logo

logo

logo

logo

logo

الجريمة المنظمة

جريمه منظمه

organized crime - crime organisé

 الجريمة المنظمة

الجريمة المنظمة

ماهر ملندي

تعريف الجريمة المنظمة

تطور الجريمة المنظمة

خصائص الجريمة المنظمة:

آثار الجريمة المنظمة

مكافحة الجريمة المنظمة

   

ارتبط مفهوم الجريمة المنظمة بتطور الحياة الإنسانية وتأثرها بالمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فانتقلت الجريمة، بأشكالها البسيطة وعناصرها الأولية، إلى مرحلة التنظيم العابر للحدود، وخصوصاً بعدما تعقدت المصالح وتشابكت فيما بينها، فبرزت إلى الوجود ما يسمى منذ أواسط القرن العشرين بالجريمة المنظمة التي ارتبط اسمها بجميع الممارسات اللا أخلاقية المهددة للقيم والعادات الإنسانية وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ونظراً لخطورة هذه الظاهرة المتنامية، بذلت الكثير من الدول والهيئات الدولية جهوداً مضنية في التصدي لها ومكافحتها على جميع الصعد، الوطنية والدولية، ومحاولة تلافي آثارها الخطيرة، والمتمثلة في إضعاف كيان الدولة وسلطتها والانحراف بالقيم والتوازن الأخلاقي للفرد والمجتمع.

أولاً- تعريف الجريمة المنظمة:

تعدَّدت التعريفات المتعلقة بالجريمة المنظمة؛ نظراً لتداخل أنشطتها الإجرامية وتنوع خواصها وعناصرها. وعليه؛ فمن الصعوبة بمكان إيجاد تعريف علمي، جامع وشامل ودقيق لها، ويحيط بجميع جوانبها، وخاصة ما يتعلق بالجانب القانوني منها. إذ يرِّكز الفقه «الأنكلوساكسوني» على فكرة التنظيم الإجرامي كي يتم تمييز الجريمة المنظمة من غيرها من الجرائم الأخرى، أي اتفاق مجموعة من المجرمين المحترفين على تشكيل عصابة منظمة فيما بينهم، متسلسلة هرمياً؛ لارتكاب أعمال غير مشروعة. أما الفقه اللاتيني فيعتمد ما يدعى بالتعريف الوصفي للجريمة المنظمة، أي الإشارة إلى ما يعدُّ شائعاً ومعروفاً من وقائع وظواهر إجرامية تختلف بعناصرها وخطورتها عن الجرائم العادية، مثل جرائم غسيل الأموال وتجارة السلاح والأعضاء البشرية والجرائم الإلكترونية وغيرها من الجرائم الأخرى التي ترتكبها بعض التنظيمات الإجرامية الخطرة، كعصابات المافيا في إيطاليا. وبين هذين الاتجاهين، الواسع والضيق، في تعريف الجريمة المنظمة وتحديد عناصرها، ثمة عدد آخر من التعريفات المدونة في متن الكثير من التشريعات الداخلية للدول والصكوك المعتمدة على الصعيد الدولي.

1- تعريف الجريمة المنظمة في التشريعات الوطنية:

تمسكت الكثير من الدول بالأحكام العامة التقليدية المنصوص عليها في قوانينها الجزائية، من أجل تحديد الأفعال غير المشروعة التي تدخل ضمن نطاق الجريمة المنظمة، في حين أقرَّت دول أخرى تشريعات جنائية خاصة أو استثنائية لمكافحة الجريمة المنظمة بعدما انتشرت، وغدت ظاهرة خطرة في المجتمعات؛ لاقتناعها بعدم كفاية القواعد التقليدية للتجريم والمسؤولية الجنائية في قمع هذا النمط المتصاعد من الجرائم الخطرة.

فعلى سبيل المثال، نصت المادة /416/ من التقنين الجزائي الإيطالي على ضرورة توافر عنصر التنظيم في توصيف الجريمة المنظمة، ولكن المشرِّع الإيطالي ما لبث أن أضاف المادتين /416 مكرر 1 و2/ اللتين تعاقبان على مجرد الانتساب إلى تنظيم إجرامي يشجِّع أو يُدير أو ينظم جماعة إجرامية مكوَّنة من ثلاثة أشخاص أو أكثر، على نمط المافيا. واعتبر المشرِّع الإيطالي أن المافيا هي مجموعة منظمِّة من الأشخاص المرتبطين فيما بينهم بعلاقات وثيقة، متسلسلة هرمياً، وتلتزم الصمت والسرية والطاعة المطلقة، كما تستخدم أسلوب التهديد والعنف لارتكاب جرائمها الهادفة إلى السيطرة على إدارة الدولة أو الغير أو لمنع ممارسة حق التصويت أو لجمع الأموال، وتشدَّد العقوبة بحق التنظيم الإجرامي فيما إذا حمل أعضاؤه السلاح أو المتفجرات بشكل ظاهر أو مستتر، أو تم تمويل نشاطات التنظيم كلياً أو جزئياً من العوائد غير المشروعة الناجمة عن ارتكاب جرائم. وهكذا فإن المشرَّع الإيطالي قد اتخَّذ من عصابات المافيا نموذجاً يحتذى به لتعريف الجرائم المنظمة والعقاب عليها.

بالمقابل، اكتفى المشرِّع في الولايات المتحدة الأمريكية بالأحكام العامة للتجريم والعقاب، وفق الأحكام العامة التقليدية للمسؤولية الجزائية. وكما هو سائد لدى معظم التشريعات الأنكلوساكسونية، التي تعاقب كل من ساعد أو حرَّض أو نصح أو أمر أو أوصى أو وكَّل أو أجَّر شخصاً ما لارتكاب جريمة معينة، وقام بهذا الفعل عن رغبة وإرادة. أي إن المشرَّع الأمريكي اتخذ من توافر القصد الجرمي شرطاً ضرورياً لتحمل المسؤولية وفرض العقاب، بغض النظر عن وجود عنصر التنظيم في ارتكاب الجريمة. ويُسأل الفرد أيضاً عن مجرد اتفاقه مع الآخرين لارتكاب جريمة ما، وسواء تم تنفيذ الفعل الإجرامي المتفق على ارتكابه أم لا، حتى ولو كان لايزال في مرحلة الإعداد والتحضير. ومع ذلك، يعفى هذا الشخص من المسؤولية  إذا تعاون مع الادعاء العام على تقديم الدليل لإدانة الآخرين في ارتكاب جريمة ما عبر الاتفاق المسبق فيما بينهم، وهذا ما قد يُثير الشكوك أحياناً في صحة الأدلة المقدَّمة للادعاء العام الذي يعتمد غالباً على القرائن والشبهات الظرفية وغير المعلنة.

وقد صدر في الولايات المتحدة الأمريكية ما يُعرف بقانون ريكو لعام 1970 الخاص بقمع الجرائم المنظمة، التي عَّرفها هذا القانون بأنها انخراط أكثر من شخص لارتكاب أفعال جرمية أو التهديد بارتكابها، وتتعلق بجرائم القتل والخطف والسرقة والابتزاز والأفعال المخلة بالأخلاق والصحة العامة وغيرها من الأنشطة الإجرامية الأخرى المعاقب عليها بموجب القوانين الفدرالية النافذة. ويحظِّر هذا القانون على أي فرد أن يحصل على منفعة أو دخل ناجم عن نشاطات اقتصادية تسعى إليها جماعات الجريمة المنظمة. كما صدر في عام 1986 القانون الأمريكي لمكافحة جرائم غسيل الأموال، وهنا عمل المشرِّع على توسيع نطاق المسؤولية الجزائية بحيث تصل إلى أولئك الذين يسهمون مباشرة في ارتكاب العمل الإجرامي المنظم أو يحصلون على عوائده غير المشروعة أو يحاولون إخفاء مصدر هذه العوائد وتحويل طبيعتها غير المشروعة، وهذا ما يشكِّل في معظم الأحيان أحد أشكال الجريمة المنظمة.

ومن جهة أخرى، يلاحظ أن معظم التشريعات لدى الدول العربية، لم تخرج عن القواعد العامة التقليدية للمسؤولية الجزائية والعقاب في تطبيقها على الجرائم المنظمة. فقد اكتفت هذه التشريعات بتطبيق قواعد المساهمة أو المشاركة الجنائية، ولم تفرِّق بين الفاعل والشريك، فإذا ما قام عدد من الأشخاص بارتكاب جريمة واحدة وأسهموا مباشرة باقتراف أحد أفعالها، اعتبروا جميعاً فاعلين وشركاء في آن معاً (المواد 211- 218 من قانون العقوبات السوري، والمواد 39-44 من قانون العقوبات المصري، والمواد 41-46 من قانون العقوبات الجزائري، والمواد 23 - 35 من قانون العقوبات التونسي، والمواد 47-55 من قانون العقوبات الكويتي…). وقد وردت في المادة /33/ من قانون مكافحة المخدرات المصري لعام 1989 نصوص تُعاقب كل من يشكّل عصابة أو يديرها أو يسهم في إدارتها أو تنظيمها أو يكون عضواً في عمليات غير مشروعة ذات أهداف تجارية أو يوزّع المخدرات من أجل استهلاكها، ويرتكب هذه الجرائم خارج أو داخل البلاد. كما نصت المادة /86/ من القانون المصري لمكافحة الإرهاب الصادر عام 1992 على تجريم كل من يشكلّ أو يُدير أو ينظم جمعية أو عصابة مخالفة للقانون بهدف الدعوة إلى منع تطبيق أحكام الدستور أو القوانين أو يضع العراقيل أمام مؤسسات الدولة أو أجهزة الخدمة العامة أو ينتهك القواعد المدنية أو الحقوق والحريات العامة التي تكفلها قواعد الدستور والقوانين، أو يعتدي على الوحدة القومية والسلم الاجتماعي. وقد أشارت المادة /306/ من قانون العقوبات السوري لعام 1949 على تجريم ومعاقبة كل من يسهم في إنشاء جمعية أو منظمة إرهابية تهدف إلى تغيير كيان الدولة الاقتصادي أو الاجتماعي أو أوضاع المجتمع الأساسية بإحدى وسائل العنف المنصوص عليها في المادة /304/ من قانون العقوبات السوري.

2- تعريف الجريمة المنظمة في الصكوك الدولية:

تعدَّدت التعريفات للجريمة المنظمة في الوثائق الصادرة عن المؤتمرات واللقاءات الدولية، على الرغم من قناعة معظم فقهاء القانون الجزائي والمشرِّعين بتوافر أحكام عامة في التشريعات الوطنية تجرِّم فعل الاتفاق أو الإسهام في تشكيل جماعات منظمة لارتكاب جرائم أو أعمال غير مشروعة.

ومن أهم هذه التعريفات ما انتهى إليه المؤتمر الخامس للأمم المتحدة حول مكافحة الجريمة، الذي انعقد في جنيڤ عام 1975 عندما أشار إلى أن «الجريمة المنظمة تتضمَّن نشاطاً إجرامياً معقداً وعلى نطاق واسع، تنفّذه مجموعات من الأشخاص على درجة من التنظيم، وتهدف إلى تحقيق الثراء للمشتركين فيها على حساب المجتمع وأفراده، وهي غالباً ما تتم عن طريق التجاهل التام للقانون، وتتضمن جرائم تهدد الأشخاص، وتكون مرتبطة في بعض الأحيان بالفساد السياسي».

كما جاء في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أمام المؤتمر الثامن لمكافحة الجريمة الذي انعقد في هاڤانا (كوبا) عام 1990 بأنه «درجت العادة على استخدام مصطلح الجريمة المنظمة للإشارة إلى الأنشطة الإجرامية الواسعة النطاق والمعقّدة، التي تضطلع بها جمعيات ذات تنظيم قد يكون محكماً وقد لايكون، ويستهدف إقامة أو تمويل أو استغلال أسواق غير مشروعة على حساب المجتمع. وتنفّذ هذه الأعمال عموماً بازدراء القانون وبقلوب متحجرة، وهي تشمل في كثير من الأحيان جرائم بحق الأشخاص، بما فيها اللجوء إلى التهديد والإكراه والتخويف والعنف الجسدي، كما ترتبط بإفساد الشخصيات العامة والسياسية بواسطة الرشوة والتآمر، وكثيراً ما تتجاوز أنشطة الإجرام المنظّم الحدود الوطنية للدول».

ومن جهته، أفاد المؤتمر الوزاري الدولي المخصص للجريمة المنظمة، الذي انعقد في نابولي بإيطاليا عام 1994 بأن الجريمة المنظمة هي «تجمُّع لعصابات تهدف إلى القيام بنشاطات إجرامية، وتعتمد سواء على التنظيم الهرمي في العلاقات بين أعضائه، أو على الروابط الشخصية التي تسمح لبعض الأشخاص بقيادة الجماعة الإجرامية عبر استخدام أساليب العنف والتهديد والإفساد وتبييض العوائد غير المشروعة».

كما عرَّفت المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (انتربول) الجريمة المنظمة بأنها «مجموعة ذات بناء تنظيمي هدفها الأساسي الحصول على المال من خلال النشاطات غير القانونية، وتستخدم غالباً أسلوب التهديد والإفساد». وهنا تجدر الإشارة إلى ما نصت عليه اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية، التي اعتمدتها الجمعية العامة في قرارها رقم /5525/ تاريخ 15/11/2000 حيث عرَّفت مفهوم الجريمة المنظمة في مادتها الثانية كالآتي:

أ- يُقصد بتعبير «جماعة إجرامية منظمة»، أي جماعة ذات هيكل تنظيمي مؤلفة من ثلاثة أشخاص أو أكثر، وموجودة لفترة من الزمن، وتعمل بصورة متضافرة بهدف ارتكاب واحدة أو أكثر من الجرائم الخطرة أو الأفعال المجرَّمة وفقاً لهذه الاتفاقية، من أجل الحصول بشكل مباشر أو غير مباشر، على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى.

ب- يُقصد بتعبير «جريمة خطيرة» أي سلوك يِّمثل جرماً ومعاقباً عليه بالحرمان التام من الحرية لمدة لا تقل عن أربع سنوات أو بعقوبة أشد.

ج- يُقصد بتعبير «جماعة ذات هيكل تنظيمي» أي جماعة غير مشكلَّة عشوائياً لغرض الارتكاب الفوري لجرم ما، ولا يلزم أن تكون لأعضائها أدوار محددة رسمياً، أو أن تستمر عضويتهم فيها أو أن تكون ذات هيكل تنظيمي.

وأضافت المادة الثالثة من الاتفاقية أن المقصود بالجريمة المنظمة عبر الوطنية تلك الجرائم الخطرة التي تنطبق عليها صفات ما ورد في المادة الثانية، إذا ما تم ارتكابها من قبل جماعة إجرامية منظمة في أكثر من دولة أو ارتٌكبت في دولة واحدة ولكن جرى جانب كبير من الإعداد أو التخطيط لها أو توجيهها أو الإشراف عليها في دولة أخرى، أو إذا تم ارتكابها في دولة واحدة من قبل جماعة إجرامية منظمة تمارس أنشطتها الإجرامية في أكثر من دولة، أو إذا كان للفعل الإجرامي المرتكب في دولة ما آثار جسيمة لدى دولة أخرى.

ثانياً- تطور الجريمة المنظمة:

قد يكون من غرابة الأقدار أن نشأة الجريمة المنظمة عبر التاريخ كانت لأهداف إنسانية، وذلك عندما كانت تتفق مجموعة من الأفراد أو قطاع الطرق على تكوين عصابات منظمة بهدف ارتكاب أفعال نهب وسرقة، ثم القيام بتوزيع العائد كله أو بعض ما تم الاستيلاء عليه وسلبه من أموال على الأسر الضعيفة والفقيرة. وفيما بعد، ارتبط تعبير الجريمة المنظمة بعصابات المافيا التي انتشرت بصورة واسعة في إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وتركيا، وهناك أيضاً عصابات المثلث الصينية والياكوزا اليابانية والكارتل الكولومبية، وغيرها من جماعات الجريمة المنظمة والتي تختلف فيما بينها من حيث التنظيم والحجم ونطاق أنشطتها الإجرامية والآليات المعتمدة في سبيل تحقيق أهدافها.

وتنشط هذه العصابات في مجال تجارة السلاح والمخدرات والمواد المشعة والأعضاء البشرية، كما تلجأ إلى استخدام أساليب النصب والاحتيال والسرقة والابتزاز والقتل وفرض الأتاوات على الملاهي والحانات والإقراض بفوائد باهظة والإسهام في مراهنات سباق الخيل والمباريات الرياضية وإدارة نوادي القمار وبيوت البغاء والدعارة وتبييض الأموال وتمويل الانتخابات العامة والتدخل فيها ورشوة رجال السلطة، كما تجاوزت بأنشطتها الإجرامية حدود عدة دول، وهي تعتمد قواعد السرية والتسلسل الهرمي أو العائلي، ويدين جميع أعضائها بالولاء والطاعة تجنباً لمصير محتوم قد يتعرضون له كالقتل والتعذيب والنفي.

كما أقامت هذه العصابات روابط وثيقة فيما بينها، ويحكمها التواطؤ السري المطبق، ويتجاوز عدد أعضائها عشرات الآلاف من الأشخاص. ومما أسهم في تنامي هذه الظاهرة ذاك التطور المتسارع في وسائل الاتصالات والأنشطة الاقتصادية والمالية العابرة للحدود، وكذلك تراجع سلطة الدولة في بعض البلدان التي تنتشر في أرجائها عصابات الجريمة المنظمة.

ثالثاً- خصائص الجريمة المنظمة:

تتمثَّل الجريمة المنظمة سواء في القيام بعمل إيجابي كارتكاب جرائم السرقة أو النهب أو الاحتيال أو النصب أو القتل، أو بارتكاب الجريمة بفعل سلبي وهو الامتناع عن القيام بعمل واجب التأدية قانوناً أو باتخاذ موقف سلبي بما لا يتوافق مع ما ينص عليه القانون، كإقدام تنظيم إجرامي ما على احتكار بيع سلعة أساسية أو الامتناع عن تسليم أسلحة ومواد مشعه موجودة بحوزتها. وقد تُرتكب الجريمة المنظمة، كغيرها من الجرائم الأخرى، بفعل واحد، ولكن ما هو شائع خصوصاً في الجرائم المنظمة هو ارتكابها غالباً بأفعال متعددة، يشكل كل منها جريمة بحد ذاته، ولكنها مرتبطة فيما بينها بعناصر وثيقة تجعلها منتظمة في مشروع إجرامي واحد. وهكذا تتصف معظم الجرائم المنظمة بصفة الجريمة المركبة. فعلى سبيل المثال، تقوم عصابات المافيا بإدارة نوادي القمار ودور البغاء بصورة سرية وغير مشروعة، وتستخدم هذه الحانات مقراً لاجتماعاتها المنظمة لمؤامراتها الإجرامية، كما تقوم من خلالها بالاتجار بالمخدرات وغيرها من المواد المخلة بالصحة والأخلاق العامة، ثم تعمد من خلال هذه الأمكنة المشبوهة إلى تبييض أموالها الناجمة عن أعمالها غير المشروعة هذه.

وفي جميع الأحوال، تتميَّز الجريمة المنظمة عن غيرها من الجرائم الأخرى بعدد من السمات العامة، أهمها:

t تشكيل عصابة إجرامية منظمة ومستمرة.

t توزيع مهام محددة لكل عنصر في الجماعة المنظمة التي يتجاوز عدد أعضائها العدد المألوف في المساهمة الجنائية.

t خضوع جميع أفراد العصابة المنظمة لقواعد السرية والانضباط التسلسلي والطاعة الهرمية والولاء المطلق.

t ارتكاب جميع أنواع الجرائم كالسرقة والنصب والاحتيال والغش والاختطاف وأخذ الرهائن والقتل والاتجار بالسلاح والمواد المشعة والأعضاء البشرية والمخدرات وإدارة بيوت البغاء والقمار وحانات اللهو وإفساد مسؤولي الدولة وموظفيها وتهريب المهاجرين غير الشرعيين وتزوير بطاقات الائتمان وممارسة القرصنة البحرية وتبييض الأموال وسرقة الأعمال الفنية والتحف والآثار التاريخية والمتاجرة بها، والمشاركة في ارتكاب جرائم إرهابية وغيرها من الجرائم الأخرى الخطرة على الفرد والمجتمع.

t اللجوء إلى استخدام أساليب الترهيب أو الترغيب وعرض الرشوة وشراء الذمم والابتزاز وتزوير المستندات والنقود وغيرها من الوسائل الإجرامية الأخرى، تحقيقاً لأهداف التنظيم.

t الاستفادة من التطورات الحديثة في وسائل النقل والاتصالات والمعلوماتية ووضعها بتصرف الأنشطة الإجرامية المنظمة.

t استغلال نقاط الضعف وثغرات النظام التشريعي والإداري والقضائي في الدول، على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

رابعاً- آثار الجريمة المنظمة:

تشكِّل الجريمة المنظمة، بجميع صورها وأنماطها، خطراً عاماً على الدول والشعوب. فقد ارتبط هذا التعبير بمعظم الرواسب المجتمعية كانتشار الإجرام والانحراف والبطالة والتضخم والفساد وغيرها من العوامل الأخرى التي تعمل الحكومات والهيئات الدولية على إيجاد الحلول الملائمة لها والحد من آثارها السلبية.

فقد نصَّ التقرير الصادر عن المؤتمر التاسع للأمم المتحدة حول منع الجريمة ومعاملة المجرمين، الذي انعقد في القاهرة عام 1995 على الآتي: «تشكل الجريمة المنظمة تهديداً مباشراً للأمن والاستقرار على الصعيدين الوطني والدولي، وتمثِّل هجوماً مباشراً على السلطتين السياسية والتشريعية، بل تتحدى سلطة الدولة نفسها، وهي تهدم المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية وتضعفها، مسبِّبة فقداناً للثقة في العملية الديمقراطية، وهي تخل بالتنمية وتحرف مكاسبها عن الاتجاه الصحيح، كما تُلحق الضرر بمجموع السكان مستهدفة الضعف البشري ومستفيدة منه. وهي تستخدم شرائح من المجتمع، ولاسيما النساء والأطفال وتحيطها بشباكها، بل وتستعبدها في أعمالها غير المشروعة، المتنوعة والمترابطة».

أهم الآثار الناجمة عن نشاطات الإجرام المنظم:

1- الآثار السياسية:

تقوِّض جماعات الجريمة المنظمة سلطة الدول وسيادتها، فهي تتجاوز حدود الدول، سواء بتنظيمها المعَّقد الذي يضم غالباً عناصر من جنسيات مختلفة، أو بأنشطتها الإجرامية التي تباشرها على أقاليم عدة دول أو تظهر آثارها فيها. فهي تتحدى سلطة الدولة وتضعف أواصر المجتمع المدني وتشيع الاضطراب والبلبلة والخوف والعنف لدى المجتمعات وإفساد مسؤولي الدولة وموظفيها، وخاصة خلال فترة الحملات الانتخابية لبعض السياسيين الذين يخضعون لابتزازها في حال نجاحهم في الانتخابات، فيصبحون داعمين وساترين لنشاطاتها خشية التنكيل بهم وبأفراد عائلاتهم. بل استطاع الكثير من رجالات الإجرام المنظم الوصول إلى بعض المواقع السياسية المرموقة، كرئاسة الدولة أو الحكومة، كما حصل سابقاً في إيطاليا واليابان وكولومبيا وبنما.

2- الآثار الاجتماعية:

تهدد أنشطة الجريمة المنظمة تماسك الكيان الاجتماعي للدولة والقيم السائدة، وذلك عبر إشاعة ظواهر الإجرام العنيف والمفسد، كترويج المخدرات والبغاء والقمار والسلاح والمؤثرات المخلة بالأخلاق والصحة العامة وإثارة الخوف والرعب مع ازدياد معدلات الجريمة والانحراف، وخصوصاً لدى أوساط الشباب والنساء والأطفال.

3- الآثار الاقتصادية:

تسهم الجريمة المنظمة في إفساد الكيان الاقتصادي والمالي والإداري للدولة عبر إشاعة جرائم الرشوة والفساد والاتجار بالسلاح والمخدرات والأعضاء البشرية، وممارسة الغش والتزوير والتهرب الضريبي والجمركي وغسل الأموال وتهريبها للخارج وتهديد سلامة المؤسسات التجارية والمالية والمصرفية. وهذا ما قد يؤدي إلى إضعاف الاقتصاد الوطني وإشاعة روح عدم الثقة عند الناس، وخاصة لدى رجال الأعمال والمستثمرين. وتزيد الجريمة المنظمة من عوامل التضخم والعجز في الميزان التجاري وارتفاع حدة التفاوت بين الطبقات الاجتماعية ونسبة الديون العامة والإنفاق على الأجهزة الأمنية والقضائية، وإرباك الأسواق الوطنية، مما يؤدي إلى حدوث أزمات اقتصادية ومالية وتقويض جهود التنمية الوطنية واستقرار النظام الاقتصادي العالمي.

خامساً- مكافحة الجريمة المنظمة:

شغلت مسألة قمع الجريمة المنظمة ومكافحتها اهتمامات صناع القرار على جميع المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، نظراً لما تمثله من تهديد فعلي لأمن واستقرار الدول وشعوبها والمجتمع الدولي، وتكثفت الجهود الرامية إلى إيجاد القواعد الفاعلة والكفيلة بقمع هذا النمط الخطر من الجرائم وتعزيز أواصر التعاون والتنسيق وإنفاذ سيادة القانون وسلطة الدولة وتحقيق العدالة الجنائية في هذا المجال.

1- مكافحة الجريمة المنظمة على الصعيد الوطني:

دأبت الدول على تطوير تشريعاتها الداخلية وتحسين مستوى أداء أجهزتها الأمنية والقضائية وتزويدها بأحدث الخبرات الإدارية والتقنية من أجل التصدي لعصابات الإجرام المنظم. وكما سبقت الإشارةً، فقد اعتمدت الدول موقفين في هذا الصدد، يتمثَّل الأول منهما في التمسك بالأحكام العامة التقليدية للتجريم والمسؤولية الجنائية في مجال مكافحة الجريمة الجنائية، في حين تجسَّد الموقف الآخر بالخروج عن القواعد التقليدية للمسؤولية الجنائية عبر إقرار تشريعات خاصة أو استثنائية لقمع الجريمة المنظمة. وقد اهتم المشرِّع الإيطالي بهذا الموضوع منذ صدور تقنين  «زنار ديللي» عام 1889 وذلك قبل تعديل القانون الجنائي الإيطالي في عام 1990م بإضافة المادتين /416 مكرر 1و2/ حول «التنظيم الإجرامي ذو نمط المافيا» وقد تمَّ تشديد العقوبات على مجرد الانضمام لمثل هذه التنظيمات الإجرامية والأفعال المرتكبة من قبلها. بالمقابل، أصدر المشرع في الولايات المتحدة الأمريكية ما يسمى قانون ريكو لعام 1970 وقانون غسيل الأموال لعام 1986 اللذين يهدفان إلى تدعيم الأدوات القانونية والتدابير الفعالة وتشديد العقوبات بحق مرتكبي الأنشطة غير المشروعة لجماعات الإجرام المنظم. كما يلاحظ أن غالبية التشريعات الجنائية العربية اكتفت بتطبيق قواعدها التقليدية العامة لمواجهة أعمال الجريمة المنظمة، وذلك على الرغم من انتشار جرائم المخدرات وغسيل الأموال والغش والاتجار بالسلاح وممارسة الغش على نطاق واسع في المنطقة العربية، مما يجعلها هدفاً محتوماً لعصابات الجريمة المنظمة.

أما في سورية، فيمكن القول بأنه لا يوجد جرائم منظمة بالمعنى الدقيق للكلمة، ولذلك اكتفى المشرع السوري بإنفاذ الأحكام القانونية المنصوص عليها في قانون العقوبات العام الصادر عام 1949 وببعض التشريعات الأخرى المتعلقة بهذا الجانب أو ذاك من الأنشطة الإجرامية. فهنالك على سبيل المثال نصوص قانونية تتناول أفعالاً جنائية يرتكبها شخصان أو أكثر، وتعدُّ مماثلة للجريمة المنظمة، وهي جرائم المؤامرة (المادتان 260 و261 من قانون العقوبات) والإرهاب (المواد 304 و305 و306 من قانون العقوبات) وتكوين جمعية أشرار (المادتان 325 و326 من قانون العقوبات) وتنظيمات سرية (المادة 327 من قانون العقوبات) وجرائم الفساد والاختلاس والرشوة وإساءة استعمال السلطة (المواد من 341 إلى 349 والمادة 361 من قانون العقوبات) ومكافحة الدعارة والبغاء (المواد 489 وما بعدها)، وهنالك أيضاً قانون المخدرات رقم /2/ لعام 1993، والمرسوم التشريعي رقم /59/ لعام 2003 حول مكافحة جرائم غسيل الأموال، وقانون العقوبات الاقتصادية، وغيرها من التشريعات الأخرى التي جاءت متوافقة مع ما نصت عليه القوانين الدولية والدستور السوري (المادتان 28 و29) من مبادئ عامة تتعلق بقرينة البراءة وعدم جواز توقيف أحد إلاَّ وفق القانون وحظر ممارسة التعذيب الجسدي أو المعنوي وضمان حق التقاضي وسلوك سبل الطعن والدفاع أمام القضاء وتطبيق مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلاَّ بنص. كما انضمت سورية وصادقت على معظم الاتفاقيات الدولية المتعلقة بمكافحة بعض جوانب الجريمة المنظمة، مثل اتفاقية تسليم المجرمين المعقودة ضمن إطار جامعة الدول العربية عام 1952 واتفاقية الأمم المتحدة حول الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية لعام 1988 والتي صادقت عليها سورية بموجب المرسوم رقم /247/ لعام 1991 وغيرها من الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف التي تشكل ثمرة جهود المجتمع الدولي في مجال مكافحة الجريمة المنظمة.

2- مكافحة الجريمة المنظمة على الصعيد الدولي:

لم يهتم المجتمع الدولي بمكافحة الإجرام المنظم إلاَّ في وقت حديث نسبياً، إذ انعقدت تباعاً مؤتمرات ولقاءات عدة بإشراف هيئة الأمم المتحدة لبحث موضوعات تمس مباشرة ظاهرة الجريمة المنظمة كمعاملة المجرمين وطرق الوقاية من الجريمة وتطوير نظام العدالة الجنائية والتنسيق القضائي والأمني بين الدول. وقد برزت هذه الجهود بشكل ملموس ابتداءً من عام 1988 بعقد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية، والتي أثمرت عن إنشاء أجهزة دولية متخصصة بوضع أحكام الاتفاقية موضع التنفيذ، مثل لجنة المخدرات وبرنامج الأمم المتحدة المعني بالمكافحة الدولية للاتجار بالمخدرات والترويح لها وتعاطيها.

كما توالى منذ عام 1955 انعقاد سلسلة من المؤتمرات الدولية برعاية الأمم المتحدة حول منع الجريمة وتحقيق العدالة الجنائية. وقد تبنَّت هذه المؤتمرات مجموعة من القرارات التي تتضمن قواعد عامة بخصوص قمع الجرائم ومعاملة المجرمين، وبدأت هذه المؤتمرات في الاهتمام بموضوع الجريمة المنظمة منذ انعقاد مؤتمرها الثامن في كوبا عام 1990، إذ تبنى هذا المؤتمر قواعد ومعايير محددة للوقاية من الجريمة المنظمة وتطوير أجهزة التحقيق الجنائي وأساليب عملها وأوجه التعاون فيما بينها. كما اعتمد اجتماع الخبراء الذي انعقد في تشيكوسلوفاكيا السابقة عام 1991 مجموعة من التوصيات حول «إستراتيجية التعامل مع الجريمة المنظمة عبر الوطنية». وفي عام 1994م انعقد في نابولي بإيطاليا، المؤتمر الوزاري العالمي حول الجريمة المنظمة، وشارك فيه ممثلون عن /142/ دولة. وفيما بعد، وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم 49/159 الصادر بتاريخ 23/12/1994 على إعلان نابولي حول مكافحة الجريمة المنظمة. ومنذ ذلك الحين، تمَّ إدراج موضوع الجريمة المنظمة في صميم جدول الأعمال المقرر لجميع مؤتمرات الأمم المتحدة حول منع الجريمة وتحقيق العدالة الجنائية.

ومن جهتها، أنشأت المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (انتربول) في عام 1989 فرعاً متخصصاً بمكافحة الجريمة المنظمة وملحقاً بأمانتها العامة، إضافة إلى وحدة تحليل المعلومات الجنائية التي تم إنشاؤها في 1993. كما قررت الدول المشاركة في قمة الدول الصناعية السبع الكبرى التي انعقدت في عام 1989م تكوين فريق عمل من الخبراء بغرض وضع إستراتيجية دولية لمكافحة جرائم غسيل الأموال التي ترتكبها عصابات الجريمة المنظمة بشكل واسع.

وقد أشارت الكثير من القرارات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة إلى مسألة العلاقة بين الإرهاب والجريمة المنظمة، كقرار الجمعية العامة رقم /4960/ الصادر بتاريخ 9/12/1994 وقرار مجلس الأمن الدولي رقم /1373/ الصادر بتاريخ 28/9/2001 إذ نصت أحكامهما على مسألة التهديد الذي يمثِّله امتلاك الجماعات الإرهابية لأسلحة الدمار الشامل والقلق من الصلة الوثيقة بين الإرهاب الدولي والجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية. إذ غالباً ما توفرِّ جماعات الجريمة المنظمة للإرهابيين وسائل الاتصال والتقنيات الحديثة وأجهزة الرصد والمراقبة، إضافة إلى السلاح ومصادر التمويل اللازمة للقيام بالأعمال الإرهابية.

أما على الصعيد الإقليمي لمكافحة الجريمة المنظمة، فقد أعدَّ المجلس الأوربي في عام 1995 اتفاقية خاصة بمكافحة الاتجار بالمخدرات عبر البحار، وفي عام 1997 تبنى المجلس مشروع توصية حول حماية الشهود في مجال قمع الجريمة المنظمة، وذلك في العام الذي تمَّ فيه اعتماد الاتفاقية الأوربية حول قمع جرائم غسيل الأموال. وفي عام 1998، وافق المجلس الأوربي على عدد من المبادئ الرئيسية لمكافحة الإجرام المنظم، كتعميق التعاون الدولي واتخاذ تدابير خاصة لحماية الشهود وتوفير ضمانات المحاكمة العادلة للمهتمين بارتكاب جرائم منظمة. وقد اعتمد الاتحاد الأوربي في عام 1995 اتفاقية خاصة بإنشاء مكتب الشرطة الجنائية الأوربية Europol  بهدف مكافحة جميع النشاطات الإجرامية، وخاصة تلك المرتكبة من قبل جماعات الجريمة المنظمة، وتعميق التعاون الأوربي في هذا المجال.

من ناحية أخرى، بدأت مسيرة التعاون العربي ضد الجريمة المنظمة منذ عام 1950 عندما أنشأت جامعة الدول العربية ما يسمى المكتب الدائم لشؤون المخدرات. وفي عام 1960 تمَّ تأسيس المنظمة العربية للدفاع الاجتماعي ضد الجريمة، التي استُبدلت لاحقاً في عام 1977 بمجلس وزراء الداخلية العرب، وبقرار منه تمَّ إحداث المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الذي أصبح فيما بعد أكاديمية، ثم جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، ومقرها الرياض في المملكة العربية السعودية. وفي عام 1982 أقرَّ مجلس وزراء الداخلية العرب «الإستراتيجية الأمنية العربية» التي تهدف إلى تعزيز العمل العربي المشترك في مجال مكافحة جميع أنواع الجرائم، بما فيها الإجرام المنظم، واعتمد كذلك في عام 1994 الاتفاقية العربية لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية، كما اعتمد في عام 1998م وبالتعاون مع مجلس وزراء العدل العرب، الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب.

وبرغم جميع هذه الجهود، تبقى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية والتي تم توقيعها خلال المؤتمر الدبلوماسي المنعقد في مدينة باليرمو الإيطالية بتاريخ 12/12/2000، وبروتوكولاتها الملحقة، تشكل نقطة الارتكاز الأساسية في هذا المجال، فقد أسهمت أحكام هذه الاتفاقية في وضع تعريف دقيق وواضح لمفهوم الجريمة المنظمة والتصدي لها. وتنطبق هذه الاتفاقية، حسب مادتها الثالثة، على الجرائم الخطيرة العابرة للحدود والتي ترتكبها جماعات إجرامية منظمة مؤلفة من عدة أشخاص وذات هيكل تنظيمي دائم، وتجرِّم الاتفاقية جميع أفعال المشاركة أو الإسهام في الانضمام لمثل هذه الجماعات وقيامها بارتكاب جرائم غسيل الأموال والفساد وعرقلة سير العدالة.

وقد اعتبرت المادة الخامسة من الاتفاقية أن مجرد المشاركة في جماعة إجرامية منظمة؛ يعدُّ جرماً مستقلاً بحد ذاته سواء أسهم المنضم إلى الجماعة بنشاطها الإجرامي أم لا. وهذه المشاركة تتضمن الاتفاق بين شخصين أو أكثر على ارتكاب جريمة خطيرة لغرض له صلة مباشرة أو غير مباشرة بالحصول على منفعة مادية أو مالية، وكذلك قيام شخص بالانضمام إلى هذه الجماعة الإجرامية المنظمة وهو يعلم بنشاطها الإجرامي وبأن مشاركته ستُسهم في تحقيق أهدافها الإجرامية أو في ارتكاب جريمة خطيرة أو بالإشراف أو تقديم المساعدة أو بالتحريض أو تيسير ارتكاب الجريمة. ويُستدل على العلم أو القصد أو الهدف أو الغرض أو الاتفاق على الانضمام للجماعة الإجرامية المنظمة وبنشاطها الإجرامي من الملابسات الموضوعية للوقائع.

كما تلتزم الدول الأطراف في الاتفاقية بتجريم الأفعال الخطرة التي تضطلع بها الجماعات الإجرامية المنظمة، وتعتمد وفقاً لقانونها الداخلي ما قد يلزم من تدابير تشريعية أو إجراءات أخرى لتجريم فعل غسيل الأموال الناجمة عن الأعمال غير المشروعة للجماعات الإجرامية المنظمة، والتي تشمل تحويل الأموال أو نقلها عمداً مع العلم بمصدرها، وذلك بغرض إخفاء أو تمويه مصدرها غير المشروع أو مساعدة شخص ما ضالع في ارتكاب الجرم الأصلي الذي تأتت منه على الإفلات من العواقب القانونية لفعلته، وكذلك اكتساب أو حيازة أو استخدام الأموال أو إخفاء أو تمويه طبيعتها الحقيقية أو مصدرها أو مكانها أو كيفية التصرف بها أو حركتها أو ملكيتها أو الحقوق المتعلقة بها مع العلم بأنها عائدات جرمية، ويعاقب أيضاً على جرم التواطؤ أو التآمر على ارتكاب مثل هذه الجرائم أو محاولة ارتكابها أو المساعدة أو التحريض على ذلك أو تسهيل ارتكابها وإبداء المشورة بشأنها. وتسعى كل دولة طرف لإدراج هذه الجرائم في تشريعاتها الوطنية كحد أدنى من مجموعة شاملة من الجرائم المرتبطة بالجماعات الإجرامية المنظمة (المادة السادسة).

وتتخذ كل دولة طرف الإجراءات والتدابير الضرورية لإنشاء نظام داخلي شامل للوقاية والإشراف على المصارف والمؤسسات المالية غير المصرفية وسائر الهيئات الأخرى، المعرَّضة بشكل خاص لغسل الأموال عبرها، وكذلك تقوية الأجهزة الإدارية والرقابية والتعاون وتبادل المعلومات على الصعيدين الوطني والدولي لرصد حركة النقود وغيرها من الصكوك القابلة للتداول، بما في ذلك إنشاء وحدة استخبارات مالية تعمل كمركز وطني لجمع وتحليل وتعميم المعلومات عما يُحتمل وقوعه من غسيل الأموال، وتعزيز التعاون بين الأجهزة القضائية والرقابة المالية بشأنها (المادة السابعة).

وتكفل الدول الأطراف في الاتفاقية اتخاذ ما يلزم من تدابير لتجريم أفعال الفساد التي ترتكبها جماعات الجريمة المنظمة وفرض العقاب عليها، وتشمل أفعال الفساد تقديم وعد إلى موظف عام بمنحه ميزة غير مستحقة أو عرضها عليه بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء لصالح الموظف نفسه لفائدة شخص آخر أو هيئة أخرى، لكي يقوم ذلك الموظف بفعل ما أو الامتناع عن القيام بفعل ما ضمن نطاق ممارسة مهامه الرسمية، أو التماسه أو قبوله بمثل هذه المزايا غير المستحقة (المادة الثامنة).

ونصت الاتفاقية أيضاً على مسؤولية الهيئات الاعتبارية، الجنائية والإدارية والمالية، عن المشاركة في الجرائم المنظمة، وذلك دون الإخلال بالمسؤولية الجنائية للأشخاص الطبيعيين الذي أسهموا في ارتكاب مثل هذه الجرائم (المادة العاشرة). كما تلتزم الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة بملاحقة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم منظمة ومقاضاتهم وإيقاع العقاب المناسب بحقهم، مع مراعاة توصيف الأفعال المجرَّمة والدفوع القانونية وفقاً للقانون الداخلي لكل دولة (المادة 11).

وأخيراً، تضمنت اتفاقية عام 2000 حول مكافحة الجريمة المنظمة، العديد من القواعد والمبادئ القانونية المتعلقة بإجراءات المصادرة وضبط العائدات الجرمية والتصرف بها (المواد 12 و13 و14) وممارسة الولاية القضائية للدولة الطرف على الأفعال الجرمية (المادة 15) وأحكام تسليم المجرمين (المادة 16) ونقل الأشخاص المحكوم عليهم (المادة 17) والمساعدة القانونية المتبادلة (المادة 18) وغيرها من الأحكام الأخرى التي لا تتجاوز حدود القواعد والمبادئ العامة المعمول بها في إطار التعاون الدولي لمكافحة الإجرام، وخصوصاً ما يتعلق بتشجيع جميع الدول والمؤسسات المالية للانضمام إلى الجهود المبذولة لمكافحة الجريمة المنظمة.

وكما سبق، فقد أُلحق بالاتفاقية ثلاثة بروتوكولات مكمِّلة لنصوصها، تتعلق بقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والأطفال وتهريب المهاجرين غير الشرعيين وصُنع الأسلحة النارية ومكوِّناتها والذخيرة والاتجار بها بصورة غير مشروعة.

مراجع للاستزادة:

- ذياب البداينة، المنظور الاقتصادي والتقني للجريمة المنظمة (أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الدراسات والبحوث، الرياض 1999م).

- عبد الأحد سفر، الجريمة المنظمة (دار الكلمة، الطبعة الأولى، دمشق 2001م).

- عبد الفتاح الصيفي، الجريمة المنظمة «التعريف والأنماط والاتجاهات» (أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الدراسات والبحوث، الرياض 1999م).

- محسن عبد الحميد أحمد، الآثار الاقتصادية والاجتماعية للجريمة المنظمة عبر الدول ومحاولات مواجهتها إقليمياً ودولياً (أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الدراسات والبحوث، الرياض 1999م).

- محمد إبراهيم زيد، الجريمة المنظمة »تعريفها وأنماطها وجوانبها التشريعية« (أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الدراسات والبحوث، الرياض 1999م).

- محمد فاروق النبهان، مكافحة الإجرام المنظم (المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض 1989م).

- محمد فتحي عيد، الإجرام المعاصر (أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الدراسات والبحوث، الرياض 1999م).

- محمود شريف بسيوني، السياسة الدولية والقومية الفعالة لمكافحة الجريمة المنظمة والنشاط الإجرامي (الرياض 1990م).

- محمود شريف بسيوني، الجريمة المنظمة عبر الوطنية »ماهيتها ووسائل مكافحتها عربياً ودولياً« (دار الشروق، طبعة أولى، القاهرة 2004م).

- United Nations, World Ministerial Conference on Organized Transnational Crime (Napoli, Italy, 21-23 November, 1994).

 


التصنيف : القانون الجزائي
النوع : القانون الجزائي
المجلد: المجلد الثالث: الجرف القاري ــ الرسم والنماذج الصناعية
رقم الصفحة ضمن المجلد : 56
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 661
الكل : 31014267
اليوم : 70068