logo

logo

logo

logo

logo

القروض العامة

قروض عامه

public loans - prêts publics

 القروض العامة

القروض العامة

علي كنعان

تطور نظرية القروض العامة انقضاء القروض العامة
مفهوم القروض العامة آثار القروض العامة
الطبيعة القانونية والاقتصادية للقروض العامة دور القروض العامة في الدول النامية
أنواع القروض العامة دور القروض في تمويل الموازنة في سورية
 

تعدُّ القروض العامة ظاهرة اقتصادية مالية حديثة العهد ترجع في جذورها إلى ظهور الدولة وقيامها بالإنفاق العام، فبحسبانها تنظيماً مالياً هي ظاهرة حديثة وبحسبانها تصرفاً حكومياً فإنها ترجع إلى أيام الملوك والأباطرة والسلاطين، ولتعرف هذه الظاهرة لا بد من دراستها من كافة جوانبها النظرية والتطبيقية ثم تطبيقها في سورية.

أولاً ـ تطور نظرية القروض العامة:

لم تكن القروض العامة وليدة الظروف الراهنة، بل ظهرت مع ظهور الدولة وقيامها بوظائفها التي تتطلب الإنفاق العام، وبما أن قيام الدولة بالإنفاق العام يهدف إلى إشباع الحاجات العامة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فعندما لا تستطيع توفير الأموال اللازمة لإشباع هذه الحاجات من مواردها؛ تلجأ لفرض الضرائب والرسوم أو إلى (المساعدات الاجتماعية) وعندما لا تكفي هذه المصادر تلجأ الدول إلى "الاقتراض العام".

ولدى الرجوع إلى الظروف التاريخية يمكن ملاحظة أن الملوك والأباطرة والسلاطين كثيراً ما كانوا يرهنون أملاكهم ومجوهراتهم للتجار مقابل الحصول على الأموال اللازمة لتغطية النفقات العامة، وخاصة في أوقات الحروب أو عند تمويل الغزوات. واستناداً إلى ذلك كانت ظاهرة القروض العامة ظاهرة استثنائية، أي لا تتكرر سنوياً، بل تكون وليدة ظروف استثنائية فقط.

أما في الظروف الحديثة فقد أخذت ظاهرة القروض العامة فلسفة جديدة نظراً لتغير دور الدولة وتدخلها في الحياة الاقتصادية، فقد كانت الدولة في السابق دولة حارسة لا تُعنى بالإنتاج وتأمين الغذاء وتشجيع التصدير، بل تهتم بالأمن والدفاع وإقامة العدل فقط، ومن ثم لا تحتاج إلى زيادة الإنفاق العام باستمرار، بل في أوقات الشدة والأزمات.

واستناداً إلى ذلك تطورت نظرية القروض العامة وأصبحت أداة مالية اعتيادية سنوية تلجأ إليها الحكومات سنوياً لعدم قدرة الإيرادات الضريبية على مواجهة النفقات العامة، وظهرت أفكار وآراء تؤيد لجوء الدولة إلى القروض العامة وأخرى تعارضها ومازال الجدل دائراً بين المؤيدين والمعارضين حتى هذا اليوم. فالاقتصاديون التقليديون وأتباعهم يعارضون القروض العامة كظاهرة سنوية تلجأ إليها الحكومة، أما الاقتصاديون الكينيزيون فيؤيدون لجوء الدولة إلى القروض العامة سنوياً لأنها تؤثر إيجاباً في العرض والطلب الكليين في الاقتصاد الوطني، وقد توسع دور القروض العامة في المالية العامة للدولة واستخدمت أداة مالية للتأثير في مكونات الاقتصاد الكلي شأنها شأن الضرائب والنفقات العامة وخاصة في الدول النامية التي تعاني من فجوة تمويلية لبناء تنميتها وتطورها الاقتصادي، وهذا ما جعل بعضها تدخل في أزمة مديونية كبيرة نتيجة استخدام هذه الأدوات من دون ضوابط.

ثانياً ـ مفهوم القروض العامة:

ارتبط ظهور القروض العامة بالعجز المالي أو أحياناً بالحاجة المالية المتزايدة للدولة، فأصبحت أداة مالية سنوية تستخدمها الدولة لتمويل برامجها الاقتصادية، وخاصة المشاريع الكبرى، ولذلك تصدى علماء المالية لهذه الظاهرة وعرفوها بتعاريف عديدة ركزت في مجملها على آلية الحصول على القروض والأهداف المتوخاة وطريقة التسديد واستناداً إلى ذلك يمكن تعريف القروض العامة بأنها:

"مبلغ من المال تحصل عليه الدولة من الأفراد أو المؤسسات الوطنية أو الأجنبية يتضمن مقابل الوفاء ويؤدي إلى إشباع الحاجات المالية المتزايدة للدولة ويساعدها على تحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية".

يلاحظ من خلال هذا التعريف أن القروض العامة مبالغ تقترضها الدولة من الجهات التي تتوافر لديها الأموال وتتعهد بإرجاعها حسب الاتفاق فهي عقود مالية بين الأفراد أو المؤسسات المالية وبين الدولة ينتج منها العديد من الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الاقتصاد الوطني.

وبناء على هذا التعريف فإن القروض العامة تتميز بالخصائص التالية التي تميزها من بقية أدوات الدولة المالية، وأهم خصائص القروض العامة هي:

مبلغ من المال: ويقصد بذلك أن الدولة تحدد حاجتها المالية إلى القروض ثم تطرح سنداتها على الاكتتاب العام لكي تجمع بعدها المبالغ التي تحتاج إليها نقداً؛ لأن الأنظمة السابقة كانت تعتمد على القروض العينية أما بعد تطور العلاقات البضاعية النقدية فقد أقلعت الحكومات عن القروض العينية إلى القروض النقدية.

2ـ يقوم بالاقتراض العام، الدولة أو من ينوب عنها من الأجهزة الحكومية (المركزية واللامركزية) مثل وزارة المالية ـ بعض الوزارات المختصة، المحافظة ـ البلدية… وغيرها من الإدارات العامة التي تتمتع بالشخصية المعنوية، لأن جميع هذه المؤسسات تمثل الدولة في مجال عملها، لكن هذه الجهات لا تستطيع الاقتراض إلا بعد الحصول على موافقة السلطة التنفيذية (الحكومة) والحكومة تحصل على موافقة السلطة التشريعية لأنها الجهة الوحيدة المكلفة بمراقبة عمل الحكومة ومحاسبتها في نهاية السنة المالية، لذلك تحتاج الحكومة باستمرار إلى موافقة السلطة التشريعية عند كل واقعة مالية (جباية الضرائب إنفاق ـ اقتراض).

3ـ يقدم الأفراد أو المؤسسات المالية الوطنية أو الأجنبية القروض للجهات الحكومية، فقد يتم الاتفاق بين المقترض (الحكومة) والمقرضين (المؤسسات) مباشرة على تقديم قرض بمبلغ معين وبفائدة محددة ولفترة زمنية يتم الاتفاق عليها أو قد تطرح الدولة سندات الدين العام في سوق الأوراق المالية وتسمح لمن يرغب في الإقراض، ويتحدد في متن السند المبلغ والفائدة وفترة التسديد، وتكون هذه السندات قابلة للتداول في سوق النقد، ويختلف نوع القرض وتأثيره في الحياة الاقتصادية والاجتماعية تبعاً للجهة المقرضة.

يتضمن القرض العام مقابل الوفاء: أي يتحدد في عقد القرض المبلغ والفائدة وزمن السداد، وإذا كانت سندات تطرح في سوق المال يتحدد في متنها المبلغ وزمن السداد وتباع بقيمة سوقية أي تحسم الفائدة مسبقاً من قبل المشتري أما في فترة السداد فإن الحكومة تسدد المبلغ الموجود في متن السند (القيمة الاسمية).

وتختلف القروض العامة عن الضرائب بأنها وسيلة مالية ليست نهائية، أي يجب على الدولة ردها لأصحابها، في حين تكون الضرائب وسيلة مالية نهائية وإلزامية، أي لا يتوجب على الدولة ردها لأصحابها، كما يتوجب عليها رد القروض لأصحابها مع الفائدة أيضاً، لذا يتوجب على الدولة عندما تقترض أن تفكر في العبء المالي الناجم عن القرض، وهذا يلزمها ألا تستخدم إيرادات القروض العامة إلا في الإنفاق الاستثماري المنتج الذي يمكن أن يقدم مردوداً أكبر من فائدته في المستقبل.

تستخدم الدولة القروض العامة لتحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية والسياسة، ففي المجال الاقتصادي تقترض الدولة لتمويل برامجها الاقتصادية، مثل تمويل إقامة مشاريع البنية التحتية أو إقامة مصانع عامة أو مؤسسات خدمية يحتاج إليها الاقتصاد الوطني؛ لأن إقامة هذه المشاريع بأنواعها سوف يشجع على زيادة الإنتاج والاستثمار الأمر الذي يؤدي إلى زيادة معدلات النمو الاقتصادي.

 وفي المجال الاجتماعي قد تقترض الحكومة لتمويل البرامج الاجتماعية، كالصحة والتعليم والثقافة والرياضة وإقامة الجامعات والمدارس وغيرها الأمر الذي يؤدي إلى تحسين الظروف الاجتماعية ورفع المستوى المعيشي للسكان.

إن هذه الأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها إنما تهدف في نهاية المطاف إلى تحسين الظروف المعاشية وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

إن هذه الخصائص التي تتمتع بها القروض العامة تشرح جوهر ومكنون هذه الظاهرة المالية وأهدافها التي تصب في خدمة المجتمع وتطوره في نهاية الأمر.

ثالثا ًـ الطبيعة القانونية والاقتصادية للقروض العامة:

تعدُّ صيغة القروض العامة صيغة قانونية، أي إن عقد القرض هو عقد قانوني يترتب عليه مجموعة من الآثار الاقتصادية والاجتماعية، ولشرح هذا المفهوم لا بد من التفريق بين الطبيعة القانونية والطبيعة الاقتصادية للقرض العام كما يلي:

1ـ الطبيعة القانونية: القرض هو اتفاق بين طرفين، المقرض (الأفراد أو المؤسسات…) ـ المقترض (الحكومة).

ويتحدد في متن هذا العقد: مبلغ القرض ـ الفائدة ـ فترة السداد، وإذا قامت الدولة بطرح سندات الدين العام في الأسواق المالية، فإن السند ذاته يشكل عقداً يتوضح في متنه المبلغ وفترة السداد ويباع بالقيمة السوقية التي تقل عادة عن القيمة الاسمية بمقدار الفائدة، وعلى الدولة السداد عند فترة الاستحقاق، وبناء على ذلك فإن الطبيعة القانونية للقروض تتمثل في:

أ ـ القرض العام يتم بموجب عقد، ويعد هذا العقد من العقود الإدارية بحسبانه يتعلق بنشاط مرفق عام يسعى إلى تحقيق منفعة عامة ويتضمن شروطاً غير مألوفة في عقود القانون الخاص، وهذا ما يميزه من غيره من الإيرادات.

ب ـ القرض العام يستند إلى صك تشريعي: فتقوم الحكومة بعقد القرض وإصدار أسناد الدين العام استناداً إلى إذن مسبق يصدر من قبل السلطة التشريعية، يتضمن موافقتها على الاستدانة من أجل تغذية خزينة الدولة، ويقتصر هذا الإذن عادة على مبادئه الأساسية، كتحديد مبلغ القرض، مدته، معدل فائدته، ويترك للحكومة أمر تنظيم القرض فنياً.

وما يميز القروض الحالية عن القروض السابقة ما يلي:

أ ـ تعقد القروض الحالية باسم الحكومة لا باسم الملك أو الامبراطور أو السلطان.

ب ـ لا تقدم الدولة الضمانات للقروض الحالية، في حين كانت تقدم في الماضي الأملاك أو المجوهرات الملكية ضماناً للسداد.

ج ـ تأخذ القروض العامة الحالية صيغة السندات ويعطى لكل مقترض السند الذي اشترك به ويمكنه بيع هذا السند إلى مقرض آخر.

2ـ الطبيعة الاقتصادية:

كانت القروض في السابق ظاهرة استثنائية، أما في الظروف الراهنة فقد أصبحت القروض العامة ظاهرة فكرية اقتصادية تحمل صفات وخصائص المدرسة الاقتصادية التي تنتمي إليها، وقد اختلفت المدارس الاقتصادية حول الطبيعة الاقتصادية للقروض.

أ ـ أما المدرسة الاقتصادية التقليدية التي قامت على الحرية الاقتصادية وحرية العمل والتملك وعدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية لأن القطاع الخاص هو الذي ينتج ويسوّق ويطوّر الاقتصاد الوطني والدولة تعنى بشؤون الأمن والدفاع وإقامة العدل ومن ثم عليها حصر نشاطاتها الاقتصادية والخدمية في أضيق الحدود، وهذا الأمر يرتب على الدولة تخفيض الضرائب لتغطية النفقات العامة، وفي حال تراجعت الضرائب عن تغطية النفقات العامة يحق للدولة الاقتراض، ولم يشجع التقليديون القروض العامة لأنها تؤدي إلى حصول منافسة بين القطاع الخاص والدولة على اقتسام المدخرات الوطنية الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة فيتأثر الاستثمار ويتراجع الإنتاج ويؤدي ذلك إلى حصول الركود الاقتصادي.

ب ـ أما المدرسة الاقتصادية الكينزية فقد خالفت المدرسة التقليدية لأن أفكار كينز جاءت رداً على الجمود الذي لحق بأفكار المدرسة التقليدية بخصوص تراجع الإيرادات العامة مقابل النفقات العامة، وحصل على الأثر الكساد الكبير عام 1929ـ 1933.

لقد دعا كينز إلى تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، وفي حال عدم كفاية الإيرادات طالبها بالاقتراض من الأموال المدخرة (المكتنزة) بهدف إقامة مشاريع البنية التحتية وإقامة المشاريع الكبرى، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الطلب، فإذا شعر المستثمرون بزيادة الطلب فإنهم يسارعون إلى زيادة الاستثمار وتشغيل العمال مما يؤدي إلى زوال الركود وانتقال الاقتصاد إلى حالة التشغيل الكامل.

إن الوسيلة الوحيدة والفعالة لإخراج الاقتصاد من الركود هي القروض العامة، وإنفاق هذه القروض على المشاريع الكبرى أو الخدمات، مما يؤدي إلى توليد دخول جديدة تدفع المنظمين لزيادة حجم الاستثمار.

لقد أصبحت القروض العامة في العصر الحديث، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أداة مالية عادية تلجأ إليها الحكومات سنوياً وفي أكثر دول العالم لأن النفقات العامة تتزايد سنوياً بفضل التطور الاقتصادي والاجتماعي وبفضل التطور التقني الذي لم يتوقف بعد. لذلك غدت القروض العامة وسيلة مالية عادية تستخدمها الدولة من أجل تحقيق أهدافها العامة.

رابعا ًـ أنواع القروض العامة:

تقسم القروض العامة إلى عدة أنوع أهمها:

1ـ القروض الداخلية والقروض الخارجية:

يكون القرض داخلياً إذا قام بالاكتتاب في سندات الدين العام أشخاص طبيعيون أو اعتباريون داخل الدولة المقترضة أو عند طرح السندات في السوق المالية الوطنية، ويكون القرض خارجياً عندما تعقد الدولة قرضاً مع دولة أجنبية أو مؤسسة مالية دولية أو عند طرح سندات الدين في الأسواق المالية الأجنبية، لكن القرض الخارجي يتطلب وجود ضمانات من الدولة المقترضة.

وتلجأ الدولة إلى القروض الخارجية عندما:

أ ـ لا تستطيع المدخرات الوطنية تغطية السندات المطروحة للاكتتاب.

ب ـ تريد الدولة إقامة مشاريع ضخمة لا تستطيع القروض المحلية تمويلها.

ج ـ تريد الدولة تمويل المستوردات أو تصحيح الاختلال في ميزان المدفوعات.

إن هذه الأسباب تدفع الدولة إلى الاقتراض الخارجي، لكن هذه القروض تختلف في آثارها عن القروض الداخلية، ولكل نوع عدد من المزايا والسلبيات التي تميزه من النوع الآخر يمكن إجمالها فيما يلي:

أ ـ لا يزيد القرض الداخلي الثروة القومية لأنه يحول الأموال من الأفراد إلى الدولة، في حين يزيد القرض الخارجي الثروة القومية (ولو مؤقتاً) لأنه ينقل الأموال من دولة مقرضة خارجية إلى داخل الدولة.

ب ـ لا يؤثر القرض الداخلي في سعر صرف العملة الوطنية، في حين يؤدي القرض الخارجي إلى تحسين ميزان المدفوعات عند الحصول عليه، ويتأثر سعر الصرف إيجاباً. أما عند سداد القرض فيتأثر سعر الصرف سلباً لأنه يحول القطع الأجنبي إلى الخارج.

ج ـ يؤدي القرض الداخلي إلى تحويل الاستهلاك من طبقة إلى أخرى، أما القرض الخارجي فيزيد الطلب المحلي ويحصل الرواج في الاقتصاد نظراً لدخول وسائل دفع جديدة.

د ـ لا يؤثر القرض الداخلي في الوضع السياسي للدولة وفي حال اضطرار الدولة إلى الدفع وعدم توافر الأموال اللازمة تقوم بتحويله إلى قرض طويل الأجل، أما في حال عدم سداد القرض الخارجي فقد تتدخل الدولة الأجنبية في الشؤون الداخلية مما قد يؤثر في الاستقلال السياسي للدولة كما حدث لبعض الدول النامية في أواخر القرن /19/ فزيادة القروض الخارجية على مصر في نهاية القرن التاسع عشر هو السبب الرئيس لاحتلالها من قبل الإنكليز، أو قد تخضع لبرامج صندوق النقد الدولي والمنظمات المالية الدولية مما يؤثر في الوضع الاقتصادي والسياسي للدولة، فقد أصبحت هذه القروض وسيلة جديدة لتدخل الدول الكبرى في التأثير في سياسات الدول المقترضة المالية والاقتصادية لفرض  القواعد التي تحسن ماليتها من أجل مساعدتها في الاستمرار في وفائها لقروضها من دون النظر أحياناً لآثار ذلك في الناحية الاجتماعية.

2ـ القروض الاختيارية والقروض الإجبارية:

يقصد بالقرض الاختياري أن يكون الأفراد أحراراً في الاكتتاب في سندات الدين العام أما القروض الإجبارية فتقدم عليها الدولة عندما لا تجد من يكتتب في القروض الاختيارية فتفرض على كل مواطن مبلغاً معيناً استناداً إلى الضريبة التي يدفعها، أو قد تؤجل دفع القروض الاختيارية فتتحول إلى قروض إجبارية، وقد تقترب القروض الإجبارية من الضرائب نظراً لوجود صفة الإجبار في الاشتراك في هذه القروض وهي غير معلومة أجل السداد.

والسؤال المطروح الآن: متى تلجأ الدولة إلى القروض الإجبارية؟

الأصل في القرض هو صفة الاختيار، لكن صفة الإجبار تجعل منه أقرب إلى الضريبة وتلجأ الدولة إلى القروض الإجبارية في الحالات التالية:

أ ـ عندما تطرح الدولة سندات الدين العام ولا يشترك بها أحد، لذلك تلجأ إلى فرض قروض إجبارية بهدف تمويل نفقاتها العامة المستعجلة.

ب ـ في حالات كالتضخم قد تفرض الدولة على المواطنين قروضاً إجبارية بهدف امتصاص جزء كبير من السيولة الفائضة، الأمر الذي يؤدي إلى نقص السيولة وتراجع الأسعار.

ج ـ عندما يحين أجل القروض الاختيارية ولا يوجد ما يكفي للسداد، تحولها الحكومة إلى قروض إجبارية فتمدد أجل  سدادها من قبل طرف واحد.

د ـ في حالات تأميم المشروعات الصناعية أو الأراضي أو الأملاك العقارية تعتبرها الدولة قروضاً وتسددها بعد خمس أو عشر سنوات، فهي تعد في مثل هذه الحالة قروضاً إجبارية.

3ـ القروض المؤبدة والقروض المؤقتة:

يكون القرض مؤبداً عندما لا تلتزم الدولة بسداده في الأوقات المتفق عليها وتصبح صفة التأجيل عنصراً من عناصر القرض، أما القرض المؤقت فهو قرض قصير الأجل يتم الاتفاق عليه مع الحكومة لمدة ستة أشهر أو سنة تقريباً وتلتزم الحكومة بسداده مع الفوائد في زمن الاستحقاق.

أما القرض المؤبد فيصبح رهين قرارات الدولة، لا أحد يعلم متى تسدده، ولكي تحقق الحكومة مزايا خاصة عليها تحيُّن الفرصة المناسبة للسداد مثل التضخم أو وجود فوائض في الموازنة.

وتلجأ الدولة إلى القروض المؤبدة في حالات الإفلاس المالي أي عدم توافر الإيرادات اللازمة للسداد وزيادة حجم التهرب الضريبي وغير ذلك، الأمر الذي يدفعها إلى اللجوء إلى القروض المؤبدة التي تحمل في طياتها الكثير من المخاطر، فإذا ازداد حجم الدين وتراكم تصبح الحكومة عاجزة عن السداد، مما يؤثر في كفاءة النظام الاقتصادي وفي مصداقية الحكومة وقراراتها، وقد تؤدي الديون المتراكمة إلى هروب المستثمرين وحصول الأزمات الاقتصادية التي تنتهي بزوال هذه الأنظمة كما حصل في أمريكا اللاتينية بعد أزمة المديونية عام 1982، فالقروض العامة هي ظاهرة خطرة إذا لم تحسن الدولة استخدامها وتخطيط سدادها.

وبناء عليه فإن نجاح القروض العامة يتوقف على توافر بعض الشروط الخاصة التي لا بد من توافرها في السوق المالية يمكن إجمالها في شرطين أساسين هما:

وجود ادخار جاهز للتوظيف، فتمول القروض العامة من الأموال الفائضة عن حاجة الاستهلاك والموجودة على شكل مدخرات، ويتوقف نجاح القرض على زيادة حجم الدخل عن حجم الاستهلاك، وتزداد القدرة على الإقراض كلما زاد حجم الادخار الذي يتوقف على حجم الدخل وحجم الاستهلاك والميل الحدي للادخار، وهذه العوامل التي تؤثر في الادخار وتؤدي إلى نجاح عملية الاقتراض.

توجيه المدخرات نحو القروض العامة وهذا يتوقف على ثقة المدخر بالدولة بحسبانه يقوم على وعد منها بإعادة قيمته مع الفوائد، وعلى استخدام الدولة لسلطتها السيادية لتحقيق هذا الهدف، وعلى المزايا المالية التي تمنح للمقرضين التي تختلف تبعاً لشروط السوق المالية وحالة الدولة الاقتصادية والسياسية.

خامساً ـ انقضاء القروض العامة:

يقصد بانقضاء القروض العامة حلول أجلها وقيام الحكومة بسدادها للمقترضين مع الفوائد دفعة واحدة أو قد تقوم الحكومة بسداد القرض على دفعات وذلك للتخفيف من الفوائد التي تترتب على القرض. إن استمرار الحكومة في استخدام الأموال المقترضة يرتب عليها فوائد مرتفعة، وقد تصل خدمة الدين في بعض الدول إلى ما يعادل الإيرادات الضريبية، لذلك من مصلحة الحكومة تسديد القروض أو إيجاد سبل جديدة لتبديل قروض قديمة بقروض جديدة أقل تكلفة من السابقة.

ويأخذ انقضاء القروض العامة عدة أشكال:

1ـ تسديد القرض العام: وهو الحالة الطبيعية لانقضاء الدين العام، ويقصد به السداد دفعة واحدة مع الفوائد.

2ـ استهلاك القرض العام: ويكون الاستهلاك بدفع القرض القديم على دفعات خاصة عندما تتوافر الأموال لدى الدولة، الأمر الذي يخفف من العبء المالي على الدولة ويخلصها من تراكم الدين، لذلك تلجأ الحكومات إلى استهلاك القروض تدريجياً بدلاً من سدادها دفعة واحدة، وهذه طريقة انقضاء القروض العامة الشائعة حالياً وخاصة في القروض الضخمة، إذ تعطي الدولة فترة سماح لا تسدد من القرض أي جزء ثم يتم تقسيم القرض إلى أجزاء يدفع كل منها في موعد محدد في اتفاقية القرض.

3ـ تثبيت القروض العامة: ويكون في حالات نادرة عندما لا تستطيع الدولة سداد القروض قصيرة الأجل (أذون الخزينة) فتقوم بتحويلها إلى قرض طويل الأجل مع رفع سعر الفائدة للقرض الجديد، وفي هذه الحالة قد يكون التمويل اختيارياً أو إجبارياً حسب حالة الاقتصاد الوطني، وفي كلتا الحالتين يتحول القرض قصير الأجل إلى قرض طويل الأجل مع تعديل الفائدة، فتثبيت القرض يعني تأجيل دفعه عندما يحل أجله إلى موعد لاحق وذلك بإصدار قرض جديد بمبلغ القرض المستحق نفسه، والتثبيت قد يأخذ الصفة الإجبارية أحياناً وفي الغالب يكون اختيارياً.

4ـ تبديل القرض العام: وتحصل هذه الحالة عندما تستطيع الحكومة الحصول على قروض جديدة بأسعار فائدة أقل فتقوم بسداد القروض السابقة إجبارياً فتكون قد استبدلت بقرض منخفض الفائدة قرضاً بأسعار فائدة مرتفعة.

5ـ الامتناع عن وفاء القروض العامة: يعد الامتناع عن الوفاء بالقرض هو الشكل المقابل لتسديد الدين العام واستهلاكه، ويتم عندما تعلن الدولة عن انقضاء الدين العام بعزمها على عدم الوفاء بقيمته وقيمة فوائده وهو ما يسمى أحياناً بإنكار الدين العام، وغالباً ما يتم عند تبدل الحكومات كما حدث مثلاً عند انتصار الثورة البلشفية في الاتحاد السوڤييتي السابق وأعلن لينين عدم اعتراف الاتحاد السوڤييتي بالديون التي عقدتها روسيا القيصرية، وما يحصل حالياً في العراق عندما طلبت الحكومة العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين من الدول المقرضة إسقاط الديون التي ترتبت على العراق من قبل النظام السابق.

سادسا ًـ آثار القروض العامة:

لقد أكدت الدراسات والتجارب العملية، أن لكل ظاهرة مالية (ضرائب ـ نفقات عامة ـ إعانات ـ قروض عامة…) مجموعة من الآثار المتعددة في جميع المجالات، وحتى تؤثر الحكومة في الوسط الاقتصادي والاجتماعي القائم أصبحت مضطرة إلى الحصول على القروض بهدف إحداث تغييرات جوهرية في المجتمع تسهم في تحقيق أهدافه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

مما تقدم يمكن ملاحظة أن القروض العامة تؤدي إلى ظهور آثار اقتصادية واجتماعية كما يلي:

1ـ الآثار الاقتصادية للقروض العامة:

يؤثر الإنفاق الكلي للمجتمع في الإنتاج الكلي، فكلما ازداد الإنفاق ازداد الناتج ويحصل الرواج، وبالمقابل إذا انخفض حجم الإنفاق الكلي ينخفض حجم الناتج الكلي ويتراجع معدل النمو الاقتصادي، ولكي يزداد الإنفاق الكلي تقوم الحكومة بالاقتراض بهدف زيادة حجم الإنفاق الكلي وإحداث تأثيرات متعددة في الاقتصاد الوطني، أي إن القروض سوف تؤثر في جميع القطاعات وسوف تترك الآثار الاقتصادية التالية:

أ ـ أثر القروض العامة في الناتج المحلي الإجمالي:

إذا أُخذت القروض العامة كمتغير مالي بغض النظر عن مصدر الأموال، فإنها تؤدي إلى إحداث آثار في الناتج المحلي الإجمالي، أي إذا أنفقت الدولة القروض العامة على المشاريع الإنتاجية أو الخدمية فإن ذلك سيؤدي إلى تحفيز المنتجين على زيادة الإنتاج فيقوم المستثمرون بتوسيع مشاريعهم أو العمل بوردية إضافية مما يؤدي إلى زيادة معدلات التشغيل وتصنيع المواد الأولية ومن ثم إلى زيادة الإنتاج وزيادة معدلات النمو الاقتصادي.

كما يمكن أن توقع وجود حالتين في الاقتصاد:

> ففي حالة الركود ينخفض حجم الطلب ويتوقف المنتجون عن زيادة الإنتاج وتظهر البطالة في صفوف العمال وتنخفض الدخول، فإذا قامت الدولة بالاقتراض وأنفقت القروض على الأنشطة الخدمية فإن ذلك سيؤدي إلى توليد دخول جديدة فيشعر المستثمرون بوجود طلب جديد فيقومون بزيادة الإنتاج الأمر الذي يؤدي إلى إخراج الاقتصاد من حالة الركود.

> أما في حالات الرواج فإن إنفاق القروض العامة سوف يزيد الطلب الأمر الذي يدفع الاقتصاد باتجاه التضخم لذلك لا ينصح الاقتصاديون بالاقتراض والإنفاق في حالات الرواج لأن معدلات التضخم سوف تزداد.

ب ـ آثار القروض العامة في الدخل:

إذا طرحت الدولة القروض العامة على الاكتتاب العام فإن المشتركين في القروض هم أصحاب الدخول المرتفعة أو المتوسطة، أي سوف تسحب جزءاً من دخولهم وإذا قامت بإنفاق القرض على المجالات الخدمية فإن المستفيدين هم الفقراء، في حين يتحمل الأغنياء عبء هذا التحسن، وبالمقابل إذا أنفقت الدولة القروض على المشاريع الإنتاجية فإن المستفيدين هم الأغنياء وجزئياً الفقراء لأن البطالة سوف تنخفض، لكن المنتجين سوف يوظفون آلات جديدة وتجهيزات مما يؤدي إلي زيادة أرباحهم.

وبوجه عام فإن إنفاق القرض سوف يؤثر في مستويات الدخل وسوف ينشط مجالات العمل وسوف تزداد الدخول ثانية، فإذا كررت الدولة الاقتراض والإنفاق فإن ذلك سيرفع من مستويات الدخول المتدنية ويطرأ تحسن على مستويات المعيشة.

ج ـ آثار تسديد القروض العامة:

إذا قامت الدولة بتسديد القروض العامة عند حلول أجلها فإن ذلك سيؤثر في الإنتاج والدخل معاً نظراً لأنها ستحرر الأموال التي كانت معطلة أو من فائض الموازنة.

فإذا سددت الحكومة القروض العامة وكان الاقتصاد في مرحلة أقل من مرحلة التشغيل الكامل فإن أصحاب الأموال سوف يتوجهون بها إلى السوق فيزداد الطلب على سلع الإنتاج، وسلع الاستهلاك الأمر الذي سيدفع المنتجين إلى زيادة الإنتاج فيزداد عرض السلع والخدمات ويزداد التشغيل وتزداد الدخول ويمكن أن يصل الاقتصاد إلى مرحلة التشغيل الكامل.

أما إذا أنفقت الدولة القروض وكان الاقتصاد في مرحلة التشغيل الكامل، فإن ذلك سيزيد الطلب الكلي ونظراً لوصول الإنتاج إلى مرحلة التشغيل الكامل فإن زيادة الطلب الجديدة الناجمة عن تسديد القروض سوف تؤدي إلى زيادة الأسعار وحدوث التضخم، لذلك لا ينصح في مرحلة التشغيل الكامل باستهلاك القروض أو تسديدها، بل سحب سيولة من السوق بهدف تخفيض الأسعار.

2ـ الآثار الاجتماعية للقروض العامة:

كما تؤثر القروض في المتغيرات الاقتصادية فإنها تؤثر في الطبقات والشرائح الاجتماعية وذلك من خلال عمليتي جباية القروض وإنفاقها وتوزيع الأعباء بين الأجيال كما يلي:

أ ـ توزيع الأعباء بين الطبقات الاجتماعية:

تتوقف الآثار الاجتماعية للقروض العامة على تمويل القرض وإنفاقه والتسديد كما يلي:

(1) ـ تمويل القرض: لا يمتلك الفقراء الدخول اللازمة للاشتراك في القروض العامة لذلك سوف يقوم الأغنياء ذوو الدخول المرتفعة بالاشتراك في القروض العامة ويكون الأغنياء قد تحملوا عبء الاشتراك في القروض لأنه إذا لم يكتتب أحد فإن الدولة ستضطر إلى فرض ضرائب غير مباشرة جديدة، ومن خلال اكتتاب الأغنياء يكون الفقراء قد تجنبوا الضرائب المحتملة، ولكن ذلك لا يعني أنهم يكتتبون عليها دون فائدة.

(2) ـ آثار إنفاق القرض: سوف يتوجه القرض إلى تمويل المشاريع الخدمية أو الإنتاجية وسوف تظهر الآثار التالية:

> إذا أنفق القرض على المجالات الخدمية من خدمات الصيانة ودعم الأسعار وتقديم الإعانات للفقراء وغيرها فإن آثار القرض تكون إيجابية على الفقراء نظراً لأنها ستؤدي إلى تحسين دخولهم أكثر من الأغنياء سواء اشتركوا في هذه القروض أم لا.

> أما إذا أنفق القرض على المجالات الإنتاجية مثل الطرقات والجسور أو المشاريع الإنتاجية فإن ذلك سيؤدي إلى تحسين دخول الأغنياء والفقراء معاً، أي سوف تزداد أرباح المنتجين وسوف يعمل الفقراء في المشاريع الإنتاجية فتزداد دخولهم.

(3) ـ من سيتحمل عبء التسديد: إذا أنفقت القروض العامة على المشاريع الإنتاجية فإن هذه المشاريع سوف تزيد الأرباح وتزداد الضرائب المباشرة، وعندها يقع عبء التسديد على الأغنياء، أما إذا أنفقت القروض العامة على المشاريع الخدمية فإن هذه المشاريع لا تسهم في زيادة الإنتاج مباشرة ولذلك تضطر الدولة إلى فرض ضرائب غير مباشرة يقع عبؤها على الفقراء.

ب ـ توزيع الأعباء بين الأجيال:

تؤثر القروض العامة في توزيع الأعباء العامة بين الأجيال ويتحدد الجيل الغانم والجيل الغارم وفق إنتاجية القرض، ولتوضيح آلية ذلك يسمى الجيل الذي يسهم في القرض بالجيل الأول والجيل الذي يسدد القرض بالجيل الثاني ويتحدد الجيل الغانم أو الغارم تبعاً لنوع النفقة التي مولها القرض:

يتوزع عبء القروض العامة بين الأجيال استناداً إلى إنفاق القرض:

> فإذا أنفق القرض على المجالات الخدمية سوف يستعين بالجيل الأول لتمويله وهو الذي يستفيد منه أيضاً، في حين يقع على الجيل الثاني عبء التسديد من خلال فرض ضرائب غير مباشرة.

> أما إذا أنفق القرض على المجالات الإنتاجية فإن الجيل الأول يكون قد ضحى بالأموال والرفاهية ولكنه لا يستفيد منه إلا جزئياً، أما الجيل الثاني فيكون هو المستفيد لأن هذه المشاريع سوف تستطيع تسديد القروض من خلال الضرائب المباشرة نظراً لتحسين الدخول للجيل الثاني.

سابعا ًـ دور القروض العامة في الدول النامية:

إن انخفاض حجم الدخول في الدول النامية وزيادة حجم التهرب الضريبي يؤديان إلى انخفاض حجم الإيرادات العامة للدولة، إضافة إلى ذلك تحتاج الدولة النامية إلى موارد مالية كبيرة لتمويل برامجها الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يفاقم المشكلة المالية، فمن جهة تحتاج إلى الأموال لتمويل مشاريع التنمية، ومن جهة أخرى تنخفض الإيرادات الضريبية. فما هو الحل؟

إن زيادة عجز الموازنة العامة للدولة يدفعها إلى البحث عن مصادر مالية للتمويل، ونظراً لانخفاض مستوى الدخول  لن تجد من يكتتب في السندات العامة، لذلك تلجأ إلى الاقتراض من المصرف المركزي (إصدار نقدي) أو إلى الاستدانة من المؤسسات المالية الدولية أو الحكومات الأجنبية ولكل نوع من هذه القروض مخاطره وآثاره السلبية في الاقتصاد الوطني فما هي الآلية التي تحصل بها الدولة على القروض وما هي آثارها؟

أ ـ الاقتراض من المصرف المركزي: نظراً لانخفاض الدخول بوجه عام وعدم وجود أسواق مالية متطورة لإصدار القروض تلجأ حكومات الدول النامية إلى الاعتماد على المصرف المركزي في تمويل عجز الموازنة العامة وعادة ما يطلق على هذا النوع من القروض (التمويل بالعجز). إن زيادة حجم الإصدار النقدي سوف يؤدي إلى زيادة حجم السيولة المحلية ونظراً لعدم مرونة الجهاز الإنتاجي فلا تؤدي زيادة السيولة إلى زيادة الإنتاج، بل إلى زيادة المستوى العام للأسعار ويحصل التضخم، وإذا ما استمرت الدولة في استخدام هذه السياسة لفترة طويلة فسوف تكون أمام تضخم جامح أو مفرط كما يُقال: إذ تتجاوز الأسعار 100% سنوياً، فقد وصل معدل التضخم في دول أمريكا اللاتينية، في عام 1982 إلى نحو 800% نتيجة الاعتماد على الإصدار النقدي في تمويل عجز الموازنة، كما حدث ذلك في سورية وإن كان بمعدلات أقل في الفترة ذاتها.

إن هذا النوع من التمويل يؤدي إلى تخريب العادات الاستهلاكية وأساليب الإنتاج ويدفع التجار إلى تغطية فائض الطلب عن طريق زيادة حجم الاستيراد من السلع الفاخرة الأمر الذي يؤثر في كفاءة السلع الوطنية وفي تطورها، فيظهر التراجع في الإنتاج بدلاً من الزيادة ويحصل التضخم ويؤدي على فترات طويلة إلى زيادة فقر الفقراء وزيادة غنى الأغنياء فيظهر الفقر المدقع والغنى الفاحش.

ب ـ الاقتراض من الحكومات الأجنبية أو المؤسسات المالية الدولية: إن الحاجة إلى استيراد التكنولوجيا والآلات والمعدات والمعادن والمواد الأولية وغيرها تؤدي إلى زيادة حجم فاتورة الاستيراد ونظراً لعدم توافر القطع الأجنبي لذلك تلجأ بعض الدول النامية إلى الاستدانة، إما من المؤسسات الدولية أو من حكومات الدول الأجنبية، وفي كلتا الحالتين لا تستطيع هذه القروض تمويل القاعدة الإنتاجية واستثمار الموارد الوطنية، لذلك ستقع الدولة في حالة العجز الأمر الذي سيدفع صندوق النقد الدولي إلى التدخل في الشؤون الداخلية وفرض سياسات إلزامية على هذه الدول مما يؤثر في قرارها الاقتصادي وأحياناً في قرارها السياسي، فتصبح ملزمة بتطبيق سياسات الصندوق في الليبرالية الاقتصادية وتحرير السوق وتدور في فلك الرأسمالية العالمية، فتعجز عن تحقيق التنمية الوطنية، كما يحدث الآن لعديد من الدول التي تنفذ توجهات الصندوق في إصلاحها المالي والاقتصادي كمصر والأردن وغيرها من الدول النامية.

ج ـ أزمة المديونية ودور مؤسسات التمويل الدولية: لم تكن القروض الخارجية في يوم من الأيام الوسيلة المالية الأهم لمعالجة عجز الموازنة العامة، أو لتمويل المشروعات الاقتصادية الوطنية، بل كانت وما زالت وسيلة استثنائية تلجأ إليها حكومات الدول النامية في حال عدم كفاية الإيرادات المالية المحلية لتغطية النفقات العامة أو لتمويل مشاريع القاعدة الأساسية، وتهدف الحكومات من وراء هذه الوسيلة المالية إلى تطوير البلاد ونقلها من دولة متخلفة إلى دولة متقدمة.

استناداً إلى ذلك يمكن تعريف القرض الخارجي بأنه:

مبلغ من المال تحصل عليه الدولة من الحكومات الأجنبية أو من المؤسسات المالية الدولية. بالعملة الأجنبية ويتضمن الفائدة مع تحديد فترة الاستحقاق وذلك بهدف تطوير مشاريع البنية التحتية والقاعدة الإنتاجية الوطنية.

تحصل الحكومات في الدول النامية على القروض الأجنبية بهدف تطوير اقتصادها الوطني، وإقامة قاعدة إنتاجية متطورة، لكن الدول المتقدمة (الدول المانحة) لا ترغب في هذه الأهداف فتضع بعض الشروط التي تمنع من تحقيق الأهداف المنشودة، وتقع الدولة النامية بعد فترة وجيزة في شرك المديونية، ليتدخل صندوق النقد الدولي في الشؤون الداخلية ويقوم بعملية جدولة القروض المستحقة، فما هي المديونية وما هي جدولة الديون، وما هي آثارها الاقتصادية والاجتماعية؟

(1) ـ أزمة المديونية: "هي تزايد حصة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي حيث تفوق خدمة الدين حجم الصادرات، الأمر الذي يدفع الدولة لعدم تسديد الديون" أو بعبارة سهلة وواضحة: "هي عدم القدرة على السداد".

ولكي نجمع كافة خصائص المديونية في كونها:

"حالة عجز البلد المدين عن سداد ديونه مما يفسح المجال للدائنين للتدخل وخاصة المؤسسات المالية الدولية لإجراء الجدولة وإجبار البلد على اتباع سياسات اقتصادية تساعده على الدفع".

استناداً إلى هذا التعريف يمكن تحديد خصائص المديونية كما يلي:

> عجز البلد المدين عن السداد، وذلك بسبب تزايد ديونه الخارجية بحيث تتجاوز الأقساط السنوية قيمة الصادرات.

> تراجع صادرات البلد بسبب بعض المواسم الرديئة أو بسبب الركود العالمي الأمر الذي يخفض ما كان متوقعاً للسداد.

> تدخل الدول الدائنة في الشؤون الداخلية للبلد المدين وتشكيل نوادي الديون مثل نادي روما ـ نادي باريس ـ نادي لندن، لمعالجة الأزمة المالية للدول التي تدخل في إطار هذا النادي.

> تدخل المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي ـ البنك الدولي للإنشاء والتعمير) لمساعدة الدول المدينة في رسم خطة مستقبلية تساعدها على تسديد الديون.

> إجبار البلد المدين على اتباع خطة تقشف من جهة واتباع سياسة انفتاح اقتصادي من جهة أخرى تساعده على توفير الأموال اللازمة للسداد والاستغناء عن خطة التنمية الاقتصادية الوطنية.

 إن هذه الخصائص والصفات ظهرت عند ظهور أزمة المديونية عام 1982 عندها وقعت في هذه الأزمة العديد من الدول النامية وعلى رأسها (البرازيل ـ الأرجنتين ـ المكسيك) وتدخل صندوق النقد الدولي لتسوية هذه الأزمة.

(2) ـ أسباب المديونية:

ظهرت أزمة المديونية عام 1982 عندما توقفت البرازيل والأرجنتين والمكسيك عن دفع ديونها الكبيرة ويرجع السبب في ظهور أزمة المديونية إلى ما يلي:

> ارتفاع أسعار الفائدة على القروض التي حصلت عليها الدول النامية، وخاصة إذا كانت القروض تمنح بفائدة متقلبة.

> ارتفاع أسعار النفط عام 1973 وعام 1979 بنسبة 400% الأمر الذي زاد الفاتورة النفطية للدول المستوردة.

> تدهور شروط التبادل التجاري لمصلحة الدول المتقدمة، فأصبحت سلع الدول النامية بأسعار متدنية، في حين ارتفعت أسعار السلع الصناعية من الدول المتقدمة إلى 500% وأحياناً 700% مقارنة بأسعار عام 1970.

> إخفاق سياسة تعبئة الفائض الاقتصادي نتيجة الاعتماد على القروض الداخلية والخارجية، وإهمال تطور الإيرادات الضريبية وتطوير التشريعات المالية.

> إخفاق خطط التنمية الاقتصادية نتيجة الاعتماد على خطط طموحة تفوق الإمكانيات الوطنية من جهة، وتنفيذها على عدة سنوات مما يفقدها أهميتها في إقامة المشاريع وتطويرها.

> الفساد الإداري وتهريب الأموال إلى الخارج لأن أكثر الكوادر الإدارية ارتبطت بالمؤسسات المالية الدولية للحصول على القروض لكل مشروع سواء كان في حاجة إلى الأموال أم لا؟

> غياب السياسة المالية السليمة للإقراض، إذ تتقدم كل مؤسسة بطلب قرض خارجي لتمويل برامجها الأمر الذي يزيد التكلفة ويخفض المزايا التي يمكن الحصول عليها فيما لو حصلت الدولة على القروض دفعة واحدة.

إن هذه الأسباب أدت بوضوح إلى زيادة حجم الديون وارتفاع تكاليفها ومن ثم العجز عن السداد، الأمر الذي يفسح في المجال للمؤسسات المالية الدولية للتدخل وتطبيق برامج إلزامية على هذه الدول فما هي آلية التدخل؟

(3) ـ تدخل المؤسسات المالية الدولية:

عندما تعجز الدول المدينة عن السداد نتيجة بعض الظروف تصبح خدمة الدين (الأقساط مع الفائدة) أكبر من الصادرات فتعلن الدولة توقفها عن الدفع الأمر الذي يدفع الحكومات إلى إيجاد الحلول فتستعين بالمؤسسات المالية الدولية، فيتدخل صندوق النقد الدولي لإيجاد الحلول المناسبة، وترى أكثر الأوساط الاقتصادية في أسلوب عمل الصندوق تدخلاً في الشؤون الداخلية للبلد المدين وتحويله إلى سياسة اقتصادية جديدة (الليبرالية الاقتصادية) وزوال السياسة الوطنية التي كان يتبعها قبل الأزمة.

تتألف مساعدة الصندوق من وصفتين أساسيتين:

> التوقف عن تقديم الإعانات للفقراء ودعم الصناعة الوطنية والقطاع العام، وتعويم أسعار منتجات القطاع العام والسماح بدخول استثمارات أجنبية للمشاركة في المؤسسات الإنتاجية وإقامة مشاريع جديدة.

> تخفيض حجم الإنفاق العام على المجالات الخدمية والإنتاجية بهدف توفير كميات محددة من المال سوف تسدد للدول الدائنة.

إن مثل هذه الوصفات للدول النامية تؤدي عادة إلى:

> انخفاض حجم الطلب المحلي الأمر الذي يدفع الاقتصاد الوطني باتجاه الركود.

> تراجع حجم الإنتاج الحقيقي وتزايد حجم الخدمات الأمر الذي يؤدي إلى زيادة أعداد العاطلين عن العمل.

> زيادة أعداد الفقراء نتيجة انخفاض الدخول.

> ظهور ثورة الجياع نظراً لرفع الدعم عن السلع الغذائية وارتفاع أسعارها لتقترب من الأسعار العالمية في حين تتراجع الدخول بالمقابل.

إن هذه الإجراءات تؤدي إلى تسديد الديون، لكنها تدخل الاقتصاد في حالة الركود وإعادة الفرز الاجتماعي فينقسم المجتمع إلى طبقتين: الفقراء والأغنياء، في حين كانت الطبقة الوسطى في السابق تقوم بتنمية وتطوير التشريعات والأنظمة الإدارية.

ثامناً ـ دور القروض في تمويل الموازنة في سورية:

تعتمد سورية منذ فترة طويلة من الزمن على القروض الداخلية والخارجية في تمويل عجز الموازنة العامة للدولة، وذلك بسبب قلة الإيرادات الضريبية الناجمة عن الإعفاءات الضريبية والتهرب الضريبي من جهة وبسبب قدم وتعدد التشريعات المالية التي ما زالت لا تواكب التطور الحاصل في الفكر المالي المعاصر من جهة ثانية، لذلك تلجأ إلى القروض العامة للتمويل وتستخدم سورية القروض التالية:

1ـ القروض الداخلية: تحصل الحكومة في سورية على القروض من المصادر التالية:

أ ـ من مصرف التوفير: أحدثت سورية مصرفاً للتوفير بهدف تشجيع الادخار واستخدام هذه المدخرات في مشاريع تنموية، فكان سابقاً تحت اسم صندوق توفير البريد وكانت أمواله مخصصة لتمويل عجز الموازنة بالكامل، أما حالياً ومنذ عام 2000 فقد أصبح (مصرفاً للتوفير)، ومازال يقرض الخزينة العامة ما يزيد على حاجته وخطته التسليفية.

ب ـ شهادات الاستثمار: وقد تم تكليف مصرف التسليف الشعبي بإصدار وتسويق وتخديم شهادات الاستثمار وهي بأشكال متعددة تجمع حصيلتها وترحل إلى الخزينة العامة للدولة وهي قروض داخلية يكتتب بها الأفراد وتدفع الدولة عليها أسعار فائدة مجزية لجذب المكتتبين.

ج ـ قروض المصرف المركزي: وهي مبالغ يقرضها المصرف المركزي للمؤسسات العامة، مثل مؤسسة الحبوب والأقطان ومؤسسة محروقات وبعض المؤسسات الأخرى وهي بمثابة إصدار نقدي لأن الحكومة لم تستطع إعادة هذه المبالغ المقترضة وتتراكم سنوياً لتشكل في مجموعها ديون المصرف المركزي على الحكومة.

2ـ القروض الخارجية: وهي مبالغ تقترضها الحكومة السورية لتمويل بعض المشاريع الكبيرة التي تعجز الإيرادات المحلية عن تمويلها، مثل الطرقات الدولية ـ الجسور ـ المرافئ ـ المطارات ـ المشافي ـ محطات الكهرباء، الصرف الصحي ومشاريع جر المياه وغيرها وجميعها مشاريع حيوية للاقتصاد الوطني تسهم في زيادة الإنتاج وتشغيل العمالة الوطنية وزيادة الدخل.

أما مصادر هذه القروض فإن أكثرها من الصناديق العربية وبنك التنمية الإسلامي وصندوق النقد العربي وهي بشروط ميسرة وأسعار فائدة متدنية وتستطيع الحكومة تحقيق جدوى كبيرة من استخدامها.

وبوجه عام: فإن القروض الداخلية أو الخارجية في سورية تسهم في تطوير الإنتاج وتحسين ظروف الخدمات الأمر الذي يؤدي إلى تحسين المستوى المعاشي للسكان ويؤدي إلى زيادة معدل النمو الاقتصادي، إضافة إلى ذلك فإنها قروض ميسرة لا تدفع صندوق النقد العربي للتدخل في الشؤون الداخلية في حالات التخلف عن الدفع لأنها في الأساس قروض ميسرة وعربية المصدر.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ زكريا محمود بيومي، مبادئ المالية العامة (مطبعة جامعة القاهرة، الكتاب الجامعي، 1978).

ـ محمد خالد مهايني، المالية العامة والتشريع الضريبي (منشورات جامعة دمشق، دمشق 2000).

ـ محمد شاكر عصفور، أصول الموازنات العامة (مكتبة الصفحات الذهبية، الرياض 1988).

ـ سليمان اللوزي، وأخرون، إدارة الموازنات العامة بين النظرية والتطبيق (دار المسيرة للطباعة والنشر، عمان 1997).

ـ رمزي زكي، انفجار العجز (دار المدى للثقافة والنشر، دمشق 2000).

ـ عادل حشيش، أصول المالية العامة (مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية 1982).

ـ عارف دليلة، عجز الموازنة وأصول معالجتها، ندوة الثلاثاء الاقتصادي عجز الموازنة وسبل معالجتها، الثانية عشرة، (30/4/1999).

ـ عبد الرزاق الفارس، الحكومة والفقراء والإنفاق العام دراسة لحالة عجز الموازنة العامة وآثارها الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية (1991).

ـ النشرة الربعية لمصرف سورية المركزي، لعام 2004 و2008.

ـ علي كنعان، الاقتصاد المالي (منشورات جامعة دمشق، 2009).

ـ عصام بشور، المالية العامة والتشريع المالي (منشورات جامعة دمشق، ط7، 1991ـ1992).

ـ عبد المطلب عبد الحميد، السياسات الاقتصادية على مستوى الاقتصاد الكلي (مجموعة النيل العربية، ط 1، القاهرة 2002).


التصنيف : القانون المالي
النوع : القانون المالي
المجلد: المجلد السادس: علم الفقه ــ المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان
رقم الصفحة ضمن المجلد : 342
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 565
الكل : 31713589
اليوم : 68171