logo

logo

logo

logo

logo

انتهاء الدستور

انتهاء دستور

abrogation of the constitution - abrogation de la constitution

 انتهاء الدستور

انتهاء الدستور

حسن البحري

 الأسلوب العادي لانتهاء الدستور

الأسلوب الثوري لانتهاء الدستور

النتائج القانونية للثورة

   

من المسلَّم به أنَّ لكلّ دستورٍ تاريخاً محدَّداً يدخل فيه حيِّز النفاذ، ثمَّ يبدأ العمل بتطبيق نصوصه وأحكامه، غير أنَّ حياة أي دستورٍ من الدساتير لا يمكن أن تدوم إلى الأبد، فصفة الدوام هي لله وحده، ولهذا لا بدَّ أن تكون لكل دستورٍ نهايةٌ أو أجَلٌ محتوم.

ولئن كان تعديل القواعد الدستورية يعد وسيلةً من وسائل إيجاد التلاؤم بين ظروف الدولة والنصوص الدستورية التي تحكمها، وسدّ الفجوة التي تظهر بين التنظيم القانوني القائم والواقع الفعلي، إلا أنه قد يحدث أن تتطور الأفكار السياسية في الجماعة تطوراً كبيراً، بحيث تبعد المسافة التي تفصل بينها وبين ما تتضمنه القواعد الدستورية، وفي هذه الحالة لا يكفي تعديل بعض النصوص الدستورية لتحقيق هذا التلاؤم، بل يجب إلغاء الوثيقة الدستورية إلغاءً كلياً واستبدال غيرها بها، أي أن الأمر يتطلب وضع حدّ لحياة الدستور القديم، وذلك بإلغائه ووضع دستور جديد يتلاءم مع الظروف والأوضاع الجديدة التي تطرأ على المجتمع.

والمُتتبِّع للكيفية التي لاقت بها الدساتير نهايتها يَلحَظْ أنَّ هذه النهاية إمّا أن تكون نهاية طبيعية وإما أن تكون نهاية غير طبيعية، وذلك تبعاً لما إذا كان الأسلوب الذي اتُبِع لإنهاء العمل بالدساتير أو إلغائها أسلوباً عادياً (بواسطة السلطة التأسيسية) أم أسلوباً ثورياً (بطريق اللجوء إلى الثورة أو الانقلاب).

غير أن الأسلوب الطبيعي لإنهاء الدستور لا يقوم إلا إذا كانت الأفكار والفلسفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي بُنيَ عليها الدستور القائم لا تزال مقبولة في جملتها لدى الجماعة. أما إذا رغب الشعب في التغيير الجذري والأساسي للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي فلا يُتصوَّر إلغاء القواعد الدستورية السائدة في المجتمع إلا عن طريق الأسلوب الثوري وحده.

أولاً- الأسلوب العادي لانتهاء الدستور (إلغاء الدستور) (L’abrogation de la constitution):

يقصد بالأسلوب العادي لانتهاء الدستور وضع حد لحياة الدستور القديم، وذلك بالإعلان عن إلغائه ووقف العمل بأحكامه بهدوء من دون اللجوء إلى استخدام القوة أو العنف، واستبدال دستور آخر به يتلاءم مع التغييرات التي طرأت على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدولة.

فعلى سبيل المثال ورد في الأمر الملكي رقم 70 لسنة 1930 المتعلق بوضع نظام دستوري للدولة المصرية الصادر في 22 أكتوبر سنة 1930 ما يلي: «نحن فؤاد الأول ملك مصر… بعد الإطلاع على أمرنا رقم 42 لسنة 1923، وبما أن أعزَّ رغباتنا وأعظم ما تتجه إليه عزيمتنا توفير الرفاهية لشعبنا في نظام وسلام، واعتباراً بتجارب السبع السنين الماضية، وعملاً بما توجبه ضرورة التوفيق بين النظم الأساسية وبين أحوال البلاد وحاجتها، وبعد الإطلاع على الكتاب والبيان المرفوعين إلينا من الوزارة بتاريخ 21 أكتوبر سنة 1930، أمرنا بما هو آتٍ: (مادة 1) يبطل العمل بالدستور القائم ويُستبدل به الدستور الملحق بهذا الأمر ويُحَلّ المجلسان الحاليان».

والمبدأ العام أن الأمة صاحبة السيادة تملك على وجه الدوام تغيير دستورها، وحقها هذا يعد مظهراً من مظاهر ممارسة سيادتها، ولهذا عندما تبنت الجمعية التأسيسية الوطنية في فرنسا دستور 3 أيلول عام 1791 نصت المادة الأولى من هذا الدستور على أن: «للأمة الحق الذي لا يتقادم ولا يسقط بمرور الزمن في أن تُغيِّر دستورها»، كما نصت المادة /28/ من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي توَّج مواد الدستور الفرنسي الصادر في 24 حزيران سنة 1793 على أن: «للشعب دائماً الحق في أن يعيد النظر وأن يعدّل وأن يغيّر دستوره، وأن جيلاً معيناً لا يستطيع أن يُخضع الأجيال القادمة لقوانينه».

وإذا كانت دساتير الدول المختلفة تنص على طريقة تعديل أحكامها بصورة جزئية، فتُفرد معظمها باباً أو فصلاً مستقلاً في الوثيقة الدستورية لبيان الجهة المختصة بتعديل الدستور، والقواعد والإجراءات الواجب اتباعها عند إجراء التعديل، فإنها - على العكس من ذلك - لا تبين أسلوب أو كيفية انتهائها أو إلغائها بصورة كلية، ولهذا يثور التساؤل الآتي: هل يمكن للسلطة التي تملك من الناحية الدستورية صلاحية تعديل الدستور جزئياً (أي السلطة التأسيسية المنشأة) أن تقوم بإلغاء هذا الدستور إلغاءً كلياً أو شاملا؟

للإجابة عن هذا التساؤل يجب أن نميّز بين الدساتير المرنة والدساتير الجامدة:

1- الدساتير المرنة:  فإن السلطة التي تملك تعديل الدستور تعديلاً جزئياً هي التي تملك أيضاً تعديل الدستور تعديلاً كلياً بإتباع الإجراءات المقررة لتعديل وإلغاء القوانين العادية؛ فالدساتير المرنة يتم تعديلها جزئياً أو إلغاؤها كلياً بواسطة السلطة التي تسنّ القوانين العادية، وباتباع ذات الإجراءات والشروط المقررة لتعديل أو إلغاء هذه القوانين.

كما لا تثار أية مشكلة أيضاً بخصوص تعديل أو إلغاء الدساتير العرفية، إذ يمكن إلغاؤها كلياً أو تعديلها جزئياً إما بنشوء أعراف دستورية جديدة، وإما بإصدار دستور مكتوب يحلُّ محلَّ الدستور العرفي ويلغيه.

وهو ما حدث مؤخراً في كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان، فلقد كان نظام الحكم في هاتين الدولتين يتسم بالطابع العرفي، إلا أنه في عام 1992 أصدر الملك فهد ابن عبد العزيز آل سعود الأمر الملكي رقم أ/90 تاريخ 27/8/1412هـ المتضمن النظام الأساسي لنظام الحكم في المملكة العربية السعودية. وكذلك الأمر في سلطنة عُمان، فقد أصدر السلطان قابوس بن سعيد في عام 1996 المرسوم السلطاني رقم (101/ 96) المتضمن النظام الأساسي للدولة في سلطنة عمان. وهكذا ألغي الدستور العرفي في هذين البلدين وحل محله دستور آخر مكتوب.

2- الدساتير الجامدة: هناك شبه إجماع لدى فقهاء القانون الدستوري على منع السلطة التي تملك حق تعديل الدستور جزئياً (أي السلطة التأسيسية المنشأة) من حق تعديله تعديلاً كلياً أو شاملاً؛ لأن مثل هذا التعديل يعني إلغاء الدستور بوضع دستور جديد محله، ومثل هذا الحق لا تملكه أي سلطة منشأة، إنما هو ملك للسلطة التأسيسية الأصلية التي تمثل الشعب وتعبر عن سيادة الأمة، فإذا أقدمت السلطة التي تملك صلاحية التعديل الجزئي على تعديل الدستور كله أو حاولت المساس بفكرته الأساسية، فإنها تتخطى بذلك حدود اختصاصها، وتجعل من نفسها بقرار منها «سلطة تأسيسية أصلية» وهو ما لا يجوز.

وحاصل القول أن الإلغاء الكلي للدساتير الجامدة L’abrogation totale des constitutions rigides - سواء أكان صريحاً أم  ضمنياً- إنما هو ملكٌ للسلطة التأسيسية الأصلية فقط.

تجدر الإشارة هنا إلى أن إلغاء الدستور قد يتحقق بصورة صريحة، كما لو ورد نص في الدستور الجديد يقضي بإلغاء الدستور القديم، ومثال ذلك ما ورد في الفقرة الأولى من المادة /129/ من الدستور الحالي للملكة الأردنية الهاشمية لسنة 1953 التي نصت على أن: «يلغى الدستور الأردني الصادر بتاريخ 7 كانون الأول سنة 1946مع ما طرأ عليه من تعديلات»، وكذلك أيضاً ما ورد في المادة /150/ من الدستور الدائم لدولة قطر الذي أصدره أمير البلاد في الثامن من شهر حزيران سنة 2004 ليحل محل النظام الأساسي المؤقت المعدل المعمول به منذ عام 1972، إذ قضت بأن: «يُلغى النظام الأساسي المؤقت المعدل المعمول به في الدولة والصادر في 19/4/1972… إلخ»، وهو أيضاً ما ورد في الدستور السوري لسنة 1953، فقد نص في المادة /128/ منه على أن: «يعتبر الدستور المعلن في الخامس من شهر أيلول 1950 ملغى منذ اليوم التاسع عشر والعشرين من شهر تشرين الثاني 1951، وتعتبر جميع تدابير السلطة المتخذة منذ هذا التاريخ من أعمال السيادة». كما أن الإلغاء قد يتحقق أيضاً بصورة ضمنية، كما لو وَضَع الدستور الجديد قواعد وأحكاماً متعارضة مع تلك التي كانت قائمة، أو تناول الدستور الجديد جميع الموضوعات التي تضمنها الدستور القديم بالتنظيم.

ثانياً- الأسلوب الثوري لانتهاء الدستور:

يعدّ الأسلوب الثوري وسيلة غير طبيعية أو غير عادية لانتهاء الدساتير ووقف العمل بأحكامها، ويتم ذلك عادة في أعقاب اندلاع ثورة révolution أو حدوث انقلاب Coup d’État.

وإذا كان الأسلوب العادي أو الطبيعي هو الأسلوب القانوني لإلغاء الدساتير فإن الأسلوب الثوري أو الفعلي هو الأسلوب الأوسع انتشاراً، فقد أدت الحركات الثورية - سواء تمثلت في ثورات أو انقلابات - دوراً بارزاً وملحوظاً في إسقاط  العديد من الدساتير في دول العالم المعاصر.

وإذا أخذت سورية مثالاً على صحة هذا القول، لتبين أن معظم الدساتير السورية قد سقطت بهذا الأسلوب الثوري، أي في أعقاب اندلاع ثورة أو حدوث انقلاب.

فقد سقط دستور سنة 1928 بالانقلاب العسكري الذي وقع بتاريخ 30 آذار 1949 بقيادة الزعيم حسني الزعيم، وسقط دستور سنة 1950 بالانقلاب العسكري الذي وقع بتاريخ 29/11/1951 بقيادة الزعيم أديب الشيشكلي (وهو الانقلاب الثاني للشيشكلي والرابع في سورية)، وسقط دستور 1953 (دستور الشيشكلي) في شباط 1954 بعد سقوط نظام الشيشكلي ومغادرته البلاد، واستؤنف العمل بدستور 1950 وظل نافذاً حتى قيام دولة الوحدة بين سورية ومصر في 22 شباط 1958. كما أن الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة لسنة 1958سقط بالانقلاب العسكري الذي وقع في سورية بتاريخ 28 أيلول 1961 والذي فصم عرى الوحدة بين سورية ومصر بعد ثلاث سنوات ونصف من اتحادهما. وسقط أيضا الدستور المؤقت لسنة 1961 (الذي أعلنه الانفصاليون في 15/10/1961، وأُقر بالاستفتاء الذي جرى في 1/12/1961) بالثورة المباركة التي قادها حزب البعث العربي الاشتراكي بتاريخ 8 آذار 1963، وسقط الدستور المؤقت لسنة 1964 بانقلاب (أو ما عُرف بحركة) 23 شباط 1966، وسقط الدستور المؤقت لسنة 1969 (الذي صدر تنفيذاً لقرارات المؤتمر القطري الرابع الاستثنائي لحزب البعث العربي الاشتراكي) بالحركة التصحيحية المجيدة التي قادها الرفيق المناضل حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني 1970. واستمر العمل بعد قيام الحركة التصحيحية بدستور 1969 إلى أن تبنت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي دستوراً آخر هو الدستور المؤقت لسنة 1971، وهو نسخة معدلة من الدستور المؤقت السابق.

وكذلك الحال في فرنسا، إذ سقطت جميع الدساتير الفرنسية الصادرة منذ عصر الثورة - والتي تبلغ خمسة عشر دستوراً- بهذا الأسلوب، باستثناء دستور 1793 الذي لم يطبق بتاتاً، ودستور سنة 1875 الذي ألغي بعد غزو الألمان فرنسا ودخولهم باريس عام 1940، وكذلك شأن دساتير أغلب الدول النامية الموجودة في قارة أمريكا اللاتينية - التي شهدت دولها انقلابات عسكرية أكثر من أي قارة أخرى - وإفريقيا وآسيا.

ثالثاً- النتائج القانونية للثورة:

قد تتوج الحركة الثورية - سواءً أكانت ثورةً أم انقلاباً - بالنجاح، وقد تبوء بالإخفاق، ولا شك في أن الحركة الثورية إذا لم يُكتب لها النجاح والتوفيق فلن يكون لها تأثير مباشر في النظام السياسي القائم، ولا في الدستور أو القوانين المعمول بها في الدولة، ومهما كان نُبل وسموّ الأغراض التي قامت هذه الحركة من أجل تحقيقها، وسوف يعد القائمون بالثورة أو مدبرو الانقلاب عناصر فوضوية مخربة وشرذمة معادية للنظام القائم، وسوف تقدمهم الحكومة القائمة للمحاكمة بتهمة المساس بأمن الدولة والتآمر على سلامتها، ومحاولة قلب نظام الحكم وتغيير الدستور بالقوة.

أما إذا كُتب النجاح للحركة الثورية فسوف تنقلب الصورة تماماً، إذ يعدّ القائمون بها زعماء وطنيين، وتسقط الحكومة القائمة لتحل مكانها حكومة جديدة تسمى «حكومة الثورة» Gouvernement de Fait أو «الحكومة الواقعية» De Facto Government، وسوف تعمل هذه الأخيرة جاهدةً على أن تقدِّم قيادات الحكومة القديمة للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى والتآمر على أمن وسلامة الوطن.

بمجرد نجاح الانقلاب أو الثورة يسقط عادة الدستور القائم، كما تسقط الهيئات الحكومية، لذلك فإنه يجب أن يقوم مقام الدستور القديم دستور آخر جديد، ولكن إلى أن يوضع هذا الدستور الجديد، تنشأ «حكومة مؤقتة» أي «حكومة واقعية»، وقد سميت كذلك لأنها لا تتلقى عادة تفويضاً شرعياً وإنما تستمد سلطتها من الواقع، فأغلب الحكومات التي تقوم نتيجةً لحركاتٍ ثورية هي حكومات واقعية أو فعلية، وذلك لأن رجال الحكم لم يتقلدوه بعد اتباع الإجراءات والأوضاع التي نص عليها الدستور، وإذا كان تكوين تلك الحكومات يتم في غير إتباعٍ للأوضاع والشروط التي تقررها النصوص الدستورية، فإنها كذلك من ناحية أخرى لا يزاول فيها الحكام سلطتهم طبقاً لتلك الشروط والأوضاع التي تقررها نصوص الدستور والقوانين النافذة. وتتميز الحكومة الواقعية بسمتين أساسيتين: السمة الأولى أنها «حكومة مؤقتة» Gouvernement provisoire تتولى السلطة لفترة مؤقتة إلى حين إنجاز الأهداف التي قامت من أجل تحقيقها؛ أما السمة الثانية فتتمثل في أنها حكومة تقوم على مبدأ «تركيز السلطات» Concentration des pouvoirs، إذ تجمع في قبضة يدها السلطتين التشريعية والتنفيذية من دون أن تفصل بينهما، ولذلك فهي عادة حكومة ذات صبغة أو نزعة دكتاتورية. ويرجع سبب تركيز السلطات في يد حكومة الثورة إلى خشية رجال الثورات من حدوث حركة ثورية أو انقلابية مضادة La contre- révolution من جانب أعداء هذه الثورة.

ويثور التساؤل في هذا الخصوص عن أثر الحركة الثورية - وذلك في حال كتب لها النجاح - في الدستور القائم والقوانين العادية المطبقة في الدولة؟

1- أثر الثورة في الدستور:

إذا كانت الثورة تحمل معنى الانقضاض على الأسس القديمة للدولة، نظراً لما تهدف إليه من إحداث تغيير جذري وأساسي في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد في الدولة وإحلال نظام جديد محله؛ فإن من المبادئ المقررة لدى رجال الفقه الدستوري أن نجاح الثورة يترتب عليه إسقاط الدستور القائم.

ويثور التساؤل في هذا الصدد عما إذا كان الدستور يسقط تلقائياً بعد نجاح تلك الحركة أم إن هذا السقوط ليس أمراً حتمياً.

كما يثور التساؤل أيضاً عن القواعد الدستورية التي يشملها السقوط فهل تسقط نصوص الدستور جميعها بلا استثناء، أم تبقى بعض النصوص نافذة ولا يشملها هذا السقوط؟

أ- موقف الفقه الدستوري من مسألة سقوط الدستور: انقسم رجال الفقه الدستوري إلى اتجاهين مختلفين بشأن سقوط الدستور، الأول يرى أن الدستور يسقط تلقائياً بعد نجاح الثورة، والاتجاه الثاني يرى أن هذا السقوط ليس أمراً حتمياً، فالأمر يتوقف على طبيعة أهداف الثورة وإرادة القائمين بها.

الاتجاه الأول - السقوط التلقائي للدستور القائم: ذهب غالبية الفقه الدستوري إلى أن الدستور القائم يسقط فوراً من تلقاء نفسه بمجرد نجاح الثورة، أي من دون أن تكون هناك حاجة إلى إعلان هذا السقوط أو النصّ عليه. ويرجع ذلك إلى تنافر أو تعارض نظام الحكم الجديد الذي هدفت الحركة الثورية إلى تقريره مع نظام الحكم القديم الذي كان يسجله دستور ذلك العهد. ومع ذلك فقد يصدر إعلان يقضي بسقوط الدستور، أو قد يرد نصّ في الدستور الجديد الذي يوضع بعد نجاح الثورة يتضمن إلغاء الدستور القديم ووقف العمل بأحكامه، ولكن مثل هذا الإعلان أو ذاك النصّ لا يعتبر منشئاً لوضع قانوني جديد، وإنما هو مقرِّر وكاشِف لوضعٍ حَدَثَ وتمَّ فعلاً بمجرد انتصار الثورة.

وتأسيساً على ذلك، فإن الإعلان الدستوري الصادر من القائد العام للقوات المسلحة في مصر بصفته رئيس حركة الجيش بتاريخ 10/12/1952بشأن إعلان سقوط دستور 1930 لا يعدّ منشئاً لوضع قانوني جديد، بل هو مقرر وكاشف لهذا السقوط الذي تمَّ في 23/7/1952 تاريخ قيام الثورة المصرية ونجاحها.

الاتجاه الثاني - عدم السقوط التلقائي للدستور القائم: ذهب جانب من الفقه الدستوري إلى أن سقوط الدستور بعد انتصار الثورة ليس أمراً حتمياً، فليس من اللازم أن يترتب على ذلك النجاح سقوط الدستور تلقائياً؛ إذ قد يكون الهدف من الثورة هو المحافظة على الدستور وحمايته من عبَث الحكَّام (أي إن الثورة هنا تعدّ بمثابة ضمانةً من ضمانات احترام الدستور)، فكيف يفرض الفقه على رجال الحركة الثورية إسقاط الدستور وهم ما قاموا إلا للدفاع عنه وصونه من تلاعب الحكومة بنصوصه؟ وقد يحتاج الأمر إلى الإبقاء على الدستور فترة من الزمن ثم يعلن قادة الحركة الثورية بعد ذلك سقوطه.

وبناء على ذلك، فإن الدستور المصري لسنة 1930 لم يسقط مباشرةً بمجرد انتصار الثورة المصرية التي قامت في 23/7/1952؛ لأنها لم تكن موجهةً ضد نظام الحكم أي ضد الدستور، بل كانت موجهةً ضد فساد وطغيان أداة الحكم، وخاصة رأس هذه الأداة وهو الملك، ولهذا استمر العمل بالدستور على مدى خمسة أشهر تقريباً. وخلال الأشهر الأولى التي أعقبت انتصار الثورة تطورت هذه الأخيرة تدريجياً من ثورة على أداة الحكم إلى ثورة على نظام الحكم، وحين تم ذلك التطور أصدر القائد العام للقوات المسلحة بتاريخ 10/12/1952 إعلاناً دستورياً يقضي بسقوط دستور 1923.

وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن الرأي الراجح في الفقه يرى أن السقوط التلقائي للدستور القائم من عدمه إنما هي مسألة تتوقف على طبيعة أهداف وغايات الثورة وإرادة وعقلية القائمين بها والظروف المحيطة بهذه الحركة، ولذلك فإنه يفضل الأخذ بالاتجاه الذي يرى أن سقوط الدستور لا يتم فوراً، بل يتوقف الأمر على موقف رجال النظام الجديد منه، فقد يجد هؤلاء أن مصلحة البلاد تقتضي إسقاط الدستور القائم والعمل على وضع دستور جديد يترجم الأهداف التي قامت الثورة من أجل تحقيقها، وقد يتريث هؤلاء القادة في الإعلان عن سقوط الدستور حتى تستقر الأوضاع في الدولة وتتهيأ الظروف لذلك، وهذا ما حدث بالفعل لثورة 23 يوليو/تموز 1952 في مصر.

ب- الأحكام التي يشملها السقوط: إذا كان الراجح فقهاً أن نجاح الثورة يؤدي غالباً إلى سقوط الدستور القائم، فإن الوضع يثير التساؤل عن مدى الأحكام والقواعد الدستورية التي يمسّها هذا السقوط، فهل يعني سقوط الدستور سقوط جميع أحكامه وقواعده؟ أم إنَّ هناك أحكاماً دستورية تبقى قائمة ولا يشملها السقوط؟

ذهب غالبية الفقه الدستوري إلى أن سقوط الدستور بالثورة لا يمسّ من القواعد الدستورية إلا ما تعلَّق منها بنظام الحكم في الدولة وبتنظيم السلطات العامة فيها، وهي القواعد التي تقوم الثورة عادةً من أجل تغييرها؛ لأن الثورة تكون موجهة إلى التنظيم السياسي للدولة (إضافة إلى التنظيم الاجتماعي والاقتصادي)، ويترتب على ذلك أن القواعد الدستورية التي لا تتعلق بنظام الحكم في الدولة تظل باقيةً على الرغم من قيام الثورة، ومثال هذه القواعد:

(1)- الأحكام والقواعد المتعلقة بحقوق الأفراد وحرياتهم: يرى معظم الفقهاء أن سقوط الدستور يجب أن لا يترتب عليه أي مساس بالمبادئ والضمانات المقرَّرة لحقوق الأفراد وحرياتهم؛ لأن هذه الحقوق وتلك الحريات لا تتصل بنظام الحكم في الدولة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنها أصبحت واجبة التقديس والاحترام؛ لأنها كما يُقال استقرت في الضمير الإنساني العالمي، بحيث غدت أسمى من النصوص الدستورية الوضعية، وتعتبر في ذاتها دستوراً فوق الدستور، فهي تمثِّل ما يسمى بالدستور الاجتماعي La constitution sociale  للدولة ومن ثمَّ فإن سقوط الدستور إثر نجاح الثورة لا يجب أن يترتب عليه أيّ مساسٍ بهذه الحقوق أو تلك الحريات.

غير أن هذا القول وإن بدا قبوله أمراً منطقياً في عهدٍ كانت تمسّ فيه الحركات الثورية أنظمة الحكم السياسية فقط، إلا أنه لم يعد مقبولاً اليوم، إذ قد لا تتجه الحركات الثورية إلى أنظمة الحكم السياسية بقدر ما تتجه إلى بناء أنظمة اجتماعية واقتصادية مغايرة للأنظمة القائمة، وتعمل هذه الحركات الثورية حينئذٍ على إحلال أفكار ومفاهيم جديدة لحريات الأفراد وحقوقهم محلَّ المفاهيم القديمة؛ في هذه الحالة لا مناص من القول بسقوط القواعد المقرّرة لحقوق الأفراد وحرياتهم وإحلال قواعد أخرى محلَّها تكون متفقةً مع أهداف الثورة واتجاهاتها.

(2)- الأحكام والقواعد التي تعدّ دستورية من حيث الشكل فقط والتي لم يُنَصَّ عليها في الدستور إلا لكي تكتسب قدسيته وثباته. فمثل هذه النصوص وإن روعي النصّ عليها في الدستور، وقصد إكسابها حصانته الشكلية من حيث التعديل، إلا أنها لا تتصل بنظام الحكم في الدولة، ولا تختلف من حيث الموضوع عن الأحكام الواردة في القوانين العادية. وعلى ذلك تبقى هذه النصوص على الرغم من سقوط الدستور، ولكن تزول عنها الصفة الدستورية وتعامل معاملة القوانين العادية، فكل ما يترتب على الثورة في هذه الحالة هو أنَّ هذه القواعد تتجرَّد من صفتها الدستورية وتصبح قوانين عادية.

ويرجع السبب في ذلك إلى أن هذه النصوص الدستورية شكلاً هي نصوص ذات طبيعة قانونية، ولو كانت قد صدرت بقانون عادي لظلت كما هي؛ إذ هي ليست من الدستور في شيء، وإنما التصقت به برابطة صناعية. وحين تنجح الثورة ويسقط الدستور نتيجةً لها فإنما تسقط القواعد الدستورية بطبيعتها، أما القواعد الأخرى ذات الطبيعة القانونية العادية فتظلّ وتبقى باعتبارها قانوناً عادياً شأنها في ذلك شأن بقية القوانين القائمة والمطبقة في الدولة، فالثورة لم تفعل سوى أن سحبت الصفة الدستورية من هذه النصوص القانونية، مع إبقاء صفة القانون العادي لها.

وحاصل القول أن النصوص التي تعدّ دستورية شكلاً لا موضوعاً تظلّ باقيةً على الرغم من سقوط الدستور، إلا أنها تهبط إلى مستوى القوانين العادية، فلا يكون لها قوة القوانين الدستورية بل قوة القوانين العادية فقط وتأخذ حكمها، ويجوز تعديلها وإلغاؤها بواسطة قوانين عادية أخرى.

ومن أهم تطبيقات ذلك في فرنسا استمرار العمل بأحكام المادة /75/ من دستور السنة الثامنة (دستور سنة 1814) التي كانت تقضي بعدم جواز مساءلة موظفي الحكومة مدنياً عن أعمال تتصل بوظائفهم أمام القضاء إلا بعد استئذان مجلس الدولة، فلم يَحُلْ سقوط هذا الدستور دون استمرار العمل بهذا الحكم بوصفه من أحكام القانون العادي حتى أُلغي بمقتضى مرسوم 19/9/1870. وكذلك المادة الخامسة من دستور سنة 1848 التي قضت بـ«إلغاء عقوبة الإعدام بالنسبة للجرائم السياسية»،  فلقد ظل حكمها سارياً كقانون عادي بالرغم من أن الدستور قد سقط نتيجةً للانقلاب الذي قام به لويس نابليون سنة 1851.

ولئن كان سقوط الدستور إثر نجاح الثورة لا يمنع من الإبقاء على بعض النصوص الدستورية من حيث الشكل لا الموضوع، متى كانت تتفق مع قيم الثورة ومبادئها، فإن النصوص الواردة في وثيقة الدستور والتي تتعارض مع قيم الثورة وإيديولوجيتها تسقط حتى لو كانت دستورية من حيث الشكل فقط.

2- أثر الثورة في القوانين العادية:

من المسلَّم به لدى رجال الفقه الدستوري أنه لا يترتب على نجاح الثورة أيّ مساسٍ بالقوانين العادية المعمول بها في الدولة، كالقانون المدني والقانون الجزائي وقانون الأحوال الشخصية والقانون الإداري والقانون التجاري وغيرها من القوانين الأخرى، وتأخذ اللوائح والمراسيم والأوامر والقرارات المعمول بها حكم القوانين العادية في هذا الخصوص، فالتشريعات سواءً أكانت عادية أم فرعية لا تتأثر مطلقاً بنجاح الثورة، وتبقى قائمةً ونافذةً ما لم تُلغَ صراحةً أو تكون متعارضة مع الشكل الجديد للحكم فتُلغى ضِمناً.

وعلّة بقاء هذه القوانين أنها لا تتعلق بنظام الحكم في الدولة، الأمر الذي يفترض ألا تكون الحركة الثورية موجهةً ضدها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنَّ الدولة لا يمكن أن تعيش في فراغٍ قانوني، وإلا كان معنى هذا أن الحركة الثورية تؤدي إلى الاضطراب والفوضى وهدم كيان الدولة وتقويض عناصر وجودها، وهذا يخالف القاعدة الدستورية المستقرة التي تقضي باستمرارية الدولة La continuité de l’État وديمومتها على الرغم من تغيير نظام الحكم فيها.

والدليل على صحة هذا القول أن كثيراً من التشريعات العادية الفرنسية التي صدرت في ظل النظام الملكي القديم أو في عهد نابليون بونابرت ما زالت سارية المفعول حتى الآن.

وينطبق على ذلك أيضاً الوضع في القطر العربي السوري، فإنَّ عدداً كبيراً من القوانين التي صدرت إبّان فترة الاستقلال ما زالت نافذةً حتى هذا اليوم، على الرغم من حدوث الكثير من التغييرات الجذرية على الصعيد السياسي.

ومن الأمثلة على هذه القوانين: (القانون المدني السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 84 تاريخ 18/5/1949وتعديلاته Ÿ قانون العقوبات السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 148 تاريخ 22 حزيران سنة 1949 وتعديلاته  Ÿ قانون العقوبات العسكري السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 61 تاريخ 27/2/1950 وتعديلاته Ÿ قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 112تاريخ 13/3/1950وتعديلاته Ÿ قانون أصول المحاكمات المدنية السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 84 تاريخ 28/9/1953 وتعديلاته Ÿ قانون مجلس الدولة السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 55 لعام 1959 وتعديلاته Ÿ قانون العمل السوري رقم 91 لعام 1959 وتعديلاته Ÿ قانون السلطة القضائية السوري الصادر بالمرسوم رقم 98 لعام 1961 وتعديلاته).

وجدير بالذكر أن دساتير الدول المختلفة تنص عادةً على بقاء التشريعات النافذة والصادرة قبل إعلان الدستور الجديد - الذي وضع بعد اندلاع ثورةٍ أو حدوث انقلابٍ أو حتى في الظروف العادية الطبيعية - سارية المفعول إلى أن تُعدَّل أو تُلغى وفقاً للقواعد المقرَّرة في الدستور.

ومن ذلك على سبيل المثال ما ورد في المادة /163/ من الدستور السوري الصادر سنة 1950 بقولها: «إن التشريع القائم المخالف لأحكام هذا الدستور يبقى نافذاً مؤقتاً إلى أن يُعدَّل بما يوافق أحكام الدستور»؛ وهو أيضاً ما قررته المادة /153/ من الدستور السوري الحالي لسنة 1973، التي قضت بأن: «تبقى التشريعات النافذة والصادرة قبل إعلان هذا الدستور سارية المفعول إلى أن تُعدَّل بما يوافق أحكامه».

ويمكن الاستشهاد أيضاً بما ما ورد في المادة /191/ من الدستور المصري الحالي لسنة 1971 من أن: «كل ما قررته القوانين والقرارات والأوامر واللوائح من أحكام قبل صدور هذا الدستور يبقى نافذاً، ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في هذا الدستور».

وهكذا، فإنَّ التشريعات أو القوانين العادية تبقى نافذةً ومنتجةً لآثارها إلى أن تُلغى أو تُعدَّل وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في الدستور، ويتوقف مدى الإلغاء أو التعديل، بطبيعة الحال، على مدى الفكر القانوني الجديد والقيم الجديدة لحكومة الثورة ومدى اتفاق هذه التشريعات أو تعارضها مع فلسفة الثورة وإيديولوجيتها.

مراجع للاستزادة:

- رمزي طه الشاعر، القانون الدستوري «النظرية العامة والنظام الدستوري المصري» (مطبعة جامعة عين شمس، القاهرة 1997).

- حسن مصطفى البحري، القانون الدستوري «النظرية العامة» (الجامعة الافتراضية السورية، الطبعة الأولى، دمشق 2009).

 

 


التصنيف : القانون العام
النوع : القانون العام
المجلد: المجلد الثالث: الجرف القاري ــ الرسم والنماذج الصناعية
رقم الصفحة ضمن المجلد : 462
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1134
الكل : 31513991
اليوم : 30396