logo

logo

logo

logo

logo

الشريعة الإسلامية

شريعه اسلاميه

Islamic law / Sharia - loi islamique / charia



الشريعة الإسلامية

الشريعة الإسلامية

محمد أبو الخير شكري

تعريف الشريعة الإسلامية

خصائص الشريعة الإسلامية

تاريخ التشريع الإسلامي

 

أولاً ـ تعريف الشريعة الإسلامية:

الشَّرْعُ في اللغة: مصدر شَرَعَ بالتخفيف، والتَّشْريعُ: مصدر شَرَّعَ بالتشديد، وشَرَعَ أي نهَجَ وأوضحَ وبيَّنَ المسالك، وشَرَّعَ لهم يُشَرِّعُ شَرْعاً أي سنَّ، قال عز وجل: }شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا{ [الشورى 13] وقال عز وجل : }أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ{ [الشورى 21]، والشَّريعَةُ لغةً: مورد الماء الذي يُقصد للشرب، تقول العرب: شَرَعَت الإبل، أي وردت مورد الماء، ثم استعملها العرب في المذهب والطريقة المستقيمة، قال الله تعالى: }ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمرِ فَاتَّبِعْهَا{ [الجاثية 18].

والشَّرْعُ في الاصطلاح الشرعي هو: ما شَرَّعَ الله لعباده من الدين أي من الأحكام المختلفة، وسُمِّيت هذه الأحكام شَريعَةً لاستقامتها ولشبهها بمورد الماء باعتبار أنه سبيل الحياة والسلامة للأبدان، وكذلك الشأن في الشَّريعَة فهي تهدي إلى الحق والخير وهي غذاء الأرواح، وفيها حياة للنفوس والعقول، وقال صاحب القاموس: الشَّريعة ما شرَّعه الله لعباده، وقال الراغب: الشَّرع: نهج الطريق الواضح، والشَّريعة والدِّين والملَّة بمعنى واحد، وهو ما شرَعه الله لعباده من أحكام، ولكن هذه الأحكام تُسمّى شريعةً باعتبار وضعها وبيانها واستقامتها، وتُسمى ديناً باعتبار الخضوع لها وعبادة الله بها، وتُسمى ملّةً باعتبار إملائها على الناس.

أما الإسلام: فمعناه الانقياد والاستسلام لله عز وجل، ثم خُصّ استعماله بالدين الذي أرسل الله به نبيه محمداًr، وبهذا المعنى وردت كلمة الإسلام في قوله عز وجل: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا{ [المائدة 3] وقوله تعالى: }وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ [آل عمران 85].

وعلى هذا فالتشريع الإسلامي في الاصطلاح الشرعي هو: الأحكام التي شرعها الله لعباده من العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات ونظم الحياة، سواء أكان تشريع هذه الأحكام بالقرآن أم بسنّة النبيr من قول أو فعل أو تقرير. والشريعة الإسلامية في لسان الفقهاء: هي الأحكام التي سنّها الله لعباده، ليكونوا مؤمنين عاملين على ما يسعدهم في الدنيا والآخرة. وسميت هذه الأحكام شريعة لأنها مستقيمة محكمة الوضع، لا ينحرف نظامها كالجادة المستقيمة.

ثانياً ـ خصائص الشريعة الإسلامية:

1ـ مصدرها هو الله عز وجل: للشريعة مصدران: القرآن الكريم والسنَّة النبوية، والقرآن الكريم هو وحي الله عز وجل إلى رسوله الكريمr باللفظ والمعنى، أما السنَّة فهي وحيه بالمعنى من دون اللفظ؛ لأن اللفظ من عند الرسولr.

وهو بهذا الاعتبار يختلف اختلافاً جوهرياً عن جميع الشرائع الوضعية لأن مصدر هذه الشرائع البشر، ومصدر التشريع الإسلامي ربّ البشر، وقد ترتب على هذا الخلاف الجوهري النتائج التالية:

أ ـ أن مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها خالية من معاني الجور والنقص والهوى لأن صانعها هو الله، والله له الكمال المطلق الذي هو من لوازم ذاته، بخلاف القوانين الوضعية التي لا تنفك عن هذه المعاني لأنها صادرة عن الإنسان، والإنسان لا يخلو من معاني الجهل والجور والنقص والهوى وما إلى ذلك.

ب ـ لأحكام الشريعة هيبة واحترام في نفوس المؤمنين بها حكاماً أو محكومين لأنها صادرة من عند الله ومن ثَمَّ فلها صفة الدين، وما له هذه الصفة من حقه أن يُحترم ويُطاع طاعة اختيارية تنبعث من النفس وتقوم على الإيمان ولا يُقسَرُ عليها الإنسان قسراً، وفي هذا كله ضمان لحسن تطبيق القانون الإسلامي من الجميع وعدم الخروج عليه ولو مع القدرة على ذلك، إضافةً إلى ذلك فهو دين يُتعبد به، فامتثاله طاعةٌ لله يُثاب المرء على فعلها، ومخالفته معصيةٌ يُعاقب عليها، أما القوانين الوضعية فإنها لا تبلغ مبلغ الشريعة في هذه الناحية أبداً؛ إذ ليس لها مثل سلطانها على النفوس ولا مقدار هيبة الناس لها واحترامهم، ومن ثم فإن النفوس تجرؤ على مخالفة القوانين الوضعية كلما استطاعت الإفلات من رقابة القانون وسلطة القضاء ورأت في هذه المخالفة إشباعاً لأهوائها وتحقيقاً لمصالحها، ولا ريب أن قيمة القانون تُقدَّر بصلاحه أولاً؛ وبمقدار احترام الناس له ومدى سلطانه على نفوسهم وطاعتهم لأحكامه ثانياً.

ج ـ بما أن الشريعة الإسلامية مصدرها من الله عز وجل فهي شريعة تتَّسم بالثبات ولا تخضع لتأثير الجماهير، فالمحُرَّم في التشريع الإسلامي يبقى محرَّماً، والواجب يبقى واجباً، ولا يخضع لرغبات جماهير الناس في تغييره أو تخفيفه أو حِلّه أو حرمته.

2ـ الجزاء في الشريعة الإسلامية دنيويٌّ وأخرويٌّ: الشريعة الإسلامية تتفق مع القوانين الوضعية في أن قواعدها وأحكامها تقترن بجزاء يوقَع على المخالف دنيوياً، ولكنها تختلف معها في أن الجزاء فيه أخروي ودنيوي، بل إن الأصل في ذلك هو الجزاء الأخروي، ولكن مقتضيات الحياة وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علاقات الأفراد على نحو واضح مؤثر وضمان حقوقهم، كل ذلك دعا إلى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيوي، وهذا الجزاء الدنيوي منه ما يكون جنائياً ومنه ما يكون مدنياً كما هو الحال في القوانين الوضعية، وإن كان نطاقه أوسع من نطاق الجزاء في القانون الوضعي نظراً لشمول القانون الإسلامي لجميع الأحوال ومنها الدينية والأخلاقية خلافاً للقانون الوضعي.

والجزاء الأخروي يترتب على كل مخالفة لأحكام الشريعة، سواءٌ أكانت من أعمال القلوب أم من أعمال الجوارح، وسواءٌ أكانت من مسائل المعاملات المالية أم من مسائل الجنايات وسواءٌ عوقب عليها الإنسان في الدنيا أم لم يُعاقب ما لم تقترن مخالفتها بتوبةٍ نصوحٍ وتحلُّلٍ من حقّ الغير، قال الله تعالى: }وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ{ [النساء 14] وقال عز وجل: }ِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ{ [المائدة 33] وقال عز وجل: }إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا{ [النساء 10].

3ـ العدل والمساواة: جاءت الشريعة الإسلامية بمبدأ المساواة بين الناس بغضِّ النظر عن اختلافهم في اللون أو الجنس أو اللغة، وجعلت أساس التفاضل بينهم العمل الصالح ومقدار ما يقدّمه الفرد من خير، قال الله تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{ (الحجرات 13).

وهذا المبدأ الأصيل جاءت به الشريعة الإسلامية في وقتٍ كانت العصبية للجنس والقبيلة هي الأساس في المجتمع وفي تمايز الناس وتفاضلهم، وقد طُبِّق هذا المبدأ العادل القويم واجتُثَّت جذور العصبية ولم يعد هناك امتيازٌ للون أو جنس (فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) [خطبة حجة الوداع] وصار الجميع متساوين أمام التشريع الإسلامي حتى إن الرسولr قال لمن استشفع للمخزومية التي سرقت: "وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا" (متفق عليه).

وقد بلغ تطبيق هذا المبدأ من الدقة إلى حدِّ أن النبيr أنكر على من قال لمسلم غير عربي (يا بن السوداء) وعدّ ذلك من بقايا الجاهلية وتفاخرها بالأنساب والأجناس.

4ـ عموم الشريعة الإسلامية وبقاؤها: الشريعة عامّةٌ لجميع البشر في كلّ مكانٍ وزمانٍ لأن مصدرها خالق الزمان والمكان العليم بما يصلح لهما، قال تعالى: }قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا{ [الأعراف 158] وقال تعالى: }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا{ [سبأ 28] وهي باقية لا يلحقها نسخٌ ولا تغيير، لأنَّ الناسخ يجب أن يكون بقوّة المنسوخ أو أقوى منه، فلا يَنسخ التشريعَ وهو تشريعٌ من الله إلا تشريعٌ آخرٌ من الله عز وجل، وحيث إنَّ الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، والنبيr هو خاتم النبيين، قال عز وجل: }مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّين{ [الأحزاب 40] فلا يُتصوَّر أن ينسخه أو يغيّره شيء.

وعموم الشريعة وبقاؤها وعدم قابليتها للنسخ والتبديل، كلّ ذلك يستلزم عقلاً أن تكون قواعدها وأحكامها على نحوٍ يحقّق مصالح الناس في كل عصر ومكان، وتفي بحاجاتهم ولا تضيق بها، ولا تتخلف عن أي مستوى عالٍ يبلغه المجتمع، وهذا كلّه متوافر في الشريعة الإسلامية؛ لأنَّ الله عز وجل ـ وهو العليم ـ جعلها عامّة في المكان والزمان وخاتمةً لجميع الشرائع، وهذا ما يدلُّ عليه واقع الشريعة ومصادرها وطبيعة مبادئها وأحكامها وما ابتنت عليه هذه الأحكام، أما القانون الوضعيّ فإنه يختصّ بالزمان والمكان؛ لأنه من وضعِ من يتغيرُ بتغيّر الزمان والمكان.

5ـ شمول الشريعة الإسلامية: فالشريعة نظامٌ شاملٌ لجميع شؤون الحياة، يرسم للإنسان سبيل الإيمان ويبيّن له أصول العقيدة وينظّم صلته بربه ويأمره بتزكية نفسه ويحكم علاقاته مع غيره، وهكذا لا يخرج من حكم الشريعة أيّ شيءٍ، وفي ضوء هذا الشمول يمكن تقسيم أحكام الشريعة إلى ثلاث مجموعات:

أ ـ الأحكام الاعتقادية: وهي المتعلّقة بالعقيدة وهي الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب السماوية والرسل الكرام والقضاء خيره وشره.

ب ـ الأحكام الأخلاقية: وهي المتعلّقة بالأخلاق كوجوب الصدق والأمانة والوفاء بالعهد وتحريم الكذب والخيانة ونقض العهد.

ج ـ الأحكام العملية: وهي المتعلقة بأقوال الإنسان وأفعاله في علاقاته مع غيره، وهي قسمان:

(1)ـ العبادات: كالصلاة والصيام والزكاة والمقصود بها تنظيم علاقة العبد بربه.

(2)ـ المعاملات أو العادات: ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم، وهذه تشمل جميع روابط القانون العام والخاص في الاصطلاح الحديث.

هذا الشمول الذي جاءت به الشريعة لا نظير له في القوانين الوضعية فهي لا تنظم مسائل العقيدة ولا الأخلاق ولا العبادات. وحتى في جانب المعاملات أو العادات الذي تناولته القوانين الوضعية بالتنظيم يتبين أن تنظيم الشريعة الإسلامية له جاء على نحو يميزها من القوانين الوضعية، فالجانب الأخلاقي مراعى في الشريعة مراعاةً تامّةً، ومن مظاهر هذه المراعاة تحريم الربا والميسر والزنى والعقاب عليها؛ ولزوم الوفاء بالعهود من قبل الدولة الإسلامية في علاقاتها مع الدول الأخرى في السلم والحرب؛ وعدم مجاراتها في الظلم، حتى لو أنها قتلت رعايا الدولة الإسلامية فيها؛ فلا يحلّ للدولة الإسلامية أن تقتل رعايا تلك الدول الداخلين إليها بأمان.

والجانب الديني ملاحَظ أيضاً في المعاملات بل هو عنصرٌ أصيلٌ فيها، فهو يكسب الفعل صفة الحلّ والحرمة؛ بناءً على حقيقته الباطنة ونية صاحبه وقصده، فالفعل قد يكون صحيحاً في ظاهره لاستيفائه شروط الصحة، ولكنه يعدّ حراماً لمخالفة حقيقته الباطنة ونية صاحبه أو قصده لما تأمر الشريعة به، كالذي يقصد بالنكاح تحليل المطلقة ثلاثاً لمطلقها، وكالذي يدَّعي دَيناً على آخر ظلماً ويثبت ذلك أمام القضاء، ويدلُّ على ذلك قول النبيr: "إنما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تختَصِمونَ إليَّ، ولَعلَّ بَعضَكُمْ أنْ يَكونَ ألحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فأقضِيَ لَهُ على نحوِ ما أسمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حقِّ أخيهِ شَيئاً فَلا يأخُذْهُ فإنما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ" (متفق عليه).

6ـ مبدأ الشورى: جاءت الشريعة الإسلامية بمبدأ الشورى في نظام الحكم في الإسلام، ويعد هذا المبدأ مبدأً مهماً ويهدف إلى تحرّي المصلحة العامة ومشاركة الأمة للقائد في اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤون الحكم؛ إذ تظهر أفضل الحلول للمسائل في الشورى من خلال مقابلة الآراء بعضها ببعض ونقدها وتمحيصها وإظهار أسباب الخلاف وإيجابيات كل رأي وسلبياته، وتبرز ضرورة الشورى في أنها تساعد على ترابط المجتمع المسلم واتحاده، لإحساس أفراده بقيمتهم في اتخاذ القرار، وتساعد كذلك على التزام المسلمين بطاعة أولي الأمر منهم الذين أتاحوا لهم فرصة تداول الرأي في الأمور العامة، وكانت الشورى إحدى دعائم الحكم في العهد النبوي، فقد أمر الله عز وجل رسوله بمشاورة المسلمين بقوله تعالى }وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ{ [آل عمران 159]، وقوله عز رجل }وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ{ [الشورى 38].

وها هو ذا أبو بكر الصديق يقول في خطبة تولِّيه: "أيها الناس إني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني" فيضع بذلك قاعدةً مهمّةً لتحديد سلطة رئيس الدولة لكي تكون دستوراً لمن يجيء من بعده؛ منعاً للاستبداد بالرأي والتسلّط في مصائر الناس؛ من دون رقابةٍ وتقويمٍ من الأمة المحكومة بشرع الله ودينه.

7ـ الوسطيّة في الشريعة الإسلامية: لا شكّ بأنَّ الشريعة الإسلامية هي الشريعة الوسطى والكاملة بين الشرائع، ولذلك أهميته الكبرى؛ لأن الشريعة الملزمة في كتاب الله وسنة رسولهr هي الأساس في وحدة الأمة الفكرية والنفسية والعملية، ولذلك فإنَّ الوسطيّة تبدو في حقيقتها وفي أكمل صورها في النصوص الشرعية ذاتها.

والفقه الإسلامي في جملته ـ الذي هو عمل بشري واجتهاد في أحكام الشرع ـ يستلهم تلك الوسطية المثلى القائمة في النصوص، كما يبدو المنهاج الوسط في الإقرار بحق الفرد في المال؛ إلى جانب الاعتراف بأن للجماعة فيه حقاً مقدراً أو محدداً يخصص لفقراء الجماعة، وهو الزكاة: }وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ{ [الذاريات 19] }وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ٭لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ{ [المعارج 24 و25].

ذلك هو المنهاج الأمثل الذي يحفظ مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، ويوازن بينهما موازنة عزَّت على أصحاب المذاهب والنظريات البشرية قديماَ وحديثاً.

إنَّ الموازنة واضحةٌ في الشريعة الإسلامية بين حقوق الله وحقوق العباد، مع أن الله عز وجل هو المالك لكل شيء.

وفي الشريعة الإسلامية موازنةٌ دقيقةٌ بين التكليف وبين الاستطاعة، فلا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها، والمشقّة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات.

ثالثاً ـ تاريخ التشريع الإسلامي:

الأدوار التي مرَّ بها التشريع الإسلامي:

إنَّ التشريع الإسلامي كالكائن الحي، فقد مرَّ بأدوارٍ مختلفةٍ وأطوارٍ متنوعةٍ، ولكل دورٍ من هذه الأدوار صفاته وخصائصه المميِّزة له، وقد حصر كثيرٌ من العلماء هذه الأدوار في أربعة وهي:

1ـ الدور الأول: عصر الرسولr وهو عهد الإنشاء والتكوين.

2ـ الدور الثاني: عصر الصحابة وهو عهد التفسير والتكميل.

3ـ الدور الثالث: عصر التدوين والأئمة المجتهدين وهو عهد النمو والنضج التشريعي.

4ـ الدور الرابع: عصر التقليد وهو عهد الجمود والوقوف.

1ـ الدور الأول: التشريعُ في عهد الرسولr:

أرسل الله تعالى نبيه محمداًr إلى الناس كافّةً، يبلِّغهم رسالة الله إلى البشرية، فقد كان العرب والعالم في حالةٍ من الفوضى في التشريع؛ إذ كان يسود العالم قبل بعثته أنظمةٌ قائمةٌ على الفسق والظلم والطبقية، فاقتضت رحمة الله عز وجل أن يرسل إليهم رسالةً تنير لهم الطريق وتوضِّح لهم معالم الحق.

إن هذا التشريع الذي أنزله الله على رسوله لم ينزل دفعةً واحدةً، بل نزل على فتراتٍ متعاقبةٍ أو متباعدةٍ، بعضها ينزل بياناً لحكم واقعة من الوقائع وبعضها جواباً لسؤال.

وكانت الحكمة من نزول التشريع على فترات أن يكون ذلك رحمةً بالعباد ومراعاة لتطوّر الأمة وتيسيراً لحفظه؛ إذ كان العرب لا يقرؤون ولا يكتبون.

ولا شكّ أن الهدف الرئيس من التشريع الإسلامي هو إسعاد البشرية وإخراجها من الفوضى إلى النظام، وقد تجلّى ذلك في ثلاثة محاور:

أ ـ تنظيم علاقة الإنسان بخالقه: وذلك عن طريق العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الطاعات.

ب ـ تنظيم علاقة الإنسان مع نفسه: حثَّ الإسلام على إعطاء النفس حقّها وعدم إرهاقها أو إزهاقها، فقد قالr: "إنَّ لنفسِكَ عليكَ حَقّاً وإنَّ لجَسَدِكَ عليكَ حَقّاً" [رواه الترمذي]. وطالب القرآن بتزكية النفس في قوله تعالى }قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا https://arab-ency.com.sy/law/details/25738/7# وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا{ [الشمس 9ـ10] أي أهملها فلم يهذبها.

ج ـ تنظيم علاقة الإنسان مع غيره ممن يشاركه في إقامة حياةٍ اجتماعيةٍ، لذا كان لا بدّ من تنظيمٍ يُعرِّفه ما له وما عليه في علاقاته مع الآخرين لتقوم الحياة ويعمر الكون.

مدة التشريع في عهد الرسولr:

لقد بعث الله نبيّه محمداًr على رأس الأربعين من عمره، ثم توفّاه إليه وعمره ثلاث وستون سنة، وعلى هذا تكون مدّة التشريع نحواً من ثلاثٍ وعشرين سنة، قسمٌ منها كان قبل الهجرة في مكة، وقسمٌ منها كان في المدينة المنورة بعد الهجرة، وقسم فيما بينهما، ولكلٍّ من هذه الأقسام المتبلورة في شطرين خصائص وميّزات عُرفَت بخصائص المكّي والمدني في التشريع، من ذلك أنَّ القسم المكّي ركَّز على التوحيد والتحلّي بمكارم الأخلاق والإيمان باليوم الآخر، أما المدني فقد ركَّز على الفرائض والحدود وتنظيم المعاملات.

مصادر التشريع في عهد الرسولr:

(1)ـ القرآن الكريم: وهو الكتاب المنزَّل على سيدنا محمدr باللفظ العربي المعجز، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا بالتواتر، المتعبَّد بتلاوته.

(2)ـ السنَّة النبويَّة: وهي ما أُثر عن النبيr من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، ووظيفتها تأكيدُ ما جاء في القرآن الكريم؛ أو بيان ما جاء في القرآن؛ أو تشريعُ أمورٍ لم ينصّ عليها القرآن صراحةً.

أسس التشريع في عهد الرسولr:

روعيَ في التشريع في العصر النبوي عدّة أسس وهي:

(1)ـ التدرُّج في التشريع: إذ إنَّ الأحكام التي شرَّعها الله عز وجل ورسولهr لم تُشرَّع دفعةً واحدةً في قانونٍ واحدٍ، وإنما شُرعت متفرّقةً في مدّة ثلاثةٍ وعشرين عاماً.

(2)ـ التقليل في التقنين: فقد امتازت الشريعة الإسلامية عما تقدَّمها بقلّة التكاليف.

(3)ـ التيسير والتخفيف ورفع الحرج: إنَّ الناظر إلى أحكام التشريع الإسلامي ليلمس فيها بوضوح ظاهر اليسر وعدم الحرج، قال الله تعالى: }يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ{ [البقرة 185] وقال عز وجل: }وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج{ [الحج 78].

(4)ـ رعاية التشريع الإسلامي للمصالح: ويتجلى هدف التشريع في تأمين مصلحة الناس ورفع الأذى عنهم، وبعبارةٍ أخرى: جلب المصالح ودرء المفاسد.

وقد خلَّف النبي الكريمr وراءه مجموعة من الآيات القرآنية تُقدَّر بنحو ثلاثمئة وأربعين آية في الأحكام من مجموع ستة آلاف ومئتين وست وثلاثين آية، إضافةً إلى نحو أربعة آلاف وخمسمئة حديث نبوي في الأحكام من مجموع أحاديثهr كما ذكر ذلك ابن قيم الجوزية في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين".

2ـ الدور الثاني: عصرُ الصحابة رضوان الله عليهم:

مـدته:

ابتدأ هذا العهد بوفاة رسول اللهr سنة إحدى عشرة من الهجرة وانتهى في أواخر القرن الأول الهجري فتكون مدّة هذا العهد ما يقرب من تسعين سنة.

مَنْ تولَّى سلطةَ التشريع في هذا العصر:

اشتهر في هذا العصر كثيرٌ من الصحابة المجتهدين في مختلف الأصقاع

ففي المدينة المنورة: كان الخلفاء الراشدون الأربعة (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي) وزيد بن ثابت وأُبي بن كعب وعبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.

وفي مكة: عبد الله بن العباسt.

وفي الكوفة: علي بن أبي طالبt وعبد الله بن مسعودt.

وفي البصرة: أنس بن مالك وأبو موسى الأشعريt.

وفي الشام: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامتt.

وفي مصر: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

وكانت خطة هؤلاء المجتهدين الرجوع إلى القرآن الكريم ثم إلى السنَّة المطهرة ثم إلى الاجتهاد، وفي هذا العصر جمع أبو بكر الصديقt القرآن الكريم في كتابٍ واحدٍ، ثم نسخه عثمان بن عفانt ستَّ نسخٍ وزَّعها على الأمصار، وقد ظهر في هذا العصر اختلافٌ في الأحكام الاجتهادية بين فقهاء الصحابة، وكان لهذا الاختلاف أسباب.

أسبابُ اختلافِ الصحابة في استنباط الأحكام:

(1)ـ تفاوتهم في الاطلاع على السنَّة: إذ لم تكن السنَّة مدوَّنة ولم تُنشر بين المسلمين لتكون مرجعاً لهم، فربما اطّلع أحدهم على حديثٍ في المدينة ولم يطّلع عليه الآخر في الشام، فكان كلٌّ منهم يفتي بما وصل إليه علمه.

(2)ـ بعض النصوص غير قطعيّة الدلالة: فقد كان بعض النصوص القرآنية والنبوية ظنية الدلالة تحتمل عدة أوجه يفسّرها كلٌّ منهم حسب ما ترجَّح لديه.

(3)ـ اختلاف البيئات والمصالح والحاجات: فكان كلٌّ منهم يفتي على حسب ما يواجهه وما يقدِّره من المصالح.

ما خلَّفه الصحابةُ من آثار تشريعية:

خلَّف الصحابة رضوان الله عليهم ثلاثة آثار تشريعية:

(1)ـ شرحٌ قانونيٌّ لنصوص الأحكام من القرآن الكريم والسنَّة النبوية مستندين إلى ملَكتهم اللسانية العربية، وملَكتهم التشريعية، واطلاعهم على حكمة التشريع، ومعرفتهم بأسباب النزول للآيات القرآنية وأسباب الورود للأحاديث النبوية.

(2)ـ عدّة فتاوى اجتهادية صدرت عن الصحابة في وقائعَ لا نصَّ فيها كاجتهادهم في مسألة الجدِّ والإخوة في الميراث، ومسألة قتل الجماعة بالواحد.

(3)ـ انقسام حزبي ابتدأ سياسياً في شأن الخلافة والخليفة ثم تحوَّل إلى انقسام ديني، كلُّ حزبٍ له آراؤه وفقهه، وهؤلاء الأحزاب الثلاثة هم: الخوارج، الشيعة، أهل السنَّة.

3ـ الدور الثالث: عصرُ التدوين والأئمَّة المجتهدين:

مـدته:

من أوائل القرن الثاني الهجري، وانتهاؤه منتصف القرن الرابع الهجري، فمدّته على وجه التقريب مئتان وخمسون سنة.

وسُمِّي بهذا الاسم؛ لأن حركة التدوين قد نشطت فيه، فدُوِّنَت فيه السنَّة وفتاوى المفتين، وأُلِّفت موسوعات في تفسير القرآن الكريم، وأُلِّفَتْ كتبٌ في علم أصول الفقه كرسالة الإمام الشافعي.

ويُعدّ هذا العصرُ العصرَ الذهبي للتشريع الإسلامي، فقد نما فيه ونضج وأثمر ثروةً تشريعيةً أغنت الدولة الإسلامية بالقوانين والأحكام على سعة أرجائها واختلاف شؤونها وبقدر مصالحها.

أسباب نمو الفقه في هذا العصر:

(1)ـ اتساع رقعة الدولة الإسلامية حيث شملت تحت جناحيها أمماً من أجناس شتى من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، وشملت مختلف الأجناس والألوان واللغات، وبطبيعة ذلك تختلف عاداتهم ومعاملاتهم ومصالحهم وحاجاتهم، ولا بدَّ لذلك من قوانين مستمدّة من القرآن والسنَّة ومصادر التشريع الأخرى وروح التشريع، واستنبط الفقهاء منها أحكاماً تعالج ما طرأ من المشكلات والحوادث، وبهذا اتسعت دائرة الفقه الإسلامي، فلم يضق بحاجة ولم يقصر عن مصلحة.

(2)ـ سهولة الرجوع إلى المصادر: فقد جُمِعَ القرآن الكريم والسنَّة النبوية وأصبحت محفوظةً متداولةً بين الرواة، وكذلك آثار السلف في تفسير النصوص والفتاوى، كلُّ ذلك كان سبباً في وفرة إنتاجهم العلمي.

(3)ـ حرص المسلمين على التمسُّك بدينهم: فالمسلمون في هذا العصر كانوا شديدي الحرص على أن تكون جميع أعمالهم من عباداتٍ ومعاملاتٍ موافقةً لأحكام الشريعة الإسلامية.

(4)ـ وجود ملَكاتٍ ومواهبَ واستعداداتٍ ومجالاتٍ: فقد نشأ في هذا العصر أعلامٌ لهم مواهبهم واستعداداتهم، وتكوَّنت لديهم الملَكة التشريعية كأصحاب المذاهب الأربعة وتلامذتهم وغيرهم من الأئمة والمجتهدين.

(5)ـ عناية الخلفاء بالفقه والفقهاء: إذ لم يقتصر هَمُّ الخلفاء على نواحي السياسة فحسب؛ بل غلبت عليهم النزعة الدينية، وحفُّوا الفقهاء بالرعاية والعناية، وقد كان لهذه العناية أثرٌ واضحٌ في النشاط العلمي والتأليف والتدوين.

(6)ـ حرية الرأي: كان من أسباب النشاط الفقهي بين العلماء ما يتمتعون به من حرية الرأي في البحث العلمي، ولا يحجر على رأي أحد ما دام يستقي علمه من المصادر التشريعية، وما دام أهلاً للاجتهاد.

أشهر الفقهاء في هذا العصر:

من أشهرهم فقهاء المدينة السبعة وهم:

(1)ـ سعيد بن المسيب.

(2)ـ أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

(3)ـ عروة بن الزبير.

(4)ـ عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود.

(5)ـ خارجة بن زيد بن ثابت.

(6)ـ سليمان بن يسار.

(7)ـ القاسم بن محمد بن أبي بكر.

وكذلك: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جَبْر، وسفيان بن عُيينة، والإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، وشُريح القاضي، وإبراهيم النخعي، وحمَّاد بن أبي سليمان، وغيرهم.

مصادر التشريع في هذا العصر:

هي القرآن الكريم والسنَّة المطهرة والإجماع واجتهادات العلماء والمجتهدين، لكن في هذا العصر طرأ طارئان على القرآن الكريم، كان لهما أثرهما في حفظه وضبطه وصونه من أي تحريف:

أحدهما: عناية طائفة من المسلمين بالقرآن الكريم بحفظه جميعه وتلقينه للحُفَّاظ من بعدهم، وأشهر هؤلاء: القرَّاء السبعة.

وثانيهما: شكل حروف المصحف وتنقيط كلماته وحركات الحروف من فتحةٍ وضمَّةٍ وكسرةٍ وسكونٍ…إلخ؛ على يد الحجاج بن يوسف الثقفي.

وأما السنَّة النبوية: فقد تمَّ البدء بتدوينها بأسلوب منهجي في زمن عمر بن عبد العزيز، وتتابع نشاط التأليف في الحديث وتدوينه، ففي سنة 140هـ دوَّن الإمام مالك موطأه، وفي القرن الثاني دوَّن أصحاب المسانيد مسانيدهم التي تُجمَع فيها الأحاديث حسب الرواة، وفي القرن الثالث دُوِّنت كتب صحاح السنَّة وهي: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن الترمذي، سنن النسائي، سنن ابن ماجه، وهي كتبٌ دُوِّنَت حسب أبواب الفقه.

أسباب الاختلاف بين الأئمة والفقهاء في استنباط الأحكام:

(1)ـ اختلافهم في مدى الوثوق بالسنَّة والميزان الذي تُرجَّح به روايةٌ على روايةٍ.

(2)ـ اختلافهم في قبول فتاوى الصحابة وتقديرها التي مبعثها الرأي والاجتهاد، مما لم يتفق عليه الصحابة، وفي غير الأمور التعبدية والمقدرات الشرعية؛ فالحنفية يحتجُّون بها من غير تقيّدٍ بواحدٍ منهم غير أنهم لا يخرجون عنهم جميعاً، والشافعية يرون فتاوى الصحابة فتاوى اجتهاديةً فرديةً صادرةً عن غير معصومين.

(3)ـ اختلافهم في الاحتجاج بالقياس: فبعض المجتهدين من الشيعة والظاهرية أنكروا الاحتجاج بالقياس، في حين ذهب الجمهور من الأئمة المجتهدين إلى الاحتجاج به وعدُّوه مصدراً تشريعياً.

(4)ـ اختلافهم في بعض المبادئ الأصولية: مثل مفهوم المخالفة، ودلالة العام على أفراده، وحمل المطلق على المقيد..

(5)ـ اختلافهم في النزعة التشريعية: إذ ظهر انقسامهم إلى مدرستين: مدرسة أهل الحديث وهم أكثر مجتهدي الحجاز، ومدرسة أهل الرأي وهم أكثر مجتهدي العراق.

الآثار التشريعية لهذا العصر:

من أهم ما خلَّفه هذا العصر من الآثار التشريعية:

(1)ـ صحاح السنَّة.

(2)ـ تدوين الفقه وأحكامه:

> في المذهب الحنفي: كتب ظاهر الرواية الستة التي رواها محمد بن الحسن الشيباني عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وجمعها كتاب "الكافي" للحاكم الشهيد.

> في المذهب الشافعي: كتاب "الأم" الذي أملاه الإمام الشافعي على تلامذته بمصر. وصنفه تلميذه الربيع بن سليمان المرادي على النحو المتداول.

> في المذهب المالكي: كتاب "المدونة" التي رواها سحنون عن القاسم عن الإمام مالك.

(3)ـ تدوين علم أصول الفقه: وأول من دوَّن العلم في سِفر مستقل هو الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة".

(4)ـ نشوء علم مصطلح الحديث ووضع قواعد الجرح والتعديل.

4ـ الدور الرابع: عصـرُ التقليـد:

مـدته:

ابتدأ هذا العصر من منتصف القرن الرابع الهجري واستمر إلى هذا العصر.

حالة التشريع في هذا العصر:

وقوف حركة الاجتهاد وظهور التقليد.

والمقلِّدون طبقةٌ من الناس لم يشتغلوا بدراسة الكتاب والسنَّة دراسةً تؤهِّلهم للاستنباط، فهؤلاء كانوا إذا نزلت بهم نازلةٌ هرعوا إلى فقيهٍ من فقهاء بلدهم يستفتونه فيما نزل بهم فيفتيهم.

عمل العلماء في هذا الدور:

(1)ـ جمع الآثار وترجيح الروايات بعضها على بعض.

(2)ـ تخريج علل الأحكام.

(3)ـ استخراج القواعد الأصولية التي بنى عليها المجتهدون مذاهبهم.

(4)ـ الترجيح بين الآراء الفقهية في المذهب الواحد.

أسباب جمود حركة الاجتهاد في هذا العصر:

(1)ـ انقسام الدولة الإسلامية إلى عدّة ممالك وتناحر ملوكها فدبَّ الانحلال والضعف في العلوم والفنون.

(2)ـ التعصب المذهبي؛ إذ بات العلماء يرجعون إلى مذاهبهم ويتعصَّبون لها مما أضعف حركة الاجتهاد.

(3)ـ عدم وجود نظام للسلطة التشريعية، مما جرَّأ كثيراً من الناس على الاجتهاد ممن ليسوا أهلاً له، ودبَّت الفوضى في التشريع والاجتهاد.

(4)ـ أمراض خلُقية فشت بين العلماء مثل التحاسد والأنانية وتسفيه آراء الآخرين.

(5)ـ تدوين المذاهب: الذي كان سبباً في استغنائهم عن البحث والاجتهاد من جديد.

(6)ـ ثقة الناس بالمذاهب، فأصبح الناس يعدّون المذاهب أسلم لديهم وأبعد عن السير مع الأهواء.

وقد امتدَّ عصر التقليد إلى هذا العصر وظنَّ كثير من المسلمين أنَّ باب الاجتهاد قد أُغلق، لكنه لم ولن يُغلق أبداً، ولكن أين المجتهد الذي تنطبق عليه صفات المجتهدين ممّن يتصدّى للاجتهاد واستنباط الأحكام من الأدلة وفق ضوابطَ وقواعدَ أصوليةٍ ثابتةٍ، وضعَها علماء الأصول وتلقَّتها الأمةُ بالقبول.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ منّاع القطان، تاريخ التشريع الإسلامي (مؤسسة الرسالة، بيروت 2001م).

ـ محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي (دار إحياء التراث العربي، بيروت 1960م).

ـ عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه (دار القلم، دمشق 1983م).

ـ عبد الوهاب خلاف، مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصَّ فيه (دار القلم، دمشق 1982م).

ـ محمد سعيد رمضان البوطي ورفاقه، تاريخ التشريع الإسلامي (منشورات وزارة الأوقاف، دمشق 2008م).

ـ مصطفى الخن، دراسة تاريخية للفقه وأصوله (الشركة المتحدة للتوزيع، دمشق 2002م).

ـ محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي (دار الفرفور، دمشق 2002م).

ـ عبد الكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية (دار عمر بن الخطاب، الإسكندرية 1969م).


التصنيف : العلوم الشرعية
النوع : العلوم الشرعية
المجلد: المجلد السابع: المحكمة الجنائية الدولية _ ولاية المظالم في الإسلام
رقم الصفحة ضمن المجلد : 130
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 901
الكل : 32995372
اليوم : 95595