر باستمرار.
أ- أقسام الإقليم: لا يشمل إقليم الدولة، الإقليم الأرضي فقط، وإنما يشمل أيضاً ما يوجد فوق هذا الإقليم الأرضي من أنهار أو بحيرات أو خلجان وما يلاصقه من بحار يطلق عليها اسم (الإقليم المائي) كما يشمل كذلك الطبقات الهوائية التي تعلو فوق الإقليمين الأرضي والمائي والتي يطلق عليها اسم (الإقليم الجوي).
(1) الإقليم الأرضي: وهو الجزء اليابس من الأرض الذي يقيم عليه سكان الدولة وتمارس عليه سيادتها، إذ تنتهي سلطة الدولة عند حدودها لتبدأ سيادة دولة أخرى، لذلك وجب أن يكون إقليم الدولة محدداً تعينه حدود طبيعية (جبال أو أنهار تفصل بين الدولة وغيرها من الدول) أو اصطناعية (كأسوار أو أبراج أو جدران تشكل علامات خارجية تبين حدود الإقليم) أو وهمية (كخط طول أو خط عرض).
وتختلف الدول من حيث مساحة إقليمها الأرضي اتساعاً أو ضيقاً، فقد تكون مساحته مئات الكيلومترات وقد تصل إلى ملايين الكيلومترات، وهنا لا عبرة لمساحة الإقليم، لتقرير وجود الدولة أو عدم وجودها، ولكن المهم هو إقامة شعب الدولة على هذه المساحة إقامة دائمة، فاتساع الإقليم أو ضيقه قد يؤثر في قوة الدولة ولكنه لا يؤثر في وجودها ذاته.
ولا يهم أن يكون الإقليم متصلاً من دون فواصل مائية أو طبيعية أو سياسية أو مع وجود فواصل من أي نوع بين الإقليم الواحد (كالباكستان وإندونيسيا) المهم هو خضوع الإقليم كله لسيادة الدولة ذاتها مع العلم أن عدم وجود فواصل بين أجزاء الإقليم يكون أفضل لحمايته خارجياً وداخلياً.
(2) الإقليم المائي: ويشمل هذا الإقليم (البحر الإقليمي) وهو الجزء الساحلي من البحر العام الملاصق لشواطئ الدولة، إضافة إلى (المياه الداخلية) الموجودة ضمن الإقليم الأرضي كالأنهار والبحيرات.
وقد ثار الخلاف بين الدول حول تحديد نطاق البحر الإقليمي الملاصق لشواطئها، وذلك بسبب الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية للبحر الملاصق لكل دولة، وقديماً تم الاتفاق على تحديد البحر الإقليمي بثلاثة أميال بحرية على اعتبار أن هذا هو الحد الأقصى الذي تصل إليه قذائف المدافع ابتداءً من شواطئ الدولة، وهذه المسافة هي الحد الأدنى للمسافة التي تمارس فيها الدولة سيادتها على بحرها الإقليمي، أما الحد الأقصى فهو محل خلاف بين الدول ولكن بعضهم قدر هذه المسافة بـ (اثني عشر) ميلاً بحرياً.
وإلى جانب البحر الإقليمي، هناك ما يسمى (الامتداد القاري) أو (الجرف القاري) وهو الطبقات الأرضية المنحدرة الواقعة في أعالي البحار، بجوار مياه الدولة الإقليمية، وهذه المنطقة لا تمارس عليها الدولة، سيادة مطلقة وإنما تتمتع فقط بالحق في استثمارها من الناحية الاقتصادية، إذ يعد ما في باطنها من ثروات، ملكاً خاصاً لتلك الدولة.
(3) الإقليم الجوي: وهو الفضاء الجوي الذي يعلو إقليم الدولة الأرضي وإقليمها المائي، وتمتد إليه سيادة الدولة ويعدّ جزءاً من إقليمها.
وقد حدث خلاف في الرأي بين فقهاء القانون الدولي حول تحديد إقليم الدولة الجوي ومدى سلطانها عليه، فذهب فريق منهم إلى القول بوجوب اعتبار الهواء حراً لجميع الدول، ومعنى ذلك أن يكون حكمه، حكم البحار العامة التي لا تخضع لسيادة دولة من الدول، مراعين في ذلك المصلحة العامة للبشرية بإطلاق حرية الملاحة الجوية، متجاهلين حق الدولة في البقاء، ذلك أن مرور الطائرات فوق إقليم الدولة يهددها أكثر من مرور البواخر في عرض البحار.
وذهب فريق آخر من الفقهاء إلى وجوب اعتبار طبقات الهواء الواقعة فوق أرض الدولة جزءاً من إقليمها يخضع لسيادتها وسلطانها المطلق من دون أن ترد على هذه السيادة أية قيود، مراعين في ذلك مصلحة الدولة في حفظ أمنها وإطلاق سيادتها على إقليمها الجوي، إلا أنه يؤخذ على هذا الرأي مبالغته في إغفال مصالح المجتمع الدولي.
وفريق ثالث من الفقهاء رأى أن للدولة سيادةً على إقليمها الجوي ولكنها ليست مطلقة، بل مقيدة بحق ارتفاق للدول جميعاً، وهو حق مرور الطائرات، وهو الرأي الذي أخذ به في معاهدة الطيران الدولي عام 1919. وفي عام 1944 عقدت اتفاقية جديدة نظمت الطيران المدني والدولي ونصت على مبدأ سيادة الدولة الكاملة على طبقات الهواء فوق إقليمها مع إعطاء مجموعة من الحقوق لطائرات الدول المتعاقدة غير الحربية وغير المستعملة في خطوط دولية منتظمة.
ب - طبيعة حق الدولة على إقليمها: اختلف الفقهاء في تكييف حق الدولة على إقليمها وانقسموا بين عدة آراء، ونتج من ذلك تعدد النظريات في هذا الشأن:
(1) نظرية حق السيادة: يرى أنصار هذه النظرية أن حق الدولة على إقليمها هو حق سيادة.
وقد تعرضت هذه النظرية للنقد من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن السيادة إنما ترد على الأشخاص لا على الأشياء، أي إن الدولة تمارس سيادتها على الأفراد الموجودين في الإقليم لا على الإقليم ذاته.
ويرد على هذا النقد، بأنه إذا كان للدولة سيادة على أفراد الشعب وهو أمر مسلم به، فإنها من باب أولى تنسحب على الإقليم، غير أنها وفق طبيعة الإقليم، باعتباره جماداً، فتأخذ معنى السيطرة والهيمنة والإشراف عليه وحمايته.
ومن ناحية أخرى، إذا كان الإقليم موزعاً على الأفراد ملكياتٍ خاصةً، فهذا لا ينفي هيمنة الدولة على الإقليم، ذلك أنها هي التي تقرر حق الملكية الخاصة وتحميه، وهي التي تستطيع نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة، كما تملك تحديد هذه الملكية … وهذه التصرفات التي تقوم بها الدولة حيال الأفراد وتنصب في الوقت نفسه على الإقليم، ترجع إلى ما للدولة من سيادة تحمل معنى القدرة على التصرف في الأشياء وفي مواجهة الأفراد بما يحقق المصلحة العامة للمجتمع من دون نظر إلى مصلحة كل فرد على حدة.
الناحية الثانية: أن هذه النظرية لا تتفق مع قواعد القانون الدولي خاصة تلك التي تجيز امتداد سيادة بعض الدول إلى إقليم دولة أخرى، أو تسمح بامتداد اختصاص الهيئات الدولية داخل إقليم الدولة.
وهذا النقد يمكن الرد عليه، بأن السيادة إذا كانت تعني انفراد الدولة بممارسة اختصاص غير محدد على إقليمها بدون تدخل دولة أخرى، فإن هذه السيادة تتقيد بما تقرره القواعد والمعاهدات الدولية تحقيقاً لمصالح الدول الأخرى.
(2) نظرية حق الملكية: يرى أنصار هذه النظرية أن حق الدولة على إقليمها هو حق ملكية، بمعنى أن الدولة تملك الإقليم بمشتملاته المختلفة، وقد تعرضت هذه النظرية للانتقاد من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن ملكية الدولة للإقليم تتعارض مع ملكية الأفراد العقارية وتؤدي إلى منعها، وقد رد أنصار هذه النظرية على هذا النقد، بأن الملكية في هذا المجال لها طبيعة خاصة تسمو على الملكية الفردية ولا تتعارض معها.
الناحية الثانية: أن هذه النظرية لا تتماشى مع متطلبات العصر الحديث، إذ تمثل امتداداً لحقبة تاريخية منقضية في تطور الدولة، تسمى بعهد الدولة المالية التي كانت تعد الإقليم نوعاً من الملكية الخاصة للحاكم يتصرف فيه كما يشاء.
(3) نظرية الاختصاص: وطبقاً لهذه النظرية فإن الإقليم هو المكان الذي تباشر الدولة سلطاتها في نطاقه.
ويؤخذ على هذه النظرية، أن هذا الاختصاص الإقليمي ليس أمراً مطلقاً، فثمة قوانين تمتد لتطبق خارج إقليم الدولة، فضلاً عن وجود إعفاءات لبعض الوقائع والأشخاص والممتلكات الواقعة في نطاق الإقليم من الخضوع للتشريعات الوطنية طبقاً لما تفرضه قواعد القانون الدولي العام ونصوص الاتفاقات والمعاهدات الدولية في هذا الشأن.
3- السلطة السياسية:
لا يكفي لنشأة الدولة وقيامها، وجود شعب يقطن إقليماً معيناً بصفة دائمة وإنما يلزم إلى جانب ذلك وجود هيئة حاكمة ومنظمة تشرف على الإقليم ومن يقطنونه، فتحكم الشعب وتشرف عليه وترعى مصالحه، وتدير الإقليم وتنظم استغلال موارده وثرواته الطبيعية وتقوم بحمايته وتعميره.
وتعدّ السلطة السياسية من أهم الأركان التي تقوم عليها الدولة، حتى إن بعض الفقهاء، عرف الدولة بأنها (تنظيم لسلطة القهر لحماية أمنها وأمن المقيمين عليها داخلياً وخارجياً).
ولا يشترط في السلطة السياسية، اتخاذها لشكل معين في نهجها السياسي وإنما المهم أن تتمكن من بسط سلطاتها على الإقليم الذي تقوم بحكمه، بما لا يسمح بوجود سلطة أخرى منافسة لها.
ويرى الفقه الدستوري أنه لا يشترط لقيام الدولة وتوافر أركانها أن تكون ممارسة السلطة السياسية بناء على رضا المحكومين، إذ كثيراً ما تبسط هذه السلطة الحاكمة هيمنتها وسيطرتها على المحكومين بواسطة القوة والقهر، إذ معظم النظم العسكرية أو القائمة على الانقلاب العسكري من هذا النوع.
غير أن هذا الأسلوب لم يعد ملائماً للعصر الحاضر، إذ لا بد من استناد السلطة إلى إرادة الجماعة المحكومة ورضاها، حتى ذهب جانب من الفقه إلى عدم الاكتفاء بمجرد وجود سلطة عامة يخضع لها الأفراد للقول بقيام الدولة وإنما اشترطوا ضرورة اعتراف الأفراد بها وقبولهم بسلطتها.
ولكي تعدّ هذه السلطة السياسية ركناً من أركان الدولة يجب أن تتمتع بمجموعة من الخصائص:
أ - أن تكون سلطة ذات سيادة: بمعنى أن تكون سلطة الدولة قادرة على تنظيم نفسها وفرض توجيهاتها فلا تكون خاضعة داخلياً أو خارجياً لغيرها.
ففي الداخل يجب أن تكون هذه السلطة هي صاحبة الأمر الأعلى فيما ينشأ بين الأفراد أو الوحدات الداخلية من خلافات، فلا تكون خاضعة مادياً ولا معنوياً لسلطة أعلى منها.
وفي الخارج في علاقتها بالدول الأخرى يجب أن تكون ذات سيادة، متمتعة بالاستقلال السياسي، بأن تكون سلطة وطنية، أعضاؤها ينتمون إلى أبناء الشعب الذي يحكمونه فلا تكون تابعة لدولة أجنبية (سلطة انتداب، حماية) بما يؤدي إلى تبعية الدولة لدول أخرى، ولا يكون لها صفة الدولة كاملة السيادة في المجتمع الدولي.
ب - أن تكون سلطة قاهرة: إن أهم ما يميز سلطة الدولة هو احتكارها لمصادر القوة، سواء القوات المسلحة أم قوات الشرطة، فالدولة وحدها هي التي تحتكر مصادر القوة العسكرية، ذلك أن القواعد القانونية يلزمها دائماً جزاء يحميها، ومن دون وجود القوة يصعب تنفيذ الجزاء المترتب على مخالفتها.
فاستخدام الدولة للقوة والإكراه هو الترجمة الحقيقية لفكرة سيادة الدولة في الداخل، لأن القوة هي التي تضمن تنفيذ القوانين والقرارات الإدارية بما يكفل تذليل جميع المشاكل والمنازعات التي تثور بين الأفراد أو بينهم وبين الدولة، وبما يؤدي في النهاية إلى تحقيق النظام العام في الدولة.
وفي مجال السيادة الخارجية، فإن استخدام القوة هو الذي يمكن الدولة من الاحتفاظ بسيادتها كاملة غير منقوصة من خلال تمكينها من صد أي عدوان خارجي عليها.
ج - سلطة مستقلة ومنفردة: فالسلطة السياسية بصفتها ركناً من أركان الدولة، يجب أن تكون قائمة بذاتها، فلا تكون مندمجة أو تابعة لوحدة سياسية أخرى، ومثال ذلك الولايات المندمجة في اتحاد فيدرالي، فالولاية في هذا الاتحاد لا ينطبق عليها وصف الدولة على الرغم من تمتع هذه الولاية بشعبها الخاص وإقليمها المحدد وحكومتها المختارة، وذلك لأن حكومة الولاية ليست مستقلة وإنما هي خاضعة للسلطة الاتحادية المنفردة التي تتمتع وحدها بصفة الدولة.
د - سلطة ذات اختصاص عام: بمعنى أن هذه السلطة يمتد نشاطها إلى جميع الأفراد المقيمين في إقليم الدولة وفي جميع النشاطات والاختصاصات وذلك بعكس السلطات الأخرى التي ينحصر اختصاص كلٍ منها في اختصاصات محددة لا يجوز تجاوزها، بل تعمل على ممارسة اختصاصاتها في النطاق أو الإطار المرسوم لها، فسلطة المحافظ مثلاً تقتصر على تنفيذ القوانين ضمن محافظته ولا تمتد إلى غيرها من المحافظات، أما السلطة السياسية المركزية، فتعلو فوق جميع السلطات ولا يجوز تحديد نطاق اختصاصها في إطار محدد، فضلاً عن خضوع جميع أفراد الشعب لها، باعتبارها التنظيم السياسي الذي يباشر سلطاته على المواطنين من غير قيد، باسم الدولة.
هـ - سلطة لا تقبل التصرف فيها: وتعني هذه الخاصة أن الدولة التي تتنازل عن سيادتها المتمثلة في سلطتها، تفقد ركناً من أركان قيامها وتنقضي بذلك شخصيتها الدولية.
ثالثاً- الاعتراف بالدولة:
على الرغم من اتفاق الفقهاء، بما يشبه الإجماع، على ضرورة توافر الأركان الثلاثة السابقة (الشعب والإقليم والسلطة) لقيام الدولة، إلا أنهم اختلفوا حول ركن آخر وهو الاعتراف الدولي.
1- تعريف الاعتراف الدولي:
الاعتراف الدولي هو إجراء قانوني يتم بمقتضاه التسليم من جانب الدول الأعضاء في المجتمع الدولي بنشوء دولة جديدة وقبولها عضواً في المجتمع الدولي، بحيث يكون للدولة الجديدة الحق في اكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات تجاه الدول الأخرى، طبقاً لما تقرره الأعراف والقواعد الدولية.
فالدولة تنشأ باستكمال عناصرها الثلاثة، وإذا ما نشأت ثبتت لها السيادة على إقليمها وعلى رعاياها بلا نزاع، لكنها لا تتمكن من ممارسة هذه السيادة في مواجهة الدول الأخرى ومباشرة حقوقها داخل الجماعة الدولية إلا إذا اعترفت هذه الجماعة بوجودها.
ولا يترتب على الاعتراف الدولي أدنى مشكلة إذا ما لاقت الدولة الجديدة ترحيباً من المجتمع الدولي وسارعت بقية الدول إلى الاعتراف بها، ولكن المشكلة تنشأ في حالة عدم ترحيب المجتمع الدولي بالدولة الجديدة، إذ يثور التساؤل عن مدى قانونية نشوء الدولة، بمعنى هل يكفي لنشأتها قانوناً توافر الأركان الثلاثة فقط، أم إن الأمر يستلزم توافر الاعتراف الدولي، بوصفه ركناً ضرورياً لنشوء الدولة؟ وبمعنى آخر هل الاعتراف الدولي مجرد كاشف لوجود الدولة، أم هو منشئ لها؟
2- تكييف الاعتراف الدولي:
اختلف فقهاء القانون الدولي في تكييف الاعتراف بالدولة الجديدة والأثر الذي يترتب عليه وانقسموا إلى اتجاهين متعارضين:
الاتجاه الأول: ويمثل رأي أغلبية الفقهاء الذين يرون أن الاعتراف الدولي، ليس ركناً من أركان قيام الدولة بل هو مجرد مسألة لاحقة يقف أثرها القانوني عند حد تقرير أمر سبق حدوثه في الواقع، فالدولة الجديدة تصبح شخصاً دولياً له ما للدول الأخرى من حقوق بمجرد اكتمال عناصرها، وليس الاعتراف هو الذي يكسبها تلك الشخصية وهذه الحقوق وإن كان يكفل لها ممارسة سيادتها في المحيط الدولي، ويسمى أنصار هذا الاتجاه بأنصار نظرية الاعتراف الكاشف.
الاتجاه الثاني: ويرى أنصار هذا الاتجاه، أنه لا يمكن إسباغ صفة الدولة في حالة تخلف الاعتراف الدولي بها، بمعنى أن الاعتراف الدولي هو ركن أساسي من الأركان اللازمة لقيامها، لأنه هو الذي يجعل من الدولة الجديدة شخصاً دولياً، ومن دونه لا تستطيع الدولة أن تتمتع بالحقوق التي يقرها القانون الدولي العام للدول الأعضاء في الجماعة الدولية، ولذلك يسمى أنصار هذا الاتجاه بأنصار نظرية الاعتراف المنشئ.
وقد أقر مجمع القانون الدولي في اجتماعه في بروكسل عام 1936، بصحة الاتجاه الأول، فاعتبر الاعتراف بالدولة له مجرد صفة إقرارية لا صفة إنشائية.
3- حرية الاعتراف:
الأصل في الاعتراف الدولي أن يكون خاضعاً لإرادة الدولة لا التزاماً قانونياً عليها، بمعنى أن الاعتراف بدولة جديدة، هو من التصرفات التي تصدر عن الدولة بحريتها التامة، ولا تجبر عليه إذا لم تكن ترغب فيه.
ولكل دولة حق تقدير الظروف التي نشأت فيها الدولة الجديدة، لتحدد على أساسها موقفها منها، فتعترف بها مباشرة أو ترجئ الاعتراف أو تمتنع عنه وفقاً لمقتضيات سياستها الخاصة، ولهذا يندر أن يتم الاعتراف بدولة جديدة من جانب الدول كافة في وقت واحد، والغالب أن تصدر الاعترافات بالتتالي تبعاً لقدر الثقة التي توحي بها الدولة الجديدة من ناحية، وتبعاً للاعتبارات السياسية والمصالح الخاصة والمبادئ الاجتماعية لكل دولة من ناحية أخرى.
4- صور الاعتراف:
لا يخضع الاعتراف بالدولة لأي قاعدة شكلية، فقد يكون صريحاً من خلال النص عليه في معاهدة أو إعلانه في وثيقة دبلوماسية، وقد يكون ضمنياً من خلال دخول الدول القديمة في علاقات دولية مع الدولة الجديدة عن طريق تبادل المبعوثين الدبلوماسيين أو إبرام المعاهدات معها أو دعوتها لحضور المؤتمرات باعتبارها دولة مستقلة.
ويطلق الفقه على النوع الأول من الاعتراف (الصريح المباشر) اسم الاعتراف القانوني، ويطلق على النوع الثاني (الاعتراف الضمني) اسم الاعتراف بالواقع من خلال الدخول في علاقات مع الدولة الجديدة من دون التعرض بصفة رسمية وصريحة لموضوع وجودها القانوني.
وقد يكون الاعتراف فردياً يصدر من كل دولة على حدة من تلقاء نفسها أو إجابة لطلب الدولة الجديدة كما قد يكون جماعياً يصدر من عدة دول مجتمعة في معاهدة أو وثيقة مشتركة أو في مؤتمر دولي (كالاعتراف ببلجيكا في مؤتمر لندن عام 1831 والاعتراف باليونان في مؤتمر القسطنطينية عام 1832) ويعدّ في حكم الاعتراف الجماعي بالدولة الجديدة قبولها عضواً في منظمة أو هيئة دولية لا تضم غير الدول (كمنظمة الأمم المتحدة) فإذا تم قبول الدولة الجديدة في المنظمة بإجماع الدول الأعضاء، كان ذلك بمنزلة اعتراف كل منها بها، أما إذا كان القبول محل اعتراض من بعض الدول لعدم رغبتها في الاعتراف بالدولة الجديدة، بحيث لم يصدر هذا الاعتراف إلا بقرار من الأغلبية، فلا يمكن عندئذ القول إن الاعتراف صادر عن الجميع ولا تلتزم الدول المعترضة بقرار الأغلبية إلا بوصفه قراراً مقرراً قبول الدولة الجديدة في المنظمة، إذ لا تستطيع إلا التسليم بهذه الواقعة، إنما لا تعدّ بذلك أنها أسهمت في الاعتراف بها، باعتبار أن الاعتراف من التصرفات التي تخضع لإرادة كل دولة وتقديرها الخاص والتي لا تنسب لها إلا إذا أتتها عن حرية تامة
رابعاً- الشخصية القانونية للدولة
يقصد بالشخصية في نظر القانون، القدرة والأهلية لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات، ويقسم الفقهاء الشخص إلى نوعين: شخص طبيعي وهو الإنسان وشخص قانوني أو اعتباري وهو عبارة عن كيان أو فكرة معنوية غير ملموسة يعترف بها القانون ويعاملها معاملة الشخص الطبيعي فتكون محلاً لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات.
وقد اختلف الفقهاء حول مدى تمتع الدولة بالشخصية القانونية (المعنوية)، وانقسموا في ذلك إلى مذهبين:
1- المذهب الواقعي:
وأنصاره قلة من الفقهاء الذين، ذهبوا إلى إنكار تمتع الدولة بالشخصية القانونية ومنهم الفقيه (Duguit ديجي) و (Jes جيز) والفقيه (Kelsen كلسن)، إذ ذهب الفقيه (ديجي) إلى القول إن الدولة ليست في الواقع إلا مجموعة من الحكام والمحكومين وأن الأعمال والتصرفات التي يتخذها الحكام في حدود القانون والاختصاص المخول لهم، يلتزم بها المحكومون وذلك لا يقتضي فكرة الشخصية القانونية والادعاء بأن للدولة ذاتية مستقلة وإرادة متميزة عن إرادات الحكام.
أما الفقيه (كلسن) فقد رأى أن الدولة مجموعة من القواعد القانونية الآمرة وليست شخصاً قانونياً. على أن هذا المذهب تعرض للنقد الشديد، باعتباره لا يتفق مع التطبيق العملي والوقائع الملموسة، كما أنه يعجز عن تفسير بعض الظواهر المسلم بها والتي يصعب تفسيرها بغير التسليم بشخصية الدولة القانونية ومن تلك الظواهر:
أ - استمرار شخصية الدولة، كياناً متميزاً محدد المعالم، واستمرار تحملها الالتزامات التي تلقى عليها بصرف النظر عن تغير حكامها أو نظام الحكم فيها أو حتى تغير أشخاص قاطنيها بحكم استمرار المواليد والوفيات أمر يصعب تفسيره، من دون الاعتراف بالشخصية القانونية.
ب - وجود ذمة مالية مستقلة للدولة ومتميزة من الذمم المالية للحكام، فلا أحد يستطيع أن ينكر تمتع الدولة بأملاكها وحقوقها والتزاماتها الخاصة التي تتميز من ممتلكات والتزامات الحكام الشخصية والذاتية.
ج - يعترف بعض المنكرين لشخصية الدولة، بالشخصية القانونية للتقسيمات الإدارية الأقل (كالمحافظة والمدينة) وذلك على الرغم من أن الدولة هي مصدر الاعتراف لهذه التقسيمات بالشخصية القانونية بمعنى أنها هي التي تعترف لهذه الوحدات بالشخصية المعنوية طبقاً للقوانين، وبذلك فهم يقعون في الخطأ لأن (فاقد الشيء لا يعطيه).
2- المذهب الشخصي:
وأنصاره جمهور الفقهاء، الذين اتفقوا على الاعتراف للدولة بالشخصية القانونية، وهذه الشخصية القانونية التي تثبت للدولة تسمى بالشخصية المعنوية، تمييزاً لها من الشخصية القانونية الطبيعية التي تثبت للأفراد الطبيعيين، ولذلك فقد أدرجها بعض أولئك الفقهاء في تعريف الدولة بأنها (التشخيص القانوني للأمة).
ولكن هؤلاء الفقهاء، على الرغم من اتفاقهم على الاعتراف بشخصية الدولة، انقسموا إلى ثلاثة اتجاهات:
أ - الاتجاه الأول: ويعترف أنصار هذا الاتجاه بأن للدولة شخصية قانونية واحدة، إلا أن هذه الشخصية لا تظهر إلا عند ممارسة الدولة للمعاملات المالية (مثل إدارة أملاكها الخاصة) في ظل قواعد القانون الخاص، أما عند ممارستها لاختصاصات السلطة العامة (عندما تفرض الضرائب أو عندما تستدعي مواطنيها لأداء الخدمة العسكرية) فإنها تفقد شخصيتها القانونية.
وقد سوّغ أنصار هذا الاتجاه موقفهم، باعتقادهم أن الاعتراف للدولة بالشخصية القانونية يحول سلطاتها إلى حقوق سيادية مطلقة، وهو الأمر الذي يهدد حقوق الأفراد وحرياتهم.
ب - الاتجاه الثاني: ويرى أنصار هذا الاتجاه أن للدولة (شأنها شأن بقية الشخصيات المعنوية العامة الأخرى، كالمحافظات والمدن) شخصيتين قانونيتين مستقلتين ومتميزتين، الأولى شخصية قانونية خاصة والثانية شخصية قانونية عامة، وتتقمص الدولة الشخصية القانونية الخاصة عند مباشرتها لأعمالها المالية (إدارة أملاكها الخاصة) التي تسمى بأعمال الإدارة، أما الشخصية القانونية العامة، فتظهر عندما تمارس الدولة أعمال السلطة العامة أو الحكم أو السيادة.
ج - الاتجاه الثالث: وهو الاتجاه السائد في الوقت الحاضر، والذي يعترف أنصاره بوجود شخصية قانونية واحدة للدولة، تظهر بها في جميع تصرفاتها، التي تجعلها أهلاً لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات، وتمتع الدولة بتلك الشخصية القانونية هو الذي يجعلها متميزة ومستقلة عن مجموعة الأفراد المكونين لها، ويجعلها كذلك متميزة ومستقلة عن أشخاص الحكام الذين يزاولون مهام السلطة فيها، الأمر الذي يضمن لها البقاء كائناً مستقلاً يتسم بالاستقرار والدوام، وذلك من خلال النتائج التي تترتب على الاعتراف بتلك الشخصية:
أ- تمتع الدولة بشخصية قانونية جديدة، تثبت لها دون الحكام أو الهيئات التي تمثلها وتنوب عنها، فإذا كانت الدولة تباشر سلطتها بواسطة هؤلاء الحكام، إلا أن أولئك الحكام لا يتولون نشاطاً خاصاً بهم، بل بوصفهم ممثلين للشخص القانوني العام، بمعنى أنهم يزاولون السلطة نيابة عن الدولة، ولحسابها ومصلحتها لا لحساب الحكام ومصالحهم الخاصة، وهنا يجب الإشارة إلى أن الدولة لا تستمد شخصيتها القانونية من جهة أخرى وإنما تتحقق لها هذه الشخصية بمجرد قيامها دولةً وذلك نتيجة منطقية مترتبة على تكامل أركانها وذلك بعكس الهيئات الأخرى ذات الشخصية القانونية داخل الدولة (كالمحافظة والمدينة والقرية …) والتي تُمنح هذه الشخصية من قبل الدولة بمقتضى القانون الذي تصدره لينظم هذا الشأن.
ب- تمتع الدولة بذمة مالية مستقلة عن الذمة المالية للحكام، فأموال الدولة من عقار أو منقول لا تعد ملكاً للحكام بل ملكاً لهذا الشخص القانوني المستقل، الأمر الذي يترتب عليه أن الالتزامات التي تنشأ قِبَله والحقوق التي يكتسبها عن طريق هيئة الحكام لا تنصب في غير ذمته المالية فلا تختلط بحقوق الحكام والتزاماتهم الشخصية.
ج- لا يترتب على تغيير شكل الدولة أو نظام الحكم فيها أو تغيير أشخاص الحكام، تعطيل نفاذ القوانين التي أصدرتها الدولة قبل التغيير، وإنما يستمر العمل بها إلى أن يتم إلغاؤها أو تعديلها من الجهة المختصة بذلك.
د- لا يترتب على تغيير شكل الدولة أو نظام الحكم فيها أو أشخاص الحكام أي مساس بالمعاهدات أو الاتفاقات أو الالتزامات التي ارتبطت بها الدولة وإنما تظل قائمة ما دامت الدولة باقية.
خامساً- أصل نشأة الدولة:
اختلف الفقهاء في تفسير أصل نشأة الدولة، وظهر نتيجة هذا الاختلاف، عددٌ من النظريات، أهمها:
1- النظريات الدينية (النظريات التيوقراطية):
تجمع هذه النظريات على أن الدولة نظام إلهي، وأن السلطة فيها مصدرها الله، وقد استخدمت لتوطيد سلطان الملوك والأباطرة، ولتبرير استبدادهم وعدم فرض أي رقابة على أعمالهم، ماداموا لا يحاسبون إلا أمام الله، فطبيعتهم تسمو على الطبيعة البشرية وإرادتهم تعلو على إرادة المحكومين.
وتعد هذه النظريات من أقدم النظريات التي استخدمت لتوضيح أصل نشأة الدولة وتبرير السلطة السياسية فيها، وعلى الرغم من وحدة الفكرة التي تجمع بين تلك النظريات إلا أنها اختلفت فيما بينها في طريقة اختيار الحاكم وذلك على النحو التالي:
أ - نظرية الطبيعة الإلهية للحاكم: تقوم هذه النظرية على أساس أن الحاكم ليس من طبيعة بشرية، وإنما هو من طبيعة إلهية، وهو ليس مختاراً من قبل الإله بل هو الإله نفسه، وإذا كان الحاكم هو الإله فهو صاحب الإرادة الأعلى، ومن ثم لا يجوز لبشر أن يحاسبه أو يعارضه لا صراحةً ولا ضمناً.
ففي مصر القديمة كان الملك فرعون يعدّ إلهاً، وقد لقب في عهد الأسرة الرابعة باسم (رع) بمعنى إله ذلك العصر، ولذلك فقد كان يتمتع بسلطات مطلقة تشمل كل شيء، الأمر الذي أدَّى إلى استبداده بالسلطة نتيجة عدم القدرة على محاسبته أو مناقشته.
كما استخدمت هذه النظرية أيضاً أساساً لتبرير سلطة الحكام المطلقة في كل من الهند القديمة والصين وكانت مستخدمة في اليابان، إلى أن صدر دستور عام 1947 الذي جعل السيادة للشعب.
ب - نظرية الحق الإلهي المباشر أو التفويض الإلهي: حاولت هذه النظرية التخفيف من حدة النظرية السابقة، فالحاكم ليس إلهاً أو من طبيعة إلهية وإنما هو بشر، ولكنه أصبح حاكماً باختيار مباشر من الإله، فالسيادة ملك للإله والإله اختار الحاكم ليحكم بإرادته، ومن ثم فالشعب لا يختار الحاكم وإنما الإله هو الذي يختاره بطريق مباشر.
وكنتيجة لهذه النظرية لا يجوز تقييد إرادة الحاكم كما لا يجوز محاسبته أو عزله، إلا بمعرفة الإله وحده.
بدأت هذه النظرية في الانتشار مع ظهور المسيحية، وذلك حين كانت هذه الأخيرة في حاجة إلى حماية الإمبراطور فأخذ بها رجال الكنيسة وتبنوها لتدعيم سلطة الإمبراطور والخضوع لولائه، ومن ثم عدّ الإمبراطور أنه المختار من قبل الإله ويستمد سلطانه منه، وفي هذا يقول القديس بول (إن كل سلطة مصدرها الإرادة الإلهية ومن ثم تكون سلطة الحاكم ملزمة لأنه ليس إلا منفذاً لإرادة الله، ومن عصى الأمير أو الحاكم فيكون قد عصى الله) وهو ما قال به البابا (ليون الثالث عشر) في أواخر القرن التاسع عشر (أن الحكام يستمدون سلطانهم من الله مباشرة وأن الشعب لا يملك منحهم سلطة الحكم لأن الله وحده هو مصدر كل سلطة على الأرض).
ج - نظرية الحق الإلهي غير المباشر أو العناية الإلهية: استمر اعتناق المسيحية لنظرية الحق الإلهي المباشر أربعة قرون، ثم بدأ الصراع بين الكنيسة والسلطة الزمنية أو بين البابا والإمبراطور، فظهرت هذه النظرية، بقصد الحد من سلطان الملوك والأباطرة، رغبة في تقييد سلطانهم.
فبدأت الكنيسة، تحاول الفصل بين الشؤون الدينية والدنيوية على أساس أن الفرد يخضع في شؤون دنياه للسلطة السياسية الزمنية، ويخضع في شؤون دينه للسلطة الدينية، ولما كانت الأمور الدينية أعلى من الأمور الدنيوية فإن السلطة الزمنية يجب أن تخضع للسلطة الدينية، وفسر رجال الكنيسة أقوال القديس بول بأنها تعني أن السلطة لله، أما اختيار الحاكم فهو للشعب، وبذلك قام فصل لأول مرة في الفكر المسيحي بين السلطة والحاكم، فالسلطة لله، وللشعب حق اختيار الحاكم، وما دامت السلطة ملكاً لله والله قادر، فإنه لا يترك اختيار الحاكم ليتم عشوائياً أو بعيداً عن إرادته، بل إنه يرتب بعنايته الإلهية الأمور ويوجه الوقائع والحوادث ليتم اختيار الحاكم، فالله لا يختار الحاكم بنفسه، وإنما يوجه الأمور ويهيئ الفرص والظروف لاختيار حاكم معين أو أسرة معينة لتولي أعباء الحكم، وصحيح أن اختيار الحاكم يتم بناءً على إرادة الشعب إلا أن هذا الاختيار مفروض على الشعب لأنه مسيّر وموجّه بواسطة العناية الإلهية.
2- نظرية تطور الأسرة:
تقوم هذه النظرية على أساس أن الأسرة هي أصل الدولة وأن السلطة الأبوية هي أساس ومصدر السلطة السياسية في الدولة، ويبرر أنصار هذه النظرية رأيهم بالقول: إن الأديان السماوية تجمع على أن آدم وحواء هما أصل البشر، وأن الطبيعة أودعت في الذكر والأنثى ميلاً متبادلاً إلى حماية النوع والرغبة في التناسل ومن هنا قامت الأسرة، ثم تعددت الأسر لتكون قبيلة أو قرية ثم تطورت القبيلة فأصبحت تكوَّن مدينة ومن عدد من المدن تكوَّنت الدولة.
ويذهب أنصار هذه النظرية إلى أن للأب سلطته على أولاده، وأن سلطة الدولة ليست في الحقيقة إلا امتداداً وتطوراً طبيعياً لهذه السلطة الأبوية، وأن بين الأسرة والدولة الكثير من أوجه التشابه، أهمها أن الروح القومية التي تربط بين أفراد الدولة شديدة الشبه بالروح العائلية التي تجمع بين أفراد الأسرة الواحدة.
وعلى الرغم من كل ما قد يظهر من وجاهة ومنطقية في النظرية السابقة، إلا أنها تعرضت لهجوم ورفض من قبل الفقه الحديث لعدد من الأسباب، منها:
أ - رفض التسليم بحقيقة كون الأسرة هي الخلية الاجتماعية الأولى للجماعة البشرية، بمعنى أنها سابقة على وجود الجماعة، ذلك أن الثابت عملياً أن الأسرة لم توجد إلا في ظل الدولة وكنتيجة لقيامها، فالثابت أن المجتمعات الأولى السابقة على ظهور الدولة لم تعرف الأسرة، لأن المرأة كانت مشاعاً بين الرجال ولم تظهر الأسرة التي تقوم على أساس اختصاص الرجل بامرأة معينة، تحديداً للأنساب إلا بعد أن قامت السلطة السياسية وفرضت نظماً سياسية وقانونية واجتماعية، أدت إلى تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة على نحو أدى إلى ظهور الأسرة.
ب - تتحدد أهداف الأسرة ببلوغ الأبناء سناً معينة، يستطيعون بعدها العيش في استقلال عن الأسرة وهنا تنتهي الأسرة لاستقلال الأبناء عن الآباء، في حين أن الدولة لا تتحدد أهدافها ببلوغ جيل معين سناً معينة وإنما هي دائمة وباقية للجيل الحاضر وللأجيال القادمة ما دامت أركانها قائمة وعناصرها متكاملة.
ج - تنتهي السلطة الأبوية بموت الأب أو باستقلال الأبناء عنه، ذلك أنها سلطة شخصية لصيقة بالأب تنتهي بانتهائه، في حين تمتاز السلطة السياسية بأنها سلطة مجردة عن أشخاص الحكام وهي دائمة لا تتأثر بموت الحاكم أو عجزه أو عزله، فهي دائمة بدوام الدولة وليس الحكام إلا ظواهر عرضية لا يؤثر زوالهم في سلطة الدولة على الإطلاق.
د - يشهد التاريخ الحديث ظهور دول، لم تكن نتيجة تطور الأسرة، فالولايات المتحدة الأمريكية لم تقم نتيجة تطور أسرة معينة، وإنما كانت نتيجة عوامل اقتصادية وسياسية مختلفة، أدى تضافرها وتفاعلها إلى قيام دولة الولايات المتحدة الأمريكية.
3- نظرية القوة:
ترى هذه النظرية أن القوة المادية، هي التي تقيم الدولة وتحميها من الانهيار، فنظام الدولة هو نظام مفروض عن طريق القوة، إذ يفرض (صاحب الغلبة) نفسه بطريق العنف على بقية أفراد الجماعة الذين يمتثلون لقوته ويخضعون لسلطانه.
فمن خلال القوة، استطاعت الأسرة القوية أن تحارب الأسرة الضعيفة وتبسط سلطانها على أفرادها وتجبرهم على العمل لمصلحتها بعد أن تضم أملاك الأسرة المهزومة إليها، وبذلك تكون واقعة انتصار الأسرة القوية هي التي أقامت الدولة بما رتبته من فرض سيادة رئيس الأسرة المنتصرة على أفراد الأسرة المهزومة وإلزامهم بالعمل والإنتاج لمصلحة أسرته.
وقد استند أنصار هذه النظرية في تسويغها إلى حوادث التاريخ التي جاءت شاهدة على صدقها وصحتها (فالإمبراطوريات القديمة قامت على أساس القوة المادية والانتصارات العسكرية) إلا أن نظريتهم تعرضت للرفض من قبل غالبية الفقهاء، لعدد من الأسباب منها:
أ - عدم تسليم غالبية الفقه، بقيام السلطة السياسية على أساس القوة، ذلك أن السلطة الشرعية لا تقوم إلا برضاء المحكومين وقبولهم بها، أما إذا قامت السلطة السياسية بالقوة، فإنها تكون سلطة غير شرعية.
ب - ترتبط السلطة السياسية التي يكون أساسها القوة، بتلك القوة وجوداً وعدماً، فتبقى قائمة ما دامت القوة قائمة، فإذا انهارت القوة انهارت السلطة، وهذا ما لا يمكن القبول بسريانه على الدولة التي يجب أن تبقى وتدوم.
ج - إذا كان التاريخ قد قدم لأنصار هذه النظرية سنداً لنظريتهم، فإنه مليء بدول أخرى لم تقم على أساس القوة، وهذا دليل على قصور تلك النظرية لأنها لم تقدم تفسيراً يفسر قيام مثل هذه الدول.
د - إن قيام الدولة على أساس القوة، يجعل للقوي السيادة المطلقة، ولا يكون من الجائز عندها إخضاع إرادته لمبدأ سيادة القانون، ومن هنا فإن تفسير نشأة الدولة بواقعة القوة، يتنافى مع مبدأ الدولة القانونية الذي أضحى من المبادئ المسلم بها.
4- نظرية العقد الاجتماعي:
حمل لواء هذه النظرية، ثلاثة فلاسفة وهم: هوبز ولوك وروسو وعلى الرغم من أن كلاً منهم كان له تفسير معين للنظرية يتفق والأفكار السياسية الخاصة التي كان يدين بها إلا أنهم اتفقوا على أن أساس نشأة الدولة هو (العقد الاجتماعي) الذي اتفق الأفراد بمقتضاه على الانتقال من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة، بقصد إقامة السلطة الحاكمة.
أ - نظرية العقد الاجتماعي عند هوبز: ارتبطت أفكار هوبز، في نظريته هذه، بالظروف التي عاش فيها، والتي اتسمت بالفوضى والاضطراب، إذ اغتيل الملك (هنري الرابع) وأعدم الملك (شارل الأول) وكان هوبز ربيباً لـ (شارل الثاني) فصاغ نظريته في العقد الاجتماعي على نحو يؤكد الملكية ويثبت سلطانها.
انطلق (هوبز) في نظريته من حالة الفطرة التي كان يعيش فيها الأفراد قبل وجود الجماعة المنظمة، فوجد أن الإنسان بطبعه غير اجتماعي، فهو أناني، محب لنفسه، مؤثر مصلحته الخاصة على بقية مصالح الأفراد، الأمر الذي انعكس على الحالة الإنسانية الأولى، فسادت الفوضى وعم الشقاء والبؤس، لذلك أراد الأفراد الانتقال من هذه الحياة إلى حياة السعادة والاستقرار، رغبة منهم في الإبقاء على ذواتهم والحفاظ على مصالحهم فأبرموا فيما بينهم عقداً اجتماعياً، ينقلهم من حياة الفوضى إلى الحياة المنظمة، بحيث يعيشون معاً تحت سلطة بشرية، توفق بين مصالحهم المتعارضة وتضع حداً لحياة الفوضى والبؤس والشقاء التي عاشوها من قبل.
هذا الاتفاق أو العقد، تم، استناداً إلى وجهة نظر هوبز، بين جميع الأفراد باستثناء شخص واحد وهو الذي اتفق المتعاقدون على أن يكون صاحب السلطة الآمرة في الجماعة ورئيسها، وبمقتضى هذا العقد، تنازل الأفراد عن جميع حقوقهم للحاكم الذي لم يكن طرفاً في العقد، الأمر الذي ترتب عليه، عدم التزام الحاكم بأي شيء قِبَل الأفراد، فتحولت سلطته إلى سلطة مطلقة من كل قيد، لا يملك الأفراد مناقشته ولا عصيانه وإنما يقع عليهم واجب إطاعته وإلا اعتبروا خارجين عن الاتفاق، ناكثين بالعهد.
وواضح أن هوبز أراد بتصوره الخاص لنظريته في العقد الاجتماعي، تأييد الحكم المطلق للملوك وكسب رضاء آل ستيوارث في إنكلترا.
ولذلك رأى هوبز - زيادة في إطلاق سلطان الملوك - أن الحاكم غير مقيد بمقتضى العقد الذي أبرمه الأفراد فيما بينهم، وهو أيضاً غير مقيد بأي قانون لأنه هو الذي يضع القانون وهو الذي يعدله وهو الذي يلغيه.
ب - نظرية العقد الاجتماعي عند لوك: كان لوك من أنصار الملكية المقيدة لا المطلقة، الأمر الذي كان له أثرٌ بالغٌ في أفكاره بشأن فكرة العقد الاجتماعي.
فلئن كان لوك قد اتفق مع هوبز في نقطة الانطلاق وهي وجود عقد اجتماعي انتقل بمقتضاه الأفراد من حالة الفطرة إلى حياة الجماعة إلا أنه اختلف عنه في تصوره لحالة الأفراد في حياتهم الفطرية الأولى وكذلك في تحديد أطراف العقد ومضمونه وآثاره.
ففي حالة الأفراد الفطرية الأولى، السابقة على انتقالهم إلى حياة المجتمع المنظم، رأى لوك أن الإنسان كان مشبعاً بروح العدالة وكانت الحياة تجري على أصول القانون الطبيعي، الذي يتمتع الأفراد في ظله بالحرية والمساواة، إذ التزموا بأن لا يعتدي أحدهم على الآخر في حياته أو حريته أو ماله.
ولكن، على الرغم من هذه الحياة التي كان يسودها القانون الطبيعي، إلا أن الأفراد كانت لديهم الرغبة الصادقة في الخروج منها، وذلك بسبب الغموض الذي يكتنف القانون الطبيعي، وعدم وجود القاضي المنصف الذي يفصل فيما يستجد من منازعات بين الأفراد ويعطي لكل ذي حق حقه من دون تجاوز، ولذلك لجأ الأفراد إلى ترك هذه الحياة، إلى حياة أخرى تقوم على أساس التعاون بين الأفراد والخضوع لحاكم يتصف بالعدل، ولتحقيق هذه الحياة أجمع الأفراد وتعاقدوا فيما بينهم على اختيار أحدهم لتولي أمرهم.
هذا العقد تم بين طرفين: الأفراد من ناحية والحاكم من ناحية أخرى، ومن ثم فالحاكم ليس أجنبياً عن العقد وإنما هو الطرف الثاني من أطراف التعاقد.
وفي هذا العقد لم يتنازل الأفراد للحاكم عن جميع حقوقهم وإنما عن جزء منها فقط وذلك في الحدود اللازمة لإقامة السلطة والمحافظة على حقوقهم الأخرى المتبقية لهم والتي احتفظوا بها، ولذلك فإن الحاكم يلتزم قِبَل الأفراد بحماية الجزء الآخر من الحقوق التي احتفظ بها الأفراد فضلاً عن واجبه في إقامة العدل بينهم، وهؤلاء يلتزمون بواجب الطاعة، فإذا أخل الحاكم بالتزاماته، انفسخ العقد وجاز لكل طرف الرجوع إلى حالته قبل التعاقد، وبذلك يكون للأفراد الحق في مقاومة الحكام إذا ما جاوزوا سلطانهم حسبما يقضي به مضمون العقد.
ج - نظرية العقد الاجتماعي عند روسو: يعد الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) أشهر فلاسفة القرن الثامن عشر، ويعدّ كتابه (العقد الاجتماعي) من أهم المؤلفات الفلسفية التي كان لها تأثيرها الكبير في أفكار قادة الثورة الفرنسية، حتى أطلق عليه (إنجيل الثورة الفرنسية) إمعاناً في التمسك به.
اتفق روسو مع كل من هوبز ولوك في أن انتقال الأفراد من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة تم بمقتضى عقد اجتماعي، إلا أن فكرة العقد الاجتماعي عند روسو كان لها تصورٌ خاصٌ، سواء لحالة الأفراد الفطرية أم لما يتعلق بأطراف العقد أو مضمونه وآثاره.
ففي حالة الأفراد الفطرية الأولى، رأى روسو أن الإنسان خير بطبيعته، يولد حراً فاضلاً، تسود حياته الحرية والمساواة الطبيعية، إلا أن هذه الحياة ما لبثت أن تغيرت نتيجة تقدم المدنية ونتيجة تعدد المصالح وتضاربها، وزاد الأمر تعقيداً ازدياد التفاوت في الثروات بين الأفراد، ففسدت المساواة الطبيعية التي كانوا ينعمون بها وشقت حياتهم نتيجة قيام التنافر والحروب فيما بينهم.
ولذلك قرروا الخروج من هذه الحالة مضطرين نتيجة تعارض المصالح وتضاربها، فأبرموا العقد الاجتماعي، إلا أن هذا العقد لم يتم بين الأفراد فيما بينهم، فيلتزم كل منهم في مواجهة الآخرين، كما قرر (هوبز) وهو لم يتم بين الأفراد والحاكم كما ذهب (لوك) وإنما أبرم هذا العقد بين الأفراد أنفسهم ولكن بصفتين: الأولى باعتبارهم أفراداً مستقلين ومنعزلين كل منهم عن الآخر، والثانية باعتبارهم أعضاء متحدين يظهر من اجتماعهم (الشخص الجماعي المستقل) الذي يمثل مجموع الأفراد.
وبمقتضى هذا العقد تنازل الأفراد عن جميع حقوقهم بلا تحفظ لمصلحة المجموع، أي للشخص الجماعي، وذلك مقابل حصولهم على حقوق أخرى تسمى (الحقوق المدنية) وهذه الحقوق يقرها لهم الشخص العام الذي أقاموه على سبيل المساواة، ويكفل حمايتها لهم جميعاً وبذلك تتحقق المساواة بين الأفراد وتسود بينهم العدالة.
أما عن آثار هذا العقد، فيرى روسو أنه مادام أصل السلطة أو الدولة هو (إرادة الجماعة) ومادامت السيادة مردها (المجموع) باعتباره كائناً معنوياً مجرداً لا يخضع للأهواء والميول وإنما يخضع للعقل فإنه لا يتصور أن تكون سلطة الحكام إلا مقيدة، فهم لا يمارسونها إلا باسم الجماعة ولمصلحتها، فليس هؤلاء الحكام إلا وكلاء عن المجموع، ومن ثم يكون للأفراد حق عزل هؤلاء الحكام إذا ما جنحوا للاستبداد بسلطانهم أو تضمنت تصرفاتهم اعتداء على حقوق الأفراد.
وعلى الرغم من الفضل الذي نسب إلى نظرية العقد الاجتماعي، في تقرير حقوق الأفراد وحرياتهم وترويج المذاهب الديمقراطية، إلا أنها تعرضت لنقد شديد من جانب الفقه الدستوري لعدد من الأسباب منها:
(1) أن فكرة العقد الاجتماعي، فكرة خيالية وغير صحيحة من الناحية التاريخية، فالتاريخ لم يقدم أي أمثلة لدول نشأت من طريق العقد على نحو ما أبرزه الفلاسفة السابقون، فهي من نسج خيال القائلين بها وليست حقيقة تاريخية حتى يمكن الاعتماد عليها في تفسير نشوء الدولة.
(2) تقوم فكرة العقد الاجتماعي، على افتراض وهمي خاطئ، ألا وهو أن الفرد كان يحيا قبل انتقاله إلى الجماعة المنظمة، حياة عزلة وهذا غير صحيح لأن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي لا يمكن أن يعيش منعزلاً.
(3) فكرة التعاقد ذاتها، بعيدة عن التصور، لعدم إمكانية الحصول على رضا جميع الأفراد، ومن المعلوم أن الرضا ركن أساسي في العقد، بحيث يترتب على تخلفه استحالة قيام العقد ذاته، حتى لو تم التسليم بوجود قبول ضمني لشروط العقد، من الناحية الافتراضية، فإن هذا التسليم فيه خطورة التمهيد لقيام الحكم المطلق، من خلال ترك الحاكم حراً في تحديد شروط العقد، الأمر الذي يؤدي إلى الاستبداد بالسلطة والإطاحة بكل حرية للأفراد.
(4) إن هذه النظرية لا تتماشى مع المنطق، وتخالف الأصول القانونية، فهي تقوم على افتراض أن العقد هو الذي أنشأ الجماعة ومن ثم هو الذي أقام السلطة فيها وهذا غير منطقي لأن القوة الإلزامية للعقود - من وجهة النظر القانونية - لا توجد إلا بوجود الجماعة التي تملك السلطة لتحمي العقود وتوقع الجزاء عند عدم احترام مضمونها، ومن ثم فلا يكون سائغاً أن يكون العقد الذي يحتاج إلى حماية السلطة هو ذاته الذي أقام تلك السلطة.
(5) إن هذه النظرية، تفترض تنازل الأفراد عن حرياتهم وحقوقهم السياسية، مع أن هذه الحريات والحقوق لا يجوز مطلقاً أن تكون محلاً للتعاقد أو للتنازل، ذلك أن هذه الحقوق تعد من الحقوق اللصيقة بشخص الإنسان والتي لا يجوز - بإجماع الفقه - التصرف فيها أو النزول عنها.
5 - نظرية التطور التاريخي:
تعد هذه النظرية، أكثر النظريات اعتماداً عند الفقهاء المعاصرين، إذ رفض الفقه الحديث ما سبقها من نظريات، لإسراف كل منها في محاولة الانفراد بالأساس الذي اعتمدت عليه لبيان أصل نشأة الدولة في مختلف الأزمنة.
ووفقاً لهذه النظرية، اعتمدت الدولة في قيامها على عوامل عدة، وهذه العوامل تختلف أهميتها من دولة إلى أخرى وذلك باختلاف الدول من حيث طبيعتها وتاريخها وظروفها الاجتماعية والاقتصادية، ونتيجة لتفاعل تلك العوامل المختلفة ظهر على مر الزمن نوع من الترابط بين أفراد الجماعة رغبة في تحقيق الأغراض المشتركة بينهم، ثم تطورت تلك الجماعة فأصبحت دولة.
واستناداً إلى وجهة نظر أنصار هذه النظرية، لا يمكن تكييف نشأة الدولة تكييفاً قانونياً، لأنها وليدة ظروف وتطورات طويلة، يستحيل معها تحديد تاريخ مولدها، كما لا يمكن رد نشأتها إلى عامل معين بذاته من دون غيره، كالعقد الاجتماعي أو القوة أو التطور العائلي، ذلك أن نشأة الدولة ترتد إلى ظروف متعددة وإلى عوامل كثيرة تفاعلت حتى قامت الدولة في النهاية، وهذه الظروف والعوامل تختلف من دولة إلى أخرى، الأمر الذي يترتب عليه اختلاف كل دولة عن الأخرى من حيث نشأتها.
ومن أشهر الفقهاء الذين تبنوا هذه النظرية (ديجي) الذي رأى أن الدولة ظاهرة اجتماعية تحكمها فكرة الاختلاف السياسي، أي تتحقق بقيام التفرقة بين طبقة الحكام وطبقة المحكومين ويكون للطبقة الأولى (الحكام) حق فرض إرادتهم على الطبقة الثانية (المحكومين) وذلك لما تتسم به طبقة الحكام من قوة تستطيع بمقتضاها فرض سلطانها وإرادتها على بقية أفراد الجماعة، ويضيف (ديجي) أن أساس السلطة التي تمكن طبقة الحكام من إخضاع المحكومين لأوامرهم ونواهيهم لا يكمن فقط في القوة المادية، وإنما يكمن في كل ما يتسم به الحاكم من قوة في الشخصية أو قوة في التأثير أو قوة في الحنكة السياسية أو قوة أدبية أو فكرية، وبذلك تختلف نظرية (ديجي) عن النظرية التي قال بها الفقهاء القدامى بشأن نشأة الدولة (نظرية القوة)، لأن الدولة استناداً إلى رأي (ديجي) لا يمكن أن تقوم على القوة المادية وحدها وإلا فإنها لا تعدّ دولة قانونية، وذلك بعكس الدولة التي تقوم على أساس القوة بكل معانيها (مادية وفكرية وأدبية وسياسية) والتي تكون وحدها الدولة الشرعية، التي يخضع لها المحكومون برضى واقتناع.
وقد انتقد بعض الفقهاء نظرية (ديجي) لاعتمادها على القوة في تبرير السلطة السياسية التي يتمتع بها الحكام، ولكن الرأي الراجح في الفقه الدستوري، يذهب إلى أنه إذا حدث وأن قامت سلطة الحكام في البداية على القوة المادية فقط، فإن هذه السلطة التي قامت على القهر والجبر يمكن أن تتطور بمرور الزمن إلى سلطة قائمة على رضا المحكومين، وذلك نتيجة قيام الحكام ببذل الجهد في سبيل تحقيق مصلحة أفراد الشعب وخلق التضامن الاجتماعي بينهم ومن هنا يتحول أساس السلطة تدريجياً من القوة إلى الرضى ويسود التفاهم والتعاون القائم على الإرادة الحرة لأفراد الشعب، فتتحول السلطة عندها إلى سلطة مشروعة وقانونية.
سادساً- شكل الدولة
تتعدد أشكال الدول وتختلف أنواعها وذلك تبعاً لاختلاف تركيبها الداخلي وممارستها للسلطة، إذ تنقسم إلى دول بسيطة ودول مركبة، أو تبعاً لمدى ما تتمتع به من سيادة فتنقسم إلى دول كاملة السيادة وأخرى ناقصة السيادة.
1- تقسيم الدول من حيث السيادة:
اهتم فقهاء القانون الدولي العام بهذا النوع من التقسيم، وذلك على أساس مدى تمتع الدولة بالسيادة على إقليمها من حيث الكمال أو النقصان، فالدولة إما أن تمارس سيادتها كاملة في الداخل والخارج فتكون كاملة السيادة، وإما أن يكون هناك ما يمنعها من ممارسة السيادة الكاملة (كأن تكون تابعة أو محمية) فتكون دولة ناقصة السيادة.
أ- الدول ناقصة السيادة: وهي الدول التي فقدت كل أو بعض سلطاتها الداخلية أو الخارجية، لظروف خاصة نتيجة خضوعها لدولة أجنبية أو تبعيتها لهيئة دولية تشاركها بعض اختصاصاتها الأساسية، سواء أكان هذا الخضوع طوعاً أم جبراً.
وهذه الدول تنقسم إلى أنواع أربعة:
(1) الدولة التابعة: وهي الدولة التي تربطها بدولة أخرى، تسمى الدولة المتبوعة، رابطة خضوع وولاء، وغالباً ما تكون الدولة التابعة في الأصل جزءاً من الدولة المتبوعة ولكنها اكتسبت عن طريق قرار من الدولة المتبوعة الحق في ممارسة كل شؤونها الداخلية أو بعضها سواء أصدر ذلك القرار بالإرادة الحرة للدولة المتبوعة أم بناء على ضغوط داخلية أو دولية تعرضت لها.
ويترتب على ذلك فقدان الدولة التابعة لسيادتها الخارجية، بحيث لا تشغل مركزها في المجتمع الدولي إلا عن طريق الدولة المتبوعة، التي تتولى تمثيلها وتصريف شؤونها الخارجية.
وقد دلّ التاريخ على أن علاقة التبعية علاقة لا يمكن أن تدوم وأن مآلها أحد أمرين: إما اندماج الدولة التابعة في الدولة المتبوعة، كما حصل لكوريا عندما اندمجت في اليابان عام 1910، وإما انفصال الدولة التابعة عن الدولة المتبوعة واستقلالها بنفسها وهو ما حدث لرومانيا وبلغاريا ومصر التي كانت دولاً تابعة للدولة العثمانية إلى أن انفصلت عنها وأعلنت استقلالها.
(2) الدولة المحمية: وهي تلك الدولة التي تضع نفسها تحت حماية دولة أخرى أقوى منها، وهذه الحماية إما أن تكون اختيارية، وذلك عندما تقوم الدولة بوضع نفسها تحت حماية دولة أخرى بكامل إرادتها، وإما أن تكون الحماية إجبارية، يتم فرضها على الدولة من جانب الدولة الحامية.
فالحماية الاختيارية تكون باتفاق بين دولتين، تتنازل أحدهما للأخرى عن جزء من سيادتها، في مقابل قيام الدولة الحامية بصد أي عدوان خارجي عليها ورعاية مصالحها الدولية، ويترتب على ذلك مجموعة من النتائج منها:
- احتفاظ الدولة المحمية بشخصيتها الدولية المستقلة عن شخصية الدولة الحامية، ويتبع ذلك عدم تبعية رعايا الدولة المحمية، لرعوية الدولة الحامية، وعدم التزام الدولة المحمية بالمعاهدات التي قد تبرمها الدولة الحامية، وعدم عدّ الدولة المحمية طرفاً في حرب تعلنها الدولة الحامية.
- عدّ العلاقة القائمة بين الدولتين من الناحية النظرية علاقة دولية، وإن كانت من الناحية الواقعية تتحول إلى علاقة تبعية نتيجة استغلال الدولة الحامية للمركز الممتاز الذي حصلت عليه لدى الدولة المحمية.
- تولي الدولة الحامية الشؤون الخارجية للدولة المحمية.
- احتفاظ الدولة المحمية بالحق في تصريف شؤون سيادتها الداخلية وإن كان للدولة الحامية، الحق في الإشراف على بعض الشؤون ذات الأهمية الخاصة، كشؤون الجيش والإدارة المالية.
ومن أمثلة الدول التي تخضع لهذه الحماية جمهورية سان مارينو التي خضعت لحماية إيطاليا، من خلال معاهدة عقدت عام 1898، وكذلك إمارة موناكو التي خضعت للحماية الفرنسية.
أما الحماية الإجبارية (الاستعمارية) فهي تلك الحماية التي تفرض على الدولة قهراً، من دون إرادة شعبها وبقصد استعمارها تمهيداً لضمها إلى الدولة الحامية.
الأمر الذي يؤدي إلى سيطرة الدولة الحامية على الدولة المحمية، بحيث تفقدها سيادتها الخارجية، وتنال من سيادتها الداخلية، لتعلق تلك السيادة بإشراف الدولة الحامية.
وهنا يجب عدم الخلط بين نظام الحماية الاستعمارية وبين الاستعمار المباشر، فالمستعمرة تضم نهائياً إلى الدولة المحتلة وتعتبر جزءاً من إقليمها وتفقد بذلك كيانها الخاص، في حين تحتفظ الدولة الموضوعة تحت الحماية بكيانها وشخصيتها الدولية، ويتبع ذلك اعتبار المعاهدات التي عقدتها الدولة المحمية مع الدول الأجنبية قبل إعلان الحماية قائمة، ما لم يتفق أطرافها على إلغائها، في حين تسقط المعاهدات التي أبرمها الإقليم المستعمر بمجرد ضمه إلى الدولة المحتلة.
تنتهي هذه الحماية الإجبارية، كما بدأت بقرار منفرد من جانب الدولة الحامية (كما حدث حين أصدرت بريطانيا عام 1922 قرارها بإعلان انتهاء حمايتها على مصر)، كما يمكن أن تنتهي الحماية بإعلان السيادة الكاملة للدولة المحمية (كما حدث مع إمارات جنوب شبه الجزيرة العربية عام 1971) وقد تنتهي الحماية بضم الدولة المحمية للدولة الحامية (كما حدث لمدغشقر التي أعلنت فرنسا حمايتها عليها عام 1885 ثم أدخلتها في نظام الاستعمار عام 1896، إلى أن أعلن استقلالها عام 1960).
(3) الدولة الموضوعة تحت الانتداب: تقرر نظام الانتداب استناداً إلى المادة (22) من عهد عصبة الأمم بقصد وضع الأقاليم التي انتزعت من تركيا ومن ألمانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، تحت انتداب الدول العظمى التي انتصرت في الحرب، وهذه الدول هي (العراق وسورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن والمستعمرات الألمانية) وذلك على اعتبار أن هذه الدول تسكنها شعوب غير مؤهلة للاستقلال بأمرها وحكم نفسها بنفسها، فضماناً لمصلحة هذه الشعوب، وجد من المناسب وضعها تحت إشراف بعض الدول المتقدمة، لتمد لها يد العون على التطور وتساعدها على الاستقلال في إدارة شؤونها، على اعتبار أن الدول المتقدمة، بحكم موقعها الجغرافي وتجاربها ومواردها يمكن أن تؤدي هذا الإشراف على الوجه الأكمل.
ويترتب على الانتداب، توزيع ممارسة السيادة بين الدولة المنتدبة وعصبة الأمم والإقليم، على أن يبقى الإقليم محتفظاً بكيانه القانوني الخاص فلا يتبع الدولة المنتدبة كمستعمرة أو ولاية، ويكون للدولة المنتدبة الحق في إدارة الإقليم، على أن يتسع مدى هذا الحق كلما تأخرت درجة مدنية سكان الإقليم، فإذا ما ظهر للدولة المنتدبة قدرة الشعب على الاستقلال في إدارة شؤونه بنفسه انتهى الانتداب. وهو ما حصل في العراق عام 1930 عندما اعترفت بريطانيا باستقلاله، وفي سورية عندما اعترفت فرنسا باستقلالها عام 1946.
(4) الدولة المشمولة بالوصاية: تقرر نظام الوصاية، بحسب المادة /75/ من ميثاق الأمم المتحدة، لإدارة الأقاليم التي تخضع لهذا النظام بمقتضى اتفاقيات فردية للإشراف عليها، ويطلق على هذه الأقاليم اسم الأقاليم المشمولة بالوصاية، وبذلك ابتكرت هيئة الأمم هذا النظام، ليحل محل نظام الانتداب الذي قررته عصبة الأمم، لتحقيق عدد من الأهداف، أبرزها توطيد السلم والأمن الدوليين والعمل على ترقية أهالي تلك الأقاليم المشمولة بالوصاية في أمور السياسة والاقتصاد والتعليم وتشجيعهم على احترام حقوق الإنسان وحرياته من دون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين.
أما الدول التي خضعت لنظام الوصاية، كما حددتها المادة /77/ من ميثاق الأمم المتحدة فهي:
- الأقاليم الموضوعة وقتئذ تحت الانتداب.
- الأقاليم التي اقتطعت من الدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية (ألمانيا وإيطاليا واليابان).
- الأقاليم التي تضعها في الوصاية، بمحض إرادتها الدول المسؤولة عن إدارتها.
ولمعرفة أثر الوصاية في سيادة الدولة يجب العودة إلى الاتفاق الذي طبق بمقتضاه هذا النظام.
ولكن هذا النظام بوجه عام لا يعطي للدولة المعهود إليها بالوصاية، حق السيادة على الإقليم المشمول بوصايتها، وإنما يكون لها فقط الحق في إدارته لتحقيق الأهداف السابق ذكرها، وهذا الحق يتسع أو يضيق تبعاً لظروف كل إقليم من دون المساس بكيان الإقليم القانوني أو بجنسية مواطنيه ومن الدول التي كانت خاضعة للوصاية (الكاميرون وغينيا وليبيا والصومال).
ب - الدول كاملة السيادة: يقصد بالدولة كاملة السيادة، تلك الدولة التي تتولى السلطة السياسية فيها إدارة جميع شؤونها الداخلية والخارجية من غير زتدخل أو توجيه من جانب سلطة خارجية إلا ما تفرضه عليها قواعد القانون الدولي العام، وما قد تفرضه هي على نفسها من التزامات بمقتضى معاهدات تبرمها بمحض إرادتها.
فداخلياً تتمتع الدولة بالاستقلال في مباشرة مظاهر سيادتها داخل إقليمها، فيكون لها الحق في اختيار الحكام بكامل حريتها وانتهاج نظام الحكم المناسب لها ووضع الدستور الذي يحتوي على العناصر الأساسية للدولة والسلطات العامة فيها، وما تقرره من حقوق وحريات لمواطنيها، بحيث تحدد اختصاصات السلطات العامة وحدود العلاقة بينها، والقيود الواردة على سلطاتها.
وخارجياً تتمتع الدولة بالحرية الكاملة في علاقاتها بالدول والمنظمات الدولية، فيكون لها الحق في عضوية الهيئات والمنظمات الدولية وإعلان الحرب وإبرام المعاهدات والإدلاء برأيها في المنظمات الدولية من دون خضوع أو مجاملة وعقد الصلح والتمثيل الدبلوماسي.
وهذا النوع من الدول هو الوضع الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه الدولة أصلاً بحكم وجودها قانوناً، وهو المركز الفعلي لأغلب الدول الأعضاء في المجتمع الدولي.
2- تقسيم الدول من حيث التركيب:
اهتم فقهاء القانون الدستوري بتقسيم الدول من حيث التركيب، فقسموها إلى دول موحدة تكون السلطة فيها موحدة وهو ما يؤدي إلى وحدة القانون فيها، ودول مركبة، تكون السلطة فيها مركبة ومتعددة الأمر الذي يؤدي إلى تعدد القوانين فيها.
أ - الدول الموحدة (البسيطة): الدولة الموحدة أو البسيطة هي تلك التي تنفرد بإدارة شؤونها الخارجية والداخلية سلطة واحدة، بمعنى آخر هي الدولة التي تتمتع بوحدة مركز السلطة السياسية فيكون لها دستور واحد تخضع لأحكامه ويسري على جميع أجزائها، ويعهد بالتشريع فيها إلى سلطة تشريعية واحدة، تصدر القوانين التي تطبق على إقليمها كله، ويكون لها حكومة واحدة تتولى مهمة التنفيذ، ويعهد بالقضاء إلى سلطة قضائية واحدة.
فالدولة البسيطة تظهر في صورة كتلة دستورية واحدة، تنظمها حكومة مركزية واحدة، تجمع في يدها السلطة كلها، فهي دولة بعيدة عن التعقيد، ولذلك سميت بالدولة البسيطة، وسميت بالدولة الموحدة لما تتسم به من مظاهر الوحدة، فسلطتها التشريعية واحدة، وسلطتها القضائية واحدة، وسلطتها التنفيذية واحدة.
وهنا تجب الإشارة إلى ملاحظة مهمة، وهي أنه قد يحدث أن تخص الدولة جزءاً من إقليمها بتشريع خاص في موضوع محدد ولظروف معينة، وهذا الأمر لا ينفي وحدة السلطة في الدولة ولا وحدة القانون فيها، ما دام مصدر التشريع فيها واحداً لا يتعدد، وإذا كان المفروض في التشريع في الدولة الموحدة، أن يمتد تطبيقه إلى جميع أجزاء الدولة إلا أن ذلك لا يمنع من استثناء مناطق معينة من الإقليم من الخضوع لبعض التشريعات التي تسري على بقية أجزاء الدولة.
كما لا يحول دون وصف الدولة بالموحدة، أخذها بأسلوب الإدارة اللامركزية، فالدولة سواء أكانت موحدة أم اتحادية يمكن أن تطبق الأسلوب المركزي أو الأسلوب اللامركزي في الإدارة.
فاللامركزية الإدارية تقتصر على الوظيفة الإدارية ولا تتجاوزها إلى مجال التشريع أو القضاء، بل إنها لا تمتد إلى كل الوظيفة التنفيذية في الدولة، فاللامركزية لا تستبعد وجود السلطة المركزية التي تبقى ضرورةً تقتضيها المحافظة على وحدة الدولة، عدا عن أن الهيئات الإدارية اللامركزية تخضع لنوع من الرقابة والإشراف من جانب السلطة المركزية وذلك كله لا يؤثر في الدولة التي تبقى موحدة نظراً لوحدة دستورها ووحدة سلطاتها التشريعية والحكومية والقضائية.
هذا النوع من الدول واسع الانتشار، إذ إن معظم دول العالم، دول بسيطة التركيب، مثل إنكلترا وفرنسا وإيطاليا واليونان وجميع الدول العربية باستثناء دولة الإمارات العربية المتحدة التي تأخذ بالشكل المركب والاتحادي للدولة.
ب - الدولة المركبة (الاتحادية): ويطلق عليها الفقه الدستوري أيضاً اسم الاتحاد الفيدرالي أو الاتحاد المركزي وأحياناً يطلق عليها اسم الاتحاد الدستوري.
وهذه الدولة خلافاً للدولة الموحدة التي تتميز بوحدة مركز السلطة السياسية، تتميز بتعدد مراكز السلطة السياسية فيها، ففيها مركز عام هو السلطة الاتحادية، ومراكز خاصة تتمثل في السلطات المحلية، وفيها من جهة دستور عام للدولة وهيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية يشمل اختصاصها جميع أنحاء الإقليم، وفيها من جهة أخرى عدة دساتير خاصة بكل جزء سياسي من أجزاء الدولة مع هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية لا يتعدى اختصاصها حدود هذا الجزء، وبسبب هذا التعقيد في تركيب السلطة السياسية فيها، أطلق عليها الفقه الدستوري اسم الدولة المركبة.
تظهر هذه الدولة، نتيجة انصهار عدد من الدول واندماجها في دولة واحدة، بحيث تفقد هذه الدول شخصيتها الدولية، لتتحول بعد قيام الاتحاد إلى دويلات أو ولايات، ولتنشأ شخصية دولية جديدة هي شخصية دولة الاتحاد المركزي التي تتمتع وحدها بجميع مظاهر السيادة الخارجية وبجزء من السيادة الداخلية لكل ولاية، وتخضع لرئاسة واحدة هي التي يمارسها رئيس الدولة الاتحادية، ومن أمثلة الدول التي أخذت بنظام الدولة المركبة، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السويسري والاتحاد السوفييتي قبل انهياره، وألمانيا الاتحادية.
(1) مظاهر الاتحاد المركزي: يتميز الاتحاد المركزي بوجود نوعين من المظاهر، مظاهر وحدة ومظاهر استقلال، إذ تظهر الوحدة في المجال الدولي والداخلي على الصعيد الاتحادي، في حين يظهر الاستقلال على الصعيد الداخلي للولايات الأعضاء.
ففي المجال الدولي، يظهر الاتحاد المركزي، دولةً واحدةً لها شخصية دولية واحدة، إذ تفنى الشخصية القانونية والدولية لجميع الدول الداخلة في الاتحاد، ويترتب على ذلك أن يكون للدولة الاتحادية وحدها الدخول في علاقات دولية مع غيرها من الدول وأن تكون عضواً في المنظمات الدولية، ويكون لها حق إبرام المعاهدات وحق تبادل التمثيل الدبلوماسي وحق تقرير الحرب والسلم.
وكنتيجة لتمتع الاتحاد وحده بالشخصية الدولية من دون الولايات الداخلة فيه، يتمتع جميع مواطني الاتحاد بالجنسية الاتحادية وذلك بصرف النظر عن رعويتهم للدويلات الأعضاء، من دون أن يعدّ ذلك ازدواجاً في الجنسية، فالمواطن لا يتمتع إلا بجنسية واحدة هي جنسية الدولة الاتحادية ذات السيادة، أما الرابطة التي تربط الفرد بالولاية فلا يمكن تكييفها بأنها جنسية، لأن الدويلة العضو في الاتحاد ليس لها شخصية دولية ولا تتمتع بسيادة كاملة، وعلى هذا النحو يكون الشعب في دولة الاتحاد هم مجموع مواطني الولايات كلها، فهم يتمتعون بجنسية واحدة هي جنسية دولة الاتحاد، كما يعد إقليم الاتحاد، وحدة واحدة تتشكل من جميع أقاليم الولايات الداخلة في الاتحاد، كما قد يشمل أجزاء أخرى لا تتبع الولايات وتخضع للاتحاد، مثل المستعمرات التي قد تحتلها الدولة الاتحادية.
كما يظهر الاتحاد المركزي، على الصعيد الداخلي، وحدةً سياسيةً، إذ يكون للاتحاد تنظيم دستوري كامل يقرره الدستور الاتحادي، فيكون هناك سلطة تشريعية اتحادية، تملك الحق في إصدار تشريعات تتوجه مباشرة إلى رعايا الدويلات الأعضاء وتطبق في جميع أنحاء البلاد، وتتكون هذه السلطة من مجلسين أحدهما يقوم على أساس تمثيل شعب الدولة بأكمله بحيث يقوم بانتخابه جميع أفراد الولايات كما لو كانت الدولة موحدة، في حين يقوم المجلس الثاني على أساس تمثيل الولايات باعتبارها وحدات سياسية متميزة، ومتساوية، إذ يكون لكل ولاية عددٌ متساوٍ من الأعضاء بغض النظر عن مساحتها أو عدد سكانها.
ويكون للاتحاد المركزي سلطة تنفيذية اتحادية تمثل دولة الاتحاد بأكملها، يرأسها حاكم يتم انتخابه من قبل شعب الاتحاد، ويكون لها الحق في ممارسة سلطة الإدارة والتنفيذ في الشؤون الداخلة في اختصاصها، وهي إما أن تمارس إدارتها مباشرة عن طريق إدارات تنشئها الحكومة الاتحادية وتكون تابعة لها مباشرة ومستقلة عن الولايات (كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية) وإما عن طريق الجهاز الإداري للدويلات الأعضاء تحت إشرافها ومراقبتها (كألمانيا)، كما يكون للاتحاد على الصعيد الداخلي، سلطة قضائية اتحادية، لها محاكمها الخاصة التي تحسم المنازعات ذات الطابع الاتحادي والتي قد تنشأ مع الدويلات الأعضاء (كالمحكمة العليا في أمريكا والمحكمة الاتحادية في سويسرا).
أما مظاهر الاستقلال، فتبدو على الصعيد الداخلي للولايات الأعضاء، إذ تملك كل ولاية عضو في الاتحاد دستورها الخاص الذي تضعه السلطة المؤسسة فيها وتعدله بحرية، ولكن ضمن القيود التي ينص عليها الدستور الاتحادي، ويكون لكل ولاية سلطاتها العامة المتميزة من تشريعية وتنفيذية وقضائية، وتتمتع السلطة التشريعية للولاية بالحق في وضع التشريعات الداخلية الخاصة بالولاية بشرط ألا تتعارض هذه التشريعات مع التشريعات الاتحادية التي تضعها السلطة التشريعية الاتحادية، وتنفذ هذه التشريعات بواسطة السلطة التنفيذية الخاصة بالولاية والتي لا يتعدى نطاق اختصاصها حدود هذه الولاية، وعند نشوء أي نزاع في حدود الولاية فإن السلطة القضائية للولاية هي الجهة المختصة بفصله.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه وعلى الرغم من تمتع الولايات الأعضاء في الاتحاد المركزي ببعض مظاهر الاستقلال الداخلي إلا أنه لا يمكن إطلاق وصف الدولة على أي منها، لأن هذه الولايات تتمتع فقط بجزء من مظاهر السيادة الداخلية، في حين تتمتع بالجزء الباقي، وهو الجزء الأكبر، الدولة الاتحادية، إذ تفقد الولايات الداخلة في الاتحاد جزءاً من سيادتها الداخلية لمصلحة دولة الاتحاد التي تمارس تلك السيادة على جميع أجزاء إقليم الاتحاد، ولذلك يعرف بعضهم هذه الدولة بأنها (اتحاد دول تخضع جزئياً لسلطة موحدة وتحتفظ جزئياً باستقلالها).
(2) نشأة الاتحاد المركزي ونهايته: ينشأ الاتحاد المركزي بإحدى وسيلتين، فهو ينشأ نتيجة انضمام عدة دول واتحادها، وهذه هي الطريقة الأكثر اتباعاً، وعادة ما يكون دافع الدول إلى هذا الاتحاد تقارب شعوبها من الناحية التاريخية والحضارية والثقافية أو شعور هذه الدول بحاجتها إلى الاتحاد لصد عدوان الغير عليها (وهذه هي الطريقة التي اتبعت في نشأة الولايات المتحدة الأمريكية).
كما قد ينشأ هذا الاتحاد بوسيلة أخرى، وذلك نتيجة تفكك دولة كانت في الأصل دولة موحدة أو بسيطة إلى عدة دويلات بأن تستقل أقسامها الإدارية استقلالاً تاماً ويصبح لها سلطة تشريعية تملك اختصاصات لا يمكن تعديلها إلا بإجراءات خاصة، وتبقى مع ذلك مرتبطة بروابط معينة ضمن إطار فدرالي (وهي الطريقة التي تكون بها الاتحاد السوفييتي السابق).
وينتهي الاتحاد الفيدرالي بالأساليب العامة التي تنتهي بها الدول (كزوال ركن من أركانها)، كما قد ينتهي هذا الاتحاد بإحدى وسيلتين مماثلتين لوسيلة نشأته وهما: تحول الدولة الاتحادية إلى دولة موحدة أو بسيطة بحيث تصبح فيه الدويلات مجرد أقسام أو وحدات إدارية بعد أن كانت وحدات سياسية متميزة، أو ينتهي بانفصال الولايات بعضها عن بعضها الآخر وتحولها إلى دول بسيطة مستقلة ومتميزة كل منها عن الأخرى (كحال جمهوريات الاتحاد السوڤييتي السابق، في الوقت الراهن).
(3) توزيع الاختصاصات بين دولة الاتحاد المركزي والولايات: يترتب على تعدد السلطات العامة التابعة لدولة الاتحاد وتلك التابعة للولايات الداخلة في الاتحاد، تداخل وتشابك في الاختصاص، الأمر الذي يثير مشكلة توزيع الاختصاص بين هذه السلطات، وكحل لهذه المشكلة، يتم اتباع إحدى الطرق الثلاث التالية:
الطريقة الأولى: وذلك بأن يحدد الدستور الاتحادي على سبيل الحصر المسائل التي تدخل في اختصاص السلطات المركزية وتلك التي تدخل في اختصاص السلطات التابعة للولايات، وهذه طريقة معيبة، لأنه قد تستجد بعض المسائل التي لم يحدد الدستور السلطة المختصة بنظرها، فتثور المشاكل التي قد تهدد الاتحاد نتيجة تعذر تحديد الجهة المختصة.
أما الطريقة الثانية: فتكون بأن يحدد الدستور الاتحادي اختصاصات الولايات الأعضاء في الاتحاد على سبيل الحصر وترك ما عداها لدولة الاتحاد، فيكون اختصاص الاتحاد اختصاصاً عاماً يشمل كل ما لم يرد به نص، وكل ما يجدُّ في المستقبل من أمور لا تدخل في المسائل المحددة حصراً للولايات الأعضاء، وهذه الطريقة من شأنها توسيع اختصاص الاتحاد وتقويته، وقد أخذت بها بعض الاتحادات المركزية التي نشأت من طريق تحول دولة موحدة إلى دولة اتحادية، ومن ثم فمن الطبيعي أن يكون للولايات اختصاص محدد واستثنائي لأنه يشكل نقلاً لبعض الاختصاصات من السلطة المركزية القديمة إلى السلطات المحلية الجديدة للولايات الأعضاء.
أما الطريقة الثالثة والأخيرة: فتكون من خلال تحديد الدستور الاتحادي لاختصاصات الاتحاد على سبيل الحصر وترك ما عداها من اختصاصات للولايات الأعضاء في الاتحاد، وهي عكس الطريقة السابقة، إذ يصبح للاتحاد اختصاص محدد واستثنائي، ويصبح للولايات الأعضاء الاختصاص العام في كل ما لم يُنص عليه في الدستور الاتحادي، وهذه الطريقة تعكس حرص الولايات على استقلالها، وهو ما يفسر شيوع هذه الطريقة، لأن معظم الاتحادات المركزية نشأت من طريق انضمام دول كانت مستقلة فكانت لذلك حريصة على الاحتفاظ بأكبر قدر من استقلالها الداخلي في مواجهة سلطات الحكومة المركزية.
سابعاً- زوال الدولة وتوارثها
1- زوال الدولة:
تزول الدولة وينتهي بذلك وجودها القانوني، بفقدها لأحد العناصر الأساسية اللازمة لبقائها دولةً من سكان أو إقليم أو سيادة.
وهلاك السكان أو هلاك الإقليم هو حادث نادر الحصول في تاريخ الشعوب إلا إذا كان هذا الهلاك نتيجة حادث طبيعي كزلزال أو بركان أو حرب مدمرة.
لذلك فالغالب في انتهاء وجود الدولة قانوناً هو فقدانها لسيادتها واستقلالها بضمها طوعاً أو كرهاً إلى دولة أخرى، والأمثلة على ذلك كثيرة منها، زوال دولة الكنغو الحرة بضمها إلى بلجيكا سنة 1908 وزوال إمبراطورية كوريا بضمها إلى اليابان سنة 1910 وزوال دولة بولونيا بتقسيمها بين النمسا وبروسيا وروسيا سنتي 1733 و 1793 ونهاية دولة النمسا بضمها إلى ألمانيا سنة 1938.
ويترتب على زوال الدولة وانتهاء وجودها القانوني من خلال ضمها إلى دولة أخرى مجموعة من النتائج:
أ - سقوط جميع المعاهدات التي أبرمتها تلك الدولة وعدم التزام الدولة الضامة بأي منها إلا إذا كانت تلك المعاهدات ترتب حقوقاً على الإقليم ذاته، وبالعكس تسري المعاهدات التي أبرمتها الدولة الضامة على إقليم الدولة التي انتهى وجودها القانوني إلا إذا كان المقصود وقت إبرامها قصر سريانها على إقليم الدولة الضامة دون سواه.
ب - انتقال ديون الدولة التي انتهى وجودها القانوني بكاملها إلى ذمة الدولة الضامة، وذلك مقابل ما يعود على هذه الدولة من الفائدة نتيجة وضع يدها على الإقليم الجديد وحصولها على موارده.
ج - انتقال جميع أملاك الدولة التي انتهى وجودها القانوني من عامة وخاصة إلى الدولة الضامة مع احترام الملكية الخاصة بالأفراد وحقوق الامتياز التي منحتها الدولة القديمة.
د - سريان جميع قوانين الدولة الضامة ونظامها السياسي والإداري والمالي والقضائي على الدولة المضمومة مع احترام الحقوق المكتسبة للأفراد في المسائل المدنية والجنائية.
هـ - فقدان رعايا الدولة التي انتهى وجودها القانوني، لجنسيتهم بزوال دولتهم واكتسابهم لجنسية جديدة هي جنسية الدولة التي ضُموا إليها.
2- توارث الدولة:
قد لا يصل الأمر إلى حد زوال الدولة بأكملها وإنما يقتصر الأمر على بعض التغييرات التي تصيب تكوينها الإقليمي، كأن تفقد جزءاً من إقليمها أو تضم إلى إقليمها جزءاً من إقليم دولة أخرى، هذا الانفصال أو الضم يترتب عليه مجموعة من النتائج القانونية التي يطلق عليها بعض الفقهاء اسم (الميراث الدولي) سواء ما يتعلق بالمعاهدات أم بالديون العامة والأملاك والتشريع والقضاء، إضافة إلى جنسية سكان الإقليم المنتقل من دولة إلى أخرى.
أ- المعاهدات: لا ينتج من انفصال جزء من إقليم الدولة عنها أي أثر في مركزها الدولي ولا في التزاماتها الدولية، إذ تبقى تلك الدولة مرتبطة بالمعاهدات التي سبق أن أبرمتها مع الدول الأجنبية.
أما الإقليم المنفصل فإنه يصبح بانفصاله غير خاضع لهذه المعاهدات، وذلك لأن المعاهدات التي تبرم بين الدول تقوم على اعتبارات خاصة بالدول التي هي طرف فيها، ولذا لا ينتقل ما ترتبه من حقوق أو واجبات لغيرها إلا إذا كانت تنصب على الإقليم ذاته (كمعاهدات تعيين الحدود والمعاهدات التي تقرر حق ارتفاق على الإقليم، مثل حق الملاحة النهرية والمعاهدات التي تفرض صفة الحياد على جزء من إقليم الدولة) فمثل هذه المعاهدات، تظل قائمة وتلتزم الدولة التي ضم إليها الإقليم بمراعاتها.
ولا يختلف الحكم إذا كان انفصال الإقليم عن دولة الأصل بغرض استقلاله بأمر نفسه وتكوين دولة جديدة، إذ لا تلتزم الدولة الجديدة بما سبق أن أبرمته دولة الأصل من معاهدات إلا ما كان منه منصباً على الإقليم ذاته.
ومن جهة أخرى يخضع الإقليم للمعاهدات السابق إبرامها بواسطة الدولة التي انضم إليها، إلا إذا كان قصد الدول الأطراف في المعاهدة أن يقتصر تطبيقها على الإقليم الخاضع لكل منها وقت إبرامها أو كانت طبيعة الإقليم تتنافى مع طبيعة المعاهدة.
ب - الديون العامة: فالمبدأ هو أن تلتزم دولة الأصل بديونها، على الرغم من انفصال جزء من إقليمها عنها، ذلك أن هذه الديون اقترضت للمصلحة العامة للدولة واستفاد منها كل جزء من أجزاء إقليمها، بما فيها الجزء المنفصل، لذلك يكون من الطبيعي أن يتحمل الإقليم المنفصل نصيباً منها تلتزم به الدولة الجديدة التي نشأت بداخله أو الدولة التي ضمته إليها، هذا إلى جانب أن الدولة التي ينتزع منها الإقليم تفقد بانتزاعه جزءاً من مواردها التي تسدد منها ديونها ومن العدل أن تعفى في مقابل ذلك من جزء من هذه الديون يتناسب مع ما فقدته.
وقد سارت الدول على ذلك في المناسبات المختلفة، إذ التزمت بلجيكا عند انفصالها عن هولندا عام 1830 بجزء من ديون هذه الدولة، كما التزمت بلغاريا والصرب والجبل الأسود في معاهدة برلين لعام 1878 بنصيب من ديون تركيا.
أما الديون المحلية الخاصة بالإقليم المنفصل ذاته، ومثالها الديون التي ترتبت نتيجة مشاريع إنشائية خاصة بالإقليم، كإنشاء سكك حديدية أو مرافئ أو جسور، فهذه الديون تلتزم بها الدولة التي انتقل إليها الإقليم كاملاً، لأنها تكليف خاص بهذا الإقليم، فينتقل عبئها بانتقاله إليها ، إعمالاً لقاعدة الغرم بالغنم.
ج - أملاك الإقليم: يترتب على انتقال الإقليم من سيادة دولة إلى سيادة دولة أخرى انتقال جميع الأملاك العامة الموجودة على هذا الإقليم إلى الدولة الثانية مع احتفاظها بصفتها أملاكاً مخصصة للمنفعة العامة، مثل الطرق والجسور وما في حكمها، ويسري هذا أيضاً على المنشآت الحكومية ذات المنفعة العامة، كالمستشفيات والمدارس … وتتبع المنقولات الموجودة في مثل هذه العقارات مصير العقارات ذاتها.
أما أملاك الحكومة الخاصة فالأصل أنها تبقى في ملكيتها الأولى ما لم يتفق على خلاف ذلك.
وأما الأملاك الخاصة بالأفراد، فهي لا تتأثر بانتقال الإقليم إلى سيادة دولة جديدة، وتبقى في ملكيتهم في حدود القواعد المقررة في قانون هذه الدولة.
د - التشريع: يترتب على خضوع الإقليم لسيادة دولة جديدة أن يصبح خاضعاً لقوانينها ونظامها السياسي والإداري والمالي كأي جزء آخر منها، ويقتصر ذلك على القانون الدستوري والنظام السياسي بمجرد حصول الضم من دون حاجة إلى أي إجراء خاص، أما بالنسبة للقوانين الأخرى من إدارية ومالية ومدنية وجنائية، فالمتفق عليه لدى أغلب الفقهاء أنه يجب لتطبيقها على الإقليم اتخاذ إجراء تشريعي يمكّن سكان الإقليم من العلم بها، وقد جرت العادة، أن تعمد الدولة التي انضم إليها الإقليم إلى إيجاد فترة انتقال تطبق فيها مؤقتاً القوانين القديمة على أن تحل محلها تدريجياً قوانين هذه الدولة، مع احترام الحقوق المكتسبة في ظل التشريع القديم، وهو ما حدث للألزاس عند ضمها لألمانيا عام 1871 وعند استرجاع فرنسا لها عام 1919.
هـ - القضاء: يتم التمييز هنا بين القضايا الجديدة والقضايا القديمة، أما القضايا الجديدة فترفع وفقاً للأوضاع المقررة في قوانين الدولة التي انضم إليها الإقليم وأمام المحاكم التابعة لهذه الدولة، وأما القضايا القديمة التي لم تفصل نهائياً أو الأحكام التي صدرت قبل الضم ولم تنفذ، فيجب بصددها التفرقة بين المسائل المدنية والمسائل الجنائية:
(1) المسائل المدنية: إذا لم يكن قد فصل في الدعوى فإنها تنتقل بحالتها إلى القضاء المختص التابع للدولة التي انضم إليها الإقليم، وتعدّ الإجراءات التي تمت أمام القضاء الأول حقاً مكتسباً لذوي الشأن وعلى القضاء الجديد الفصل في الدعوى على أساس هذه الإجراءات.
أما إذا صدر في الدعوى حكم نهائي، فيعدّ هذا الحكم حقاً لمن صدر في مصلحته وله أن يطلب تنفيذه على أرض الدولة التي انتزع منها الإقليم من دون حاجة إلى أي إجراء جديد، وكذلك الأمر إذا كان التنفيذ على أرض الإقليم المنفصل ذاته، أما إذا كان تنفيذ الحكم على أرض الدولة التي انضم إليها الإقليم، فوجب لحصوله استصدار إذن من قضائها على اعتبار أن الحكم في هذه الحالة صادر عن هيئة قضائية أجنبية.
(2) المسائل الجنائية: إذا لم تكن المحاكمة الجنائية قد بدأت من أجل جريمة وقعت قبل ضم الإقليم فيقدم المتهم للمحاكمة أمام محاكم الدولة التي ضم إليها الإقليم، وتجري هذه المحاكمة وفقاً لقانونها على أن تتقيد بالقاعدتين التاليتين من القواعد العامة للقانون الجنائي: أولهما أن لا يقضى على المتهم بعقوبة أشد مما كان مقرراً لجريمته في قانون الدولة الأولى الذي وقعت الجريمة تحت سلطانه، وثانيهما تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم.
أما إذا كان المتهم قد حكم عليه نهائياً قبل الضم، فللدولة التي ضم إليها الإقليم أن تقوم بتنفيذ هذا الحكم بعد التأشير عليه من قضائها بذلك إلا إذا كانت العقوبة المقررة لا مثيل لها في تشريع هذه الدولة، فعندها يمكن إعادة النظر في الدعوى لاستبدال عقوبة أخرى بهذه العقوبة توازيها أو أخف منها.
و - جنسية السكان: الأصل أن يؤدي انتقال جزء من إقليم دولة إلى دولة أخرى، إلى فقدان سكان الإقليم المنتقل جنسيتهم الأولى واكتسابهم جنسية الدولة التي ضم إليها الإقليم.
ولكن مراعاة لمصالح الأفراد وتجنباً لأن تفرض عليهم جنسية قد لا يرغبون فيها، جرت العادة على أن يعطى للسكان حق اختيار البقاء على جنسيتهم القديمة إذا أرادوا، ومن أمثلة ذلك ما تقرر في معاهدة فرانكفورت عام 1871 لمن يرغب من الرعايا الفرنسيين من سكان الألزاس واللورين الاحتفاظ بجنسيته الفرنسية القديمة.
وقد كان محتماً على من اختار من السكان البقاء على جنسيته القديمة، مغادرة الإقليم خلال مدة معينة مع تصفية أملاكه العقارية الموجودة فيه، ولكن بالنظر لما كان يصيب مثل هؤلاء السكان من أضرار مادية فادحة نتيجة طرح أملاكهم دفعة واحدة في السوق وما يتبع ذلك من نزول قيمتها نزولاً فاحشاً يجعل تصفية هذه الأملاك في حكم المصادرة لها، فقد رؤي العدول عن إلزام هؤلاء السكان بتصفية أموالهم العقارية وترك الخيار لهم بين البقاء في الإقليم مع احتفاظهم بجنسيتهم الأولى أو مغادرته إذا أرادوا.
ثامناً- رئاسة الدولة
1- كيفية تولي منصب رئيس الدولة:
تختلف طريقة تولي منصب رئاسة الدولة باختلاف النظم السياسية ففي النظم الديمقراطية، يتم اختيار رئيس الدولة بطريق الانتخاب لمدة محددة، أما في النظم غير الديمقراطية فيتولى رئيس الدولة منصبه بطريق الوراثة أو الاختيار.
أ- الوسائل غير الديمقراطية: وهي الوسائل التي لا يكون فيها للشعب دور في عملية اختيار الحاكم وهي:
(1) الوراثة: وهي الأسلوب الأكثر انتشاراً في التاريخ، وتقوم على انتقال السلطة داخل نطاق العائلة أو السلالة من الأب إلى الابن أو الأخ باشتراك النساء أو من دون اشتراكهن وذلك مهما كانت التسمية التي تطلق على رئيس الدولة، سواء سمي ملكاً أو أميراً أو سلطاناً أو قيصراً أو امبراطوراً، ويسمى النظام الذي يأخذ بهذا الأسلوب «النظام الملكي» الذي يقوم على فكرة أساسية مقتضاها وجود شخص أو عائلة معينة لها الحق الذاتي في تولي رئاسة الدولة، وقد أسهم مفهوم (الحق الإلهي) في تدعيم هذه الوسيلة، فغدت الوراثة السبب الوحيد لمشروعية الحكم قروناً عديدة.
(2) الاختيار: وبهذا الأسلوب يتولى رئاسة الدولة، شخص تم اختياره من قبل السلف، بحيث يتم (اختيار الخلف بواسطة السلف) وهنا لا تشترط صلة الرحم والقرابة بين الخلف والسلف، وقد عرف هذا الأسلوب في الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين.
(3) الاستيلاء على السلطة بالقوة: وهي وسيلة غير قانونية، يتولى فيها شخص معين رئاسة الدولة سواء بالثورة أم بالانقلاب، ويميز الفقه الدستوري بين الأسلوبين، فيعدّ الأسلوب الأول (الثورة) أسلوباً ديمقراطياً، معتمداً على الارتباط الوثيق بين الثورة والنظريات الديمقراطية المستندة إلى السيادة الشعبية، في حين يعدّ الأسلوب الثاني (الانقلاب) غير ديمقراطي باعتباره يهدف إلى تحقيق أغراض شخصية للقائمين به، تتجلى بالاستيلاء على السلطة.
ب - الوسائل الديمقراطية: وتنحصر في وسيلة واحدة وأساسية وهي الانتخاب، والذي تختلف طريقته باختلاف الدساتير، فقد يتم انتخاب رئيس الدولة بواسطة البرلمان أو بواسطة الشعب وقد يتم بأسلوب مختلط يشترك فيه البرلمان والشعب.
(1) انتخاب رئيس الجمهورية بواسطة البرلمان: وهنا يتم اختيار رئيس الدولة من قبل السلطة التشريعية في الدولة، وهو الأسلوب الذي كان مطبقاً في اختيار رئيس الجمهورية في فرنسا وفق دستور 1875 ودستور 1946، وهو الأسلوب الذي يأخذ فيه دستور دولة لبنان الحالي، إذ حددت المادة (73) من الدستور اللبناني موعد انتخاب رئيس الجمهورية فنصت على أنه (قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم المجلس بناء على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد وإذا لم يدع المجلس لهذا الغرض فإنه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس).
وتتابع المادة (75) النص على اعتبار المجلس النيابي عند اجتماعه لانتخاب الرئيس (هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر). وهذا الانتخاب الذي نظمته المادة السابق ذكرها يعود إلى حالة انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، أما في الحالات الاستثنائية، كالوفاة أو الاستقالة... فقد فرضت المادة (74) على المجلس أن يجتمع فوراً وذلك بنصها على أنه (إذا خلت الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو سبب آخر فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون وإذا اتفق حصول خلاء الرئاسة حال وجود مجلس النواب منحلاً تدعى الهيئات الانتخابية دون إبطاء ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الأعمال الانتخابية).
أما عن كيفية انتخاب الرئيس، فقد وردت أحكامها في الفقرة الثانية من المادة 49 والتي نصت على أن (ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي).
هذه الطريقة في انتخاب الرئيس بواسطة البرلمان، تعرضت للانتقاد، لما تؤدي إليه من إضعاف لسلطة رئيس الدولة وجعله خاضعاً للبرلمان الذي انتخبه - لأن الخالق يقيد المخلوق - وهو ما حدث في فرنسا في ظل الجمهورية الرابعة 1946، عندما أدى إلى إضعاف السلطة التنفيذية وكان من أسباب عدم استقرارها.
(2) انتخاب رئيس الدولة بواسطة الشعب: بمقتضى هذا الأسلوب تقوم هيئة الناخبين بانتخاب رئيس الدولة إما انتخاباً مباشراً وعلى درجة واحدة، بمعنى أن يقوم الناخبون بانتخاب رئيس الدولة مباشرة ومن دون وساطة؛ أو انتخاباً غير مباشر على درجتين، وذلك عندما يقوم الناخبون بانتخاب مندوبين يتولون عنهم مهمة انتخاب الرئيس وهو الأسلوب المطبق في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ينتخب شعب كل ولاية عدداً من المندوبين، يعادل عدد ممثليها في الكونغرس الاتحادي (مجلس الشيوخ ومجلس النواب) وهؤلاء المندوبون البالغ عددهم /538/ ناخباً يقومون بانتخاب رئيس الجمهورية، وذلك عن طريق توجيه رسائل إلى رئيس مجلس الشيوخ يعلنون فيها اسم المرشح الذي يصوتون لمصلحته، ويعد المرشح الذي ينال أكبر عدد من الأصوات فائزاً بشرط ألا يقل هذا العدد عن نصف مجموع الناخبين الرئاسيين.
يؤدي هذا الأسلوب في اختيار رئيس الدولة إلى تقوية مركزه في مواجهة السلطة التشريعية، باعتباره منتخباً من الشعب كله، في حين يتم انتخاب أعضاء السلطة التشريعية من قبل دائرة محدودة العدد، الأمر الذي يمنحه الاستقلال في مواجهة السلطة التشريعية لاستناد سلطته إلى الشعب صاحب السيادة، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى استبداده وديكتاتوريته.
(3) الطرق المختلطة: وهنا يتم انتخاب رئيس الدولة بطريقة يشترك فيها كلٌ من البرلمان والشعب وتأخذ هذه الطرق تطبيقات مختلفة باختلاف دساتير الدول، فبعض الدول تجعل انتخاب رئيس الدولة بواسطة هيئة خاصة مكونة من أعضاء البرلمان ومن عدد من المندوبين الذين ينتخبهم الشعب، وهو ما كان مطبقاً في ظل دستور الجمهورية الإسبانية الصادر عام 1931، وما كان مطبقاً أيضاً في ظل الدستور الفرنسي الحالي لعام 1958، قبل تعديله عام 1962، إذ كان انتخاب رئيس الدولة يتم من قبل هيئة انتخابية خاصة تضم أعضاء مجلسي البرلمان (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ) وأعضاء مجالس المحافظات (المستشارين العامين) وأعضاء مجالس أقاليم ما وراء البحار، إضافة إلى ممثلين منتخبين من المجالس البلدية يحدد عددهم وفقاً لعدد سكان البلدية (بلغ عدد أعضاء هذا المجمع الانتخابي في الانتخابات الفرنسية التي اتبع فيها هذا الأسلوب عام 1958، نحو 85000 عضو).
وقد يجمع الدستور بين البرلمان والشعب في اختيار رئيس الدولة، فيكون ترشيح الرئيس من حق البرلمان، ثم يعرض الترشيح على المواطنين لاستفتائهم فيه، وهو ما أخذت به الدساتير المصرية المتعاقبة منذ صدور دستور 1956.
ويبدو الهدف من اتباع هذه الطرق المختلطة في انتخاب رئيس الدولة، محاولة لتحقيق مزايا الطريقتين السابقتين وتفادي عيوبهما، وذلك بتقوية مركز رئيس الدولة مع الحيلولة في الوقت ذاته دون استبداده.
2- مدة رئاسة الدولة:
تختلف مدة رئاسة الدولة، باختلاف النظم السياسية، ففي النظم الملكية، يتولى الملك رئاسة الدولة، مدى الحياة، بحيث لا تكون ولايته محددة بمدة معينة، أما في النظم الديمقراطية فيتولى رئيس الدولة مهام المنصب مدة محددة تختلف باختلاف دساتير الدول، ففي الدساتير الفرنسية، منذ دستور الجمهورية الثالثة عام 1875، هي سبع سنوات وجرى تخفيضها بمقتضى التعديل الدستوري الذي تم عام 2000 إلى خمس سنوات.
ومدة الرئاسة في الدستور المصري الحالي ست سنوات، وكان يجوز إعادة انتخاب رئيس الدولة لمدة تالية ومتصلة، وقد تم تعديل الدستور عام 1980 بما يسمح بإعادة انتخاب الشخص نفسه رئيساً للدولة أكثر من مرة.
وفي الدستور الألماني مدة الرئاسة خمس سنوات يمكن تجديدها مرة واحدة، أما في الولايات المتحدة الأمريكية فمدة الولاية أربع سنوات ولا يجوز إعادة انتخاب الرئيس أكثر من مرة واحدة، ومدة الرئاسة في سويسرا سنة واحدة (حيث يقوم البرلمان الاتحادي، بانتخاب أعضاء السلطة التنفيذية «المجلس الاتحادي» مدة أربع سنوات ويقوم هؤلاء بانتخاب رئيس من بينهم، يتم تغييره سنوياً).
3- اختصاصات رئيس الدولة: تختلف اختصاصات رئيس الدولة باختلاف الأنظمة السياسة المطبقة في الدول.
أ - اختصاصات رئيس الدولة في النظام البرلماني: الأصل في النظام البرلماني، أن رئيس الدولة يسود ولا يحكم فرئيس الدولة سواء أكان ملكاً أم رئيس جمهورية منتخباً لا يمارس السلطة التنفيذية من الناحية الفعلية، لعدم مسووليته السياسية،، وإنما تمارسها الوزارة المسؤولة سياسياً أمام البرلمان عملاً بمبدأ (تلازم السلطة والمسؤولية) ومن ثم تكون سلطة رئيس الدولة، سلطة اسمية محضة أو شرفية، ومن ثم فهو لا يملك الحق في وضع السياسة العامة للدولة بنفسه ولا وضع مشروعات القوانين حسب رأيه الشخصي ولا البت في أي أمر سياسي وفقاً لميوله وسياسته الخاصة، فهذه الأمور كلها هي بيد الوزارة المسؤولة أمام البرلمان، وإذا حدث أن قام رئيس الدولة بالتوقيع على أي تصرف يتعلق بشؤون الدولة، فمثل هذا التوقيع لا يكون ملزماً من الناحية القانونية إلا إذا تأيد بتوقيع رئيس الوزراء والوزير المختص.
ب - اختصاصات رئيس الدولة في النظام الرئاسي: يتميز النظام الرئاسي بفردية السلطة التنفيذية بمعنى أن رئيس الدولة في هذا النظام هو الذي يتولى ويمارس وحده السلطة التنفيذية من الناحية الدستورية، فرئيس الدولة هو في الوقت نفسه رئيس الحكومة ولا يوجد بجواره رئيس وزراء ولا مجلس وزراء كهيئة جماعية متضامنة في المسؤولية.
فالسلطة التنفيذية مركزة في شخص رئيس الدولة، وبهذه الصفة هو المختص بوضع السياسة العامة للدولة بنفسه والإشراف على تنفيذها، يعاونه في تنفيذها سكرتيرون هم أشبه بالوزراء، يتولى كل منهم الإشراف على قسم تنفيذي من أقسام الإدارة التنفيذية من خلال قيامه بالإشراف على الموظفين التابعين له والذين يعتمد عليهم في تنفيذ سياسة الرئيس في القسم التنفيذي الذي يرأسه كل منهم.
وسكرتيرو الرئيس أو الوزراء ليس لهم استقلال ذاتي عن رئيس الدولة، فهو الذي يعينهم ويعزلهم ويكونون مسؤولين عن تنفيذ السياسية العامة أمام الرئيس وحده، فلا وجود لمسؤولية سياسية للوزراء أمام البرلمان، لا مسؤولية فردية ولا مسؤولية تضامنية لعدم وجود مجلس الوزراء.
يجتمع رئيس الدولة بسكرتيريه أو وزرائه للتداول وتبادل الرأي في أمور الدولة والسياسة العامة، ولكن مثل هذه الاجتماعات لا تعدّ اجتماعات مجلس وزراء بالمعنى الصحيح، لأن القرارات الكبرى يستقل باتخاذها الرئيس من دون تصويت من الوزراء، فهذه الاجتماعات حتى لو حدثت فهي لا تتعدى أكثر من أخذ الرأي الاستشاري غير الملزم للرئيس، الذي يبقى وحده رئيس الدولة والحكومة والذي يمارس منفرداً جميع الاختصاصات المتعلقة بمنصبه هذا، فهو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، والذي يعين السفراء والوزراء وقضاة المحكمة العليا ويعقد المعاهدات مع الدول الأخرى، ويمارس السلطة التنظيمية من خلال إصداره للأوامر والقرارات التنفيذية.
4- مسؤولية رئيس الدولة:
لا يكون الرئيس مسؤولاً عن أعماله بصورة مطلقة، وإنما تختلف مسؤوليته باختلاف الأنظمة السياسية.
أ - مسؤولية رئيس الدولة في النظم الملكية والبرلمانية: القاعدة في النظم الملكية التي تأخذ بالنظام البرلماني أن الملك غير مسؤول عن أعماله إطلاقاً، سواءً أكانت المسؤولية جنائية أم سياسية ذلك أن الدساتير الملكية تقرر أن ذات الملك مصونة لا تمس.
بمعنى أن الملك لا يسأل عن أعماله وتصرفاته حتى لو كانت هذه الأعمال جرائم معاقباً عليها جزائياً، وسواء أكانت متعلقة بوظيفته، كالخيانة العظمى، أم كانت جرائم عادية لا علاقة لها بوظيفته.
نشأت هذه القاعدة في إنكلترا، انطلاقاً من فكرة مؤداها أن (الملك لا يخطئ) وما دام الملك لا يخطئ فإنه غير مسؤول، وقد بالغ بعضهم في تفسير هذه القاعدة فذهب إلى حد القول إن الملك إذا قتل أحد الوزراء، فيتحمل المسؤولية عوضاً عنه رئيس الوزراء، أما إذا قتل رئيس الوزراء نفسه فلا مسؤولية على أحد.
وكذلك فإن الملك غير مسؤول عن تصرفاته في شؤون الحكم، إذ تقع هذه المسؤولية على عاتق الوزارة والوزراء، سواء أكانت مسؤولية تضامنية تتحملها هيئة الوزارة بأكملها أم كانت مسؤولية فردية لكل وزير على حدة.
وقد ترتب على قاعدة عدم مسؤولية الملك، انتقال السلطة الحقيقية إلى الوزارة المسؤولة أمام البرلمان تطبيقاً لقاعدة (تلازم السلطة والمسؤولية) والتي هي القاعدة الأساس في النظام البرلماني، إذ رئيس الدولة (ملك أو رئيس منتخب) غير مسؤول سياسياً لأنه لا يمارس سلطة فعلية.
ويجب الإشارة إلى أن قاعدة عدم مسؤولية رئيس الدولة قد تعود أيضاً إلى طبيعة نظام الحكم الفردي (سواء أكان نظاماً ملكياً مطلقاً أم كان نظاماً ديكتاتورياً) إذ تتركز السلطة في يد فرد واحد من دون أن تقع على عاتقه أي مسؤولية، لعدم قدرة أي جهة على رقابته ومحاسبته.
ب - في النظم الجمهورية والرئاسية: القاعدة الأساسية في هذه النظم هي مسؤولية رئيس الدولة عن أعماله الشخصية التي لا تتعلق بوظيفته، إذ يسأل جنائياً عن الجرائم العادية التي يرتكبها خارج أعمال وظيفته والتي يعاقب القانون الأفراد على ارتكابها (كالقتل والسرقة) كما يكون مسؤولاً مدنياً عن هذه الأعمال شأنه شأن الأفراد، وأذا سببت ضرراً للآخرين يلزم بدفع التعويض.
أما عن الأعمال المتعلقة بوظيفته (رئيسَ دولةٍ) فإن أغلب الدساتير تقرر مسؤوليته في حالة الخيانة العظمى، وتتبع في محاكمته إجراءات خاصة، وفيما عدا ذلك فإن بعض الدساتير تقرر مسؤوليته السياسية عن أعمال وظيفته، وذلك من خلال إباحة عزله قبل انتهاء مدة رئاسته، كالدستور الفرنسي الحالي الذي يعدّ الرئيس مسؤولاً عن أعماله، حسب التعديل الدستوري الذي تم عام 2007 في حالة (الإخلال الواضح في واجباته بما لا يتلاءم مع الاستمرار في منصبه) علماً أن مسألة تقدير ارتكاب الرئيس لهذا الإخلال تعود إلى اجتهاد كل من الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، باعتبارهما الجهة المختصة باتهام الرئيس علماً أن المحاكمة تتم أمام محكمة العدل العليا.
ومن ثم فإن القاعدة في أغلب الدساتير هي عدم مسؤولية رئيس الدولة عن أعمال وظيفته باستثناء حالة الخيانة العظمى، علماً أن هذه الحالة لا يعرّفها أي دستور أو قانون، فهي فكرة سياسية مرنة، بمعنى أنها جريمة سياسية ذات مضمون متغير، يدخل فيه الإخلال الجسيم من جانب الرئيس بواجباته الوظيفية أو مجرد الخلاف العميق مع إحدى السلطات العامة من دون مراعاة لأحكام الدستور.
أما مسألة الاتهام بالخيانة العظمى فهي مسألة تقديرية لا يمكن تحريكها إلا بتوافر النصاب اللازم دستورياً لتحريكها من قبل الجهة التي حددها الدستور وهي عادةً (السلطة التشريعية)، أما مسألة الإدانة فهي سلطة تملكها الجهة التي تملك حق المحاكمة وفقاً لما تراه بمحض سلطتها التقديرية ولا تتقيد بالعقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات، إذ يكون لها أن تفرض عقوبات جنائية أخرى أو تكتفي بفرض جزاء سياسي من خلال عزل الرئيس عن منصبه في رئاسة الدولة.
وهذا هو الوضع المطبق في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أعطى الدستور الأمريكي لمجلس النواب حق اتهام الرئيس بالأغلبية النسبية لأعضائه، وأعطى حق المحاكمة لمجلس الشيوخ برئاسة رئيس المحكمة العليا وذلك عند ارتكاب الرئيس لجريمة الخيانة أو الرشوة أو غيرها من الجنايات والجنح الكبرى، فإذا ثبت لمجلس الشيوخ إدانة الرئيس بأغلبية ثلثي الحضور، حكم عليه بعقوبة العزل من الوظيفة، ليتم فيما بعد تقديم الرئيس المعزول للمحكمة الجنائية العادية، لمحاكمته طبقاً للقانون العام أسوة بغيره من المواطنين بعد أن فقد صفته الاتحادية رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
وتجب الإشارة هنا إلى أن مسؤولية الرئيس الأمريكي وإن كانت مسؤولية جنائية ظاهرياً إلا أنها في حقيقتها مسؤولية ذات طابع مختلط جنائي - سياسي ذلك أن جزاءها سياسي (العزل) ولأن أسبابها وإن كانت أسباباً جنائية (الجنح والجنايات الخطيرة) إلا أن عبارة (الخيانة) عبارة ذات مضمون سياسي يتحدد محتواها تبعاً لتكييف الجهات المختصة بالاتهام والمحاكمة، عدا عن أن مجرد التهديد باستخدامها، قد يكون سبباً في استقالة الرئيس قبل تحريك الاتهام بالفعل، وهو ما حدث مع الرئيس (نيكسون) إثر فضيحة (ووترغيت) فكأنها تحولت إلى نوع من المسؤولية السياسية، ولو بطريقة غير مباشرة.
5- رئيس الدولة في سورية:
يتمتع رئيس الدولة في سورية بمركز متميز، يعود إلى طريقة انتخابه، واختصاصاته الواسعة تنفيذياً وتشريعياً، وانعدام مسؤوليته إلا في حالة الخيانة العظمى.
أ- انتخابه: يشترط في المرشح لتولي رئاسة الجمهورية العربية السورية، استناداً إلى المادة /83/ من الدستور السوري الحالي لعام 1973 والمعدلة بموجب القانون رقم /9/ عام 2000 (أن يكون عربياً سورياً متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية متماً الرابعة والثلاثين عاماً من عمره).
فهو أولاً يجب أن يكون حاملاً للجنسية العربية السورية، وبما أن الدستور لم يقيد هذا النص بمدة معينة، كأن ينص مثلاً على أن يكون (عربياً سورياً منذ عشر سنوات على الأقل).
فيجب أن يفسر على إطلاقه، بمعنى يجب أن يشترط في المرشح تفسيراً للنص السابق تمتعه بالجنسية العربية السورية، سواء أكان تمتعه بتلك الجنسية ولادةً أم تجنساً وهذا التفسير غير مقبول، وكان الأولى بالمشرع الدستوري أن يقيد هذا الشرط بقيد معين، كأن يشترط تمتعه بالجنسية السورية ميلاداً لا تجنساً.
ثم إنه يجب أن يكون متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية، إذ لا يعقل أن يكون له الحق في ترشيح نفسه إذا كان أصلاً محروماً من حقه في الانتخاب، لافتقاده حقوقه المدنية والسياسية نتيجة إصابته بمرض أدى للحجر عليه، أو نتيجة الحكم عليه بجرم شائن أدى إلى تجريده من أهليته السياسية.
أما عمره فيجب ألا يقل عن الرابعة والثلاثين، بمعنى أنه يجب أن يكون بالغاً الخامسة والثلاثين من عمره، لحظة ترشيحه لتولي مهام منصب الرئاسة.
أما عن طريقة انتخابه فهي تتم بالمشاركة بين حزب البعث العربي الاشتراكي ومجلس الشعب والمواطنين، إذ يصدر الترشيح بناء على المادة /84/ من الدستور، عن مجلس الشعب، بناء على اقتراح القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، ثم يعرض الترشيح على المواطنين لاستفتائهم فيه، ويعد المرشح ناجحاً بحصوله على الأكثرية المطلقة لمجموع أصوات المقترعين، فإن لم يحصل على هذه الأكثرية رشح المجلس غيره وتتبع بشأن ترشيحه وانتخابه الإجراءات نفسها على أن يتم ذلك خلال شهر واحد من تاريخ إعلان نتائج الاستفتاء الأول.
ب - مدة رئاسة الدولة: مدة ولاية الرئيس، سبعة أعوام ميلادية قابلة للتجديد، تبدأ من تاريخ انتهاء ولاية الرئيس القائم وذلك استناداً إلى المادة /85/ من الدستور.
وإذا قام مانع مؤقت يحول دون مباشرة رئيس الجمهورية مهامه، أناب عنه نائب رئيس الجمهورية ويمارس هذا الأخير أو النائب الذي يسميه إذا كان له أكثر من نائب، صلاحيات رئيس الجمهورية حين لا يمكنه القيام بها وإذا كانت الموانع دائمة وفي حالتي الوفاة والاستقالة يجري الاستفتاء على رئيس الجمهورية الجديد وفقاً للأحكام الواردة في المادة /84/ من الدستور وذلك خلال مدة لا تتجاوز التسعين يوماً.
أما إذا كان المجلس منحلاً أو بقي لانتهاء ولايته أقل من تسعين يوماً فيمارس نائب الرئيس الأول صلاحيات رئيس الجمهورية حتى اجتماع المجلس الجديد، أما إذا لم يكن له نائب فيمارس رئيس مجلس الوزراء جميع صلاحياته وسلطاته ريثما يتم الاستفتاء خلال تسعين يوماً على رئيس الجمهورية الجديد.
ج - صلاحيات الرئيس: يتمتع رئيس الجمهورية العربية السورية بعدد من الصلاحيات المهمة:
(1) صلاحيات تنفيذية: يمارس رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية نيابة عن الشعب ضمن الحدود المنصوص عليها في الدستور، وله في سبيل ذلك الحق في وضع السياسة العامة للدولة بالتشاور مع مجلس الوزراء والإشراف على تنفيذها، ويكون له الحق في تسمية نائب له أو أكثر وتفويضهم ببعض صلاحياته، كما يتولى مهمة تسمية رئيس مجلس الوزراء ونوابه وتسمية الوزراء ونوابهم وقبول استقالتهم وإعفاءهم من مناصبهم.
ويكون له الحق في دعوة مجلس الوزراء للانعقاد برئاسته، وطلب تقارير من الوزراء، وله الحق في إصدار المراسيم والقرارات والأوامر وفقاً للتشريعات النافذة.
(2) صلاحيات تشريعية: يتمتع رئيس الجمهورية العربية السورية، بعدد من الصلاحيات التشريعية المهمة التي تجعله شريكاً لمجلس الشعب في ممارسة السلطة التشريعية.
إذ له الحق أولاً في إعداد مشاريع القوانين وإحالتها إلى مجلس الشعب للنظر فيها وإقرارها (م 110) ويكون له الحق في إصدار القوانين التي يقرها مجلس الشعب (م 98) وهنا يحق له الاعتراض على هذه القوانين بقرار معلل، وذلك خلال شهر من تاريخ ورودها إلى رئاسة الجمهورية، فإذا أقرها المجلس ثانية بأكثرية ثلثي أعضائه أصدرها رئيس الجمهورية على الرغم من اعتراضه على مضمونها.
وعند نشوب خلاف بين الحكومة ومجلس الشعب، يكون لرئيس الجمهورية استناداً إلى المادة (107) من الدستور أن يقوم بحل مجلس الشعب بقرار معلل يصدر عنه، على أن تجري الانتخابات خلال تسعين يوماً من تاريخ الحل.
ويكون له الحق في دعوة مجلس الشعب إلى انعقاد استثنائي، ومخاطبته برسائل، والإدلاء ببيانات أمامه.
أما أهم هذه الصلاحيات على الإطلاق، فهي قدرته على التشريع تطبيقاً للمادة /111/ من الدستور السوري وذلك خارج انعقاد دورات مجلس الشعب، وفي أثناء انعقاد دورات المجلس إذا استدعت ذلك الضرورة القصوى المتعلقة بمصالح البلاد القومية أو بمقتضيات الأمن القومي، على أن تعرض هذه التشريعات على المجلس في أول جلسة له ويكون لأعضائه الحق في إلغاء هذه التشريعات أو تعديلها بقانون، وذلك بأكثرية ثلثي أعضائه المسجلين لحضور الجلسة على أن لا يقل عن أكثرية أعضائه المطلقة، ولا يكون لهذا التعديل أو الإلغاء أثر رجعي وإذا لم يلغها المجلس أو يعدلها عدّت مقرة حكماً ولا حاجة إلى إجراء التصويت عليها.
وأخيراً له الحق في ممارسة سلطة التشريع في المدة الفاصلة بين ولايتي مجلسين ولا تعرض هذه التشريعات على مجلس الشعب ويكون حكمها في التعديل أو الإلغاء حكم القوانين النافذة.
(3) صلاحيات استثنائية: طبقاً للمادة /113/ من الدستور، يكون لرئيس الجمهورية إذا قام خطر جسيم وحال يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة واستقلال أرض الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن مباشرة مهامها الدستورية أن يتخذ الإجراءات السريعة التي تقتضيها هذه الظروف لمواجهة الخطر.
واستناداً إلى المادة /101/ من الدستور يكون له الحق في إعلان حالة الطوارئ وإلغائها، وله الحق استناداً للمادة /112/ في استفتاء الشعب في القضايا المهمة التي تتصل بمصالح البلاد العليا وتكون نتيجة الاستفتاء ملزمة ونافذة من تاريخ إعلانها.
(4) صلاحيات دبلوماسية ودولية: يتمتع رئيس الجمهورية استناداً إلى المادة /102/ من الدستور بالحق في اعتماد رؤساء البعثات السياسية لدى الحكومات الأجنبية وفي المقابل له الحق في قبول اعتماد رؤساء البعثات السياسية الأجنبية لديه، وهو المختص بإبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية ويكون له الحق في إلغائها وفقاً لأحكام الدستور.
(5) صلاحيات عسكرية: رئيس الجمهورية، استناداً إلى المادة /103/ من الدستور، هو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة وله الحق في إصدار جميع القرارات والأوامر اللازمة لممارسة هذه السلطة، وله الحق في التفويض ببعض هذه السلطات.
(6) صلاحيات قضائية: يتمتع الرئيس استناداً إلى المادة /105/ بالحق في إصدار العفو الخاص ورد الاعتبار.
د - مسؤولية الرئيس: استناداً إلى المادة /91/ من الدستور لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولاً عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى، ويكون طلب اتهامه بناءً على اقتراح من ثلث أعضاء مجلس الشعب على الأقل وقرار من مجلس الشعب بتصويت علني وبأغلبية ثلثي أعضاء المجلس بجلسة خاصة سرية، ولا تجري محاكمته إلا أمام المحكمة الدستورية العليا.
مراجع للاستزادة: |
- دستور الجمهورية العربية السورية.
- أحمد رسلان، النظم السياسية والقانون الدستوري (دار النهضة العربية، القاهرة 1997).
- أحمد سعيفان، الأنظمة السياسية والمبادئ الدستورية العامة (منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت 2008).
- حسين عثمان محمد عثمان، النظم السياسية والقانون الدستوري (دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1998).
- رمزي طه الشاعر، النظم السياسية، (د.ن)، (د.م)، (د.ت).
- صلاح الدين عامر، مقدمة لدراسة القانون الدولي العام، دار النهضة العربية، القاهرة، 2007.
- عصمت عبد الله الشيخ، النظم السياسية (1999).
- علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام (منشأة المعارف بالإسكندرية 1990).
- فيصل كلثوم، يوسف شباط، أحمد إسماعيل، نجم الأحمد، القانون الدستوري (منشورات التعليم المفتوح، جامعة دمشق 2004).
-فيصل كلثوم، دراسات في القانون الدستوري والنظم السياسية (منشورات جامعة دمشق 2005).
- كمال الغالي، مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية (مطبوعات جامعة دمشق 1989).
- ماجد راغب الحلو، الدولة في ميزان الشريعة (دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1994).
- محمد بدران، النظم السياسية المعاصرة (دار النهضة العربية، القاهرة 1997).
- محمد رفعت عبد الوهاب، إبراهيم عبد العزيز شيحا، النظم السياسية والقانون الدستوري (دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1998).
- محمد عزيز شكري، مدخل إلى القانون الدولي العام (مطبعة جامعة دمشق 1986).
- محمد مرغني خيري، الوجيز في النظم السياسية (مطابع جامعة حلوان 1989).
- محمد الشافعي أبو راس، نظم الحكم المعاصرة (عالم الكتب، القاهرة 1983).
- محمد طي، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية (1994).
- محمد فتح الباب، النظم السياسية (دار النهضة العربية، القاهرة 2000).
- محمد كامل ليله، النظم السياسية.
- محمد المجذوب، القانون الدستوري والنظام السياسي في لبنان (منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت 2002)..
- محمود عاطف البنا، الوسيط في النظم السياسية (دار النهضة العربية، القاهرة 1996).
- مصطفى أبو زيد فهمي، مبادئ الأنظمة السياسية (دار المطبوعات الجامعية، القاهرة 1995).
- طعيمة الجرف، نظرية الدولة والأسس العامة للتنظيم السياسي (القاهرة 1994).
- فؤاد العطار، النظم السياسية والقانون الدستوري (دار النهضة العربية، القاهرة 1975).
التصنيف : القانون العام
النوع : القانون العام
المجلد: المجلد الثالث: الجرف القاري ــ الرسم والنماذج الصناعية
رقم الصفحة ضمن المجلد : 517
مشاركة :اترك تعليقك
آخر أخبار الهيئة :
- صدور المجلد الثامن من موسوعة الآثار في سورية
- توصيات مجلس الإدارة
- صدور المجلد الثامن عشر من الموسوعة الطبية
- إعلان..وافق مجلس إدارة هيئة الموسوعة العربية على وقف النشر الورقي لموسوعة العلوم والتقانات، ليصبح إلكترونياً فقط. وقد باشرت الموسوعة بنشر بحوث المجلد التاسع على الموقع مع بداية شهر تشرين الثاني / أكتوبر 2023.
- الدكتورة سندس محمد سعيد الحلبي مدير عام لهيئة الموسوعة العربية تكليفاً
- دار الفكر الموزع الحصري لمنشورات هيئة الموسوعة العربية
البحوث الأكثر قراءة
هل تعلم ؟؟
الكل : 60874336
اليوم : 18892
المجلدات الصادرة عن الموسوعة العربية :
-
المجلد الأول: الإباحة والتحريم ـ البصمة الوراثية
-
المجلد الثاني: بطاقة الائتمان ــ الجرائم الواقعة على السلطة العامة
-
المجلد الثالث: الجرف القاري ــ الرسم والنماذج الصناعية
-
المجلد الرابع: الرضاع ــ الضمان المصرفي
-
المجلد الخامس: طرق الطعن في الأحكام الإدارية ــ علم العقاب
-
المجلد السادس: علم الفقه ــ المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان
-
المجلد السابع: المحكمة الجنائية الدولية _ ولاية المظالم في الإسلام