الخراج
خراج
tax - impôt
علاء الدين زعتري
تعريف الخراج | تعطيل الأرض عن الزراعة |
مقدار الخراج | هلاك الزرع بآفة سماوية |
ما يراعى عند تقدير الخراج | إسقاط الإمام للخراج عمن وجب عليه |
انعدام صلاحية الأرض للزراعة | البناء على الأرض الخراجية |
يُعد الخراج أحد أنظمة (الضرائب على العقارات) في التعبير القانوني اليوم، فهو اجتهاد من ولي الأمر (الحاكم) بشأن فرض ضريبة على الأراضي الزراعية.
فله أصل في المشروعية والمبدأ العام في الإسلام، ويختلف في تطبيقاته تبعاً لأنواع الأراضي، والأشخاص الذين يملكونها؛ عيناً أو انتفاعاً، وكذا مقدار ما يؤخذ منها؛ كل ذلك تبعاً للزمان والمكان.
لغة:
الخَرَاج: مِنْ خَرَجَ يَخْرُجُ خُرُوجًا أَيْ: بَرَزَ...، وأصله: ما يخرج من الأرض، والجمع: أَخْرَاجٌ، وَأَخَارِيجُ، وَأَخْرِجَةٌ [ابن منظور: لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (خرج)].
ويطلق على الغلة الحاصلة من الشيء؛ كغلة الدار، والدابة، ومنه قول رسول الله r: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»[أبو داود].
ويطلق الخرج على الأجرة، أو الكراء، ومنه قوله تعالى: ]فَهَل نَجْعَل لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَل بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا[[الكهف94]، وقوله تعالى: ]أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ[[المؤمنون 72].
ومن العلماء مَن جعل الخُرْج والخَرَاج بمعنى واحد، ومنهم مَن فرَّق بينهما، فقال: الخُرْج ما تبرعت أو تصدقت به، والخَرَاج، ما لزمك أداؤه.
والخراج هو: شيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم [لسان العرب، مادة (خرج)]، أو هو: ما فرض من ضريبة على ما تخرجه الأرض.
واصطلاحاً:
للخراج في اصطلاح الفقهاء معنيان: عام وخاص.
فالخراج بالمعنى العام، هو: جميع أنواع الأموال التي تتولى الدولة أمر جبايتها وصرفها في مصارفها.
وأما الخراج بالمعنى الخاص فهو الوظيفة أو (الضريبة) التي تفرضها (الدولة) أو الإمام على الأرض الخراجية النامية.
وعرفه كل من الماوردي وأبي يعلى بأنه: ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدى عنها.
أنواع الخراج:
قسم الفقهاء الخراج باعتبار المأخوذ من الأرض إلى: خراج وظيفة، وخراج مقاسمة.
أ- خراج الوظيفة: ويسمى هذا النوع خراج المقاطعة وخراج المساحة؛ لأن الإمام ينظر إلى مساحة الأرض ونوع ما يزرع عند توظيف الخراج عليها.
وهو أن يكون الواجب شيئاً في الذمة يتعلق بالتمكن من الزراعة، حتى لو لم يقع الزرع فعلاً فيجب الخراج على مالك الأرض؛ لأن التمكن من الانتفاع قائم وهو الذي قَصَّر في تحصيله، فيتحمل نتيجة تقصيره.
وهذا النوع من الخراج هو الذي وظفه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أرض السواد بالعراق، ومصر، والشام.
ب - خراج المقاسمة: هو: أن يكون الواجب جزءاً شائعاً من الخارج من الأرض؛ كالربع، والخمس وما أشبه ذلك.
وهذا النوع من الخراج يتعلق بالخارج من الأرض لا بالتمكن منها؛ فلو عطل المالكُ الأرضَ لا يجب الخراج.
وقد حدث هذا النوع في عهد المهدي بن المنصور العباسي - عام 169 هـ - حين قرره بدلاً من خراج الوظيفة الذي كان معمولاً به منذ زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد ذكر الماوردي وأبو يعلى الفراء سبب تغيير خراج الوظيفة الذي فرضه عمر بن الخطاب y إلى خراج مقاسمة إذ قالا: «ولم يزل السواد على المساحة والخراج إلى أن عدل بهم الخليفة المنصور في الدولة العباسية عن الخراج إلى المقاسمة؛ لأن السعر نقص، فلم تف الغلات بخراجها، وخَرِب السواد، فجعله مقاسمة، وأشار وزير المهدي أن يجعل أرض الخراج مقاسمة».
والفرق الآخر بين خراج الوظيفة، وخراج المقاسمة:
أن خراج الوظيفة يؤخذ مرة واحدة في السنة، ولا يتكرر بتكرر الخارج من الأرض.
أما خراج المقاسمة فيتكرر أخذه بتكرر الخارج من الأرض.
الخراج في التاريخ الإسلامي:
لمَّا آلت الخلافة إلى عمر بن الخطاب y، وازدادت الفتوحات الإسلامية، واتسعت رقعة الدولة، وزادت نفقاتها رأى عمر y ألا يقسم الأرض المفتوحة عنوة بين الفاتحين، بل يجعلها وقفاً على جميع المسلمين، ويضرب (يفرض) على من يقوم بزراعتها خراجاً معلوماً؛ فوافقه بعض الصحابة، وخالفه آخرون في بداية الأمر.
قال أبو يوسف: «وشاورهم في قسمة الأرضين التي أفاء الله على المسلمين من أرض العراق والشام فتكلم قوم فيها، وأرادوا أن يقسم لهم حقوقهم وما فتحوا.
فقال عمر y: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها (العلوج: جمع علج وهو الرجل الذي يقوى على العمل من كفار العجم وغيرهم، والمراد بعلوج الأرض: العمال الذين يقومون بزراعة الأرض.) قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت، ما هذا برأي.
فقال له عبد الرحمن بن عوف y: فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم.
فقال عمر: ما هو إلا كما تقول، ولست أرى ذلك، والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل، بل عسى أن يكون كَلاً على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور، وما يكون للذرية والأرامل بهذا وبغيره من أرض الشام والعراق؟
فأكثروا على عمر y، وقالوا: أتقف ما أفاء الله بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا؟».
وقد ذكر أبو يوسف أن بلال بن رباح كان من أشد الصحابة وأكثرهم تمسكاً بالرأي المخالف، حتى قال عمر y اللهم اكفني بلالاً وأصحابه.
ومكثوا في ذلك يومين أو ثلاثة أو دون ذلك وعمر رضي الله عنه يحاجّهم إلى أن وجد ما يؤيد رأيه في كتاب الله تعالى، فقال: قد وجدت حجة، قال تعالى في كتابه: ]وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ ولا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[[الحشر 6]، حتى فرغ من شأن بني النضير فهذه عامة في القرى كلها.
ثم قال الله تعالى: ]مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَي لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[[الحشر 7].
ثم قال: ]لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ[[الحشر 8].
ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال: ]وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[[الحشر 9]، فهذا فيما بلغنا - والله أعلم - للأنصار خاصة.
ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال: ]وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ[[الحشر 10]، فكانت هذه عامة لمن جاء بعدهم.
فقد صار الفيء بين هؤلاء جميعاً فكيف نقسمه لهؤلاء، وندع من تخلف بعدهم بغير قسم؟.
قالوا: فاستشر.
فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا، فأما عبد الرحمن بن عوف y فكان رأيه أن يقسم لهم حقوقهم. ورأي عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رضي الله عنهم رأي عمر.
فأرسل إلى عشرة من الأنصار: خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم.
فلما اجتمعوا حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حُمِّلت من أموركم، فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرّون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هو هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق».
قالوا: نسمع يا أمير المؤمنين.
قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلماً، لئن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يُفْتَح بعد كسرى، وقد غنَّمَنا الله أموالهم، وأرضهم، وعلوجهم، فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه وأنا في توجيهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها، وأضع عليهم فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين، المقاتلة والذرية ولمن يأتي من بعدهم، أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام - كالشام، والجزيرة والكوفة، والبصرة، ومصر - لا بد لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعم ما قلت وما رأيت إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم فقال: قد بان لي الأمر، فمن رجل له جزالة، وعقل، يضع الأرض مواضعها، ويضع على العلوج ما يحتملون؟.
فاجتمعوا على عثمان بن حنيف وقالوا: تبعثه إلى أهم من ذلك، فإن له بصراً وعقلاً وتجربة، فأسرع إليه عمر، فولاَّه مساحة أرض السواد.
ذهب الحنفية إلى أنه يجب في كل جريب (وجَرِيبُ الطعام أربعة أقفزة) يصلح للزراعة قفيز (والقفيز ثمانية مكاكيك والمكوك صاع) ودرهم (الدرهم = 2.97 غرام) والقفيز 12 صاعاً والصاع الشرعي: 2751غ وعند أبي حنيفة: 3800غ والجريب 48 صاعاً، وفي جريب الرطبة (الفصفصة) خمسة دراهم، وفي جريب الكرم (العنب) عشرة دراهم، وما سوى ذلك من الأصناف كالزعفران، والقطن وغيرها يوضع عليها بحسب الطاقة.
ونهاية الطاقة أن يبلغ الواجب نصف الخارج، ولا يزاد عليه؛ لأن التنصيف عين الإنصاف.
واستدلوا برواية أبي عبيد عن محمد بن عبد الله الثقفي، قال: وضع عمر على أهل السواد على كل جريب عامر أو غامر درهماً وقفيزاً، وعلى جريب الحنطة خمسة دراهم وخمسة أقفزة، وعلى جريب الشجرة عشرة دراهم وعشرة أقفزة، وعلى جريب الكرم عشرة دراهم وعشرة أقفزة - ولم يذكر النخل - وعلى رؤوس الرجال ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثني عشر.
وذهب مالك إلى عدم التقيد بتقدير إمام من الأئمة السابقين، فلم يأخذ بأي رواية من الروايات، وإنما قال: المرجع فيه إلى قدر ما تحتمله الأرض من ذلك؛ لاختلافها في حواصلها، ويجتهد الإمام في تقدير ذلك مستعيناً عليه بأهل الخبرة.
واستدلوا برواية أبي عبيد من حديث الشعبي أن عمر بعث ابن حنيف إلى السواد فطَرَّز الخراج فوضع على جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب الزيتون اثني عشر، ووضع على الرجل الدرهم والدرهمين في الشهر.
وذهب الشافعية إلى أن قدر الخراج في كل سنة: ما فرضه عثمان بن حنيف لما بَعَثَه عمر ماسحاً، وهو: على كل جريب شعير درهمان، وعلى كل جريب حنطة أربعة دراهم، وعلى كل جريب شجر وقصب سكر ستة دراهم، وعلى كل جريب نخل ثمانية دراهم، وعلى كل جريب كَرْم عشرة دراهم، وعلى كل جريب زيتون اثنا عشر درهماً.
وذهب الحنابلة إلى أنه يجب في كل جريب درهم وقفيز، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب الرَطْبة ستة دراهم (والرطبة: بفتح الراء وسكون الطاء نبات يقيم في الأرض سنيناً كلما جُزَّ نبت، كالقضبة وهي كل نبات اقتضب فأكل طريا).
واحتجوا بما رواه عمرو بن ميمون حيث قال: شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وأتاه ابن حنيف - فجعل يكلمه، فسمعته يقول: «وَضَعْتُ على كل جريب من الأرض درهماً وقفيزاً من طعام، لا يَشُقُّ ذلك عليهم ولا يُجْهِدُهُمْ».
ينبغي لواضع الخراج أن ينظر إلى تربة الأرض، ومدى إنتاجيتها وخصوبتها.
فما يوضع على الأرض الجيدة يختلف عما يوضع على الأرض الرديئة.
وما يوضع على الأرض التي تُزْرَع في كل عام يختلف عما يوضع على الأرض التي تزرع في عام، وتراح في عام.
وعدّ العلماء أصلح الأمور لأرباب هذه الأرض، ولأهل الفيء، وذلك في خصلة من ثلاث:
أ - إما أن يجعل خراج الأرض على الشطر من نتاج ما يزرع.
ب - وإما أن يمسح كل جريبين منها بجريب ليكون أحدهما للمزروع والآخر للمتروك.
ج - وإما أن يوضع الخراج بكماله على مساحة المزروع والمتروك، ويستوفى من أربابه الشطر من مساحة أرضهم.
خفة مؤونة السقي وكثرتها:
قياساً على ما يؤخذ في الزكاة، يراعى المقدار على الأرض الخراجية، فما يوضع على الأرض التي تسقى بماء الأمطار، أو العيون، أو الأنهار يزيد على ما يوضع على الأرض الخراجية التي تسقى بماء الآبار.
نوعية الزروع والثمار المزروعة في الأرض الخراجية:
الخراج الذي يوضع على الأرض التي تزرع بالقمح أو الشعير يختلف عما يوضع على الأرض التي تزرع بالأشجار المثمرة كالعنب والنخيل، وذلك لاختلاف قيمة كل نوع عن الآخر.
قرب الأرض الخراجية من المدن والأسواق وبعدها عنها:
فما يوضع على الأرض القريبة من المدن والأسواق يختلف عما يوضع على الأرض البعيدة عن المدن والأسواق؛ لأن بعدها عن المدن والأسواق يزيد من المؤونة والكلفة.
ما ينزل بأرباب الأرض الخراجية من نوائب وملمات:
ينبغي لواضع الخراج أن يحسب حساب النوائب والملمات التي قد تنزل بأرباب الأرض فيترك لهم من غاية ما تحتمله الأرض نسبة معينة لمواجهة تلك النوائب والملمات.
كما أمر النبي r في خرص - تقدير - الثمار المزكاة إذ قال: «إذا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا أَوْ تَجُذُّوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ»[أبو داود]، وقد علل النبي r ذلك بقوله: «فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ والوطية» (قال أبو عبيد: العرية تفسر تفسيرين: الأول: كان مالك بن أنس يقول: هي النخلة يهب الرجل ثمرتها للمحتاج يعريه إياها، فيأتي المعرَّى - وهو الموهوب له - إلى نخلته تلك ليجتنيها، فيشق على المعرِّي - وهو الواهب - دخوله عليه لمكان أهله في النخل قال: فجاءت الرخصة للواهب خاصة أن يشتري ثمرة تلك النخلة من الموهوبة له بخرصها تمراً. وأما التفسير الثاني: فهو أن العرايا هي النخلات يستثنيها الرجل من حائطه إذا باع ثمرته، فلا يدخلها في البيع، ولكنه يبقيها لنفسه وعياله فتلك الثنيا، لا تخرص عليه؛ لأنه قد عفى لهم عما يأكلون تلك الأيام فهي العرايا، سميت بذلك لأنها أعريت من أن تباع، أو تخرص في الصدقة، فالمعنى الثاني هو المقصود في حديث رسول الله r. وَالْوَطِيَّةَ هي السابلة وهم الذين يطؤون بلاد الثمار مجتازين). (أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال).
وقد راعى عثمان بن حنيف ذلك التخفيف عندما وضع الخراج على أرض السواد فقال: حَمَّلْنَاهَا أمراً هي مطيقة له، ما فيها كثير فضل [البخاري].
فدل ذلك على أنه قد كان فيها فضل ـ وإن كان يسيراً ـ فقد تركه لهم، وقال أيضاً: ولو زدنا لأطاقت [البخاري].
وقد نبه الماوردي على ذلك بقوله: ولا يستقصي في وضع الخراج غاية ما يحتمله، وليجعل منه لأرباب الأرض بقية يجبرون بها النوائب والحوائج، حكي أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان يستأذنه في أخذ الفضل من أموال السواد، فمنعه من ذلك، وكتب إليه لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وأبقِ لهم لحوماً يعقدون بها شحوماً.
مسقطات الخراج والإعفاء منه:
المعاني والحالات المسقطة للخراج ستة وهي:
أولاً- انعدام صلاحية الأرض للزراعة:
والمقصود بذلك هو أن يطرأ على الأرض الخراجية طارئ خارج عن فعل الإنسان، يمنع صاحبها من الانتفاع بها؛ كانقطاع الماء عنها، أو غلبة الماء عليها بحيث تصبح غير صالحة للزراعة.
فإذا تعرضت الأرض الخراجية لذلك سقط عنها الخراج، سواء أكان الخراج الواجب مقاسمة، أم وظيفة.
فيسقط خراج المقاسمة؛ لأن الوجوب متعلق بالخارج من الأرض حقيقة وهو غير موجود.
ويسقط خراج الوظيفة؛ لأن الوجوب متعلق بالتمكن من الانتفاع بالأرض وهو غير موجود.
هذا في حالة عدم إمكانية إصلاحها وإعمارها.
أما إذا أمكن إصلاحها وإعمارها فيجب على الإمام أن يعمر الأرض ويصلحها من بيت مال المسلمين من سهم المصالح، ولا يجوز إلزام أهلها بعمارتها من أموالهم.
فإن سألهم أن يعمروها من أموالهم، ويعتد لهم بما أنفقوا عليها من خراجها فرضوا بذلك؛ جاز.
وإذا كان سهم المصالح عاجزاً عن سد نفقات إصلاح هذه الأرض أجبر أهلها عليه؛ لأن في ذلك مصلحة لهم ولأصحاب الفيء.
وإن أمكن الانتفاع بتلك الأرض بعد أن بارت في غير الزراعة كالرعي والصيد وغير ذلك فإنه يوضع عليها خراج جديد بحسب ما تحتمله.
ثانياً- تعطيل الأرض عن الزراعة:
إن كان التعطيل من غير جهة صاحب الأرض، كأن يدهم البلاد عدو يمنع أهل الأرض من زراعتها والانتفاع بها، أو يلحقهم جور من الولاة لم تمكنهم الإقامة عليه؛ فهذا يُسْقِط الخراج عنهم حتى تعود الأرض كما كانت، ويتمكنوا من الانتفاع بها.
وإن كان التعطيل من جهة صاحب الأرض فإما أن يكون ذلك بتفريط منه، أو بغير تفريط.
فإذا عطلها بتفريط منه؛ كأن يتركها بلا زراعة واستغلال وهو متمكن من الانتفاع بها، وقادر على زراعتها سقط عنه خراج المقاسمة اتفاقاً، وذلك لأن خراج المقاسمة يتعلق بالخارج من الأرض حقيقة وهو غير موجود، ولا يُقَرُّ المُفَرِّط على عدم استغلاله للأرض الخراجية، بل يؤمر بزراعتها واستغلالها؛ لئلا يتضرر أصحاب الفيء.
وأما خراج الوظيفة فلا يسقط عند جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة؛ لأنه يتعلق بالتمكن من الانتفاع بالأرض وهو موجود، ولأن الخراج بمنزلة الإجارة فإذا عطل المستأجر الانتفاع بالمؤجر لم تسقط الأجرة.
وذهب المالكية إلى سقوط خراج الوظيفة بتعطيل الأرض عن الزراعة، سواء عطلها مختاراً أم معذوراً؛ لعدم تحقق الانتفاع بالأرض.
وإذا عطلها بلا تفريط منه؛ كأن ترك زراعتها لعدم قوتها وقدرته الجسمية، أو لعدم قدرته على تحمل تكاليف الزراعة ونفقاتها يسقط خراج المقاسمة اتفاقاً؛ لأنه يتعلق بالخارج من الأرض حقيقة.
وأما خراج الوظيفة فيسقط عند المالكية لعدم تحقق الانتفاع بالأرض.
وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى عدم سقوط الخراج، وعلى الإمام أن يتصرف في الأرض، ومن التصرفات التي نص عليها الفقهاء: ما قاله الشافعية والحنابلة: أن يأمر صاحب الأرض بإجارتها لمن يقوم بزراعتها وإلا رفع يده عنها، وقال الحنفية: الإمام بالخيار إن شاء دفع الأرض لغير صاحبها مزارعة، ويأخذ الخراج من نصيبه ويمسك الباقي له، وإن شاء آجرها وأخذ الخراج من الأجرة، وإن شاء زرعها من بيت المال (خزينة الدولة) فإذا حصلت الغلة أخذ قدر الخراج وما أنفق، ويحفظ الباقي لمستغل الأرض، وقال أبو يوسف: للإمام أن يدفع للعاجز كفايته من بيت المال (خزينة الدولة) قرضاً ليعمل ويستغل أرضه، فإذا لم يجد الإمام من يعمل في تلك الأرض مزارعة أو بالأجرة أو غير ذلك فيرى أبو يوسف ومحمد بيعها وأخذ الخراج من ثمنها، ويحفظ الباقي لمستغل الأرض، ويرى أبو حنيفة عدم جواز بيعها، وإنما يحجرها للمصلحة العامة، مع أنه لا يرى جواز الحجر على الكبير إلا أن هذا الحجر يعود نفعه على العامة تصرفاً يحقق المصلحة لأهل الفيء، ولصاحب الأرض.
ثالثاً- هلاك الزرع بآفة سماوية:
إذا زرع صاحب الأرض الخراجية أرضه بزرع ما، فأصابته آفة سماوية لا يمكن الاحتراز عنها؛ كغرق، أو حَرْق، أو شدة برد، أو جراد، ونحو ذلك؛ فإما أن يكون الهلاك قبل الحصاد، وإما أن يكون بعده.
أ - فإذا هلك الزرع بآفة سماوية قبل الحصاد يسقط خراج المقاسمة إذا أدت تلك الآفة إلى هلاك جميع الزرع؛ لأن خراج المقاسمة يتعلق بالخارج من الأرض حقيقة.
وأما خراج الوظيفة فيسقط عن صاحب الأرض عند الحنفية؛ لأنه مصاب ويستحق المعونة، ولأن الخراج صلة واجبة باعتبار الأراضي، فلا يمكن إيجابها بعد هلاك الزرع بآفة سماوية؛ لأنه ظهر أنه لم يتمكن من استغلال الأرض.
ب - إذا هلك الخارج من الأرض بآفة سماوية لا يمكن الاحتراز عنها، كغرق، وحرق يسقط خراج المقاسمة؛ لتعلقه بالخارج من الأرض حقيقة.
وأما خراج الوظيفة فلا يسقط بهلاك الخارج بعد الحصاد عند الحنفية؛ لأن خراج الوظيفة يجب في الذمة، ويتعلق بالتمكن من الانتفاع بالأرض وزراعتها، وبالحصاد قد تحقق الانتفاع بالأرض، وحصلت الزراعة فعلاً، فلا يسقط الخراج الموظف بهلاك الخارج بعد الحصاد.
رابعاً- إسقاط الإمام للخراج عمن وجب عليه:
إذا رأى الإمام إسقاط الخراج عمن بيده أرض خراجية لمصلحة، أو لكون من بيده تلك الأرض يقوم بعمل من الأعمال التي يحتاج إليها المسلمون؛ كالقضاء، أو التدريس، أو حماية الثغور، أو التجسس على الأعداء لمعرفة ما عندهم من وسائل القوة المادية والمعنوية، أو نحو ذلك. فهل يجوز هذا التصرف من الإمام؟.
ذهب الحنابلة وأبو يوسف من الحنفية إلى جواز ذلك؛ لأن الإمام له حق النظر في مصالح المسلمين، وفعل ما فيه مصلحة لهم، ومن القواعد الفقهية التي قررها الفقهاء: «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة».
وذهب محمد بن الحسن إلى أنه: لا يجوز للإمام إسقاط الخراج عمن وجب عليه؛ لأن الخراج حق من حقوق المسلمين فلا يجوز للإمام إسقاطه؛ كالعشر.
وليس للمالكية والشافعية نصوص في هذه المسألة.
خامساً- البناء على الأرض الخراجية:
اختلف الفقهاء في استمرار وظيفة الخراج على الأرض الخراجية بعد أن يبنى عليها أبنية وحوانيت.
فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى استمرار وجوب الخراج وعدم سقوطه عن تلك الأرض؛ لأن الخراج لا يتوقف على الزرع والغرس.
وذهب الحنفية إلى سقوط الخراج عن الأرض الخراجية بعد أن يبني عليها من هي بيده أبنية وحوانيت، ولا يجب الخراج على الأرض إلا إذا جعلها بستاناً، أو مزرعة؛ لأن الخراج يتعلق بنماء الأرض وغلتها.
ويرى الماوردي أن الخراج يسقط عن الأرض الخراجية التي بنى عليها من هي بيده أبنية ضرورية لا غنى له عنها؛ كأن يبني له بيتاً يسكنه، وأما الأبنية الزائدة على قدر حاجته فلا تكون سبباً في سقوط الخراج عن الأرض الخراجية؛ كأن يبني عليها أبنية للاستغلال والنماء.
الفرق بين الجزية والخراج:
الجزية: اسم لما يؤخذ من أهل الذمة، فيشمل كل جزية سواء أكان موجبها القهر والغلبة وفتح الأرض عنوة، أو عقد الذمة الذي ينشأ بالتراضي، فهي ضريبة على الأشخاص.
وأما الخراج فهو ما يوضع على الأرض من حقوق تؤدى عنها إلى بيت المال (خزينة الدولة) فهو ضريبة على الأرض.
ووجه الصلة بين الخراج وبين الجزية أنهما يجبان على أهل الذمة، ويصرفان في المصالح العامة.
ومن الفروق بينهما:
أن الجزية توضع على الأشخاص، أما الخراج فيوضع على الأرض.
والجزية تسقط بالإسلام، فمن أسلم فلا يدفع الجزية، وأما الخراج فلا يسقط بالإسلام.
مراجع للاستزادة: |
- أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية (مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة 1386-1966).
- الماوردي، الأحكام السلطانية (مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة 1393-1973).
- أحكام أهل الذمة، دار العلم للملايين.
- ابن نجيم، الأشباه والنظائر (مؤسسة الحلبي، القاهرة 1387-1968).
- ابن هبيرة، الإفصاح (مطبعة الكيلاني، القاهرة).
- أبو عبيد، الأموال (دار الفكر، بيروت).
- الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (دار الكتاب الإسلامي).
- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (دار الفكر).
- أبو يوسف، الخراج (المطبعة السلفية).
- أبو عبد الله الدمشقي، رحمة الأمة في اختلاف الأئمة على هامش الميزان للشعراني (دار إحياء الكتب العربية، القاهرة).
- رد المحتار على الدر المختار (دار الفكر).
- النووي، روضة الطالبين (المكتب الإسلامي، بيروت 1405-1985).
- ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير (المكتب الإسلامي، بيروت 1964).
- الكمال بن همام، شرح فتح القدير على الهداية (إحياء التراث).
- شرح منتهى الإرادات (دار الفكر).
- وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته.
- ابن عبد البر، الكافي (مكتبة الرياض الحديثة، 1400هـ).
- كشاف القناع (دار الفكر).
- ابن مفلح، المبدع شرح المقنع (المكتب الإسلامي).
- السرخسي، المبسوط (دار المعرفة).
- مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (دار إحياء التراث العربي).
- محمد بن أبي الفتح بن أبي الفضل البعلي النحوي الحنبلي، المطلع على أبواب المقنع.
- الخطيب الشربيني، مغني المحتاج شرح منهاج الطالبين (دار الفكر).
- ابن قدامة، المغني (مكتبة القاهرة).
- الباجي، المنتقى شرح الموطأ (دار الكتاب الإسلامي).
- الزركشي، المنثور في القواعد (مطبعة الفليج، الكويت، منشورات وزارة الأوقاف الكويتية 1402هـ).
- المرغيناني، الهداية (مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة).
التصنيف : العلوم الشرعية
النوع : العلوم الشرعية
المجلد: المجلد الثالث: الجرف القاري ــ الرسم والنماذج الصناعية
رقم الصفحة ضمن المجلد : 363
مشاركة :اترك تعليقك
آخر أخبار الهيئة :
- صدور المجلد الثامن من موسوعة الآثار في سورية
- توصيات مجلس الإدارة
- صدور المجلد الثامن عشر من الموسوعة الطبية
- إعلان..وافق مجلس إدارة هيئة الموسوعة العربية على وقف النشر الورقي لموسوعة العلوم والتقانات، ليصبح إلكترونياً فقط. وقد باشرت الموسوعة بنشر بحوث المجلد التاسع على الموقع مع بداية شهر تشرين الثاني / أكتوبر 2023.
- الدكتورة سندس محمد سعيد الحلبي مدير عام لهيئة الموسوعة العربية تكليفاً
- دار الفكر الموزع الحصري لمنشورات هيئة الموسوعة العربية
البحوث الأكثر قراءة
هل تعلم ؟؟
الكل : 57467540
اليوم : 25811
المجلدات الصادرة عن الموسوعة العربية :
-
المجلد الأول: الإباحة والتحريم ـ البصمة الوراثية
-
المجلد الثاني: بطاقة الائتمان ــ الجرائم الواقعة على السلطة العامة
-
المجلد الثالث: الجرف القاري ــ الرسم والنماذج الصناعية
-
المجلد الرابع: الرضاع ــ الضمان المصرفي
-
المجلد الخامس: طرق الطعن في الأحكام الإدارية ــ علم العقاب
-
المجلد السادس: علم الفقه ــ المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان
-
المجلد السابع: المحكمة الجنائية الدولية _ ولاية المظالم في الإسلام