logo

logo

logo

logo

logo

مبدأ لا جهل ب-القانون

مبدا لا جهل بقانون

principle of non-ignorance in the law - principe de non ignorance en droit

 مبدأ لا جهل بالقانون

مبدأ لا جهل بالقانون

محمد ياسر عياش

 مفهوم مبدأ لا جهل بالقانون

أساس مبدأ لا جهل بالقانون

مدى سريان مبدأ لا جهل بالقانون

الاستثناءات الواردة على مبدأ لا جهل بالقانون

 

من أهم ما يميز القاعدة القانونية من سائر القواعد الاجتماعية الأخرى كقواعد الأخلاق؛ هو تبني الدولة للقاعدة القانونية وسهرها على حسن تطبيقها، وإلزام الأشخاص باتباعها بما تضعه لها من مؤيدات تفتقر إليها القواعد الأخرى التي لا تدخل في نطاق القانون. فالقاعدة التي تأمر باللطف مثلاً أو بعدم البخل لا يمكن عدّها قاعدة قانونية، لأن الدولة لا تعاقب الإنسان على عدم اللطف أو على البخل؛ وإن كانت الأخلاق أو الدين لا تبيح له ذلك. فهذه القاعدة ينقصها لكي تكون قاعدة قانونية التأييد من قبل الدولة؛ أي أن تكفل الدولة ـ بما لها من وسائل وإمكانات ـ تطبيقها على الناس وإلزامهم باتباعها.

والأشخاص في أغلب الأحيان قد يطبقون القاعدة القانونية من تلقاء أنفسهم؛ لأنهم يعتقدون أنها واجبة التطبيق، ولو لم تكن مفروضة عليهم من الدولة ومؤيدة من قبلها، فالأشخاص قد يمتنعون عن القتل أو السرقة، أو قد يوفون ديونهم، لا لأن الدولة تعاقب على القتل أو السرقة أو ترغم الناس على أداء ديونهم، ولكن اعتقاداً منهم لاعتبارات شتى بضرورة ذلك. فليس ضرورياً إذن أن يكون احترام الناس للقاعدة القانونية وتطبيقها من قبلهم ناجماً عن تأييد الدولة لها وفرضها إياها، ولكن المهم أنه يمكن فرض القاعدة بالقوة عند الاقتضاء، وإرغام الناس على تطبيقها واتباعها حين لا يعمدون إلى ذلك من تلقاء أنفسهم. والمؤيد الذي تضعه الدولة للقاعدة القانونية إذا لم يكن في كثير من الأحيان هو الدافع إلى اتباعها؛ فإنه في بعض الأحيان الأخرى هو الذي يردع الأشخاص عن مخالفتها ويحملهم على التقيد بها، وهذا وحده يعدُّ كافياً لتكون القاعدة ذات قوة إلزامية.

والمؤيد الذي تضعه الدولة للقاعدة ليكفل احترامها وتطبيقها من قبل الأشخاص يكون أساساً على نوعين: فهو إما أن يكون مؤيداً جزائياً يُقصد به الزجر، ويكون ذلك بإيقاع العقوبة بالمخالف للقاعدة القانونية ردعاً له ولغيره عن مخالفتها، وإما مؤيداً مدنياً يقصد به الجبر، ويكون ذلك بإعادة الأمور إلى نصابها وإزالة الخلل الذي أحدثته المخالفة القانونية، أو إصلاحه على قدر الإمكان.

ولا بد للقانون لكي يتم وجوده وتكوينه من أن يمر بعدة مراحل، يصبح بعدها نافذاً وملزماً من الوجهة الرسمية، وهذه المراحل يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام، وهي: الاقتراح والإقرار والإصدار والنشر.

فالنشر هو المرحلة الأخيرة التي يمر بها القانون ليصبح بعدها ملزماً وواجب التطبيق على جميع المواطنين الذين تتناولهم أحكامه. والغاية من النشر؛ إعلام الناس بالقانون وإذاعته عليهم ليصبح ساري المفعول بالنسبة إليهم. فالقانون إذن يوجد بإقرار المجلس النيابي له، ويثبت وجوده بصورة رسمية ويصبح قابلاً للتنفيذ بإصداره من قبل رئيس الجمهورية، ولكن لا يمكن تنفيذه بالنسبة إلى المواطنين أو إلزامهم بتطبيقه إلا بعد أن يتم علمهم به، ويكون ذلك عن طريق نشره في الجريدة الرسمية.

وأصول نشر التشريع ونفاذه في الجمهورية العربية السورية منظم بالقانون رقم /5/ لعام 2004، الذي جاء في المادة (5/أ) منه أنه: "تعدّ القوانين والمراسيم التشريعية والمراسيم التي لها علاقة بالإدارة العامة نظاماً عاماً نافذة من تاريخ نشـرها في الجريدة الرسمية ما لم يرد نص بخلاف ذلك".

وقد أجازت المادة (3) من هذا القانون عدم نشر بعض القوانين والمراسيم والقرارات وملاحقها في الجريدة الرسمية، أو نشرها بصورة مقتضية؛ بناء على ضرورة الدفاع الوطني ومقتضيات سلامة الدولة، شريطة أن يشار إلى ذلك في كلا الحالتين في القانون أو المرسوم أو القرار.

ولا يخفى على أحد أن نشر القوانين بين الناس وإعلامهم بها أمر ضروري يحتمه العدل والمنطق؛ إذ لا يعقل أن يُطالب الناس بتطبيق قواعد لا يعلمونها وأن يؤاخذوا عليها. والطريقة المثلى لإعلام الناس بالقوانين تكون عن طريق التبليغ الفردي الذي يتأكد معه علمهم بها، ولكن هذه الطريقة غير ممكنة التطبيق من الوجهة العملية؛ إذ يستحيل على الدولة أن تقوم بطبع كل قانون يقره المجلس النيابي على ملايين النسخ وأن تتولى توزيعه على أفراد الشعب جميعاً، ولهذا يعدُّ نشر القانون في الجريدة الرسمية بمنزلة التبليغ الفردي ويفترض أن هذا النشر قد أدى إلى علم الناس بالقانون، مع التنويه بأن هناك بعض الحالات المستعجلة التي تتصل بمصلحة عليا للمجتمع يمكن الخروج على قاعدة النشر فيطبق القانون من تاريخ صدوره.

وليس صعباً الإدراك أن هذا الافتراض بعيد أشد البعد عن الواقع، إذ إن معظم الناس لا يطلعون على الجريدة الرسمية، كما أن الكثيرين ممن يتاح لهم الاطلاع عليها لايستطيعون الإحاطة بجميع القوانين المدرجة فيها. ومع ذلك فافتراض علم الناس جميعاً بالقانون بعد نشره في الجريدة الرسمية أمر ضروري، ولو كان يخالف الواقع، لأنه لو جاز لكل إنسـان أن يحتج بعدم علمه بالقانون؛ وأن يبرر بذلك عدم تطبيقه إياه؛ لما أمكن أبداً تطبيق قانون من القوانين بصورة مجدية.

وإذا كان الناس لا يسعون إلى معرفة القوانين بعد نشرها في الجريدة الرسمية؛ فإن تبعة ذلك يجب أن تعود عليهم وحدهم لأنهم هم المقصرون، ومن هنا جاء المبدأ القائل إن: "الجهل بالقانون لا يعدُّ عذراَ".

أولاً ـ مفهوم مبدأ لا جهل بالقانون:

إن الجهل بالقانون مشكلة، ولا يمكن حل هذه المشكلة إلا بتطبيق مبدأ صارم، قد يكون هذا الخيار ظالماً لكنها الطريقة الوحيدة لتحقيق قوة القانون ودوره، حتى لا يتسنى لأحد أبداً الاحتجاج بجهل القانون. وهذا المبدأ متأصل في علم القانون، فقد كتب ملك بابل "حمورابي" شريعته على لوح كبير ووضعها في أكبر ساحات مدينته، لكي لا يعذر أحد بجهله لتلك التشريعات إيماناً منه بأنه من المستحيل على الأفراد معرفة كل القوانين المنشورة والاطلاع عليها وفهمها. حتى إن هذه المهمة صعبة في الحقيقة حتى على رجال القانون أنفسهم والمتخصصين فيه؛ لأن العلم بكل التشريعات المنشورة أمر صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً.

فعندما يقف المدعى عليهم أو المتهمون في المحاكم أمام القضاة، وبعد سؤالهم عن سبب ارتكاب الجرائم يكون الجواب غالباً بالإنكار وبالنص الحرفي: "لا أعرف أن ذلك مخالف للقانون أو مجرَّم". وعلى الرغم من أن المحكمة لا تعتد بهذا الدفع الذي يؤكد أصحابه جهلهم القانوني من مبدأ "القانون لا يحمي المغفلين" كما يطلق عليه الكثيرون؛ فإن القاعدة القانونية لا تعتد بجهل من يجهل القانون، لأنه في غالب الأمور يكون الدفع بالجهل القانوني هو ذريعة الإنسان المفلس الذي لا يملك دفاعاً عن نفسه.

ومتى تم سن التشريع وفق الأصول ومرور المدة القانونية التي ينص عليها لنشر القانون في الجريدة الرسمية؛ قامت قرينة على علم الناس بالقانون ويفترض علم الجميع به، فلا يقبل من أحد أن يدعي جهله به، وكذلك لا يقبل من أحد منهم إثبات عكس ذلك، أي إثبات أن القانون لم ينته إلى علمه، إما لأنه لا يعرف القراءة أو الكتابة؛ فلم يكن بوسعه الاطلاع على الجريدة الرسمية، وإما لأي سبب آخر. وبالتالي يسري هذا التشريع بحق المخاطبين بأحكامه من دون استثناء. بمعنى أنه يطبق على كل من يتوجه إليهم من أشخاص، فلا يعفى أحدهم من الخضوع لأحكامه بدعوى أنه يجهل وجود هذا التشريع، فالجهل لا يصلح عذراً لإعفائه منه. وبالتالي فإن القاعدة الحقوقية متى سُنت ونُشرت حسب الأصول تسـري بحق كل المخاطبين بأحكامها سواء أكانوا عالمين بها فعلاً أم لا. وهذا ما يُعبر عنه بالمبدأ المعروف القائل "لا جهل في القانون" أو "لا يُفترض في أحد الجهل بالقانون" أي لا عذر بجهل القانون، فلا يقبل من أي كان الاحتجاج بجهله حكم قاعدة قانونية ليفلت من انطباقها عليه وسريانها بحقه. فجهل القاعدة القانونية لا يصلح إذن عذراً يمنع أو يعفي من انطباق القاعدة القانونية على أحد، فهي تسري بحق جميع المخاطبين بأحكامها، من علم بها ومن جهلها على السواء. فلا يقبل من أجنبي أتى إلى الجمهورية العربية السورية أول مرة مثلاً وأقرض فيها نقوداً بفائدة قدرها اثنا عشر بالمئة؛ أن يتمسك بالحصول على هذا القدر من الفوائد مستنداً إلى أنه كان يجهل أن القانون السوري جعل الحد الأقصى للفوائد تسعة بالمئة وفق ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة (228) من القانون المدني.

ولهذه القاعدة مبرراتها الظاهرة لأنه لم يكن في وسع المشرع أن يفعل غير ما فعل؛ إذ من المستحيل حمل القانون إلى علم الأفراد واحداً واحداً، كما أنه لابد من وضع الحد بحيث يفترض معه معرفة أحكام القانون، وإلا لما أمكن تطبيقها تطبيقاً منتجاً لو أُفسح جانب العذر لأي شخص يدعي أنه يجهلها. وقد وفق المشرع بين الأمرين، فاستلزم مضي مدة بعد أن تتخذ الوسيلة التي رأى فيها الكفاية وهي النشر، ليتمكن الناس من العلم بالتشريع، فإذا ما انقضت امتنع الادعاء بجهل أحكامه.

وهذا المبدأ القديم يعدُّ مبدأً ضرورياً لا غنى عنه في تطبيق التشريع، ذلك لأنه لو أتيح للفرد أن يحتج بجهله الشخصي بوجود التشريع في سبيل إعفائه من تطبيق أحكامه؛ لكان معنى ذلك تعليق الإلزام الذي تتميز به القاعدة الحقوقية على شرط العلم الشخصي بها، بحيث تصبح القواعد الحقوقية كلها قواعد شرطية لا تكون ملزمة إلا بثبوت العلم بها، وهذا تعليق يتنافى مع صفة الإلزام التي تصاحب القاعدة الحقوقية منذ نفاذها.

ثانياً ـ أساس مبدأ لا جهل بالقانون:

اختلف فقهاء القانون حول الأساس الذي يبنى عليه مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون، فمنهم من رأى أنه يقوم على أساس وجود قرينة قانونية تقطع بعلم الأفراد كافة بالقاعدة الحقوقية. بيد أن مثل هذا الأساس غير مقبول، لأن القرائن القانونية ـ كما يقصد بها قانوناً ـ هي أخذ أمر مشكوك فيه ـ ولكنه محتمل تبعاً للغالب والمألوف في العمل ـ على أنه أمر مؤكد؛ أي تحويل الشك في شأنه إلى يقين، وإخراج القاعدة القانونية على هذا الأساس. ذلك أن ما تحكمه القواعد القانونية من أوضاع قد يحيط به شك أو غموض يستعصي على الجلاء، ولما كان التحقيق العملي للقانون ولفكرة العدل التي يستهدفها يتطلب دقة وأحكاماً واستقراراً معيناً؛ فإن هذا قد يدفع القانون دفعاً في تحويل الشك إلى يقين عن طريق إقامة قرينة قانونية، فالقرينة القانونية إذن عملية ذهنية تتلخص في تبديد الشك والاختلاط الذي يحيط ببعض المراكز والتصورات القانونية بتأكيد حاسم يبنى على المعنى الأكثر موافقة للراجح والمألوف في العمل.

والأصل هو استخدام القرائن القانونية في مجال الإثبات، وإن كان ذلك لا يمنع من استخدامها في فرض قواعد موضوعية خالصة كذلك. فمن أمثلة القرائن القانونية في مجال الإثبات قرينة الزوجية على ثبوت نسب المولود من زوج الوالدة؛ إذ ما دام الحمل قد حصل وقت الزوجية بتحديد حد أدنى وحد أقصى له من وقت انعقاد الزواج، فميلاد طفل للزوجة بعد ستة أشهر من وقت هذا الانعقاد وقبل فوات سنة منه؛ قرينة على أنه حمل واقع حال قيام الزوجية.

وظهر مثال على القرائن القانونية في مجال القواعد الموضوعية ما يعمد إليه القانون الوضعي من تحديد سن الرشد ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة وفق ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (46) من القانون المدني، فالقانون بذلك إنما يقيم هذا الحكم مدفوعاً باعتبار هذه السن قرينة على كمال الإرادة ونضج العقل؛ إذ إن الغالب الراجح في العمل هو توافر هذا الكمال والنضج للأفراد ببلوغ هذه السن، ولكن بخروج القاعدة الموضوعية المحددة لسن الرشد إلى الوجود تتلاشى القرينة التي دفعت إلى تقريرها بعد إن انتهى دورها، فلا يعلق إعمال حكم هذه القاعدة على ضرورة توافر مقتضى هذه القرينة في كل الحالات. ولذلك ينطبق هذا الحكم على الجميع؛ حتى لو كانت حالات بعضهم ما يشذ عن الغالب الراجح في العمل، فيظل الشخص معدوداً قاصراً حتى لو اكتمل له النضج العقلي والإرادة قبل سن الثامنة عشرة من العمر.

وبالتالي وعلى هدى ما سلف بيانه فإنه لا يمكن اعتبار مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون يقوم على أساس وجود القرينة القانونية؛ إذ القرائن القانونية ـ كما سبق البيان ـ تبنى على الاحتمال الغالب الذي يوافق المألوف وما جرى عليه التعامل، ولا يستقيم القول: إن الغالب والمألوف هو علم الأفراد بالقاعدة الحقوقية بل على العكس من ذلك، فالحقيقة أن معظم الأفراد ـ وفي معظم الأحيان ـ يجهلون القاعدة ومع ذلك يلزمون بأحكامها على الرغم من هذا الجهل بناءً على المبدأ المحكي عنه؛ إذ ليس الغالب في العمل ولا المألوف فيه هو علم الأفراد بالقواعد القانونية؛ بل الغالب هو جهلهم بها، ولذلك لا يمكن اعتبار مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون قرينة على العلم به.

وقد برر بعض الفقهاء مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون بأنه افتراض قانوني يخالف الواقع في كثير من الأحيان، ولكنه افتراض حتمي لتوفير المساواة بين الأشخاص، ولكفالة قوة الإلزام الفورية للقواعد القانونية.

وبرره آخرون بقواعد العدل بقولهم: إن العدل الخاص يتطلب المساواة التامة في معاملة المخاطبين بأحكام القواعد القانونية، فلا يفرق بينهم في وجوب الخضوع لها، أو يُعفى بعضهم من التقيد بها. وهذه المساواة أمام القانون تحقق كذلك العدل والمصلحة العامة بما تؤكد من سيادة النظام والقانون في المجتمع، إذ لو أبيح الاحتجاج بجهل القانون للإفلات من أحكامه؛ لما أتيح حينئذ تطبيق القانون إلا في القليل النادر حيث يعلم الناس بأحكامه؛ ولسادت الفوضى وضاع الأمن وتقوض النظام في المجتمع.

ولعل قواعد العدل هي خير ما يؤسـس عليه مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون لما سلف بيانه، فضلاً عن أن قبول الاحتجاج بجهل القاعدة القانونية فيه نفي لصفة الإلزام عنها؛ إذ يجعل مناط إلزامها هو توافر العلم بها، في حين أن القاعدة القانونية تتميز قبل كل شيء بما لها من إلزام ذاتي ينبعث منها ومن وجودها هي؛ لا من عامل خارجي عنها كالعلم بها. والواقع أن القاعدة القانونية ـ بما تقرر من إلزام بمضمونها ـ تنطوي كذلك على معنى الإلزام بالعلم بها من وقت نفاذها.

ومهما يكن التبرير في ذلك فإنه لا يُعقل الاستغناء عن مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون تحت طائلة تعطيل تطبيق التشريع وشل عنصر الإلزام فيه.

ثالثاً ـ مدى سريان مبدأ لا جهل بالقانون:

1ـ إطلاق هذا المبدأ بالنسبة إلى القواعد القانونية على اختلاف مصادرها: سبق البيان أنه مجرد تمام القاعدة القانونية ونشرها في الجريدة الرسمية فإنها تصبح ملزمة لجميع المخاطبين بمضمونها، وليس لأحد المكلفين أن يستند إلى جهله بالقاعدة القانونية لكي يتحلل من تطبيق أحكامها، وبالتالي فإن نطاق تطبيق القانون بالنسبة إلى الأشخاص المتعلق بهم حكمه، سيكون وفقاً لمبدأ عدم جواز الاحتجاج بالجهل بالقانون.

ولكن مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون ليس قاصراً على القواعد التشريعية فحسب، بل هو ينسحب كذلك على كل القواعد القانونية أياً كان مصدرها الرسمي. فالقواعد الدينية والعرفية السائدة يمتنع الاحتجاج بجهلها؛ كما يمتنع الاحتجاج بجهل القواعد التشريعية سواء بسواء.

أ ـ سريان المبدأ على القواعد الدينية: تحدد الأديان للإنسان ثلاثة أنواع من الواجبات المترتبة عليه وهي: واجبه نحو ربه، وواجبه نحو نفسه، وواجبه نحو مجتمعه، والقواعد الدينية التي تبين واجبات الإنسان في المجتمع ما هي في الواقع إلا قواعد قانونية دينية.

وللدين في سورية وفي البلاد العربية مكان بارز وأثر مهم في تكوين عدد كبير من القواعد الحقوقية، وهو لا يزال مصدراً رئيسياً لكثير منها.

ب ـ سريان المبدأ على القواعد العرفية: جعلت المادة الأولى من القانون المدني السوري العرف مصدراً ثالثاً للقواعد القانونية يأتي في المرتبة بعد مبادئ الشريعة الإسلامية. ويمكن تعريف العرف بأنه اعتياد الناس على اتباع سلوك معين في علاقاتهم وتصرفاتهم مع اعتقادهم بأنهم ملزمون باتباع هذا السلوك. وعلى هذه الصورة يصبح السلوك الذي استقروا على اتباعه قاعدة قانونية، وبذلك يكون العرف مصدراً للقاعدة. بيد أن الناس درجوا على استعمال هذا اللفظ للدلالة على القاعدة القانونية التي كان العرف مصدرها. أي إن اللفظ المذكور أصبح يستعمل بمعنيين: معنى القاعدة القانونية العرفية، ومعنى المصدر الذي أنشأها وهو اطراد العمل بها مع الاعتقاد بتوافر صفة الإلزام فيها.

يتميز العرف من مجرد العادة، إذ يجتمع للعرف الوجود المادي والمعنوي على السواء؛ أي اطراد السُنة والعقيدة في إلزامها معاً، ولا يجتمع للعادة إلا الوجود المادي وحده دون الوجود المعنوي، فتكون مجرد سُنة تنقصها عقيدة الإلزام، وإن كانت مطردة في العمل، أي تكون مجرد سُنة مطردة يتبعها الأفراد في العمل اتباعاً، لا تقوم على عقيدة إلزامية في ضرورة مراعاتها أو احترامها، وإنما هي اتباع اختياري محض من جانبهم، فلا تسري العادة بحق الأفراد سريان العرف بحقهم.

فالعرف ـ وهو قاعدة قانونية ـ يلزم الأفراد بذاته من دون توقف على إرادتهم. أما العادة ـ وهي مجرد واقعة مادية؛ أي مجرد سُنة تتبع عادة في العمل من دون أن تسندها عقيدة في إلزامها ـ فلا تكون لها قدرة على إلزام أي فرد كان، إلا أن يريد الفرد الالتزام بها، وتظهر إرادته هذه صراحة أو ضمناً. وحينئذ لا يكون إلزام العادة إلزاماً ناشئاً من وجودها كقاعدة قانونية لها قوة ذاتية ملزمة، وإنما هو إلزام ناشئ من التزام بعض الأفراد بها وقبولهم اتباعها بمحض إرادتهم واتفاقهم، وإنما يستمد هذا الإلزام من إرادة المتعاقدين واتفاقهم. ولذلك جرى الاصطلاح على تسمية هذه العادة باسم العادة الاتفاقية.

وقد يحيل القانون صراحة إلى العادة في بعض الحالات، فتستمد العادة عندئذ قوتها الإلزامية من إحالة النص إليها. ومن أمثلة ذلك ما نصت عليه المادة (233) من القانون المدني على أنه: "لا يجوز تقاضي فوائد على متجمد الفوائد التي يتقاضاها الدائن، ولا يجوز في أية حال أن يكون مجموع الفوائد التي يتقاضاها الدائن أكثر من رأس المال، وذلك كله دون إخلال بالقواعد والعادات التجارية".

والقواعد العرفية ـ ككل القواعد القانونية ـ إما قواعد آمرة وإما قواعد مفسرة أو مكمّلة، فقد تدق التفرقة بين العادة الاتفاقية وبين القاعدة العرفية المفسرة أو المكمّلة. ولكن فضلاً عما يفرق بينهما من توافر عقيدة الإلزام في الثانية دون الأولى؛ فإن التمييز بينهما يظل قائماً على أساس أنه لا تلزم العادة الاتفاقية إلا بانصراف إرادة المتعاقدين إلى الأخذ بها، وعلى النقيض من ذلك فإن العرف المفسر أو المكمّل فهو يلزم إذا لم يتفق المتعاقدان على خلافه.

وخلاصة القول أن من بين نتائج تمييز العرف من العادة، أن العادة يجوز الاحتجاج بجهلها لأنه لا إلزام لها إلا بإرادة المتعاقدين، وجهل أحدهما أو كليهما بها يمنع من وجود هذه الإرادة. أما العرف ـ باعتباره قاعدة قانونية ـ فلا يجوز الاحتجاج بجهله للإفلات من الخضوع لحكمه.

2ـ إطلاق هذا المبدأ بالنسبة إلى القواعد الآمرة والقواعد المفسرة أو المكمّلة على السواء: تقسم القواعد القانونية لاعتبارات متعددة، من أهم تلك التقسيمات تقسيمها إلى قواعد آمرة وقواعد تكميلية أو مفسرة.

فالقواعد الآمرة ـ وقد تسمى أيضاً قواعد ناهية ـ هي التي تتعلق بها مصالح المجتمع الحيوية تعلقاً شديداً، بحيث لا يسمح للأفراد بمخالفة أحكامها؛ وتبني أحكام غيرها فيما يجرونه بينهم من عقود واتفاقات. وهذه القواعد تثبت لها القوة التي لا تسمح بالاتفاق على ما يخالفها؛ لأنها تمثل إرادة المجتمع العليا في تنظيم نشاط معين على وجه خاص. فهي تتضمن أمراً أو نهياً ولذلك سميت قواعد آمرة أو ناهية، وهي التي يطلق عليها أيضاً اسم القواعد المتعلقة بالنظام العام؛ كالقوانين التي تفرض الضرائب والتي تنهي عن القتل والسرقة وغيرها من الجرائم الجزائية؛ أو التي تقرر حداً أقصى لسعر الفوائد الاتفاقية أو ترسم شكلاً معيناً تصب فيه بعض أنواع العقود.

أما القواعد القانونية التكميلية أو المفسرة ـ وقد تسمى أيضاً قواعد معلنة ـ فهي التي لا تتأثر مصالح المجتمع الحيوية بعدم تطبيقها، ولهذا يسمح للأفراد بألا يتقيدوا بأحكامها إذا شاؤوا، وأن يتبنوا أحكاماً غيرها يختارونها في عقودهم واتفاقاتهم. وهذه القواعد لا تمثل إرادة المجتمع العليا، بل تمثل إرادة المتعاقدين المفترضة؛ لأنها تتعلق بالنشاط الحر للأفراد، ذلك النشاط الذي يملك الأفراد تنظيمه بإرادتهم ولا يخضعون فيه لسلطان القانون، والذي ما تناوله القانون بالتنظيم إلا لكي يقوم في ذلك مقام إرادة المتعاقدين في تنظيمه. فالقانون يفرض أن المتعاقدين اتجهت إرادتهما إلى تنظيم علاقاتهما على وجه معين، هو في الغالب الوجه الذي جرى عليه التعامل بين الناس. فإذا وجد اتفاق بين الطرفين على ما يجب اتباعه في علاقاتهما هذه؛ كان اتفاقهما الذي يضمن إرادتهما الحقيقية أولى بالاتباع من القاعدة العامة التي تمثل إرادتهما المفترضة. أما إذا لم يستعمل المتعاقدان سلطان إرادتهما ولم يتفقا على الحكم الذي يجب اتباعه في علاقتهما؛ قامت القاعدة القانونية التي تعبر عن إرادتهما المفترضة مقام إرادتهما الحقيقية وصارت واجبة التطبيق عليهما. وكذلك الحال إذا استعمل المتعاقدان سلطان إرادتهما، ولكن جاء اتفاقهما غامضاً يحتاج إلى تفسير أو ناقصاً يحتاج إلى تكملة، فيرجع في تفسيره أو في تكملته إلى القاعدة التي تمثل الإرادة المفترضة. ولذلك لا يسمى هذا النوع من القواعد قواعد مقررة فحسب، بل يسمى قواعد مكملة أو مفسرة لإرادة المتعاقدين.

وقد دار جدال حول ما إذا كان مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون يقتصر على القواعد القانونية الآمرة دون القواعد المفسرة أو المكمّلة.

فأغلب الفقهاء يقصر العمل بمبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون على القواعد القانونية الآمرة، أي على القواعد المتعلقة بالنظام العام والآداب دون القواعد المفسرة أو المكمّلة، كالقاعدة التي تحدد الحد الأقصى لسعر الفائدة بتسعة بالمئة. بل إن منهم من يقصر العمل به على بعض ـ فقط ـ من القواعد القانونية المتعلقة بالنظام العام والآداب كالقوانين الجنائية خاصة، أما ما عداها من بقية القواعد الآمرة وكل القواعد المكمّلة فيجوز عندهم الاحتجاج بجهلها.

والواقع أنه ليس ثمة ما يبرر التمييز في هذا الصدد بين القواعد الآمـرة من جهة، والقواعد المفسرة أو المكمّلة من جهة أخرى، وليس ثمة ما يسّوغ عدم تطبيق هذا المبدأ على القواعد المفسرة أو المكمّلة مادامت صفة الالتزام متوافرة في هذه القواعد، كتوافرها في القواعد الآمرة. فالعلم بها يكون واجباً لا يمكن التحلل منه بالنسبة إليها جميعاً من دون تفريق، وما دامت القواعد المفسرة أو المكمّلة لا تطبق إلا في حالة سكوت المتعاقدين عن مخالفتها، لأنه بهذا السكوت يتحقق شرط انطباقها في حقهما. وقد قيل بحق إنه لو جاز الاحتجاج بجهل القواعد المفسرة أو المكمّلة لما وجدت هذه القواعد مجالاً كبيراً للتطبيق، مادامت لا تطبق إلا عند سكوت المتعاقدين عن مخالفتها، فيستطيع من له مصلحة منهما في عدم تطبيقها أن يدفع بجهله بأحكامها ويفسر السكوت على هذا الأساس، وعند ذلك يكون هناك فراغ في العلاقة بين المتعاقدين؛ إذ لا توجد إرادة للمتعاقدين من ناحية، ويمتنع تطبيق القواعد المفسرة أو المكملة بدعوى جهلها من ناحية أخرى.

وقد وضعت القواعد المكمّلة على وجه الخصوص لسد الفراغ الناشئ من سكوت المتعاقدين عن الاتفاق على مخالفة لها. فمجرد هذا السكوت يجعل القواعد المكملة واجبة الاتباع من دون أن يكون لأي متعاقد الحق في الاحتجاج بجهلها.

رابعاً ـ الاستثناءات الواردة على مبدأ لا جهل بالقانون:

هناك من الفقهاء من يرى أن في جواز تمسك الشخص بالقوة القاهرة أو بالغلط في القانون أو بالجهل بالقوانين الجزائية أو بالقوانين المدنية ذات الصلة بالقوانين الجزائية؛ الحق باستثنائه من قاعدة عدم جواز الاحتجاج بجهل القانون.

1ـ القوة القاهرة: إذا استحال علم الشخص بالقانون بسبب قوة قاهرة حالت دون وصول الجريدة الرسمية إلى منطقة أو مناطق معينة من إقليم الدولة؛ فإنه لا يمكن الأخذ بمبدأ عدم الاحتجاج بجهل القانون، بل إن هذا المبدأ يُستبعد ويمكن الاحتجاج بجهل التشريع الجديد، وذلك حين زوال السبب الذي جعل العلم بهذا التشريع مستحيلاً، ووصول الجريدة الرسمية المتضمنة التشريع إلى الأشخاص المعنيين بحكمه، ومن أمثلة القوة القاهرة: احتلال العدو لإحدى مناطق الدولة، والزلزال، وغيرها من الظروف التي يستحيل معها علم الأفراد بالتشريع في الجريدة الرسمية.

وأياً كان الرأي في هذا الاستثناء وتبريره، فهو من ناحية نادر التحقق اليوم أمام تقدم وسائل المواصلات وخاصة الجوية منها، وهو من ناحية أخرى قاصر على القواعد التشريعية؛ إذ هي وحدها التي تنشر في الجريدة الرسمية وتعدُّ معلومة للناس بهذا النشر، ومن ناحية ثالثة فإن الأمثلة التي صاغها الفقهاء للتدليل على القوة القاهرة لا تعدُّ في الحقيقة استثناء من قاعدة لا جهل بالقانون بل هي تطبيق لها. إذ إن عدم علم المواطنين مثلاً في إقليم احتله العدو بالتشريعات التي تصدر في أثناء الاحتلال؛ إنما يرجع إلى عدم استطاعة الاحتجاج قبلهم بنشرها، ذلك النشر الذي به وحده تنهض قرينة على افتراض علمهم بتلك التشريعات وليس إلى استحالة العلم بها استحالة مطلقة.

2ـ الغلط في القانون: ذهب بعض الفقهاء إلى التفريق بين الجهل والغلط، فقالوا: إن الجهل هو حالة ذهنية سلبية تعني عدم توافر صورة إدراكية عن الشيء في ذهن الشخص؛ بحيث يخلو العقل من هذه الصورة خلواً تاماً. أما الغلط فإنه على العكس من ذلك فهو يمثل حالة ذهنية إيجابية، حيث تقوم في العقل صورة إدراكية عن الشيء؛ أي يتوافر العلم به، بيد أنه علم مغلوط غير صحيح. وبعضهم يرى أن الفرق بينهما هو من ناحية الكم لا من ناحية الكيف، فالجهل يعني انعدام العلم بالشيء بصورة كلية، أما الغلط فهو العلم بالشيء علماً ناقصاً.

ومهما يكن من أمر فقد نص المشرع في المادة (123) من القانون المدني على أنه يجوز للمتعاقد الذي وقع في غلط في القانون أن يطلب إبطال العقد؛ متى كان هذا الغلط هو الدافع الرئيسي إلى التعاقد. فالعيب في الإرادة يتحقق إذا كان الغلط في واقعة من الوقائع، كمن يشتري تحفة ظناً منه أن لها قيمة أثرية ثم يتضح له خلاف ذلك. وقد يكون الغلط في القانون؛ أي غلط ينص على جهل المتعاقد لحكم القانون في مسـألة معينة فيتعاقد وفقاً لذلك، كأن يبيع الزوج نصيبه في الإرث ظناً أنه يرث الربع، ثم يتضح له أن نصيبه النصف لعدم وجود فرع وارث للزوجة، فالمتعاقد تعاقد نتيجة غلط في القانون ويكون له الحق في طلب إبطال العقد.

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن إعمال عدم جواز الاحتجاج بالجهل بالقانون لا يتنافى إطلاقاً مع إعمال الغلط في القانون؛ إذ حكمه يطبق دائماً، لأن أساس الاحتجاج بالجهل بالقانون هو السماح للشخص بالتخلص من حكم القانون، فعندما يطالب الشخص بإبطال العقد لوقوعه في غلط فهو يطالب بتطبيق القانون.

ويرى بعضهم الآخر أن الغلط في القانون يهدف إلى المساس بمبدأ القوة الملزمة للعقد، وبالتالي يعدُّ استثناءً من مبدأ عدم جواز الاحتجاج بالجهل بالقانون؛ إذ إن إبطال العقد يؤدي إلى التخلص من حكم القانون الذي يجعل العقد ملزماً. فالوارث مثلاً الذي يبيع حصته في التركة على اعتقاد أنها الربع في حين أن له نصف التركة طبقاً لقواعد الميراث؛ يكون له إبطال العقد الذي شاب إرادته في قدر الشيء المباع. والرجل الذي يهب مطلقته مالاً ظناً منه أنه استردها إلى عصمته فعادت زوجة له، وهو يجهل بذلك أن الطلاق الرجعي قد أصبح بائناً بانتهاء مدة العدة فلا ترجع إلى عصمته إلا بعقد زواج جديد؛ يكون له طلب إبطال الهبة على أساس الغلط الذي وقع فيه بشأن صفة جوهرية جديدة في شخص الموهوب لها.

وقد ظن بعض الفقهاء أن في إجازة إبطال العقد لما وقع فيه المتعاقد من غلط في القانون خروجاً على مبدأ امتناع الاحتجـاج بجهل القانون؛ بقبول الاحتجاج بالوقوع في هذا الغلـط. والواقع أن هذا الظن خاطئ فليس في إبطال العقد لغلط في القانون في الأمثلة سالفة الذكر أي استثناء من مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون أو خروج عليه. ذلك أن مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون إنما يعني أنه لا يمكن منع تطبيق القانون بحجة الجهل به، فهو يطبق على الجميع من دون تفريق؛ أي حتى على من يجهله. وبعبارة أخرى فإن المقصود بهذا المبدأ؛ الدلالة على أنه حيث يجب تطبيق قاعدة معينة فلا يمكن منع انطباقها على من يجب سريانها بحقه بحجة جهله بأحكامها. وما دام هذا هو مضمون المبدأ ومعناه، فالاستثناء منه لا يتصور إذن إلا بإعفاء من يجهل حكم قاعدة قانونية معينة من واجب الخضوع لها، أي بمنع سريانها بحقه. ومن هنا لا يكون في إعطاء المتعاقد الواقع في غلط في القانون حق طلب إبطال العقد الذي اندفع إلى إبرامه تحت تأثير الغلط أي استثناء أو خروج على مبدأ امتناع الاعتذار بجهل القانون، إلا إذا كان في هذا الإبطال منع لسريان القاعدة القانونية الوارد عليها الغلط بحق المتعاقد الواقع في الغلط بشأنها. وليس الحال كذلك في الأمثلة المضروبة، فالوارث الذي يجهل قواعد الميراث ويقع في غلط في قدر الحصة التي تفرضها له، ثم يطلب إبطال عقد البيع الذي اندفع إلى إبرامه تحت تأثير هذا الغلط؛ لا يتوصل بالحصول على الإبطال إلى منع سريان قواعد الميراث بحقه، فهي تظل سارية بحقه فيكون له نصف التركة كلما دعا الأمر إلى تمكينه من إبطال بيع حصته الذي اندفع إليه على اعتبار أنها الربع فقط.

والرجل الذي يهب مطلقته مالاً ظناً منه أنها عادت إلى عصمته زوجة له غلطاً منه في أحكام الطلاق، ثم يطلب إبطال الهبة بعد اكتشاف الغلط؛ لا ينجو بهذا الإبطال من سريان قواعد الطلاق بحقه، فهي ملزمة له مع جهله بها، مما يظل الطلاق معه قائماً وبائناً بحيث لا يملك استرداد مطلقته إلى عصمته إلا بعقد جديد.

وما دام تمكين المتعاقد من حق إبطال العقد في مثل هذه الفروض لا يحمل أي خروج على مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون، ومفهوماً على وجهه الصحيح؛ فإن هذا الإبطال هو المتفق ـ فضلاً عن ذلك ـ مع ما يجب لصحة العقود من تنزه الرضا فيها عن العيوب، ومن بينها عيب الغلط، فالأمر إذن هو سلامة الرضا وصحته، لا أمر منع تطبيق قاعدة قانونية بحجة الجهل بأحكامها.

ولكن إذا عرضت فروض أخرى تحقق فيها غلط أحد المتعاقدين في حكم قاعدة قانونيـة، وكان من شأن تمكينه من المطالبة بإبطال العقد لهذا الغلط استبعاد تطبيق تلك القاعدة عليه؛ فيجب حينئذ حرمانه من طلب الإبطال لهذا السبب، وإلا انتهى الأمر إلى تمكينه من الاحتجاج بجهله للإفلات من انطباق القاعدة عليه، بما يعني خرق مبدأ امتناع الاحتجاج بجهل القانون، وهو ما لا يجوز. ولذلك لا يجوز للمقرض طلب إبطال عقد القرض المعقود بفائدة تجاوز الحد الأقصى المشروع للفائدة الاتفاقية بناءً على غلطه في حكم القاعدة المقررة لهذا الحد، بل يبقى العقد قائماً وصحيحاً ولكن مع إنزال الفائدة الفاحشة المتفق عليها إلى الحد الأقصى المشروع. وكذلك لا يجوز للمؤجر طلب إبطال عقد الإيجار المعقود بأجرة تجاوز الحد الأقصى الذي قرره القانون بناءً على غلطه في حكم القانون بهذا الشأن، بل يبقى العقد قائماً وصحيحاً ولكن مع إنقاص الأجرة المتفق عليها إلى حدها الأقصى المقرر.

3ـ الجهل أو الغلط في القواعد القانونية الجزائية: الجهل بالقانون إما أن يكون واقعاً على وجود النص القانوني، كأن يجهل الشخص أن هناك نصاً قانونياً يجرّم الصيد في بعض شهور السنة، وإما أن يجهل تفسير القانون فيفهمه على غير الصورة التي يريدها الشارع، إضافة إلى اعتقاد الشخص أن نصاً من النصوص التي يعرف وجودها قد تم إلغاؤه لتقادم الزمن عليه، في حين أنه لم يلغ؛ لأن القوانين الجزائية لا تلغى إلا بمثلها صراحة ولا تسقط بعدم استعمالها فترات طويلة.

وغني عن البيان أنه لكي تتوجه الإرادة إلى فعل معين لابد من أن يكون الفاعل عالماً بعناصر الجريمة وفق ما عرفها القانون، وبالتالي فإن العلم شرط للإرادة ومرحلة في تكوينها. وهذا ما عبرت عنه المادة (48) من قانون العقوبات بقولها: إن القصد الإجرامي هو توجيه الفاعل إرادته إلى ارتكاب الأمر المكون للجريمة عالماً بأركانها القانونية.

ولكي يكون عنصر العلم موجوداً في القصد الجرمي لا بد من حيث المبدأ أن يكون الجاني على علم بعدم مشروعية الفعل الذي يقوم بارتكابه، أي بمعنى آخر أن يكون الجاني عالماً أن الفعل الذي يقترفه يعدّ جريمة يعاقب عليها القانون. فالموظف مثلاً الذي يترك وظيفته قبل صدور الصك القاضي بقبول استقالته من المرجع المختص، لا يسأل بأن الفعل الذي يقوم به يعدّ جريمة جزائية يعاقب عليها القانون الجزائي. وكذلك الأمر بالنسبة إلى جميع الجرائم التي ينص عليها قانون العقوبات أو القوانين الجزائية الأخرى.

والقاعدة أن الجهل بوجود القانون الجزائي أو في تفسيره أو الاعتقاد بإلغائه؛ ليس من شأنه أن يمحو المسؤولية أو يخففها في مفهوم القوانين التي تسير على قاعدة لا جهل بالقانون ومنها القانون السوري. وهذا هو مبدأ الشريعة الإسلامية أيضاً؛ إذ إنه لا يقبل في دار الإسلام العذر بجهل الأحكام، كما يقول الفقهاء المسلمون.

وربما كان لهذه القاعدة ما يبررها عملياً؛ بيد أن التشديد فيها قد يسيء إلى فكرة العدالة نفسها، ولذلك قبلت بعض القوانين الحديثة فكـرة تخفيف العقوبـة إذا وجد القاضي مبرراً لذلك، وقبل بعضها الآخر بفكرة الإعفاء من كل عقاب.

أما قانون العقوبات السوري فهو كغيره من القوانين العربية الجزائية رفض الاحتجاج بجهل القوانين الجزائية أو تأويلها بصورة مغلوطة وتبنى قاعدة "لا جهل بالقانون" وافترض العلم بجميع أحكام القانون الجزائي، وهذا الافتراض غير قابل لإثبات العكس، كما لا يشترط إثباته. فقد جاءت الفقرة الأولى من المادة (222) من قانون العقوبات صريحة في النص على افتراض العلم بالقانون بقولها: "لا يمكن لأحد أن يحتج بجهله القانون الجزائي أو تأويله تأويلاً مغلوطاً".

وبما أن أساس قاعدة لا جهل بالقانون هو استقرار المصالح الاجتماعية وكفالة تطبيق القانون؛ فإن الجهل بالقانون حجة قد يتذرع بها أغلب المتهمين، وفي الوقت ذاته فإن إثبات العلم بالقانون أمر بالغ الصعوبة، وقد تعجز النيابة العامة عن تحقيقه، وهذا يعني براءة الكثير من المجرمين وإفلاتهم من العقاب وتملصهم من المسؤولية.

ويستخلص مما تقدم أنه لا أثر للجهل أو الغلط في قواعد القوانين الجزائية على توافر القصد الإجرامي، وذلك تطبيقاً لمبدأ عدم جواز الاحتجاج بجهل القانون، وبالتالي يستوي لتوافر القصد الجنائي أن يكون الجاني عالماً بقواعد القانون الجزائي أو جاهلاً لتلك القواعد، كما يستوي أن يكون واقعاً في غلط بحقيقته أو لا، فالقاعدة أنه يفترض علم الجاني بالقوانين الجزائية كلها. فلا يجوز له أن يحتج مثلاً بأنه كان يعتقد أن فعله مشروع وقت ارتكابه بسبب غلط وقع فيه أو جهله بذلك، وأنه لا يتوافر لديه القصد الإجرامي تبعاً لذلك.

ومع ذلك فإن القاعدة السابقة يرد عليها استثناءان وهما: الجهل بالقانون الجديد، وجهل الأجنبي بالقوانين السورية، كما تقضي القواعد العامة الاعتداد بالجهل بالقانون في حالة استحالة العلم.

أ ـ الجهل بالقانون الجديد: نصت الفقرة الثانية من المادة (222) من قانون العقوبات على أنه: "يعدّ مانعاً من العقاب: الجهل بقانون جديد إذا اقترف الجرم في خلال الأيام الثلاثة التي تلت نشره". فهذا النص يتعلق بحالة القانون الجديد الذي يتقرر العمل به من فور نشره أو بعد مرور مدة تقل عن ثلاثة أيام، فإذا تقرر العمل به بعد تجاوز تلك المدة فلا ينطبق هذا النص، ويشترط لتطبيق هذا النص أن يكون ارتكاب الجريمة قد تم خلال الأيام الثلاثة التالية لنشر القانون الجديد.

ب ـ جهل الأجنبي بأحكام قانون العقوبات للدولة التي نزل بها: نصت القوانين الجزائية في بعض الدول على هذا الاستثناء، فقد جاء في الفقرة الثانية من المادة (37) من قانون العقوبات العراقي ما يلي: "للمحكمة أن تعفو من العقاب الأجنبي الذي يرتكب جريمة خلال سبعة أيام على الأكثر تمضي من تاريخ قدومه إلى العراق إذا ثبت جهله بالقانون وكان قانون محل إقامته لا يعاقب عليها". كما جاء في المادة (223) من تقنين العقوبات اللبناني على أنه: "لا يمكن لأحد أن يحتج بجهله الشريعة الجزائية أو تأويله إياها تأويلاً مغلوطاً فيه، غير أنه يعد مانعاً من العقاب جهل الأجنبي الذي قدم للبنان منذ ثلاثة أيام على الأكثر بوجود جريمة مخالفة لقوانين الوضعية، لا تعاقبه عليها شرائع بلاده أو شرائع البلاد التي كان مقيماً فيها".

أما قانون العقوبات السوري فقد نص في الفقرة الثانية من المادة (222) على أنه: "يعد مانعاً من العقاب جهل الأجنبي الذي قدم سورية منذ ثلاثة أيام على الأكثر بوجود جريمة مخالفة للقوانين الوضعية لا تعاقب عليها قوانين بلاده أو قوانين البلاد التي كان مقيماً فيها".

وبالتالي فإن هذا الاستثناء يتعلق بحالة الأجنبي الذي لم يمض على قدومه لدولة غير دولته إلا أيام معدودة، ويرتكب خلال هذه الفترة فعلاً يجهل أنه جريمة وفقاً لتشريع هذه الدولة، فيصلح هذا الجهل عذراً ترفع منه العقوبة.

ويشترط لتطبيق هذا النص عدة شروط: أن يكون الجاني أجنبياً؛ أي لا يتمتع بالجنسية السورية، ويستوي بعد ذلك أن يكون حاملاً جنسية أجنبية أو أكثر أو عديم الجنسية، وأن يكون قد ارتكب الفعل المكون لجريمته خلال ثلاثة أيام من تاريخ وصوله إلى سورية، وأن يكون هذا الفعل غير معاقب عليه وفقاً لتقنين العقوبات في الدولة التي يحمل جنسيتها أو شريعة الدولة التي كان مقيماً فيها قبل قدومه إلى سورية، وأن يجعل تجريم هذا الفعل لمخالفته للقوانين الوضعية؛ أي القوانين التي ترتبط بالمفاهيم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية مثل قوانين الضرائب والنقد والمرور. وتطبيقاً لذلك لا يقبل الاحتجاج بالجهل بالقانون الذي يحمي القيم الأخلاقية المشتركة بين جماعة الدول المتمدنة، أو يحمي الحقوق الأساسية للإنسان في المجتمع المعاصر، كما هو الحال بالنسـبة إلى جرائم الاعتداء على الحياة أو سلامة الجسم أو العرض أو الشرف.

4ـ الجهل أو العلم بقوانين أخرى غير قانون العقوبات ومرتبطة به لكي تقوم الجريمة: قد يتطلب المشرع بالنسبة إلى بعض الجرائم العلم بقواعد القوانين الأخرى غير قانون العقوبات لكي تقوم الجريمة، كما هو الحال بالنسبة إلى صفة الزوج في جريمة الزنا؛ إذ يجب أن يعلم بتوافر هذه الصفة وقت ارتكاب فعل الزنا، والعلم بهذه الصفة يتطلب العلم بقواعد قانونية أخرى غير قانون العقوبات وهي قواعد قانون الأحوال الشخصية. وكذلك بالنسبة إلى صفة الموظف العام في جريمة الرشوة؛ إذ يتعين بالنسبة إليها العلم بقواعد القانون الإداري. وأيضاً بالنسبة إلى ملكية الغير في جريمة السرقة والاحتيال وإساءة الائتمان؛ إذ يلزم بالنسبة إليها العلم بقواعد الملكية التي ينص عليها القانون المدني وهكذا.

فإذا كانت أحكام قانون العقوبات لا تؤدي إلى إعفاء مرتكب الجريمة من مسؤوليته الكاملة عند ارتكابها؛ فإن الجهل بأحكام أخرى للتقنين المدني يأخذ حكم الجهل بالقانون، ويؤدي إلى نفي القصد الجنائي ورفع المسؤولية عن الفاعل الذي كان يعتقد أنه يأتي فعلاً مشروعاً. وهذا معناه أن مبدأ عدم جواز الاحتجاج بجهل القانون لا يمتد تطبيقه إلى الجهل بالتشريعات غير الجنائية؛ إذ إن الجهل بهذه التشريعات الأخيرة يصلح عذراً يمنع من العقاب لانتفاء القصد. وقد نصت المادة (223) من تقنين العقوبات اللبناني صراحة على هذا الاستثناء بقولها: "لا يمكن لأحد أن يحتج بجهله الشريعة الجزائية أو تأويله إياها تأويلاً مغلوطاً فيه، غير أنه يعد مانعاً للعقاب الجهل أو الغلط الواقع على شريعة مدنية أو إدارية يتوقف عليها فرض العقوبة".

وقد اتجه القضاء الجنائي الفرنسي إلى أن جهل المتهم بقاعدة تشريعية غير جنائية تؤسس عليها العقوبة يصلح عذراً له، فيرفع عنه المسؤولية الجنائية. فقضى ببراءة عامل من تهمة السرقة لانتفاء القصد الجنائي لديه، وكان قد اسـتولى على الكنز الذي عثر عليه في أرض مملوكة للغير بأكمله جاهلاً قواعد التقنين المدني التي تجعل النصف له وتجعل النصف الآخر لمالك العقار.

ويرى جانب من الفقه أن ارتفاع المسؤولية الجنائية في هذه الحالة استثناء في الظاهر فقط، ولا يمثل خروجاً على مبدأ عدم جواز الاحتجاج بجهل القانون، وذلك لاعتبارين:

أ ـ أن الحكم ببراءة المتهم وارتفاع المسؤولية الجنائية عنه ليس من شأنه أن يمنع تطبيق القاعدة الواردة في التقنين المدني التي ثبت جهل المتهم بها، بل تظل سارية بحقه ومطبقة عليه، بحيث لا ينفرد مكتشف الكنز المشار إليه في الحكم السابق بملكية الكنز؛ بل إن الملكية تكون مناصفة مع مالك الأرض وفق القانون الفرنسي.

ب ـ إن إعفاء الشخص من المسؤولية الجزائية ليس أساسه الجهل بالقاعدة المدنية، وإنما هو نتيجة لانتفاء القصد الجنائي عنده. ذلك أن القصد الجنائي لا يتحقق في هذه الحالة إلا بالعلم بقاعدة قانونية غير جزائية، وما دام المتهم هنا يجهل حكم هذه القاعدة فقد انتفى القصد الجنائي عنده وهو أحد أركان قيام الجريمة، فترتفع عنه المسؤولية الجزائية تبعاً لذلك.

وخلاصة مما تقدم فإنه لا يرد على هذا المبدأ من استثناءات إلا استثناء حقيقي واحد؛ إذ يقرر جمهور الفقهاء جواز الاحتجاج بجهل القانون في حال قيام قوة قاهرة ـ كفيضان أو احتلال أجنبي ـ تعزل بعض المناطق في الدولة عزلاً تاماً يستحيل معه وصول الجريدة الرسمية إليها. وأياً كان الرأي في هذا الاستثناء وتبريره فهو من ناحية نادر التحقق اليوم، وهو من ناحية أخرى قاصر على القواعد التشريعية؛ إذ هي وحدها التي تنشر في الجريدة الرسمية وتعدّ معلومة للناس بهذا النشر.

 

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ هشام القاسم، المدخل إلى علم الحقوق (مطبعة الإنشاء، دمشق 1965).

ـ هشام القاسم، المدخل إلى علم القانون (المطبعة الجديدة، دمشق 1977ـ 1978).

ـ أنطوان قسيس، المدخل للعلوم القانونية، (مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية، جامعـة حلب، 1966ـ1967).

ـ عبود السراج، قانون العقوبات (القسم العام) (دار المستقبل للطباعة، 1981ـ1982).

ـ محمود زكي شمس، الموسـوعة العربية للاجتهادات القضائية الجزائية، المجلد الخامس والعشرون (مطبعة الداودي، الطبعة الأولى، دمشق 2002).

ـ عبد الرزاق السنهوري وأحمد أبو ستيت، أصول القانون (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1946).

ـ سليمان مرقس، المدخل للعلوم القانونية (القسم الأول) (دار النشر للجامعات المصرية، الطبعة الثانية، القاهرة 1957).

ـ حسن كيرة، أصول القانون (دار المعارف، الطبعة الثانية، مصر 1959ـ1960).

ـ محمد علي عرفة، مبادئ العلوم القانونية (مكتبة عبد الله وهبة، مصر 1942).


التصنيف : القانون الخاص
النوع : القانون الخاص
المجلد: المجلد السادس: علم الفقه ــ المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان
رقم الصفحة ضمن المجلد : 475
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 803
الكل : 31663247
اليوم : 17829