logo

logo

logo

logo

logo

عيوب الإرادة

عيوب اراده

defects of consent - vices du consentement

 عيوب الإدارة

عيوب الإدارة

فواز صالح

الغلط

التدليس

الإكراه

الغبن الاستغلالي

 

عيوب الإرادة  Les vices du consentement، وتسمى عيوب الرضا أيضاً، هي اختلال في إرادة المتعاقد ناشئ من بعض عوامل مرافقة لانعقاد العقد تخل بسلامة اختياره لولا تأثيرها في نفسه لما أقدم على العقد. والعوامل التي تورث عيب الإرادة في القانون هي: الغلط، والتدليس، والإكراه، والغبن الاستغلالي. وتسمى هذه العيوب في الفقه الإسلامي بشوائب الإرادة. وهذه الشوائب إما أن تنشأ من سبب رافق ولادة الإرادة وأثر في تكوينها أو في توجيهها من البداية، كالإكراه على التعاقد، وإما تنشأ من سبب طارئ يؤدي إلى اختلال في تنفيذ العقــد، فتعد الإرادة معه معيبة ومؤوفة "أي مصابة بآفة"، كما في حالة تلف بعض المبيع قبل التسليم. وشــوائب الإرادة في الفقه الإسلامي هي: الإكراه، والخِلابة، والغلط، واختلال التنفيذ. وتطبق عيوب الإرادة على جميع العقود سواء كانت بعوض أم بغيره (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1090/أساس 1352، تاريخ 27/6/1999) كما تطبق على تصرفات الإرادة المنفردة.

أولاًـ الغلط:

1ـ تعريف الغلط: الغلط L’erreur هو وهم يقوم في ذهن المتعاقد فيصور له غير الواقع واقعاً ويدفعه إلى التعاقد. وإما أن يكون غير الواقع واقعة غير صحيحة يتوهم المتعاقد صحتها، أو أن يكون واقعة صحيحة يتوهم المتعاقد عدم صحتها. ومثال ذلك أن يشتري شخص آنية يعتقد أنها مصنوعة من فضة، في حين أنها مصنوعة من برونز. وهناك نظريتان قانونيتان في تعريف الغلط، الأولى تقليدية والثانية حديثة.

أ ـ النظرية التقليدية: تقسم هذه النظرية الغلط إلى ثلاثة أنواع، وهي:

(1) ـ الغلط المانع: وهو الذي يمنع انعقاد العقد لأنه يعدم الرضا، ويقع في:

> ماهية العقد: كأن يعطي شخص لآخر مبلغاً من المال على سبيل القرض، واعتقد الآخر أنه هبة.

> محل العقد: كما لو باع شخص لآخر إحدى السيارتين اللتين يملكهما، واعتقد المشتري أنه يشتري الآخرى.

> سبب الالتزام: كما لو تصالح الوارث بالوصية مع الموصى له على مبلغ من المال، ثم تبين أن الوصية ملغاة.

> نقل إرادة أحد المتعاقدين: إذا حرفها الرسول الناقل.

(2) ـ غلط لا يؤثر في صحة العقد: ويقع في:

> شخص المتعاقد أو صفته عندما لا تكون شخصيته محل اعتبار.

> صفة غير جوهرية للشيء المعقود عليه.

> قيمة الشيء: كمن باع قطعة أثرية بمبلغ معتقداً أنه قيمتها الحقيقية، فيتبين أنها تساوي أكثر منه.

> الوقائع المادية: كالخطأ في الحساب.

> الباعث على التعـاقد: كمن اشترى فرساً لاعتقاده أن فرسه نفق، فتبين خلاف ذلك.

> القانون.

(3) ـ غلط يعيب الإرادة ويجعل العقد قابلاً للإبطال: ويقع في الحالات التالية:

> الغلط في مادة الشيء: كمن اشترى قطعة على أنها من الذهب، ثم تبين أنها من النحاس.

> الغلط في شخص المتعاقد عندما تكون شخصيته محل اعتبار، كما هو عليه الحال في عقود التبرع وعقد الشركة.

> الغلط في صفة جوهرية للشيء: كمن اشترى ساعة على أنها أثرية، فتبين عكس ذلك. والمعيار الذي تأخذ به هو معيار مادي.

ب ـ النظرية الحديثة: ويرجع الفضل في ظهورها إلى القضاء الفرنسي. وترى هذه النظرية أن النظرية التقليدية هي ضيقة وجامدة، ولا تتماشى مع المرونة التي تتطلبها الحياة العملية، ومراعاة إرادة المتعاقدين. فلا تكون العبرة للغلط في مادة الشيء دون قيمته، فقد يكون الغلط في مادة الشيء أقل شأناً في نظر المتعاقد من الغلط في قيمته. وما يجب أخذه بالحسبان هو أن يقع الغلط في أمر جوهري في نظر المتعاقد، بحيث يكون هو الدافع إلى التعاقد. فلا يجب أن تكون هناك أحوال محددة يؤثر فيها الغلط، وأحوال أخرى لا يؤثر فيها. وإنما يجب حسبان كل  الحالات متى وقع الغلط في أمر جوهري مهم عند المتعاقد، وكان هو الدافع إلى التعاقد. ولا فرق في أن يكون الغلط في مادة الشيء أو في الشخص أو في القيمة أو في الباعث أو في القانون. ومن ثم فإن النظرية الحديثة أخذت بمعيار شخصي، وهو معيار مرن.

وحتى يكون هذا الغط سبباً لإبطال العقد يجب أن يكون مشتركاً، أي أن يقع المتعاقد الآخر أيضاً فيه، أو كان على الأقل يعلم بالغلط أو من المفروض حتماً أن يعلم به. وقد أخذ القانون المدني السوري بهذه النظرية في المادة (122) منه.

2ـ شروط الغلط في القانون السوري: تنص المادة (121) مدني على أنه: "إذا وقع المتعاقد في غلط جوهري جاز له أن يطلب إبطال العقد، إن كان المتعاقد الآخر قد وقع مثله في هذا الغلط، أو كان على علم به، أو كان من السهل عليه أن يتبينه". ويستخلص من ذلك أنه يشترط في الغلط المعيب توافر الشروط التالية:

أ ـ أن يكون الغلط جوهرياً: لا يعيب الغلط الإرادة إلا إذا كان جوهرياً، وعندئذ يؤدي إلى إبطال العقد. أما إذا كان الغلط غير جوهري فلا يعيب الإرادة، ولكن متى يكون الغلط جوهرياً؟ تجيب المادة (122/1) مدني عن هذا التساؤل بقولها: "يكون الغلط جوهرياً إذا بلغ حداً من الجسامة، بحيث يمتنع معه المتعاقد عن إبرام العقد، لو لم يقع في هذا الغلط". يستخلص من ذلك أن معيار التفرقة بين الغلط الجوهري والغلط غير الجوهري هو معيار ذاتي، وذلك لأن الدافع إلى التعاقد يختلف من شخص إلى آخر. وبينت الفقرة الثانية مــن المادة (122) نفسها حالات الغلط الجوهري، إذ جاء فيها "ويعتبر الغلط جوهرياً على الأخص: أ ـ إذا وقع في صفة للشيء تكون جوهرية في اعتبار المتعاقدين أو يجب اعتبارها كذلك لما يلابس العقد من ظروف ولما ينبغي في التعامل من حسن النية. ب ـ إذا وقع في ذات المتعاقد أو في صفة من صفاته وكانت تلك الذات أو هذه الصفة السبب الرئيسي في التعاقد". وقد ذكرت هذه الحالات على سبيل المثال لا الحصر، وهذا ما يستفاد من مقدمة هذه الفقرة. ويستخلص من ذلك أن المشرع السوري لم يقيد الغلط في حالات معينة، وذلك لأنه لم يأخذ بالحسبان ما يرد عليه الغلط، وإنما أخذ بالحسبان أثر الغلط في دفع الإرادة إلى التعاقد. ومن ثم فإن الغلط المعيب للإرادة في القانون السوري يمكن أن يقع في صفة جوهرية للشيء، أو في شخص المتعاقد، أو في قيمة محل العقد، أو في الباعث.

(1) ـ الغلط في صفة جوهرية للشيء: ومثال ذلك إذا اشترى شخص لوحة على أنها من صنع الرسام الشهير فان غوغ، ثم تبين أنها مجرد تقليد أو أنها من صنع رسام مغمور. وكذلك الحال إذا اشترى شخص آنية على أنها أثرية وكانت هذه الصفة هي التي دفعته إلى التعاقد، ويعتقد في الآن ذاته أنها مصنوعة من الذهب، ثم تبين بعد ذلك أن الآنية أثرية ،ولكنها مصنوعة من البرونز، فهنا الغلط لا يبطل العقد، لأنه لم يقع في صفة جوهرية دفعت المتعاقد الذي وقع في الغلط إلى التعاقد.

(2) ـ الغلط في شخص المتعاقد: لا يكون الغلط في شخص المتعاقد سبباً لإبطال العقد إلا في العقود التي تعد فيها شخصية المتعاقد أو صفته محل اعتبار في العقد. وغالباً ما يكون شخص المتعاقد محل اعتبار في عقود التبرع، وكذلك في العقود التي ينظر فيها إلى شخصية المتعاقد. ومثال ذلك تعاقد شخص مع فنان مشهور على إحياء سهرة فنية، ثم تبين خلاف ذلك. أو أن يتعاقد شخص مع طبيب بحسبانه الجراح الشهير، ثم تبين خلاف ذلك. وكذلك الحال إذا أجر شخص منزله لامرأة على أنها حسنة السيرة، ثم تبين أنها فاسدة السلوك.

(3) ـ الغلط في الباعث: ومثال ذلك أن يبيع شخص في مرضه جميع أمواله معتقداً أنه في مرض الموت، ثم شفي بعد ذلك، فيكون الباعث على التعاقد مغلوطاً، ومن ثم يحق له أن يطالب بإبطال العقد. وكذلك الحال إذا اشترى شخص سيارة معتقداً أن سيارته احترقت، ثم تبين عدم صحة ذلك.

(4) ـ الغلط في القيمة: ومثال ذلك أن يبيع شخص شهادة استثمار يملكها بقيمة ألف ليرة سورية، ثم تبين بعد ذلك أن هذه الشهادة قد ربحت جائزة مقدارها مليون ليرة سورية قبل بيعها، وكان صاحبها يجهل ذلك. فهنا يحق له أن يتمسك بالغلط في القيمة ويطلب إبطال البيع.

أما الغلط في الحساب، فتنص المادة (124) مدني على أنه "لا يؤثر في صحة العقد مجرد الغلط في الحساب ولا غلطات القلم ولكن يجب تصحيح الغلط". والمقصود بالغلط في هذه المادة هو الأخطاء المادية التي تقع أثناء كتابة العقد وتكشف عنها الورقة بذاتها، ولا يترتب على تصحيحها تعديل موضوع العقد.

ب ـ أن يعلم المتعاقد الآخر بالغلط: وهذا ما نصت عليه المادة (121) مدني، فلا يكفي أن يكون الغلط جوهرياً حتى يؤدي إلى إبطال العقد، وإنما يجب أيضاً إضافة إلى ذلك أن يكون المتعاقد الآخر قد وقع في الغلط ذاته، أو كان على علم به، أو كان من السهل عليه أن يكتشفه. فإذا اشترى شخص ساعة على أنها أثرية، ثم تبين خلاف ذلك، فيكون المشتري قد وقع في غلط في صفة جوهرية للشيء؛ وإذا وقع البائع في الغلط ذاته، فيمكن إبطال العقد. وكذلك الحال، إذا لم يقع البائع في الغلط، وإنما كان عالماً بغلط المشتري، فحسن النية يوجب عليه أن يعلم المشتري بالغلط الذي وقع فيه، فإذا سكت عن ذلك، عد سيئ النية، ومن ثم جاز إبطال العقد جزاءً لسوء نيته. وكذلك الحال، إذا كان البائع يتاجر بالآثار حصراً، وكان من السهل عليه أن يعلم ما إذا كانت الساعة أثرية، فإذا قصر في ذلك، جاز للمشتري إبطال العقد. ويتوجب على من يطالب بإبطال العقد لعلة الغلط أن يقيم الدليل على أن الطرف الآخر قد وقع أيضاً في هذا الغلط أو كان على علم به أو كان من السهل عليه أن يتبينه (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 1633، تاريخ 23/6/1957).

ويستخلص من ذلك أن الغلط المشترك، وهو الذي يقوم في ذهن كلا المتعاقدين وقت التعاقد، يعيب إرادة المتعاقدين معاً، ومن ثم يجيز لمن يتضرر منه أن يتمسك بإبطال العقد، من دون أن يتمكن الآخر من معارضة ذلك. أما الغلط الفردي، وهو الذي يقوم في ذهن أحد المتعاقدين وقت التعاقد، فهو لا يؤدي إلى إبطال العقد إلا إذا كان المتعاقد الآخر على علم به، أو كان من السهل عليه أن يتبينه.

ج ـ عدم جواز التمسك بالغلط خلافاً لما يقضي به حسن النية: تنص المادة (125) مدني على أنه: " ليس لمن وقع في غلط أن يتمسك به على وجه يتعارض مع ما يقضي به حسن النية. ويبقى بالأخص ملزماً بالعقد الذي قصد إبرامه إذا أظهر الطرف الآخر استعداده لتنفيذ هذا العقد". ويستخلص من ذلك أنه إذا اشترى شخص لوحة على أساس أنها أصلية، ثم تبين بعد ذلك أنها تقليد، لا يجوز لــه أن يتمسك بالإبطال إذا عرض عليه البائع أن يسلمه اللوحة الأصلية، وذلك لأنه إذا تمسك بالإبطال في مثل هذه الحال كان ذلك مخالفاً لما يقضي به حسن النية.

جزاء الغلط: إذا توافرت شروط الغلط، وتمسك من وقع فيه بحقه في إبطال العقد، يجبر القاضي على الحكم بإبطال العقد. وإذا نجم عن هذا الإبطال ضرر لحق بمن طالب بالإبطال بسبب الغلط، فلا يحق له المطالبة بالتعويض؛ وذلك لأنه وقع في الغلط من تلقاء نفسه.

الغلط في القانون: أجاز المشرع إبطال العقد لا في حالة الغلط في الواقع فقط، وإنما أيضاً في حالة الغلط في القانون، إذ تنص المادة (123) مدني على أنه "يكون العقد قابلاً للإبطال لغلط في القانون إذا توافرت فيه شروط الغلط في الواقع، هذا ما لم يقض القانون بغيره".

أ ـ تعريف الغلط في القانون: الغلط في القانون هو توهم قاعدة قانونية على خلاف حقيقتها. ومن أمثلته:

> بيع الزوجة حصتها في تركة زوجها، وهي تعتقد أنها ترث الثمن، في حين أن نصيبها هو الربع؛ لأن الزوج لم يترك أولاداً. والغلط في القانون في مثل هذه الحالة هو غلط في القيمة.

> إقرار شخص بدين في ذمته وهو يعتقد أنه دين مدني ملزم له قانوناً، ثم يتبين بعد ذلك أن هذا الدين ما هو إلا دين طبيعي لا يجبر على الوفاء به. والغلط في القانون هنا هو غلط في صفة جوهرية في الشيء.

> تبرع الزوج بماله لزوجته وهو يعتقد أن عقد الزواج بينهما صحيح، ثم يتبين بعد ذلك أن عقد الزواج باطل. والغلط في القانون في هذا المثال هو غلط في شخص المتعاقد.

والغلط في القانون، على غرار الغلط في الواقع، يعيب الإرادة، ويترتب عليه الأثر الذي يترتب على الغلط في الواقع، وهو إبطال العقد، ما لم يقض القانون بغير ذلك (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 277/ أساس 260، تاريخ 25/6/1969).

ب ـ شروط الغلط في القانون: يشترط للتمسك بالغلط في القانون توافر الشروط الآتية:

(1) ـ أن يكون من شأن التمسك به تطبيق حكم القانون لا استبعاده، ومثال ذلك ما نصت عليه المادة (228/1) مدني والتي جاء فيها أنه "يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على معدل آخر للفوائد سواء أكان ذلك في مقابل تأخير الوفاء أم في أية حالة أخرى تشترط فيها الفوائد، على ألا يزيد هذا المعدل على تسعة في المئة فإذا اتفقا على فوائد تزيد على هذا المعدل وجب تخفيضها إلى تسعة في المئة وتعين رد ما دفع زائداً على هذا المقدار". ومن ثم لا يجوز للمقرض في مثل هذه الحال أن يحتج بجهله بهذه القاعدة ويطلب إبطال العقد من أجل تفادي إنقاص الفائدة إلى الحد الجائز.

(2) ـ أن يقع الغلط في قاعدة قانونية صريحة منصوص عليها في التشريع أو مجمع عليها في القضاء.

(3) ـ ألا يكون هناك نص يمنع التمسك بالغلط في القانون، ومثال ذلك نص المادة (524) مدني والذي يقرر أنه "لا يجوز الطعن في الصلح بسبب غلط في القانون".

ثانياً ـ التدليس:

1ـ تعريف التدليس: التدليس Le dol هو خديعة يمارسها أحد المتعاقدين توقع المتعاقد الآخر في وهم يدفعه إلى التعاقد. فكل أسلوب يلجاً إليه شخص لتضليل شخص آخر وإيهامه وهماً يحمله على التعاقد، ولولا هذا التضليل لما أقدم على التعاقد، يعد تدليساً، كمن يوهم شخصاً بأن الشيء الذي يبيعه سيفقد من الأسواق فيحمله ذلك على الشراء بالثمن الذي يطلبه البائع. ولا يشترط دائماً أن يقوم المدلس بفعل إيجابي لكي يتحقق التدليس، ففي بعض الحالات يكفي سكوت المدلس عن بعض الأمور التي يعلمها ويقضي مبدأ حسن النية توضيحها، بحيث يكون عدم بيانها هو الذي قاد المتعاقد الآخر إلى التعاقد، فإن هذا السكوت يعد تدليساً. فكتمان عيب في المبيع يكون تدليساً، إذ لو علم به المشتري لما أقدم على الشراء، وفي هذه الحال يحق للمشتري أن يطالب بإبطال العقد جزاء للتدليس مع طلب تعويض على أساس المسؤولية التقصيرية، أو ضمان العيب الخفي مع الاحتفاظ بالعقد على أساس المسؤولية العقدية.

أ ـ التمييز بين التدليس والغلط: صلة التدليس بالغلط وثيقة، إذ في كلا الحالتين يقع المتعاقد في وهم يدفعه إلى التعاقد. ولكن الوهم الحاصل في الغلط يقع فيه المتعاقد من تلقاء نفسه، أما في التدليس فيقع المتعاقد في الغلط بفعل المدلس. (جاء في قرار لمحكمة النقض السورية "أن التدليس يجعل العقد قابلاً للإبطال من جراء الغلط الذي يولده في نفس المتعاقد بصورة تحمله على التعاقد عملاً بالمادة 126 مدني وأن عناصر التدليس تتحقق باستعمال الطرق الاحتيالية للتأثير على إرادة الغير بقصد التضليل للوصول إلى غرض غير مشروع"، الغرفة المدنية، قرار 215/ أساس 40، تاريخ 7/5/1962). فالتدليس هو غلط مدبر من قبل المدلس من أجل إيقاع المتعاقد الآخر فيه، وجره إليه عن طريق الحيلة والخديعة.

ويثور السؤال حول ما إذا كان الغلط يغني عن التدليس في مجال عيوب الإرادة. في الحقيقة يجمع الفقه على أن الغلط في مفهوم النظرية التقليدية لا يغني عن التدليس، وذلك لأن الغلط لا يعيب الإرادة في هذه النظرية إلا إذا كان واقعاً في مادة الشيء أو في شخص المتعاقد عندما يكون ذلك محل اعتبار. ومن ثم فهو لا يعيب الإرادة إذا كان واقعاً في قيمة الشيء أو في الباعث. وبالمقابل فإن الغلط الناجم عن التدليس يعيب الإرادة كلما كان التدليس دافعاً إلى التعاقد. ويترتب على ذلك أن التدليس يمكن أن يؤدي إلى إبطال العقد في حالات يعجز الغلط فيها عن ذلك، وهذا ما يبرر وجود التدليس إلى جانب الغلط في ظل النظرية التقليدية للغلط. ولكن الفقه انقسم على نفسه حول ما إذا كان الغلط في مفهوم النظرية الحديثة يغني عن التدليس أم لا. فيرى بعض الفقهاء أن الغلط بمفهوم النظرية الحديثة يغني عن التدليس، وذلك لأن التدليس ما هو إلا غلط مدبر أو مستثار، وهو لا يبطل العقد إلا إذا كان هو الدافع إلى التعاقد، ومن ثم فإن الغلط الناجم عن التدليس لا بد أن يكون غلطاً دافعاً. والغلط الدافع في النظرية الحديثة يبطل العقد حتى لو كان واقعاً في القيمة أو في الباعث. ويترتب على ذلك أن كل عقد يمكن أن يتقرر إبطاله بسبب التدليس، يمكن في الآن ذاته أن يتقرر إبطاله بسبب الغلط. ويستخلص من ذلك أن الغلط يغني عن التدليس. وعلى الرغم من ذلك يقر أصحاب هذا الرأي بوجود فرق عملي بين وقوع أحد المتعاقدين في غلط دافع إلى التعاقد، ويمكن أن يؤدي إلى إبطال العقد، وبين أن يكون الغلط مصحوباً بالتدليس أو غير مصحوب به. ويظهر هذا الفرق في سهولة إثبات الغلط المرافق بالتدليس، وفي إمكانية مطالبة المتعاقد المدلس بالتعويض في الغلط المقترن بالتدليس بالتعويض عن الضرر الناجم عن إبطال العقد، وذلك على أساس المسؤولية التقصيرية. ومع ذلك فإن هذا الفرق هو عملي محض، ولا علاقة له بأثر الغلط في صحة العقد. ويرى قسم آخر منهم أن الغلط في النظرية الحديثة لا يغني عن التدليس، ويرى الإبقاء على التدليس عيباً مستقلاً إلى جانب الغلط نتيجة الفرق بينهما والمتمثل في:   

> سهولة إبطال العقد بسبب التدليس، وذلك لأن الطرق والأساليب الاحتيالية التي  يلجأ إليها الطرف الآخر هي على الأغلب مادية يسهل إثباتها. أما الغلط المجرد فهو أمر نفسي يصعب إثباته.

> تبدو الحاجة إلى حماية المدلس عليه أظهر من الحاجة إلى حماية الغالط الذي فرط في حق نفسه. ونتيجة لذلك فإن إبطال العقد بسبب الغلط المجرد لا يوجب التعويض. على العكس من ذلك فإن إبطال العقد بسبب التدليس يوجب على المدلس التعويض عن الضرر بالاستناد إلى أحكام المسؤولية التقصيرية. وفي نظر بعضٍ من أنصار هذا الاتجاه فإن الفرق الوحيد بين الغلط والتدليس يكمن في أنه يحق للمتعاقد الآخر أن يتوقى الإبطال بأن يظهر استعداده لتنفيذ العقد وفق ما اعتقده المتعاقد الذي وقع في الغلط، طبقاً لما نصت عليه المادة (124) مدني مصري، وهي مطابقة للمادة (125) مدني سوري، في حين أن المشرع لم يعط مثل هذا الحق للمتعاقد الذي لجأ إلى التدليس. ولا يصلح الفرق المشار إليه أعلاه بين الغلط والتدليس والمتمثل في سهولة إثبات التدليس وإمكانية المطالبة بالتعويض عن الضرر الناجم عن إبطال العقد بسبب التدليس سبباً كافياً لبقاء التدليس عيباً مستقلاً. ولكن يبدو أن الغلط لا يغني عن التدليس في ضوء أحكام القانون المدني السوري والمصري المتعلقة بهذين العيبين، فالفرق بينهما واضح سواء من ناحية سهولة إثبات التدليس، أم من ناحية إمكانية الحكم على المدِلس بالتعويض عن الضرر الناجم عن إبطال العقد بسبب التدليس، أم من ناحية حق المتعاقد الآخر في حالة الغلط في توقي الإبطال. زد على ذلك أن التدليس يمكن أن يعطل مضمون هذا الحق في توقي الإبطال، إذ يمكن اعتبار المتعاقد الآخر الذي سكت عمداً عن الغلط الذي وقع فيه شريكه في التعاقد مدلساً، ويترتب على ذلك أنه يجوز للمتعاقد الذي كان ضحية هذا الكتمان أن يطالب بإبطال العقد استنادا إلى المادة (126/2) مدني التي جاء فيها: "ويعتبر تدليساً السكوت عمداً عن واقعة أو ملابسة، إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة أو هذه الملابسة".

ب ـ التمييز بين التدليس والغش: التدليس هو الخديعة التي تصاحب تكوين العقد، و تدفع إلى التعاقد، في حين أن الغش هو الخديعة التي تقع في تنفيذ العقد بعد تمام انعقاده، أو تقع في أمر آخر خارج نطاق العقد. ومثال ذلك استعمال البائع وسائل احتيالية بعد انعقاد العقد، يوهم  بها المشتري أن البضاعة التي يريد تسليمه إياها هي من النوعية المتفق عليها (وثائق أو فواتير)، وهي في الحقيقة من نوعية أدنى، فيتسلمها المشتري ويرضي بها، ثم يكشف بعد ذلك رداءة البضاعة. فهذا ليس بتدليس وإنما غش وقع في أثناء تنفيذ العقد ويخضع لأحكام خاصة. (ويبدو أن محكمة النقض السورية قد ساوت بين الغش والتدليس، إذ قضت في أحد قراراتها أن المطالبة بإبطال العقد سواء أكان لغش أم تدليس أم غلط، فلا يجوز في جميع الأحوال أن تتجاوز مدة التقادم خمس عشرة سنة. الغرفة المدنية الثانية، قرار رقم 422، أساس 786، تاريخ 31/3/1996، سجلات محكمة النقض. وهذه المساواة في غير محلها القانوني، لأن الغش لا يعد عيباً من عيوب الإرادة، وتأثيره في العقد يختلف من حالة إلى أخرى، ومن ثم فهو لا يسري عليه التقادم الخاص بعيوب الإرادة المنصوص عليه في المادة 141 مدني). ونص القانون المدني على التدليس في المادتين (126 و127) منه.

2ـ عناصر التدليس: للتدليس عنصران، أحدهما مادي أو موضوعي والآخر معنوي أو نفسي.

أ ـ العنصر المادي: تنص المادة (126) مدني على أنه " يجوز إبطال العقد للتدليس إذا كانت الحيل التي لجأ إليها أحد المتعاقدين، أو نائب عنه، من الجسامة بحيث لولاها لما أبرم الطرف الثاني العقد. ويعتبر تدليساً السكوت عمداً عن واقعة أو ملابسة، إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة أو هذه الملابسة". يستخلص من ذلك أن العنصر المادي للتدليس يتمثل في لجوء الطرف المدلس إلى أعمال مادية توقع الطرف الآخر في وهم. وتسمى هذه الأعمال في القانون بالحيل أو الطرق الاحتيالية. واشترطت هذه المادة أن تكون هذه الحيل على قدر من الجسامة حتى تشكل العنصر المادي للتدليس. والمعيار في ذلك هو معيار شخصي لا مادي، ومعنى ذلك أن معرفة ما إذا كانت الحيل التي لجأ إليها الطرف المدلس تكون العنصر المادي للتدليس أو لا تتوقف على الأثر الذي تركته في الطرف الآخر الذي وجهت إليه، بشرط أن تكون على قدر من الجسامة. ولكن ذلك لا يعني أن تصل هذه الحيل إلى درجة الطرق الاحتيالية التي تكون جرم الاحتيال المنصوص عليه في المادة (641) من قانون العقوبات السوري لعام 1949 وتعديلاته، وإنما يكفي أن تؤدي هذه الحيل إلى تضليل المتعاقد الآخر وإيقاعه في الوهم، ومن ثم جره إلى التعاقد (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 93/أساس 251، تاريخ 28/4/1957). ويترتب على ذلك أن نطاق تطبيق التدليس المدني أوسع بكثير من نطاق تطبيق جرم الاحتيال. ولا شك في أن وسائل الاحتيال المنصوص عليها في المادة (641) من قانون العقوبات تعد حيلاً. وبالمقابل ليس من الضرورة أن تعد الحيل المنصوص عليها في المادة 126 مدني وسائل احتيالية بمفهوم المادة 641 من قانون العقوبات. زد على ذلك أن الاحتيال الجزائي يكون بهدف الاستيلاء على مال الغير، أما التدليس المدني فيكون بهدف حصول الطرف المدلس على شروط تعاقدية أفضل (نقض سوري، الغرفة الجنحية، قرار رقم 1920، تاريخ 24/8/1968). ومثال الحيل التي تكون العنصر المادي للتدليس عرض رسائل غير صحيحة، أو الاستعانة بشهود زور، أو إعلان شركة عن نفسها في وسائل الإعلان المقروءة أو المسموعة أو المرئية خلافاً لحقيقتها. وتشترط محكمة النقض السورية أن تكون الحيل غير مشروعة (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار رقم 135/ أساس 80، تاريخ 3/3/1963).

ولا يعد الكذب الدارج بين الناس، من حيث المبدأ، تدليساً، وذلك لأنه من المفروض أن المتعاقد يدرك هذه الأساليب الدارجة وبمقدوره الحذر منها. ولكن المادة (12/ج) من قانون حماية المستهلك رقم /2/ لعام 2008 في سورية عدت "المبالغة بوصف المنتج، بما لا يتفق مع الحقيقة والواقع الفعلي بهدف تشجيع المستهلك على اقتناء المنتج أو تلقي الخدمة" مخالفة لأحكامه. وتعاقب المادة (41) من القانون ذاته كل من يرتكب هذه المخالفة بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر، وبالغرامة من خمسين ألف ليرة إلى مئة ألف، أو بإحدى هاتين العقوبتين. ويسمى هذا الكذب الدارج الترويجي في الفقه الإسلامي تغريراً. وإذا اقترن بغبن في القيمة يؤدي ذلك، أي اجتماع التغرير والغبن، إلى توافر عيب في الإرادة من شأنه أن يؤدي إلى إبطال العقد. ويسمى هذا الحق بخيار الغبن مع التغرير (المواد من 356 وإلى 357 من مجلة الأحكام العدلية).  ولكن الكذب في واقعة معينة ذات تأثير في نظر المتعاقد الآخر يعد من الحيل التي تكون العنصر المادي للتدليس، وهذا هو الكذب المضلل (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار رقم 411، تاريخ 8/6/1974). ويكون الكذب كذلك إذا كان القانون أو العقد أو طبيعة المعاملة  تفرض على المتعاقدين الإدلاء بمعلومات ووقائع صحيحة ومطابقة للواقع حول عملية التعاقد والظروف المحيطة بها. ومثال ذلك أيضاً أن يقوم طالب التأمين بإعطاء بيانات كاذبة لشركة التأمين من نتيجتها إخفاء أخطار معينة تزيد في تبعة الشركة ومسؤوليتها. ويكفي لاعتبار الكذب تدليساً أن يكون قابلاً للتصديق حسب مقدرة الطرف الكاذب  وبراعته من ناحية، وحالة الطرف الآخر من ناحية أخرى (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 2566، تاريخ 30/10، 1958). إلا أن مجرد الكذب لا يكفي لقيام التدليس في العقد ما لم يتبين بوضوح أن المتعاقد المخدوع لم يكن باستطاعته استجلاء الحقيقة (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 9/ أساس 451، تاريخ 20/1/1953، وقرار 613/ أساس 713، تاريخ 16/4/1979).

ويترتب على ذلك أن معيار التمييز بين الكذب الذي يعد تدليساً والكذب الذي لا يعد كذلك هو معيار ذاتي. وتجدر الإشارة إلى أن المادة (126) مدني لم تنص صراحة على الكذب وإنما نصت على الكتمان. والكتمان في حقيقته نوع من الكذب، وهو كذب سلبي. ولا تأثير للكتمان العادي، على غرار الكذب العادي أو المجرد، في العقد (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار رقم 107/ أساس 815، تاريخ 17/2/1975، وفي المعنى ذاته: قرار 613/ أساس 713، تاريخ 16/4/1979).

ولكن إذا تعلق الكتمان بناحية يوجب القانون أو العقد أو طبيعة المعاملة بيانها، ولا يسهل على الطرف الآخر العلم بها عن طريق آخر، فيعد عندئذ هذا الكتمان عنصراً مادياً في التدليس. ومن ثم إذا كان الطرف الآخر يعلم بالأمر الذي كتمه الطرف المدلس وقت التعاقد، أو كان باستطاعته أن يعلم به، فلا يعد الكتمان في مثل هذه الحال من الحيل المكونة للتدليس. والمثال على الكتمان الذي يعد عنصراً مادياً للتدليس كتمان المؤمن في عقد التأمين مسائل ذات تأثير في قرار شركة التأمين، أو كتمان بائع المتجر الحكم الصادر بإغلاقه عن المشتري.

ب ـ العنصر المعنوي: ويعني نية التضليل من أجل بلوغ غرض غير مشروع. ويترتب على ذلك أن مجرد توافر الطرق الاحتيالية لا يكفي لقيام التدليس، وإنما يجب أن يكون قصد المتعاقد المدلس من اللجوء إلى هذه الطرق هو تضليل المتعاقد الآخر، ويتحقق ذلك بالفعل (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 1468/أساس 477، تاريخ 2/7/1966). ويقتضي  ذلك أن يكون العنصر المادي الذي لجأ إليه أحد المتعاقدين هو الذي دفع المتعاقد الآخر إلى التعاقد. وهذا يعني أنه يجب في التدليس أن يتوافر لدى كلٍ من المتعاقدين أحد العنصرين، العنصر المادي لدى المتعاقد المدلس والعنصر المعنوي لدى المتعاقد المخدوع. ولا يقوم التدليس إذا انعدمت نية التضليل لدى المتعاقد المدلس، كما هو حال البائع الذي يطري  بضاعته بقصد استهواء الناس لا بنية تضليلهم. زد على ذلك أن توافر نية التضليل بقصد تحقيق غرض مشروع يمنع من قيام التدليس. فيجب أن يكون الغرض من اللجوء إلى الحيل المكونة للعنصر المادي للتدليس غير مشروع. أما إذا كان الغرض من ذلك مشروعاً، فلا يقوم التدليس. فإذا كان المدين يماطل في تسديد الدين المستحق الأداء، ومن ثم لجأ الدائن إلى طرق احتيالية لم تصل إلى حد الجريمة من أجل الحصول من مدينه على رهن يضمن به الوفاء بدينه، فلا تشكل مثل هذه الحيل العنصر المادي للتدليس؛ لأن الغرض منها كان مشروعاً، حتى لو كانت هذه الوسيلة في الأصل غير مشروعة، لكن عدم المشروعية فيها لم يصل إلى حد الجريمة.

ويعود تقدير استظهار وجود الطرق الاحتيالية ومدى تأثيرها في إرادة المتعاقد المخدوع إلى محكمة الموضوع، لأنه من مسائل الواقع، وتسترشد المحكمة في ذلك بحالة المتعاقد الشخصية، وبالظروف التي أحاطت بالعقد (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار رقم 431/ أساس 615، تاريخ 6/9/1959، وفي المعنى ذاته قرار الغرفة المدنية الأولى رقم 622/أساس 492، تاريخ 21/7/2003،  والذي أجاز إثبات التدليس بجميع الوسائل، ومنها الاستجواب وغايته الحصول على إقرار الخصم). ولا تخضع في ذلك لرقابة محكمة النقض ما دام حكمها قائماً على أسباب مبررة. 

3ـ شروط التدليس: تنص المادة (127) مدني على أنه "إذا صدر التدليس من غير المتعاقدين، فليس للمتعاقد المدلس عليه أن يطلب إبطال العقد ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان من المفروض حتماً أن يعلم بهذا التدليس". وسبقت الإشارة إلى أن المادة (126) من القانون ذاته أجازت إبطال العقد للتدليس إذا كانت الحيل التي لجأ إليها أحد المتعاقدين أو نائبه من الجسامة بحيث لولاها لما أبرم المتعاقد الثاني العقد. ويستفاد من نص هاتين المادتين أن شروط التدليس هي التالية:

أ ـ أن يصدر التدليس من أحد المتعاقدين أو من نائبه، أو أن يكون عالماً به على الأقل؛ فلا يكفي لقيام التدليس استعمال الطرق الاحتيالية التي توقع المتعاقد في وهم يدفعه إلى التعاقد، حتى لو توافر في الحيل التي تم اللجوء إليها عنصرا التدليس المشار إليهما أعلاه، وإنما يجب إضافة إلى ذلك أن تكون تلك الحيل صادرة من المتعاقد الآخر أو نائبه. أما إذا صدرت تلك الحيل من الغير، فيجب أن يكون المتعاقد المستفيد من تدليس غيره عالماً به، أو كان من المفروض حتماً أنه عالم به، ومثال ذلك لجوء دليل سياحي أو مترجم إلى طرق احتيالية من أجل تضليل السائح بناءً على اتفاق مع البائع. وخلاصة الكلام اشترط المشرع من أجل قيام التدليس أن يكون متصلاً بالمتعاقد الآخر سواء صدر منه أم كان على علم به. أما إذا لم يكن المتعاقد الآخر متصلاً بالتدليس، بأن يقع من الغير ولا يكون عالماً به أو كان من المفروض حتماً أن يعلم به فلا يكون التدليس مؤثراً في مثل هذه الحال، ويبقى العقد صحيحاً استناداً إلى الإرادة الظاهرة للمتعاقد المخدوع، إذ لم تتجه إرادته الحقيقية إلى إبرام هذا العقد. ولكن إذا كانت شروط الغلط متوافرة في مثل هذه الحال، فيحق للمتعاقد المخدوع أن يطالب بإبطال العقد على أساس الغلط لا التدليس. وفي كل الأحوال يستطيع المتعاقد المخدوع أن يرجع على الغير الذي مارس عليه الطرق الاحتيالية التي دفعته إلى التعاقد من دون علم المتعاقد الآخر بها بالتعويض عن الضرر الذي لحق به على أساس المسؤولية التقصيرية، بحسبان أن تلك الطرق تعد خطأ ألحق به ضرراً يتوجب على من ارتكبه أن يعوضه وفق أحكام المادة (164) مدني. ويقع على عاتق المتعاقد المخدوع، في حال صدور التدليس من الغير، عبء إثبات علم المتعاقد الآخر به أو كان من المفروض حتماً أن يعلم به، إذ البينة على من ادعى. وله أن يثبت ذلك بجميع وسائل الإثبات لأن العلم بالتدليس الصادر من الغير من الوقائع المادية التي يجوز إثباتها بجميع وسائل الإثبات ومنها الشهادة.

وقد جاءت عبارات المادتين (126/1 و127) مدني مطلقة من دون أي تمييز بين عقود المعاوضة وعقود التبرع من حيث اتصال التدليس بالمتعاقد الآخر، سواء أكان التدليس قد صدر منه، أم صدر من الغير وهو عالم به أو من المفروض حتماً أن يعلم به. ولكن يلاحظ أن المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المدني المصري استثنت عقود التبرع من هذا الشرط، ومن ثم قررت أن التدليس يبطل مثل هذه العقود إذا كان صادراً من الغير حتى لو كان المتبرع له لا يعلم به، ولم يكن باستطاعته أن يعلم به، وذلك لأن نية التبرع يجب أن تكون خالية من العيوب. واستناداً إلى ذلك يميل بعض الفقهاء إلى قصر شرط وقوع التدليس من أحد المتعاقدين أو على الأقل علمه به عندما يكون صادراً من الغير على عقود المعاوضة دون عقود التبرع.

ب ـ أن يكون التدليس هو الدافع إلى التعاقد: ويكون التدليس دافعاً إلى التعاقد إذا كانت الحيل التي لجأ إليها المتعاقد المدلس قد أوقعت المتعاقد الآخر في وهم وضللت إرادته، فدفعه الوهم والتضليل إلى التعاقد، بحيث لولا تلك الحيل لما أقدم المتعاقد المخدوع على التعاقد.  وتقدير هذا الأمر يعد من مسائل الواقع، ويخضع لسلطة قاضي الموضوع التقديرية، ويسترشد القاضي في ذلك بحالة المتعاقد المخدوع الشخصية، فيأخذ بالحسبان درجة ذكائه وعمره وثقافته وتجربته في الحياة. ولا يخضع القاضي في ممارسته لهذه السلطة لرقابة محكمة النقض متى كان حكمه مسوغاً. ويترتب على ذلك أنه إذا لم يكن التدليس دافعاَ إلى التعاقد، فلا يبطل العقد، وإنما يعطي الحق للطرف الآخر في المطالبة بالتعويض. ويكون التدليس غير دافع إلى التعاقد إذا كانت الطرق الاحتيالية التي لجأ إليها المتعاقد المدلس لم يكن من شأنها إيقاع المتعاقد الآخر في وهم وتضليله، أو أن هذه الطرق أوقعت المتعاقد الآخر في وهم وضللت إرادته، إلا أن هذا المتعاقد كان سوف يرضى بالعقد وبالشروط ذاتها حتى لو لم يقع في الوهم نتيجة تلك الطرق الاحتيالية.

وجرى الفقه في هذا المقام على التمييز بين التدليس الدافع أو الأصلي وبين التدليس غير الدافع أو الفرعي. والتدليس الدافع هو الذي يدفع المتعاقد المخدوع إلى التعاقد وإبرام العقد، ويعد مفسداً للرضا، ومن ثم يؤدي إلى إبطال العقد. أما التدليس غير الدافع فليس هو الذي يدفع المتعاقد المخدوع إلى التعاقد، لأن هذا المتعاقد كان سيقدم على التعاقد حتى لو كان قبل انعقاد العقد يعلم بأن المتعاقد الآخر قد لجأ إلى طرق احتيالية، وإنما هذا النوع من التدليس يجعله يقبل بشروط أشد وقراً، كما وصفتها مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني المصري. ولا يؤدي هذا التدليس إلى إبطال العقد لأنه لا يعد عيباً من عيوب الإرادة، وإنما يعطي الحق للمتعاقد المخدوع في المطالبة بالتعويض على أساس المسؤولية التقصيرية سواء وقع من المتعاقد أو كان على علم به، أو وقع من الغير من دون علم المتعاقد الآخر به، لأنه يعد خطأ تقصيرياً. ومثال التدليس الفرعي أن يتفق بائع يعرض شيئاً له في مزاد مع شخص أخر ليتقدم بعطاء وهمي من أجل أن يدفع المشاركين الحقيقيين في المزاد إلى زيادة عطاءاتهم. فإذا انطلت هذه الحيلة عليهم، ورسا المزاد على أحدهم بثمن أعلى من ثمن ذلك الشيء، يحق لمن رسا عليه المزاد أن يتمسك بهذا التدليس، ولكنه لا يؤدي إلى إبطال العقد وإنما يعد خطأ تقصيرياً يستوجب التعويض فقط (ويبدو أن محكمة النقض السورية قد اتجهت هذا الاتجاه، إذ قررت أن التدليس غير الدافع الذي يؤدي بالمتعاقد المخدوع إلى القبول بشروط أشد لا يعد احتيالاً، وإنما هو تدليس مدني يعطي الحق في المطالبة بالتعويض، لا الحق في إبطال العقد. قرار رقم 1920، تاريخ 24/8/1968).

ولكن الفقه الحديث ينتقد، بحق، هذا التمييز وذلك لأن المتعاقد عندما يقبل بالعقد فإن قبوله يشمل الشروط التي يتضمنها هذا العقد، فإذا كان قبوله بأحد تلك الشروط نتيجة طرق احتيالية مارسها المتعاقد الآخر عليه، فأوقعته في وهم وضللت إرادته بشأن ذلك الشرط، وتبين أن هذا الشرط هو الذي دفعه إلى التعاقد فيحق له أن يتمسك بإبطال العقد، لأن هذا التدليس يعد معيباً للإرادة. ويستخلص مما تقدم أن التدليس لا يعد عيباً من عيوب الإرادة إلا إذا كان دافعاً إلى التعاقد، سواء دفع المتعاقد المخدوع إلى القبول بالعقد أم دفعه إلى القبول بالعقد بشروط أشد وقراً مما كان يقبله لولا أنه كان ضحية ذلك التدليس.

4ـ جزاء التدليس: يعد لجوء أحد الطرفين إلى طرق احتيالية من أجل تضليل الطرف الآخر وإيقاعه في الوهم خطأ تقصيرياً يستوجب التعويض إذا نجم عنه ضرر للطرف المخدوع. وإذا توافرت في هذه الطرق الاحتيالية عناصر التدليس المدني، وكانت هي الدافعة إلى التعاقد أو إلى القبول بشروط أبهظ أو أشد وقراً، فيعد هذا التدليس عيباً من عيوب الإرادة ومن ثم يعطي الحق للمتعاقد المخدوع في المطالبة بإبطال العقد. ويحق لهذا المتعاقد أن يتمسك بالعقد ومن ثم ينقلب صحيحاً، وهذا لا يمنع من حقه في المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق به نتيجة لجوء الطرف الآخر إلى مثل تلك الطرق الاحتيالية، وذلك على أساس المسؤولية التقصيرية. أما إذا تمسك بحقه في إبطال العقد، فليس للقاضي أي سلطة تقديرية في ذلك، فإذا تبين له أن شروط التدليس متوافرة وجب عليه أن يحكم بالإبطال إذا طالب المتعاقد المخدوع به.

ويطبق التدليس على البيوع القضائية والإدارية التي تتم عن طريق المزايدة، وإذا استحال فيه إعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد بسبب إبطاله لعلة التدليس، جاز الحكم بتعويض عادل (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 368، تاريخ 6/11/1954).

ثالثاً ـ الإكراه:

1ـ تعريف الإكراه: الإكراه La violence هو ضغط يمارسه شخص على شخص آخر بوسيلة مادية أو معنوية تحدث رهبة في نفسه، فتحمله على تنفيذ ما يطلب منه، كإبرام عقد لا يرغب فيه، ولا تكون إرادته سليمة. والإكراه بهذا المعنى لا يعدم الإرادة، وإنما يعيبها. فإرادة المكره موجودة ولكنها فاسدة، وذلك لأنها ليست حرة في الاختيار، وإنما هي واقعة بين شرين فاختارت الأهون بينهما. وما يفسد الإرادة هنا ليست الوسيلة المستخدمة لممارسة الضغط على إرادة المتعاقد، وإنما الرهبة التي تحدثها هذه الوسيلة في نفسه. لذلك فإن العقد المكره عليه يعد قابلاً للإبطال لا باطلاً، وذلك لأن الإرادة فيه معيبة وليست معدومة. أما إذا أدت وسيلة الإكراه إلى انتزاع الرضا عنوة، فيعد الإكراه في مثل هذه الحالة معدماً للإرادة؛ لأنها غير موجودة أصلاً، كمن يمسك بيد شخص ويضع بصمة إبهامه على عقد مكتوب، ومن ثم يعد مثل هذا العقد باطلاً لانعدام الرضا. وهذا التعــريف هو عام يشمل كل إكراه مؤثر في الإرادة مهما كان نوعه، سواء أكان  إكراهاً حسياً، وهو الذي يقع فيه الأذى  فعلاً على الشخص من ضرب أو تعذيب، أم إكراهاً نفسياً،  وهو مجرد التهديد باستخدام الوسيلة لإيقاع الضرر، ولكن من دون أن تستخدم فعلاً.

2ـ شروط الإكراه: تنص المادة (128) مدني على أنه " يجوز إبطال العقد للإكراه إذا تعاقد شخص تحت سلطان رهبة بعثها المتعاقد الآخر في نفسه دون حق، وكانت قائمة على أساس. وتكون الرهبة قائمة على أساس إذا كانت ظروف الحال تصور للطرف الذي يدعيها أن خطراً جسيماً محدقاً يهدده هو أو غيره في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال. ويراعى في تقدير الإكراه جنس من وقع عليه هذا الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية وكل طرف آخر من شأنه أن يؤثر في جسامة الإكراه".

كما تنص المادة (129) مدني على أنه "إذا صدر الإكراه من غير المتعاقدين، فليس للمتعاقد المكره أن يطلب إبطال العقد، ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان من المفروض حتماً أن يعلم بهذا الإكراه". يستخلص من هذين النصين أنه يشترط في الإكراه المؤدي إلى إبطال العقد توافر الشروط التالية:

أ ـ ممارسة ضغط على المتعاقد يحدث في نفسه رهبة بغير حق: يشترط في الإكراه الذي يؤدي إلى إبطال العقد ممارسة ضغط على أحد المتعاقدين بغير حق مما يؤدي إلى إحداث رهبة في نفسه.

(1) ـ ممارسة ضغط: يبدأ الإكراه بممارسة ضغط على أحد المتعاقدين. ووسائل ممارسة الضغط يمكن أن تكون مادية، كالضرب والتعذيب؛ كما يمكن أن تكون معنوية كالتشهير أو التهديد بالخطف أو بالضرب. وذهبت محكمة النقض السورية إلى أن تهديد الزوج زوجته بالطلاق يعد إكراهاً (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 285/ أساس 290، تاريخ 24/6/1969). وتشكل هذه الوسائل العنصر المادي للإكراه. ويعد تقدير وسيلة الإكراه ومدى تأثيرها في نفس المتعاقد مسألة واقع يعود تقديرها لمحكمة الموضوع مستندةً في ذلك إلى ما تستخلصه من ظروف الواقعة، بشرط أن يكون حكمها مسوغاً (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 112/ أساس 68، تاريخ 18/2/1963). ولا يعد من وسائل الإكراه في التقنين المدني الفرنسي مجرد الخشية التأديبية، وهي خشية نابعة من واجب الاحترام نحو الأب أو الأم أو الأصول لا تكون مصحوبة بممارسة إكراه، وفق ما نصت عليه المادة (1114) منه. وهذا ما يسمى بالنفوذ الأدبي، ومثال ذلك نفوذ الأب على ابنه، أو الأم على ابنها، أو الزوج على زوجته، أو الرئيس على مرؤوسيه، أو رئيس ديني على أتباعه. ولم يرد مثل هذا النص في القانون المدني السوري، ومن ثم لا يمكن استبعاد النفوذ الأدبي على نحو آلي من نطاق وسائل الإكراه. ولكن من حيث المبدأ لا يكفي النفوذ الأدبي لأن يكون وسيلة إكراه، وذلك لأن استعماله أمر مشروع إذا كان الهدف منه تحقيق غرض مشروع. أما إذا كانت الغاية من استعمال النفوذ الأدبي تحقيق غرض غير مشروع، فيمكن أن يعد وسيلة إكراه إذا كانت بقية شروط الإكراه متوافرة (وهذا ما يمكن أن يستفاد من أحد قرارات محكمة النقض السورية، إذ جاء فيه أن "وقوع الإكراه مسألة واقعية وإن الرأي النهائي فيها هو لقاضي الموضوع، ولكن الوصف القانوني لوقائع الإكراه هو مسألة قانون تخضع لرقابة محكمة النقض كالتثبت مما إذا كان يكفي أن يصدر الإكراه من الغير، وفيما إذا كان مجرد استعمال النفوذ الأدبي يعد إكراهاً، ومما إذا كانت الوسائل غير المشروعة تعد إكراهاً في بعض الظروف".  نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار  1815/ أساس 1973، تاريخ 21/12/1997).

(2) ـ إحداث رهبة قائمة على أساس: لا يكفي لقيام الإكراه المعيب للإرادة ممارسة ضغط على أحد المتعاقدين، وإنما يجب أن تحدث وسائل الضغط رهبة في نفس ذلك المتعاقد تتمثل في اضطراب وخوف يختلجان في نفسه، فيجعلان إرادته غير سليمة (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 805/أساس 569، تاريخ 31/8/1971). وتشكل هذه الرهبة العنصر المعنوي للإكراه. وتستلزم هذه الرهبة أن يكون الضرر الذي يرهب وقوعه ضرراً جسيماً محدقاً بالشخص المكره، سواء كان الضرر حالاً أم كان مستقبلاً؛ وسواء أكان الضرر يهدد المتعاقد نفسه أم شخصاً آخر قريباً له أم عزيزاً عليه في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال. أما الضرر التافه فلا يولد في النفس الرهبة. وتقدير ما إذا كانت الرهبة هي التي وقعت وحملت الشخص المكره على التعاقد هو من المسائل الموضوعية التي تخضع لتقدير قاضي الموضوع (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 805/ أساس 569، تاريخ 31/8/1971). وفي المعنى ذاته: قرار 73/أساس 308، تاريخ 20/2/1963). ومعيار الإكراه هو معيار شخصي أو ذاتي، ومعنى ذلك أن يكون التأثير المعتبر قانوناً للإكراه هو تابع لحال الشخص الذي يقع عليه الإكراه ولظروفه المحيطة به وقت الإكراه (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 569، تاريخ 31/8/1971، وقرار 1651/ أساس 1252، تاريخ 31/8/1982). لذلك يراعى في تأثير الإكراه جنس من وقع عليه الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية، ذلك لأن الوسائل التي يمكن أن تؤثر في المرأة غير التي تؤثر في الرجل؛ وتلك التي تؤثر في الصغير غير التي تؤثر في الكبير؛ وتلك التي تؤثر في الإنسان الأمي غير التي تؤثر في الإنسان المتعلم أو المثقف. ولكن يجب على القاضي أن يراعي أيضاً في تأثير الإكراه ظروف الواقعة وملابساتها. ويشترط أيضاً أن تكون الرهبة قائمة على أساس، أي أن يكون لها ما يبرر حدوثها في نفس المتعاقد. أما إذا كانت عبارة عن توهم فلا تأثير لها، كالتهديد مثلاً بأمر مستحيل (نقض سوري، الغرفة المدنية، فرار 68/أساس 112، تاريخ 18/2/1963). ويقع عبء إثبات الإكراه بعنصريه، المادي المتعلق بوسائل الضغط والمعنوي المتعلق بإحداث الرهبة، على عاتق من يطالب بإبطال العقد لهذا السبب، ويمكن له أن يثبت ذلك بجميع وسائل الإثبات بما فيها البينة والقرائن، وذلك لأن الإكراه واقعة مادية. ومن ثم فهو يخضع للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع. وبالمقابل فإن الوصف القانوني لوقائع الإكراه هو مسألة قانون تخضع لرقابة محكمة النقض، ومثال ذلك ما إذا كان مجرد النفوذ الأدبي يعد إكراهاً، أو إذا كانت الوسائل غير المشروعة تعد إكراهاً في بعض الظروف (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1815/ أساس 1973، تاريخ 21/12/1997).

(3) ـ ممارسة الضغط بغير حق: يجب أن تكون وسيلة الضغط التي أحدثت رهبة قائمة على أساس في نفس المتعاقد غير مستندة إلى حق، وبمعنى آخر يجب أن يقع الإكراه من أجل تحقيق غرض غير مشروع. وهذا ما نصت عليه المادة (128/1) مدني. ويمكن أن تتعلق المشروعية وعدمها بوسيلة الإكراه وكذلك بالغرض منه، وذلك على النحو الآتي:

> قد يكون الغرض والوسيلة كلاهما مشروعين: كمن يهدد مدينه برفع الدعوى أو بالحجز حتى يعطيه رهناً، وكمن يهدد سارقه بالتبليغ عن سرقته حتى يدفعه إلى التعهد برد ما يعادل قيمة المسروقات. فلا تأثير لهذا الإكراه في التصرف (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 1786/أساس 1114، تاريخ 2/9/1965).

> وقد تكون الوسيلة والغرض غير مشروعين: كمن يهدد آخر بضرب أو تشهير أو إفشاء سر محرج حتى يحمله على إبرام عقد معه لا يوجبه القانون. فهنا يؤدي الإكراه إلى إبطال العقد. وهذا ما أكدته محكمة النقض السورية، إذ قررت أن الإكراه هو عدم مشروعية الأعمال والوسائل التي يحدث بها، أما الأعمال المشروعة قانوناً فلا تكون إكراهاً (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 1786/ أساس 1114، تاريخ 2/9/1965).

> وقد تكون الوسيلة مشروعة، ولكن الغرض غير مشروع: كدائن يهدد مدينه المعسر برفع الدعوى عليه أو بالحجز حتى يدفعه إلى إبرام عقد معه لا يوجبه القانون. وهنا أيضاً يؤدي الإكراه إلى إبطال العقد.

> وأخيراً قد تكون الوسيلة غير مشروعة، والغرض مشروعاً: كمن يهدد بالضرب لحمل المدين المماطل على إعطاء رهن. وفي هذا تفصيل: إذا كانت الوسيلة غير المشروعة لم ترتق إلى درجة الجريمة المعاقب عليها قانوناً، كالتهديد بإفشاء سر، فلا يؤثر الإكراه في العقد ما دام الغرض مشروعاً (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 571/أساس 495، تاريخ 28/9/1970). أما إذا ارتقت الوسيلة إلى درجة الجريمة، كالضرب والتعذيب كان الإكراه سبباً لإبطال العقد.

ب ـ أن يكون الإكراه صادراً من أحد المتعاقدين للآخر، أو يكون عالماً به أو من المفروض حتماً أن يعلم به: أما إذا كان الإكراه غير صادر من أحد المتعاقدين ولم يكن عالماً به أو لم يكن باستطاعته أن يعلم به، فلا يمكن في مثل هذه الحال إبطال العقد. ولكن يجوز للمتعاقد الذي كان ضحية إكراه صادر من الغير أن يرجع على هذا الغير بالتعويض وفق قواعد المسؤولية المدنية. ويعد تقدير مدى علم المتعاقد الآخر بالإكراه الصادر من الغير مسألة واقع تخضع للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع. وإذا كان الإكراه صادراً من ظروف تهيأت مصادفةً واستفاد المتعاقد منها من أجل حمل المتعاقد الآخر الذي وقع تحت تأثيرها على التعاقد، فلا يكون له أثر ما لم يثبت هذا المتعاقد أن من استغل هذه الظروف كان على علم بها (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 430/ أساس 959، تاريخ 26/4/1976).

ج ـ أن تكون الرهبة الناجمة عن وسائل الضغط هي الدافعة إلى التعاقد: أي أن تكون هذه الرهبة هي التي حملت المتعاقد على التعاقد، أما إذا لم تكن كذلك فلا يمكن إبطال العقد بسبب الإكراه. ويعد تقدير ما إذا كانت الرهبة دافعة إلى التعاقد مسألة واقع تخضع للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع.

3ـ جزاء الإكراه: جزاء الإكراه، في حال توافر شروطه، هو إبطال العقد. وإذا أدى الإبطال إلى إلحاق ضرر بمن تمسك به، فيحق له أن يطالب من مارس الإكراه عليه بالتعويض عن ذلك الضرر. ويكون التعويض هنا على أساس المسؤولية التقصيرية، وذلك لأن الإبطال يؤدي إلى زوال العقد بأثر رجعي.

رابعا ًـ الغبن الاستغلالي:

الغبن هو عدم التعادل المادي بين التزامات المتعاقدين في العقود الملزمة للجانبين. والغبن بهذا المعنى يقوم على اعتبارات اقتصادية وأدبية غير ثابتة. ففي ظل المذهب الفردي، الذي اعتنق مبدأ سلطان الإرادة، لا يؤثر الغبن من حيث المبدأ في العقد. أما في ظل المذهب الاشتراكي أو التدخلي، فقد تدخل المشرع ومنع الغبن في العقود. ولم يكن القانون الروماني ينص على الغبن؛ لأنه كان متشبعاً بروح الفردية. وأما القانون الكنسي، فعلى الرغم من أن مبدأ سلطان الإرادة هو من نتاج هذا القانون، إلا أنه لم يكن مبدأً مطلقاً، وإنما فرضت عليه قيود عدة تهدف إلى تحقيق العدالة وحماية الضعيف، ونتيجة ذلك حرَم هذا القانون الرِبا. وكذلك فعلت الشريعة الإسلامية. وفي ظل ازدهار المذهب الفردي في القرن الثامن عشر، ضيق القانون من تأثير الغبن في العقد، ومن ثم لم يعتدَّ القانون به إلا في حالات استثنائية. وهذا ما فعله التقنين المدني الفرنسي لعام 1804، الذي كان مشبعاً بروح الفردية. وقد أخذ هذا التقنين بالنظرية المادية للغبن، والتي تقوم على قيام تعادل بين ما أعطاه المتعاقد وما أخذه، أو عدم قيامه. إذ تنظر إلى قيمة الشيء في ذاته وتحدده تبعاً لقانون العرض والطلب، وتنظر إلى درجة الإخلال بالتعادل. ثم بعد ذلك اعتنقت القوانين الحديثة النظرية الشخصية أو النفسية للغبن، والتي لا تنظر إلى قيمة الشيء في ذاته وإنما في اعتبار المتعاقد. ولا تحدد هذه النظرية رقماً لدرجة الغبن بل الأمر متروك لظروف الواقعة. وتجعل هذه النظرية الغبن قاعدة عامة تطبق على جميع العقود. وقد أخذ بهذه النظرية التقنين المدني الألماني. وكذلك أخذ به القانون المدني المصري، والقانون المدني السوري.

1ـ تعريف الغبن الاستغلالي: الغبن الاستغلالي هو أن يرى أحد المتعاقدين في الآخر طيشاً بيناً أو هوى جامحاً في أمر من الأمور، بحيث يحجب هذا الطيش أو الهوى فيه ملكة الموازنة، فيستغله من أجل أن يجره إلى عقد يغبنه فيه بحيث لا تتوازن فيه التزاماته الناتجة من ذلك العقد مع ما أفاد، أو مع التزامات الطرف الغابن، ولم يكن الطرف المغبون ليبرم هذا العقد لولا هذا الاستغلال من الطرف الآخر. ومثال ذلك أن يتزوج رجل مسن من امرأة في مقتبل شبابها، فتعمد الزوجة إلى استغلال ما تلقاه عند زوجها من هوى، فتدفعه إلى إبرام عقد معها أو مع أولادها. وكذلك لو تزوجت امرأة مسنة غنية من فتى شاب عن ميل وهوى، فعمد الزوج إلى استغلال هواها لابتزاز مالها عن طريق عقود يستكتبها. ويترتب على ذلك أن الغبن في عقد البيع لا يعد في ذاته سبباً لإبطال العقد أو تعديله ما لم يكن مصحوباً بعوامل استغل بها أحد المتعاقدين في الآخر طيشاً بيناً أو هوى جامحاً. ولا بد من توافر عنصرين في الاستغلال الذي يرافق الغبن، أحدهما مادي وينطوي على اختلال التعادل في الالتزامات المتقابلة اختلالاً فادحاً، والآخر نفسي ويشف عن وقوع المتعاقد في حالة الطيش أو الهوى الجامح استغله المتعاقد الآخر. وهذان العنصران مستقلان  أحدهما عن الآخر (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار رقم 115/ أساس 86، تاريخ 1/2/1992). وفي المعنى ذاته: قرار الغرفة المدنية الثانية رقم 1474/ أساس 799، تاريخ 30/9/1998، سجلات محكمة النقض).

2ـ الغبن المجرد والاستغلال المجرد: الغبن هو الضرر المادي الذي يسببه العقد لأحد المتعاقدين والناجم عن عدم تعادل قيمة الأداءين، وهو يختلف عن الاستغلال في النقاط الآتية:

أ ـ من حيث مجال التطبيق: لا يطبق الغبن إلا في عقود المعاوضات المحددة، أما الاستغلال فيطبق في جميع التصرفات القانونية، وفقاً لما نصت عليه المادة (130) مدني.

ب ـ من حيث المعيار: معيار الغبن مادي وهو التفاوت بين أداءات المتعاقدين، أما معيار الاستغلال فهو شخصي يتمثل في استغلال أمر ما في أحد المتعاقدين من قبل المتعاقد الآخر، كطيش بين أو هوى جامح.

ج ـ من حيث المحل: الغبن عيب في العقد، أما الاستغلال فهو عيب في الإرادة.

(1) ـ تأثير الغبن المادي أو المجرد في العقد في القانون السوري: لا يكفي الغبن المادي أو المجرد وحده لأن يورث العقد عيباً، فلا يحمي القانون منه، وذلك لأن القانون لا يحرص على إقامة توازن اقتصادي بين المتعاقدين، وإنما يقوم بإقامة توازن قانوني بينهمـا، عماده كمال الأهلية وسلامة الإرادة. ومن حيث المبدأ لا يتدخل القانون السوري للحماية من الغبن المجرد، ولكن استثنى من ذلك بعض الحالات وهي:

> الغبن في بيع عقار القاصر: تنص المادة (393) مدني على أنه " إذا بيع عقار مملوك لشخص لا تتوافر فيه الأهلية وكان في البيع غبن يزيد على الخمس فللبائع أن يطلب تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل. ويجب لتقدير ما إذا كان الغبن يزيد على الخمس أن يقوم العقار بحسب قيمته وقت البيع".

> الغبن في تجاوز الحد القانوني للفائدة: تنص المادة (228) مدني على أنه " يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على معدل آخر للفوائد سواء أكان ذلك في مقابل تأخير الوفاء أم في أية حالة أخرى تشترط فيها الفوائد. على ألا يزيد هذا المعدل على تسعة في المئة فإذا اتفقا على فوائد تزيد على هذا المعدل وجب تخفيضها إلى تسعة في المئة وتعين رد ما دفع زائداً على هذا المقدار. وكل عمولة أو منفعة، أياً كان نوعها. اشترطها الدائن إذا زادت هي والفائدة المتفق عليها على الحد الأقصى المتقدم ذكره تعتبر فائدة مستترة، تكون قابلة للتخفيض إذا ما ثبت أن هذه العمولة أو المنفعة لا تقابلها خدمة حقيقية يكون الدائن قد أداها ولا منفعة مشروعة".

> الغبن في أجرة الوكيل: تنص المادة (675) مدني على أنه " الوكالة تبرعية، ما لم يتفق على غير ذلك صراحة أو يستخلص ضمناً من حالة الوكيل. فإذا اتفق على أجر للوكالة كان هذا الأجر خاضعاً لتقدير القاضي، إلا إذا دفع طوعاً بعد تنفيذ الوكالة".

> الغبن في قسمة المال المشترك: تنص المادة (799) مدني على أنه " يجوز نقض القسمة الحاصلة بالتراضي إذا  أثبت أحد المتقاسمين أنه قد لحقه منها غبن يزيد على الخمس، على أن تكون  العبرة في التقدير بقيمة الشيء وقت القسمة. ويجب أن ترفع الدعوى خلال السنة التالية للقسمة. وللمدعى عليه أن يقف ســيرها ويمنع القسمة من جديد إذا أكمل للمدعي نقداً أو عيناً ما نقص من حصته".

وبالمقابل فإن الاستغلال المجرد عن الغبن وعيوب الإرادة الآخرى لا يؤثر في العقد.

(2) ـ حد الغبن: في الحالات الاستثنائية التي يحمي منها القانون الشخص من الغبن المجرد، يحدد للغبن الممنوع حداً يعده هو الحد الفاحش. أما الغبن الاستغلالي فلم يضع له القانون حداً، وإنما اشترطت المادة 130 مدني عدم التعادل البتة بين التزامات الطرفين، أو مع الفائدة التي حصل عليها المغبون من العقد. وهذا الأمر يعود إلى تقدير القاضي الذي يستطيع أن يستعين بالخبرة في هذا المجال.

3ـ شروط الغبن الاستغلالي:  تنص المادة (130) مدني على أنه " إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر، وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوى جامحاً، جاز للقاضي بناء على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد وأن ينقص التزامات هذا المتعاقد. ويجب أن ترفع الدعوى بذلك خلال سنة من تاريخ العقد، وإلا كانت غير مقبولة. ويجوز في عقود المعاوضة أن يتوقى الطرف الآخر دعوى الإبطال، إذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن". يستخلص من ذلك أنه يشترط في الغبن الاستغلالي من أجل أن يعيب الإرادة توافر الشروط الآتية:

أ ـ اختلال التعادل بين التزامات المتعاقدين اختلالاً فادحاً: لا يقوم الغبن الاستغلالي إلا إذا كان هناك عدم تعادل بين التزامات أحد المتعاقدين وبين ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد، أو بينها وبين التزامات المتعاقد الآخر. ومعيار عدم التعادل هنا ليس القيمة المادية لالتزامات المتعاقدين المتقابلة وفق النظرية المادية في الغبن، وإنما قيمتها في نظر المتعاقد، وفق النظرية الشخصية في الغبن. ولم تضع المادة (130) مدني حداً للغبن إذا وصل عدم التعادل بين التزامات الطرفين إليه يتحقق الاختلال بينها، وإنما يعود تقدير فداحة الاختلال بين التزامات الطرفين إلى قاضي الموضوع، لأن ذلك مسألة واقع تخضع لسلطته التقديرية (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 198، تاريخ 15/5/1968). وتشكل فداحة اختلال التعادل بين التزامات المتعاقدين العنصر المادي للغبن الاستغلالي. والمجال الطبيعي للغبن الاستغلالي بوصفه عيباً للإرادة هو عقود المعاوضات المحددة، وذلك لأن الاختلال بين الالتزامات المتقابلة يتحقق عادة في مجال هذه العقود. ويتبين ذلك من الفرق بين العقود الاحتمالية والعقود المحددة، بأن هذه الأخيرة هي التي يعرف فيها كل من المتعاقدين مقدار ما يأخذ وما يعطي بالعقد على وجه التحديد عند التعاقد، كالبيع والإجارة. أما العقود الاحتمالية، كعقد التأمين، وكذلك عقود التبرع فليست مجالاً طبيعياً لهذا العيب. ولكن يمكن أن يجري الغبن الاستغلالي في العقود الاحتمالية إذا كان اختلال التعادل بين احتمال الربح واحتمال الخسارة مفرطاً، وكان ذلك نتيجة الاستغلال. وكذلك الحال في التبرع، فمن الممكن تصور هذا الاستغلال فيه، ومثال ذلك هبة شخص في خريف العمر لزوجته الجديدة وهي في أول ربيع عمرها، نتيجة استغلال الزوجة الجديدة لهواه الجامح. ويستفاد من نص المادة (130) مدني أن الغبن الاستغلالي يمكن أن يجري في غير عقود المعاوضات.

ب ـ استغلال الطيش البين أو الهوى الجامح: لا يكفي اختلال التعادل بين التزامات المتعاقدين اختلالاً فادحاً من أجل قيام الغبن الاستغلالي، وإنما لا بد أن يكون هذا الاختلال الفادح هو نتيجة استغلال أحد المتعاقدين في الآخر طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً. والطيش البين هو خفة وقلة اتزان في أعمال الإنسان وأوضاعه، كشاب يبدد الثروة التي ورثها. وأما الهوى الجامح فهو ميل شديد في النفس إلى أمر تغلب فيه العاطفة الإرادة، كرجل مسن متزوج من صبية استغلت هواه لها وحملته على إبرام عقود لمصلحتها. والقصد من وصف الطيش بالبين والهوى بالجامح، أن يكونا قويين متجاوزين الحدود التي ترى في كثير من الأفراد بدرجة عادية لا تجعل من الشخص موضوعاً لاستغلال ذوي الأطماع. وقد قصد المشرع من وراء إضفاء هاتين الصفتين على الطيش والهوى تضييق مجال تطبيق الغبن الاستغلالي بوصفه عيباً من عيوب الإرادة يمكن أن يؤدي إلى إبطال العقد. ولا يكفي وجود الطيش البين أو الهوى الجامح لتعيب الإرادة، وإنما لا بد من أن يستغل أحد المتعاقدين ذلك، ويجر المتعاقد المغبون نتيجة ذلك الاستغلال إلى التعاقد من أجل أن يغبنه. واستغلال أحد المتعاقدين في الآخر طيشاً بيناً أو هوى جامحاً يعد أمراً موضوعياً يدخل ضمن نطاق سلطة القاضي التقديرية. وقد جاء في قرار لمحكمة النقض السورية أنه "إذا كانت المحكمة قد اقتنعت من أقوال الشهود بأن الطاعن قد وعد المطعون ضده بتأمين دار سكن له وأن المطعون ضده كان في ذلك الوقت يمر في ظرف نفسي سيئ بسبب وفاة والده وإخلائه من دار سكنه فإن ذلك يؤدي إلى توافر العنصر النفسي الذي أوقع المدعي في حالة طيش وهوى جامح لتأمين دار له واستغلال الطاعن لهذا الظرف حين إجراء العقد، مما يتوجب إبطال العقد أو تعديله لإزالة الاختلال الخطير القائم بين الالتزامات المتقابلة" (الغرفة المدنية الثانية، قرار رقم 2281/ أساس 4502، تاريخ 26/8/1991، سجلات محكمة النقض). ولكن وقائع هذه القضية لا تتعلق باستغلال طيش بين أو هوى جامح في المتعاقد المغبون وإنما تتعلق باستغلال الحاجة، فأين الهوى الجامح الذي أشار إليه هذا القرار عند المطعون ضده في هذه القضية والذي كان بأمس الحاجة إلى دار لسكنه بعد إخلائه من داره، وأين هو الطيش البين في هذه القضية؟ ومن ثم يلاحظ أن محكمة النقض توسعت كثيراً في معنى هذين المفهومين. ولا يؤدي استغلال الحاجة المصحوب بالغبن إلى إبطال العقد أو تعديله بسبب الغبن الاستغلالي وفق أحكام المادة (130) مدني، لأن هذه المادة حصرت الاستغلال بالطيش البين والهوى الجامح. وتجدر الإشارة إلى أن محكمة النقض السورية ترى أن وصف استغلال الحاجة الماسة إلى المال بأنه لم يصل إلى درجة الطيش البين والهوى الجامح هو من مسائل القانون، ومن ثم يخضع لرقابتها (الغرفة المدنية الثانية، قرار رقم 115/ أساس 86، تاريخ 1/2/1992). يشكل هذا الاستغلال العنصر النفسي للغبن الاستغلالي. 

ويستفاد من ذلك أن للغبن عنصرين هما: عنصر موضوعي أو مادي، وهو اختلال التعادل في الالتزامات المتقابلة في العقد اختلالاً فادحاً؛ وعنصر نفسي، وهو استغلال الطرف الآخر في العقد طيشاً بيناً أو هوى جامحــاً لدى المغبــون (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 562، تاريخ 10/5/1970).

ج ـ أن يكون الاستغلال هو الدافع إلى التعاقد: يشترط لقيام الغبن الاستغلالي أن يكون استغلال أحد المتعاقدين في الآخر طيشاً بيناً أو هوى جامحاً هو الدافع إلى التعاقد. ويعود تقدير ذلك إلى قاضي الموضوع؛ لأنها مسألة واقع تخضع لسلطته التقديرية.

4ـ حكم الغبن الاستغلالي: يحق للطرف الذي استغل طيشه أو هواه استغلالاً دفعه إلى التعاقد الذي غُبن فيه أن يطلب إبطال العقد إذا تبين أنه لولا استغلال هذا الطيش أو الهوى لما أقدم على إبرام العقد. ولكن لا يلزم الإبطال هنا القاضي، بل له أن يكتفي بإنقاص التزامات المتعاقد المغبون حتى يقيم التوازن. وهذا الخيار الذي منحه القانون للقاضي يستلزم نتيجتين، هما:

أ ـ يحق للمغبون أن يطلب مباشرة تعديل التزاماته وإنقاصها عن طريق دعوى إنقاص الالتزامات، من دون أن يطلب إبطال العقد. ولا يستطيع القاضي في هذه الحال إبطال العقد.

ب ـ يحق للطرف الغابن أيضاً أن يتوقى إبطال العقد، ولو طلبه المغبون، وذلك بأن يعرض الغابن ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن وإعادة التوازن.

يتبين من أحكام الغبن أن المشرع قد ضيق من نطاق عيب الاستغلال، ويتضح ذلك من خلال:

(1) ـ حصر العنصر النفسي في حالتي الطيش البين والهوى الجامح، واستبعاد حالتي عدم التجربة والحاجة المنصوص عليهما في مشروع القانون.

(2) ـ اعتبار مدة رفع دعوى الإبطال مدة سقوط، وجعلها تبدأ من تاريخ العقد لا من تاريخ زوال العيب.

(3) ـ عدم تقييد القاضي بطلب المغبون إبطال العقد.

(4) ـ إعطاء الغابن حق التخلص من إبطال العقد بعرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن.

وقد أوجب القانون رفع دعوى الإبطال، أو دعوى الإنقاص، بسبب الغبن الاستغلالي خلال سنة واحدة من تاريخ العقد، أو من وقت تمامه، وذلك تحت طائلة سقوط هذا الحق بالادعاء. وهذه المدة هي مدة سقوط وليست مدة تقادم، فلا تخضع للوقف والانقطاع، كما هو عليه الحال في التقادم (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار رقم 130/ أساس 501، تاريخ 14/2/1999).

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ أحمد حشمت أبو ستيت، نظرية الالتزام في القانون المدني الجديد (مطبعة مصر، الطبعة الثانية، القاهرة 1954).

ـ سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني ـ2ـ، في الالتزامات ـ المجلد الأول: نظرية العقد والإرادة المنفردة (1987).

ـ عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام، المجلد الأول (القاهرة، بلا تاريخ).

ـ عبد الفتاح عبد الباقي، موسوعة القانون المدني المصري، نظرية العقد والإرادة المنفردة   

 ـ دراسة معمقة ومقارنة بالفقه الإسلامي (1984).

ـ مصطفى الزرقاء، شرح القانون المدني السوري، نظرية الالتزام العامة ـ1ـ المصادر، العقد و الإرادة المنفردة (مطبعة دار الحياة، ط4، دمشق 1964).

ـ مصطفى الزرقاء، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، الجزء الأول: المدخل الفقهي العام، المجلد الأول (مطبعة جامعة دمشق، الطبعة السادسة، 9591).

ـ محمد وحيد الدين سوار، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزام، الجزء الأول، مصادر الالتزام، 1، المصادر الإرادية، و2ـ المصادر غير الإرادية (مطبعة رياض، دمشق 1982ـ1983).

ـ محمود جلال حمزة، التبسيط في شرح القانون المدني الأردني، الجزء الثاني، مصادر الحق الشخصي والالتزام (1996). 

ـ. FLOUR, J.ـL. AUBERT, et E. Savaux, Les obligations, I, L’acte juridique,10 éd., (Armand Colin, Paris, 2002).

ـ CH. LARROUMET, Droit civil, Tome 3, Les obligations, Le contrat, 3e édition, (EconomicaـDelta, 1996).

ـ H., L., J. MAZEAUD et F. ChABAS., Leçon de droit civil, Tome II, Volume I, Obligationsـ théorie générale, 9ème édition, (Delta, 2000).

ـ F. TERRÉ, PH. SIMLER. et Y. LEQUETTE, Droit civil, Les obligations, 8ème édition, (Dalloz, 2002).

ـ PH. LE TOURNEAU, Droit de la responsabilité et des contrats, (Dalloz 2004/ 2005).


التصنيف : القانون الخاص
النوع : القانون الخاص
المجلد: المجلد السادس: علم الفقه ــ المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان
رقم الصفحة ضمن المجلد : 65
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 575
الكل : 29654036
اليوم : 34046