logo

logo

logo

logo

logo

تنازع القوانين

تنازع قوانين

conflict of laws - conflit de lois

 تنازع القوانين

تنازع القوانين

وفاء فلحوط

تعريف نظام تنازع القوانين  حالات استبعاد القانون الأجنبي واجب التطبيق
التطور التاريخي لنظام تنازع القوانين قواعد الإسناد في المسائل المتعلقة بالأشخاص
ماهية قواعد التنازع قواعد الإسناد في القضايا العينية (الأموال)
التكييف قواعد الإسناد في الالتزامات التعاقدية والالتزامات غير التعاقدية
الإحالة إسهام مصادر القانون الدولي العام في تسوية حالات تنازع القوانين
 

تنقسم العلاقات القانونية التي تنشأ بين الأفراد إلى نوعين: علاقات وطنية بحتة، وعلاقات يتخللها عنصر أجنبي، وعلى سبيل المثال لو أبرم سوري عقداً مع سوري آخر في سورية وكان محل العقد مالاً موجوداً في سورية فإنَّ مثل هذه العلاقة العقدية تعدُّ علاقة وطنية بحتة في جميع عناصرها مما يعني خضوعها للقانون الوطني (السوري). ولكن قد تتطرق الصفة الأجنبية لأحد عناصر هذه العلاقة سواء لمحلها أم لسببها أم لأطرافها، كما لو أبرم العقد بين سوري وفرنسي (عنصر الأطراف)، أو أبرم بين سوريين لكنه تعلق بمالٍ موجودٍ في فرنسا (عنصر المحل)… فهنا يثور التساؤل عن القانون الواجب التطبيق على مثل تلك العلاقة نظراً لارتباطها بأكثر من نظام قانوني، ويتولى القانون الدولي الخاص - وتحديداً فرعه المتعلق بنظام تنازع القوانين Conflict of Laws - الإجابة عن هذا التساؤل.

أولاً - تعريف نظام تنازع القوانين:

يعرف تنازع القوانين بأنه: تزاحم أو تفاضل قانونين (أو أكثر) لدولتين (أو أكثر) بشأن حكم علاقة أو وضع قانوني له صلة بأكثر من دولةٍ واحدة.

ويشمل نظام تنازع القوانين حقيقةً قواعد التنازع (قواعد الإسناد) إضافةً إلى مجموعة القواعد الأخرى المكملة لها واللازمة لأداء عملها، ومثالها القواعد الخاصة بالتكييف والإحالة، والقواعد الخاصة باستبعاد القانون الأجنبي واجب التطبيق، والقواعد المتعلقة بتحديد بعض مصادر قواعد الإسناد كالمعاهدات ومبادئ القانون الدولي الخاص.

ولا بد لظهور التنازع من اعتراف الدولة للشخص الأجنبي بإمكانية التمتع ببعض الحقوق على إقليمها الوطني، ومن ثم السماح لمحاكمها بتطبيق قانون آخر غير قانونها الوطني. وبمعنى آخر ضرورة الأخذ بـ (مبدأ عدم تلازم الاختصاصين القضائي والتشريعي) ذلك أن لجوء القاضي الوطني إلى تطبيق قانونه على النزاع كلما كانت محاكمه مختصة بنظره يقضي على ظاهرة التنازع أصلاً.

ويشترط في القوانين المتنازعة أن تجمع صفتين معاً هما:

1- الصفة الدولية: وذلك بأن تكون القوانين المتنازعة قوانين تابعة لدولٍ مستقلة ومعترف بها، ومن هنا لا يتصور قيام التنازع ما بين قوانين الدولة السورية وقوانين الكيان الصهيوني في فلسطين.

2- الصفة الخاصة: بأن تكون القوانين المتنازعة من فروع القانون الخاص كالقانون المدني أو التجاري أو قانون الأحوال الشخصية، مما يعني استبعاد فروع القانون العام كالقانون الدستوري أو الإداري أو المالي أو الجزائي لارتباطها مباشرة بسيادة الدول، وبالتالي إذا ما وقعت جريمة معينة في إقليم القاضي توجب عليه البحث في قانون العقوبات الوطني ليرى إن كان الفعل المقترف يخضع لأحكام قانونه فيقرر تطبيقه تطبيقاً إقليمياً، أما إذا كان الفعل لا يدخل في نطاق تطبيقه فيعلن عدم اختصاصه من دون البحث عن قانون العقوبات الأجنبي واجب التطبيق.

ثانياً - التطور التاريخي لنظام تنازع القوانين:

1- نظام تنازع القوانين في المجتمعات القديمة: لم تعرف المجتمعات القديمة - خاصةً تلك التي عاشت في بلاد اليونان والرومان - ظاهرة تنازع القوانين؛ لأن علاقة تلك المجتمعات مع جيرانها كانت مؤسسة على الحروب المستمرة مما لم يهيئ لقيام علاقات تجارية أو روابط أسرية تشكل أساساً لتنازع القوانين، ورغم ذلك اختلف الوضع قليلاً عندما اعترفت الحقوق اليونانية والرومانية بما سمي بـ«نظام الضيافة» الذي يطلب بموجبه الأجنبي من اليوناني أو الروماني أن يقبله ضيفاً عنده ليصبح تحت ولايته وليسمح له بالإقامة وبممارسة بعض الحقوق الخاصة، كممارسة التجارة مثلاً.

2- نظام تنازع القوانين في العصور الوسطى: كان الفرد في عهد الممالك الرومانية يخضع لقانون الجماعة التي ينتمي إليها بأصله وهذا ما عُرِفَ بنظام «شخصية القوانين»، إلاَّ أنه سرعان ما حصل اندماج سكاني بين مختلف الشعوب ضمن الإقليم الواحد وضعف اهتمامهم بأصولهم مما أدى إلى تفتت الممالك إلى إمارات لكل منها قانونها الخاص الذي يطبق داخل حدودها الإقليمية على جميع الأشخاص الموجودين فيها، وهذا ما يعني التوجه للأخذ بنظام «إقليمية القوانين».

3- نظام تنازع القوانين في المدارس الفقهية الإيطالية والفرنسية والهولندية:

أ- نظرية الأحوال الإيطالية: تقوم هذه النظرية على تقسيم المسائل المتنازعة إلى عدة مجموعات هي: الإجراءات والعقود والجرائم والأموال والأشخاص، حيث تخضع الأولى لقانون القاضي، والثانية لقانون محل الإبرام، أما الثالثة فتخضع لقانون مكان وقوع الجريمة، والمجموعة الرابعة تخضع لقانون الموقع، أما المجموعة الأخيرة فيسري عليها قانون الموطن.

ب- نظرية الأحوال الفرنسية: وتقوم هذه النظرية على أفكار الفقيهين ديمولان (1500-1566) ودار جنتريه (1519-1590). ويعدُّ ديمولان أول من كشف عن مبدأ سلطان الإرادة في العقود وأول من تحدث في نظام التكييف، أما دار جنتريه فقد قسَّم من جهته الأحوال المتنازعة إلى أحوال عينية وهي تلك المتعلقة بالعقارات ورأى إخضاعها للقانون الإقليمي، وأحوال شخصية وهي المتعلقة بالأشخاص أو بالمنقولات ونادى بإخضاعها لقانون الموطن.

جـ - النظرية الهولندية: قامت النظرية الهولندية على فكرة الإقليمية المطلقة للقوانين، إلا أنها استثنت على سبيل المجاملة الدولية كلاً من المسائل المتعلقة بالأشخاص وبالمنقولات وبالتصرفات القانونية.

4- نظام تنازع القوانين في بعض التوجهات الحديثة والمعاصرة:

أ- فقه سافيني (1779-1861): أقام الفقيه سافيني نظريته على أساس فكرة «التركيز المكاني» للعلاقة القانونية كأساسٍ لتحديدِ القانون الواجب التطبيق، ومن هنا وجد أن مقر الشخص هو موطنه ومقر العلاقات المتعلقة بالأشياء هو مكان وجود الشيء، أما مقر الالتزامات التعاقدية فهو محل تنفيذها (أو إبرامها). ولقد تأثرت التشريعات المعاصرة بهذه النظرية وصاغت قواعد الإسناد على هدى أفكار هذا الفقيه الألماني.

ب- فقه مانشيني (1817- 1888): يقوم فقه مانشيني على مبدأ «شخصية القوانين» بحيث يقرر إخضاع الشخص لقانون الدولة التي ينتمي إليها بجنسيته أينما وجد وبصرف النظر عن موضوع العلاقة محل النزاع.

جـ - الفقه المعاصر: ويعدُّ من أهم أعمدته كل من الفقهاء الفرنسيين بيليه، ونيبواييه، وبارتان، ويرجع الفضل لهذا الأخير في وضع نظرية متكاملة لعملية التكييف.

ثالثاً - ماهية قواعد التنازع:

1- الطبيعة القانونية لقواعد تنازع القوانين:

ثمة جانب فقهي يعد أن هدف قواعد التنازع هو تحديد نطاق تطبيق سيادات الدول المختلفة التي تتصل بالعلاقة محل النزاع على نحو يقرّبها من القانون الدولي، إلاَّ أن غالبية الفقه يرى تلك القواعد أقرب للقانون الداخلي منها للقانون الدولي على اعتبارها قواعد خاصة بعلاقات الأفراد وليس بعلاقات دول.

ورغم إمكانية قيام تنازع بين فروع القانون العام  يظهر التنازع حقيقةً في الغالب الأعم بصدد علاقات القانون.

وبالنتيجة تظهر لقواعد التنازع طبيعة مختلطة على اعتبارها قواعد ناظمة لعلاقات أفراد مشتملة على عنصر أجنبي يتعرض هذا العنصر للعلاقة فيؤدي إلى مساسها بأكثر من دولة.

أما عن مسألة إلزامية قواعد التنازع فتتخذ الدول مواقفاً متباينة من هذه المسألة، فمنهم من لا يعترف لقاعدة الإسناد بأي قوة ملزمة للقاضي، ومنهم - على العكس - من يلزم القاضي بتطبيقها من تلقاء نفسه، في حين تتوجه بعض الدول توجهاً وسطاً بألا تلزم القاضي بتطبيقها لكنها تجيز له ذلك إن أراد. وهناك من يذهب إلى عدم الإلزام إلاَّ في نطاق استثناءات معينة.

أما في سورية فقد سكت المشرع عن بيان هذه المسألة، إلاَّ أن الاجتهاد القضائي يذهب إلى عدم إلزامية قواعد الإسناد رغم أن الفقه الحديث يؤكد نقيض ذلك وإن اختلف في تبريراته.

2- عناصر قاعدة التنازع:

تقوم قاعدة التنازع (قاعدة الإسناد) على ثلاثة عناصر رئيسة هي:

أ- المسألة المسندة (موضوع قاعدة الإسناد): ويقصد بها المادة القانونية التي يثور لأجلها تنازع القوانين، ومثالها الأهلية والزواج والميراث والعقود.

ب - ضابط الإسناد: وهو الأداة التي يعتمد عليها المشرع لترشده إلى تحديد القانون الواجب التطبيق، ومثالها الأخذ بضابط الجنسية لحكم أهلية الأشخاص، أو الأخذ بضابط الإرادة لحكم المسائل العقدية.

جـ - القانون المسند إليه: ويقصد به القانون الذي تشير إليه قاعدة الإسناد الوطنية  بوصفه قانوناً واجب التطبيق على المسألة محل النزاع.

3- خصائص قواعد تنازع القوانين:

من أهم ما تمتاز به قواعد تنازع القوانين هو أنها:

أ- قواعد عامة وحيادية: لأنها توضع بصورة مسبقة ومجردة وبغض النظر عن هوية القوانين المتنازعة.

ب- قواعد مرشدة غير مباشرة: لأنها لا تفصل بالنزاع مباشرة إنما تسنده إلى قانون معين ليفصل فيه.

جـ - قواعد ثنائية الجانب (مزدوجة): نظراً لأنها قد تشير إلى تطبيق القانون الوطني أو إلى تطبيق قانون أجنبي وذلك بحسب معطيات المسألة المطروحة.

رابعاً- التكييف Qualification:

تثور عملية التكييف حقيقةً بصدد فروع القوانين المختلفة، إلا أن لها في نطاق القانون الدولي الخاص (تنازع القوانين) سماتها الخاصة:

1- تعريف التكييف:

يعرف التكييف على أنه: تحديد طبيعة موضوع النزاع من أجل ربطه بإحدى مجموعات الإسناد بهدف معرفة قاعدة الإسناد واجبة التطبيق وبالتالي تحديد القانون المختص بنظر هذا النزاع.

ويكشف هذا التعريف عن أهمية عملية التكييف، وخاصة من جهة أن قواعد الإسناد محدودة العدد في حين أن العلاقات القانونية المتضمنة عنصراً أجنبياً التي تثير تنازعاً في القوانين هي علاقات غير قابلة للحصر، ومن هنا تتدخل عملية التكييف لتتمكن من وصل المسألة القانونية محل النزاع بواحدة من قواعد الإسناد.

كما تتضح من خلال التعريف السابق حقيقةُ اختلاف القانون الواجب التطبيق ومن ثم الحل النهائي للنزاع تبعاً لعملية التكييف نفسها، ومثال ذلك ضرب الزوج لزوجته، فلو تمَّ تكييف هذا العمل على أنه أثر من آثار الزواج لطبق (بحسب القانون السوري مثلاً) قانون جنسية الزوج وقت الزواج، ولو تم تكييف العمل نفسه على أنه فعل ضار لوجب تطبيق قانون الدولة التي وقع فيها الفعل المنشئ للالتزام، وهكذا…

2- القانون الواجب التطبيق على عملية التكييف:

تخضع عملية التكييف بحسب الحل السائد في القانون المقارن لقانون القاضي دون غيره من القوانين كالقانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع مثلاً، ويردُّ إسناد عملية التكييف لقانون القاضي إلى عدة مبررات لعل أهمها حقيقة اعتبار التكييف بمنزلة تفسيرٍ لقواعد الإسناد الوطنية مما لا يعقل معه طلب تفسير قاعدة وطنية من غير واضعها. ثم إن التكييف عملية سابقة على عملية الإسناد إلى القانون الواجب التطبيق والقول بإخضاعها لهذا القانون يؤدي إلى الوقوع في حلقة مفرغة.

ومن هــــــــــــــــــــنا تذهب غالبية التشريعات إلى إخضاع عملية التكييف لقانون القاضي، ومنها مثلاً التشريع المصري (م/10/ ق مدني)، والليبي (م/10/ مدني)، والإماراتي (م/10/ معاملات مدنية)، والجزائري (م/9/ مدني)، والأردني (م/11/ مدني)، والعراقي (م/17/ مدني)، والقانون المدني السوري والتي جاءت م (11) منه بنص صريحٍ مفاده أن: «القانون السوري هو المرجع في تكييف العلاقات عندما يطلب تحديد نوع هذه العلاقات في قضية تتنازع فيها القوانين، لمعرفة القانون الواجب التطبيق من بينها».

ويقصد بقانون القاضي في هذا السياق ليس فقط نصوصه التشريعية فحسب بل يقصد القانون بجملته بما يتضمنه من قواعد ومبادئ أياً كان مصدرها، ومن جهة أخرى كثيراً ما يجد القاضي نفسه - في معرض عملية التكييف - بحاجة إلى التوسع في تحديد مدلولات العلاقات القانونية ليتمكن من تقبل الأفكار التي تقوم عليها بعض القوانين الأجنبية، فإن كانت علاقة الزواج مثلاً في القانون الفرنسي من الروابط التي لا تتعدد فإن عرض نزاع على قاضٍ فرنسي مما يتعلق بنظام يجيز تعدد الزوجات كالنظام الإسلامي يستوجب من هذا القاضي التوسع في مدلول الزواج عما هو لديه ليشمل كذلك نظام تعدد الزوجات.

خامساً- الإحالة:

إذا تصدى القاضي الوطني لإعمال قاعدة الإسناد فأشارت إلى تطبيق قانون أجنبي معين، فهل له استشارة قواعد الإسناد في ذلك القانون التي قد تحيل الاختصاص إلى قانون آخر؟ أم هل يذهب إلى تطبيق قواعده الموضوعية مباشرة؟

1- تعريف الإحالة ودرجاتها:

يقصد بالإحالة إحالة الاختصاص التشريعي من القانون الواجب التطبيق إلى قانون آخر وذلك إعمالاً لقواعد الإسناد في القانون الأجنبي المختص.

ويعزى السبب الرئيس لظهور الإحالة إلى اختلاف قواعد الإسناد في قانون القاضي عن قواعد الإسناد المعمول بها في القانون الأجنبي واجب التطبيق. ويذكر على سبيل المثال مسألة أهلية الأشخاص حيث تخضع بحسب قواعد الإسناد في بعض الدول كسورية مثلاً لقانون الجنسية وتخضع بموجب قواعد إسناد دول أخرى كبريطانيا إلى قانون الموطن.

وتأخذ الإحالة أحد شكلين: أولهما تقضي فيه قواعد الإسناد في القانون الأجنبي واجب التطبيق برد الاختصاص التشريعي إلى قانون القاضي وهذا ما يسمى بالإحالة من الدرجة الأولى أو إحالة الرجوع، أما الشكل الثاني فيظهر عندما يحال النزاع بموجب قواعد الإسناد الأجنبية إلى قانون دولة أجنبية جديدة وهذا ما يعرف باسم الإحالة من الدرجة الثانية.

2- موقف الدول من مسألة الإحالة:

تقبل بعض الدول الأخذ بالإحالة على درجتيها، وتقتصر دول أخرى في قبولها على الأخذ بالإحالة من الدرجة الأولى فحسب، في الوقت الذي توجد فيه العديد من الدول التي ترفض الأخذ بالإحالة رفضاً مطلقاً وذلك في جميع المسائل والموضوعات وبصرف النظر فيما لو كانت الإحالة من الدرجة الأولى أو من الدرجة الثانية.

ومن التشريعات الوطنية التي تبنت الإحالة بدرجتيها القانون التركي رقم 20/1982، والقانون الألماني الجديد لعام 1986، ونصت المادة الرابعة منه على أنه «إذا تمّ تعيين قانون دولة أجنبية فإنه يجب أن تطبق أيضاً قواعد الإسناد المعينة الموجودة في قانون هذه الدولة… ويجب أن تطبق القواعد الموضوعية في القانون الألماني إذا أحالت قواعد الإسناد الأجنبية إلى القانون الألماني».

ومن التشريعات التي أخذت بالإحالة من الدرجة الأولى القانون الياباني لعام 1989، وقانون المعاملات المدنية في دولة الإمارات العربية المتحدة وذلك حسب م 26/2 والتي نصت على أن «يطبق قانون دولة الإمارات العربية المتحدة إذا أحالت على قواعده نصوص القانون الدولي المتعلقة بالقانون الواجب التطبيق».

وتبرر الدول السابقة قبولها الإحالة من خلال فكرة الإسناد الإجمالي، أي من ضرورة الأخذ بأحكام القانون الأجنبي الموضوعية والإسنادية بوصفها وحدة متكاملة. كما تدافع عن قبولها هذا بما تحققه الإحالة من انسجام في الحلول ما بين الدول المتصلة بالعلاقة المعينة نظراً لإمكانية الوصول إلى الحل نفسه الذي كان سيصل إليه القاضي الأجنبي فيما لو رفع إليه النزاع ابتداءً.

وبالمقابل يقف الكثير من الدول موقف المعادي الصريح من الإحالة، وهذا هو موقف غالبية الدول العربية التي ترى في قبول الإحالة احتراماً من القاضي الوطني لقواعد الإسناد الأجنبية على حساب قواعد إسناده المحلية مما يعني إهداره لأوامر مشرعه وانصياعه لأوامر المشرع الأجنبي.

ومن هنا تبنت تلك الدول نصوصاً متماثلة مفادها أنه: «إذا تقرر أن قانوناً أجنبياً هو الواجب التطبيق فلا تطبق منه إلاَّ أحكامه الداخلية دون تلك التي تتعلق بالقانون الدولي الخاص».

وهذا هو حقيقة نص المادة (29) من القانون المدني السوري، ونص المادة (27) من القانونين المصري والليبي ونص م(31) من القانون المدني العراقي…

سادساً - حالات استبعاد القانون الأجنبي واجب التطبيق:

يعمل القاضي الوطني على استبعاد القانون الأجنبي الذي تشير إليه قاعدة الإسناد الوطنية بوصفه قانوناً واجب التطبيق كلما كانت أحكامه متعارضة مع النظام العام أو الآداب العامة في بلده، أو فيما لو تمَّ التوصل إلى تطبيقه نتيجة تحايل الأفراد على قواعد الإسناد:

1- الدفع بالنظام العام:

يؤدي النظام العام دور صمام الأمان في نظام تنازع القوانين باعتباره استثناءً على القانون الواجب التطبيق بموجب قواعد الإسناد الوطنية:

أ- ماهية النظام العام: رغم صعوبة وضع تعريف دقيق للنظام العام فهو عموماً مجموعة المبادئ والأفكار الأساسية المختلفة السائدة في مجتمع معين في زمن محدد بحيث لا يمكن مخالفتها.

إذ يمكن التمسك بمفهوم النظام العام في سورية مثلاً فيما لو كان القانون الأجنبي الذي أشارت إليه قواعد الإسناد يجيز زواج المسلمة بغير المسلم، أو كان يجيز الرق، أو الاعتراف بأولاد الزنى… ويختلف مفهوم النظام العام من دولة إلى أخرى، بل يمكن أن يختلف مفهومه في الدولة نفسها من حقبة زمنية إلى أخرى.

ويعدُّ الدفع بالنظام العام من النظام العام، وهذا يعني إمكانية إثارته من قبل أي طرف في الدعوى وفي أي وقت كانت عليه، كما يتوجب على القاضي إثارته من تلقاء نفسه.

ب- أثرا الدفع بالنظام العام: يترتب على الدفع بالنظام العام أثران هما:

(1) الأثر السلبي: ويقصد به استبعاد القانون الأجنبي واجب التطبيق على النزاع، وغالباً ما يتم تقنين هذا الأثر بنصوص صريحة مثالها نص المادة (30) من القانون المدني السوري الذي ذهب إلى أنه: «لا يجوز تطبيق أحكام قانون أجنبي عينته النصوص السابقة، إذا كانت هذه الأحكام مخالفة للنظام العام أو للآداب في سورية».

وواضح من هذا النص إمكانية قصر الاستبعاد على أحكام القانون الأجنبي المخالفة للنظام العام دون استبعاده كلياً، وهذا ما يشار إليه عادةً بالاستبعاد الجزئي للقانون الأجنبي.

(2) الأثر الإيجابي: ويقصد به تطبيق قانون القاضي عوضاً عن القانون الأجنبي الذي تمَّ استبعاده، وتذهب تشريعات بعض الدول (كالتشريع الإماراتي والكويتي مثلاً) إلى ذكر هذا الأثر صراحة، في حين تكتفي تشريعات دول أخرى (كالتشريع السوري والمصري) بإبراز الأثر السلبي فحسب في الوقت الذي تسلم فيه التوجهات الفقهية والقضائية السائدة في هذه الدول بتطبيق قانون القاضي يلي استبعاد القانون المختص.

2- التحايل على القانون:

أ- مفهوم التحايل: يقصد بالتحايل على القانون في هذا الصدد استخدام قواعد الإسناد على نحو يؤدي إلى التهرب من تطبيق أحكام قانون معين سواء أكان هذا القانون هو قانون القاضي أم كان قانوناً أجنبياً.

ومثاله: أن يقوم شخص لا يسمح قانون جنسيته بالطلاق بتغيير جنسيته إلى جنسية دولة يسمح قانونها بذلك وصولاً إلى تطليق زوجته، أو عندما يستلزم قانون دولة معينة شكلاً خاصاً لإبرام الزواج فينتقل الطرفان إلى دولة أخرى تهرباً من هذا الشكل وسعياً وراء تطبيق قانون آخر أكثر تحقيقاً لمصالحهم.

وتكشف هذه الأمثلة حقيقةً عن إمكانية التحايل كلما كانت قواعد الإسناد مبنية على ضوابط متوقفة على إرادة الأفراد كضابط الجنسية، أو الموطن، أو موقع المنقول، أو محل إبرام التصرف…

ب- موقف الدول من الدفع بالتحايل على القانون: تنص تشريعات بعض الدول صراحة على الدفع بالتحايل على القانون في نطاق تنازع القوانين، ومنها مثلاً التشريع الدولي الخاص الإسباني لعام 1974 والمجري لعام 1979، في حين يأخذ الفقه في دول أخرى بهذا الدفع كما هو الحال في سورية ومصر والأردن والكويت.

وتذهب التوجهات الفقهية والقضائية السائدة في مجال الدفع بالتحايل على القانون إلى الأخذ به لحماية القانون المختص أصلاً بنظر النزاع بصرف النظر عما إذا كان قانوناً وطنياً أو أجنبياً، وترتب على الأخذ به رفض سريان النتيجة غير المشروعة (كالطلاق في المثال الأول المشار إليه أعلاه) مع الإقرار بصحة الوسيلة التي تعدُّ مشروعة بذاتها (تغيير الجنسية في المثال ذاته).

سابعاً- قواعد الإسناد في المسائل المتعلقة بالأشخاص:

لو استعرضت النظم القانونية في العالم لتبين أن بعضاً من الدول كإنكلترا مثلاً تخضع المسائل المتعلقة بالأشخاص لقانون موطنهم في الوقت الذي تذهب فيه الأكثرية الساحقة من الدول لإخضاع هذه المسائل لقانون الجنسية بما في ذلك الدول العربية، وتنحاز تشريعات الدول العربية حقيقة لهذا القانون باعتبارها تشريعات ذات صبغة دينية فتفضل هذه الدول تطبيق قوانينها على الأحوال الشخصية لرعاياها أينما كانوا وحيثما ذهبوا، خاصةً أن الدول العربية تعد من الدول التي يهاجر منها مواطنوها فتضمن من خلال الأخذ بقانون الجنسية - في المسائل الشخصية على الأقل- مزيداً من الارتباط الروحي والقانوني مع الوطن الأم، كما يرجع تمسك الدول عموماً بقانون الجنسية لما لرابطة الجنسية من أهمية بكونها أكثر استقراراً من علاقة الموطن وأقل عرضة للتغيير؛ ذلك أن الموطن يتحدد مبدئياً بالإرادة ويتغير بتغيرها، ومع ذلك لا تأخذ هذه الدول عادة بقاعدة إسناد موحدة تشمل كل المسائل المتعلقة بالأشخاص إنما تضع مجموعة من القواعد تنظم أهم تلك المسائل، ومثالها:

1- الحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم:

ويقصد بالحالة المدنية هنا مختلف الصفات المتعلقة بالتعريف بالشخص، كالاسم والموطن والغياب والفقد، أما الأهلية فتشير إلى سن الرشد وما قد يعترضه من عوارضٍ كالجنون والعته والسفه والغفلة.

وبالتالي لا تشمل الأهلية المقصودة هنا «الأهلية الخاصة» أو ما يسمى «بموانع التصرف» إذ لا تخضع هذه لقانون واحد، فمثلاً منع الطبيب من تلقي وصية من المريض الذي يعالجه (أثناء مرض الموت) كما هو مقرر في القانون الفرنسي لا علاقة له بقانون الجنسية إنما يخضع هذا المنع للقانون الذي يحكم الوصية.

وتختلف الدول عموماً في تحديدها ضوابط الحالة المدنية وفي تحديدها سن الرشد، فالأهلية المعتبرة في سورية هي بلوغ 18 عاماً، في حين يؤخذ بسن الرشد في مصر ببلوغ 21 عاماً، وفي الدنمارك 25 عاماً.

أما القانون الواجب التطبيق على الحالة المدنية والأهلية في الغالبية العظمى من الدول فهو قانون الجنسية كما أشير سابقاً. وبهذا أخذ كُل من المشرع الفرنسي، والنمساوي (م12) والمجري (م10) والتركي (م 8/1).

وكذلك الحال على المستوى العربي حيث ذهب المشرع السوري في (م12) من القانون المدني إلى أن: «الحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم يسري عليها قانون الدولة التي ينتمون إليها بجنسيتهم…».

وهذا النص يتطابق حقيقةً مع نص (م11) من القانون المدني المصري، و(م11) من قانون المعاملات المدنية الإماراتي، و(م33) من القانون الكويتي و(م11/1) من القانون الليبي، و(م18) من القانون العراقي، حتى في القانون اللبناني رغم أنه لم يوجد نص صريح يأخذ بتطبيق قانون الجنسية على الأهلية إلا أنه ثمة الكثير من النصوص المتفرقة التي أشارت إلى نية المشرع ورغبته في تبني هذا الحل.

2- النيابة الشرعية «النظم الخاصة بحماية فاقدي الأهلية أو ناقصيها»:

يسري عادة على المسائل الموضوعية الخاصة بالولاية والوصاية والقوامة وغيرها من النظم الموضوعية لحماية المحجورين والغائبين قانون الشخص الذي تجب حمايته. وهذا هو حقيقةً مضمون المادة (17) من القانون المدني السوري، والمماثلة للمادة (16) من القانون المصري، وللمادة (16) أيضاً من القانون الليبي.

3- الزواج:

ذهب المشرع الفرنسي إلى تطبيق قانون جنسية كل من الزوجين وقت إبرام الزواج على الشروط الموضوعية لعقد الزواج، وقد سايرته في ذلك مختلف التشريعات العربية كالتشريع السوري مثلاً (م13 قانون مدني)، والمصري (م12) والإماراتي (م11) والليبي (م12)، والكويتي (م136).

ولا يثير تطبيق قانون جنسية الزوجين أي صعوبة فيما لو كان الزوجان من جنسية مشتركة إلا أن الصعوبة تظهر مع اختلافهما في الجنسية، وهنا يذهب الرأي الراجح فقهياً إلى تطبيق قانوني جنسية الزوج والزوجة تطبيقاً موزعاً كلما أمكن، وذلك بأن يطبق على كل طرف قانونه باستثناء ما يعرف بالشروط السلبية للزواج (موانع الزواج) حيث يطبق القاضي عليها القانونين تطبيقاً جامعاً أكثر تشدداً نظراً لأن أثر هذه الموانع كالموانع الصحية والدينية يطال كلا الزوجين بآن واحد.

أما فيما يتعلق بالآثار التي يرتبها عقد الزواج فقد أخضعها المشرع الفرنسي لقانون جنسية الزوجين إذا كانا من جنسية مشتركة، ولقانون موطنهما المشترك إن اختلفا في الجنسية، ولقانون القاضي إن اختلفا في الجنسية والموطن، في حين ذهبت غالبية تشريعات الدول العربية إلى تطبيق قانون جنسية الزوج وقت انعقاد الزواج على تلك الآثار، وهذا ما اتفقت عليه م14/1 ق السوري وم13 ق مصري وم19 ق عراقي وم13 ق ليبي.

واتفقت القوانين السابقة على أنه إذا كان أحد الزوجين وطنياً وقت انعقاد الزواج (سورياً مثلاً) وجب تطبيق القانون الوطني (القانون السوري) وهذا ما أكدته المادة 14 من القانون السوري والمصري والليبي، كما ذهبت هذه القوانين إلى أن الطلاق الذي يتم بإرادة منفردة يخضع لقانون جنسية الزوج وقت الطلاق، والتطليق الذي يتم بحكم القاضي والانفصال إنما يخضعان لقانون الزوج وقت رفع الدعوى (م14/2 سوري - م13/2 ليبي - م13/2 مصري…).

4- الالتزام بالنفقة:

النفقة باعتبارها التزاماً يقع على عاتق شخص معين بتقديم معونة مالية أو عينية إلى قريب أو صهر معوز تخضع عموماً لقانون المدين بها، ومن هنا جاءت م 16 من القانون المدني السوري التي نصت على أنه: «يسري على الالتزام بالنفقة فيما بين الأقارب قانون المدين بها»، وطابق هذا النص ما جاء في المادة 15 من القانونين المصري والليبي.

ويقصد برابطة القرابة عموماً القرابة المباشرة أو قرابة الحواشي، أي النفقة بين الأصول والفروع، والنفقة بين أشخاص يجمعهم أصل مشترك من دون أن يكون أحدهم فرعاً لآخر، إضافة إلى نفقة الأصهار.

5- الميراث والوصية:

يشير الميراث عموماً في هذا الصدد إلى كل من نظام المواريث ونظام التركات، ويقصد بنظام المواريث النظام الذي يحدد شروط الإرث ويعين الورثة ونسبة حصص كل منهم وحالات الحجب وموانع الميراث، أما نظام التركات فيحدد من جهته حقوق الدائنين وكيفية إدارة التركة وتصفيتها.

وقد ميز المشرع الفرنسي فيما يتعلق بالميراث ما بين ميراث المنقولات حيث أخضعه لقانون آخِر مقام للمتوفى، وبين ميراث العقارات الذي أخضعه لقانون موقع العقار.

أما غالبية التشريعات العربية بما فيها التشريع السوري فقد أخضعت مسائل الميراث لقانون جنسية المورث وقت الوفاة.

وكذلك الحال بالنسبة للوصية فيما يتعلق بموضوعها كشروط تكوينها وصحتها وبطلانها والرجوع عنها وقبولها حيث أخضعتها لقانون جنسية الموصي وقت الوفاة.

وهذا خلافاً لشكلها الذي أخضع لقانون الموصي وقت الإيصاء أو لقانون البلد الذي تمت فيه الوصية (م18 مدني سوري وم17 من القانونين المصري والليبي).

ثامناً- قواعد الإسناد في القضايا العينية (الأموال):

من القواعد المسلم بها في فقه القانون الدولي الخاص قاعدة «خضوع المال لقانون موقعه»، وتقسم الأموال عموماً إلى عقارات ومنقولات، ونظراً لإمكانية نقل المنقول من دولة إلى أخرى فإنه يلزم التمييز في معرض تحديد القانون الواجب التطبيق ما بين الأموال العقارية وبين الأموال المنقولة على النحو التالي:

1- العقارات:

من المتفق عليه في الدول كافة خضوع العقار لقانون الدولة التي يقع فيها على اعتباره جزءاً من إقليم تلك الدولة.

وقد أخضع القانون الفرنسي مثلاً الحقوق العينية لقانون موقع المال الذي ترد عليه هذه الحقوق، كما نص القانون السوري (م19 مدني) على أن «يسري على الحيازة والملكية والحقوق العينية الأخرى قانون الموقع فيما يختص بالعقار…». وفي شرح هذه المادة يمكن القول: إن قانون موقع العقار يطبق على كل نزاع يتعلق بأي:

أ- سبب من أسباب كسب الملكية (كالحيازة، الالتصاق، التقادم، العقد…).

ب- حق من الحقوق المتفرعة عن حق الملكية (الانتفاع، الارتفاق، السطحية، الوقف…).

جـ- حق من الحقوق العينية الأخرى (الرهن الحيازي - الرهن التأميني - حقوق الامتياز).

ويستوي بموجب القانون السوري أن يكون العقار عقاراً بطبيعته (كالأرض أو الأبنية) أم عقاراً بالتخصيص (كالنوافذ في البناء).

وقد طابقت حقيقة المادة (19) سابقة الذكر كلاً من م18 من القانون المصري، وم17 من القانون الجزائري لعام 1975، وم18 من القانون الليبي.

2- المنقولات:

إذا ما تعقبت المواد التشريعية الخاصة بالأموال المنقولة في غالبية قوانين الدول العربية (وتحديداً م19 ق. سوري وم18 ليبي ومصري وم17 جزائري وإلى حدٍ ما م51-م52 ق كويتي رقم 5/1961) تبين أنها تنص على أن «يسري على الحيازة والملكية والحقوق العينية الأخرى… بالنسبة إلى المنقول قانون الجهة التي يوجد فيها هذا المنقول وقت تحقق السبب الذي ترتب عليه كسب الحيازة أو الملكية أو الحقوق العينية الأخرى أو فقدها».

ويكشف مثل هذا النص عن آلية معالجة المشرع لمسألة تغير موقع المنقول (التنازع المتغير) وذلك من خلال ضبطه زمنياً لظرف الإسناد، بغرض حماية مبدأ الاحترام الدولي للحقوق المكتسبة على حسب ما تقتضيه حاجة المعاملات الدولية.

وبناء عليه لا يفقد مثلاً الشخص الذي اشترى منقولاً من دون تسلمه في بلد ينص قانونه على انتقال ملكية المبيع بمجرد التعاقد من دون حاجة إلى التسلم (كسورية ومصر وفرنسا) ملكية هذا المنقول فيما لو تمَّ نقله إلى دولة أخرى تستلزم التسليم لنقل الملكية (كسويسرا مثلاً).

وبالمقابل لم تخص تشريعات بعض الدول الأموال المنقولة بقاعدة إسناد تواجه حالة التنازع المتغير، بل اكتفت بصياغة قاعدة عامة تقضي بخضوع المال (عقاراً كان أم منقولاً) لقانون موقعه تاركة للقضاء أمر تدبر معالجة مثل هذه الحالة، ومثال تلك التشريعات القانـــــــــــــــــــــون المدني اليوناني (م27) والقانــــــــــــــــون الإيطالي (م22) والبولـــــــــــــوني (م24).

تاسعاً - قواعد الإسناد في الالتزامات التعاقدية والالتزامات غير التعاقدية:

1- قواعد الإسناد في الالتزامات التعاقدية:

يمكن أن يميز في معرض تحديد القانون الواجب التطبيق على العقد ما بين القانون الواجب التطبيق على موضوعه والقانون الواجب التطبيق على شكله:

أ- القانون الواجب التطبيق على موضوع العقد: من تعقب قواعد الإسناد الخاصة بالالتزامات التعاقدية يمكن أن يلاحظ اتفاقها على مبدأ عام وهو خضوع العقد لقانون الإرادة، وذلك انطلاقاً من حق المتعاقدين في اختيار القانون الذي يحكم اتفاقهم، واعتبار غياب ذلك الاختيار في العقود خياراً سيئاً بالنسبة لهم.

ورغم اتفاق قواعد الإسناد في مجال العقود على مبدأ سلطان الإرادة فقد تختلف عن بعضها - إلى حدٍ ما - في تفاصيل ذلك الإسناد مع غياب إرادة الأطراف المتعاقدة: فذهبت مثلاً كل من المواد (20 قانون سوري-19 قانون مصري-19 ق ليبي-25 ق عراقي-59 ق كويتي) إلى ما يفيد على أن: «يسري على الالتزامات التعاقدية قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً، فإن اختلفا موطناً يسري قانون الدولة التي تمَّ فيها العقد. هذا ما لم يتفق المتعاقدان أو يتبين من الظروف أن قانوناً آخر هو الذي يراد تطبيقه. على أن قانون موقع العقار هو الذي يسري على العقود التي أبرمت بشأن هذا العقار». ومن تحليل هذا النص يتضح أن المشرع قد اعتدَّ بإرادة الأطراف بوصفها ضابطاً أساسياً، ويمكن أن تكون هذه الإرادة إرادة صريحة أو إرادة ضمنية، فالإرادة الصريحة يعبر عنها المتعاقدان باتفاق صريح على قانون معين ليحكم العقد المبرم بينهما من حيث تكوينه أو محله أو سببه أو آثاره سواء من جهة تحديد الأشخاص الملتزمين به أو المستفيدين منه أم من جهة تحديد مضمون الالتزامات العقدية.

أما الإرادة الضمنية فيستدل عليها من خلال القرائن والظروف المحيطة بعملية التعاقد، ومثالها الاتفاق على تنفيذ العقد في دولةٍ معينة، أو الاتفاق على إخضاعه لمحاكم دولة معينة، أو استخدام مصطلحات شائعة في قانون محدد، أو تحرير العقد بلغة دولة معينة.

وقد يحدد المشرع هذه القرائن على نحو حصري يتم تبنيها وفقاً للترتيب الذي وردت فيه على غرار ما جاء في القانون المغربي، وقد يتجاهل المشرع كما في بعض الدول هذه الإرادة (أي الإرادة الضمنية) تجاهلاً مطلقاً كما فعل المشرع الجزائري الذي انتقل مباشرة من قانون الإرادة الصريحة إلى قانون محل إبرام العقد، أو كما فعل المشرع التونسي الذي انتقل بدوره مباشرة من قانون الإرادة إلى قانون الدولة التي يوجد فيها مقر الطرف الذي يكون التزامه مؤثرا في تكييف العقد.

ويسمى القانون الذي يوجه المشرع للأخذ به في غياب قانون الإرادة بقانون الإرادة المفترضة تشريعياً، وبموجبه يرفع المشرع عن القاضي الحرج في أن يبحث عما كان أطراف العقد سيختارون من القوانين لحكم عقدهم (وذلك في غياب قانون الإرادة الصريحة أو الضمنية بحسب توجه بعض الدول).

ويلاحظ من مختلف التوجهات التشريعية السابقة عدم اشتراط المشرع قيام رابطة ما بين القانون المختص والعقد محل النزاع، إلاَّ أنه توجد حقيقة توجهات تشريعية أخرى تذهب إلى خلاف ذلك، وأحد أمثلتها نص م (25) من القانون الدولي الخاص البولوني الصادر عام 1965 الذي اشترط قيام صلة ما بين الرابطة القانونية والقانون الذي اختاره المتعاقدان.

ب- القانون الواجب التطبيق على شكل العقد: ثمة قاعدة قديمة مفادها «خضوع التصرف في شكله لقانون محل الإبرام»، وهذه القاعدة ما تزال محل احترام لدى العديد من مشرعي الدول، إلاَّ أن تشريعات بعض الدول تأخذ بمحل الإبرام بوصفه ضابط إسناد وحيداً، ومثالها القانون العراقي حيث نصَّ في م26 منه على أن تخضع العقود في شكلها لقانون الدولة التي تمت فيها، في حين تأخذ تشريعات دول أخرى بهذا الضابط إلى جوار ضابطٍ آخر كضابط موضوع العقد (الفصل 68 من القانون التونسي)، أو كضابط الجنسية المشتركة للمتعاقدين (المادة 19 من القانون الجزائري)، وبالمقابل تضيف العديد من الدول إلى جانب ضابط محل الإبرام مجموعة من الضوابط الأخرى الانتقائية بهدف تسهيل الاعتراف بصحة العقد من الناحية الشكلية، ومثال ذلك ما ذهبت إليه المواد (21 من القانون السوري - 20 من القانون المصري - 63 من القانون الكويتي - 20 من القانون الليبي…) من أن: «العقود تخضع في شكلها لقانون البلد الذي تمت فيه، ويجوز أيضاً أن تخضع للقانون الذي يسري على أحكامها الموضوعية، كما يجوز أن تخضع لقانون موطن المتعاقدين أو قانونهما الوطني المشترك».

2- قواعد الإسناد في الالتزامات غير التعاقدية:

يقصد بالالتزامات غير التعاقدية الالتزامات الناجمة عن (الوقائع القانونية) بوصفها مصدراً للالتزام، وقد تكون إما وقائع ضارة وأما وقائع نافعة كالإثراء بلا سبب الذي يعدُّ من أهم تطبيقاته الدفع غير المستحق والفضالة.

ويعدّ الاتجاه القائل بخضوع الالتزامات غير التعاقدية لقانون محل وقوع الفعل المنشئ للالتزام من أبرز الاتجاهات وأكثرها شيوعاً في دول العالم: كإيطاليا (م15)، وبولونيا (م31)، وسورية (م22)، وليبيا (م21)، والجزائر (م20)، ومصر (م21)، والعراق (م27)، والكويت (م66- م67).

ومما تجدر الإشارة إليه هو مسألة توزع الوقائع المكونة للفعل نفسه في أكثر من دولة، وخاصة حالة قيام الفعل في دولة وتحقق نتيجة في دولة أخرى، كما لو حصل الخطأ في دولة ونجم الضرر في دولة أخرى في الفعل الضار، أو فيما لو وقع الافتقار في دولة وحدث الاغتناء في دولةٍ أخرى في الفعل النافع.

ويبدو أن المشرع قد تصدى في بعض الدول لمعالجة بعضاً من هذه الفروض، ومثالها ما ذهب إليه المشرع التونسي في الفصل (70) الذي نصَّ على أن: «تخضع المسؤولية غير التعاقدية لقانون الدولة التي حصل فيها الفعل الضار، إلاَّ أنه إذا نتج الضرر في دولة أخرى فإن قانون هذه الدولة ينطبق إذا طلب المضرور ذلك».

وبالمقابل تجاهل المشرع في الكثير من الدول معالجة هذه المسألة مفضلاً تركها للاجتهاد القضائي. ويبدو أن التوجهات الفقهية والقضائية السائدة في هذا الشأن تذهب للأخذ بقانون مكان وقوع الضرر بالنسبة للفعل الضار، وبقانون مكان الاغتناء فيما يتعلق بالفعل النافع.

عاشراً- إسهام مصادر القانون الدولي العام في تسوية حالات تنازع القوانين:

إنَّ معظم علاقات القانون الدولي الخاص محكومة بالقانون الخاص، ولا يغير من طبيعتها وجود العنصر الأجنبي، فعندما يتزوج مثلاً مواطن في دولة ما زوجة أجنبية فإن هذا لا يشعر الدولة بحاجتها إلى الدخول في معاهدة دولية لعدم وجود علاقة مباشرة ما بين دولتي الزوج والزوجة.

ومع ذلك ثمة حالات تسهم فيها مصادر القانون الدولي العام في إثراء نظرية تنازع القوانين، ولعل أهم هذه المصادر:

1- المعاهدات الدولية ثنائية كانت أم جماعية، حيث يمكن للمعاهدات الدولية تنظيم بعض المسائل التي يثور بصددها التنازع، وذلك بأحد طريقين: الطريق الأول يذهب باتجاه توحيد الأحكام الموضوعية الناظمة للمسألة المعنية كالاتفاق على وضع قواعد موضوعية خاصة بحماية حق المؤلف. ومن المسلم به أن هذا الطريق لا يغلق الباب نهائياً أمام قيام حالات التنازع، إما لأن الاتفاقية الدولية لم تنظم كل جوانب الموضوع محل الاتفاق، وإما لأن القضاء في الدول المتعاقدة قد اختلف في تفسيره للنص الموحد.

أما الطريق الثاني فيذهب نحو توحيد قواعد الإسناد في مسألة معينة، ومثالها الاتفاق على إخضاع موضوع تصفية التركات لقانون محل الإقامة المعتادة للمتوفى، وذلك بحسب مشروع الاتفاقية التي أقرها مؤتمر القانون الدولي الخاص في لاهاي عام 1974، ومثالها كذلك معاهدة روما بشأن تحديد القانون الواجب التطبيق على الالتزامات التعاقدية الموقعة عام 1980 التي دخلت حيز النفاذ في أول نيسان/ إبريل 1991.

2- العرف الدولي أو العادات التي تتأصل إلى حد الإلزام، إذ يمكن الحديث عن مجموعة من القواعد التي ينطبق عليها وصف العرف الدولي، ومن قبيلها أنه إذا كان صحيحاً أن لكل دولة الحق في تحديد القواعد الواجبة الاتباع بالنسبة للمنازعات ذات الطبيعة الدولية التي تثور داخل إقليمها فإن الأمر المسلم به عدم إمكان امتناع أي دولة عن تطبيق القوانين الأجنبية بصفة مطلقة، بل يجب عليها عند تنظيمها للعلاقات ذات الطابع الدولي أن تفسح المجال لتطبيق القوانين الأجنبية.

3- الفقه: يشير الفقه إلى فكر رجال القانون وما يصدر عنهم من شروحات وتفاسير ومقارنات…

وفي الحقيقة للفقه فضل كبير في مجال تنازع القوانين سواء ذلك الناجم عن المجهودات الفردية أم ذلك الناجم عن جهود المعاهد الدولية والمجامع.

4- القضاء الدولي (أحكام المحاكم الدولية): يمكن للقضاء الدولي أن يمثل أحد مصادر قواعد التنازع وذلك مع وجود بعض الأحكام الدولية المتعلقة بمادة تنازع القوانين، ومنها مثلاً الحكمان رقما 14 و15 الصادران عن المحكمة الدائمة للعدل الدولي في عام 1929 (في معرض النزاع بين فرنسا ويوغسلا&https://arab-ency.com.sy/law/details/25873/2#1700;يا والبرازيل) حيث قرر الحكمان مبدأ حرية كل دولة في وضع قواعد تنازع القوانين الخاصة بها غير مقيدة سوى بما يترتب عليه بموجب الاتفاقات الدولية، وأن القانون الذي يحكم العقد تعينه قواعد التنازع هذه التي تكون جزءاً من القانون الداخلي.

مراجع للاستزادة:

 

- حفيظة السيد الحداد، الموجز في القانون الدولي الخاص، الكتاب الأول «المبادئ العامة في تنازع القوانين» (منشورات الحلبي الحقوقية، 2007م).

- عز الدين عبد الله، القانون الدولي الخاص، الجزء الثاني (الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة التاسعة، 1986م).

- عكاشة محمد عبد العال، تنازع القوانين «دراسة مقارنة» (منشورات دار الحلبي الحقوقية، بيروت 2007م).

- فؤاد ديب، القانون الدولي الخاص، «تنازع القوانين» (منشورات جامعة دمشق، الطبعة السادسة، 1998).

- محمد المبروك اللافي، تنازع القوانين وتنازع الاختصاص القضائي الدولي، «دراسة مقارنة في المبادئ العامة والحلول الوضعية المقررة في التشريع الليبي» (منشورات الجامعة المفتوحة، 1994م).

- ممدوح عبد الكريم حافظ، القانون الدولي الخاص وفق القانونين العراقي والمقارن ( دار الحرية للطباعة، الطبعة الثانية، بغداد 1977).

 


التصنيف : القانون الدولي
النوع : القانون الدولي
المجلد: المجلد الثاني: بطاقة الائتمان ــ الجرائم الواقعة على السلطة العامة
رقم الصفحة ضمن المجلد : 283
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 558
الكل : 29604691
اليوم : 59607