logo

logo

logo

logo

logo

حق تقرير المصير

حق تقرير مصير

right of self-determination - droit à l’autodétermination

 حق تقرير المصير

حق تقرير المصير

محمد عزيز شكري

 تعريف حق تقرير المصير

تقرير المصير قبل ميثاق الأمم المتحدة

تقرير المصير بعد ميثاق الأمم المتحدة

الطبيعة القانونية لحق تقرير المصير

تقرير المصير القومي

   

أولاً - تعريف حق تقرير المصير:

تتباين وجهات نظر فقهاء القانون الدولي ومواقف الدول من تقرير المصيرself- determination  على نحو يتضح معه أنه ليس من السهل وضع تعريف جامع مانع له مع أن تقرير المصير اقترن منذ القرن السابع عشر بتعبير حرية الإرادة Free will. ومع ذلك يرى بعض الفقهاء أن من الممكن تعريفه على أنه «حق شعب ما في أن يختار شكل الحكم الذي يرغب العيش في ظلّه والسيادة التي يريد الانتماء إليها». وتعرفه المادة الأولى الموحدة من عهدي حقوق الإنسان لعام 1966 بأنه «حرية الشعوب في تقرير مركزها السياسي وحرية تأمين نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي»، وذهبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم (2625) الصادر في 24/11/1970- الذي تضمن التصريح الخاص بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة - إلى أن مبدأ التسوية في الحقوق وحق الشعب في تقرير مصيرها من مبادئ القانون الدولي الخاص بهذه العلاقات، وجاء فيه: «بموجب مبدأ التسوية في الحقوق وتقرير المصير للشعوب المعلنين في ميثاق الأمم المتحدة، لكل الشعوب الحق في أن تقرر - دون تدخل أجنبي - مركزها السياسي وأن تسعى لتأمين نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وعلى كل دولة واجب احترام هذا الحق وفق نصوص الميثاق».

ثانياً- تقرير المصير قبل ميثاق الأمم المتحدة:

من الممكن أن يعد نشوء مبدأ تقرير المصير وتطوره تاريخياً ردة فعل ثورية على مفهوم الحق الإلهي Divine right الذي قامت عليه أنظمة الحكم في العصور الوسطى؛ إذ كان إقليم الدولة وسكانه يعدان معاً ملكاً خاصاً للحاكم الذي له بمقتضى سيادته المستمدة من حقه الإلهي أو ما يدعوه «جان بودان»: «السلطة السامية غير المقيدة بالقانون»؛ إذ يمارس سلطته عليهما معاً بصفته مالكاً شرعياً. فإذا تصرّف بجزء من الإقليم شمل تصرفه سكان ذلك الجزء الذي يرتبطون به ويخضعون لمصيره نفسه، ومع تطور الأوضاع ومرور الوقت تولد رد الفعل على المفهوم الديني للدولة، فنمت وترعرعت فكرة أن السلطة إنما تكمن في الشعب الذي يتمتع بحق غير قابل للتصرف في تقرير شكل الحكم الذي يرغب فيه والدولة التي يود الانتماء إليها.

وإذا كان الرجوع إلى مبدأ تقرير المصير قد استهل في عام 1526م فإنه لم يحدث تطبيقه الفعلي إلا في بيان الاستقلال الأمريكي المعلن يوم 4 تموز/يوليو 1776م، وبعدها في وثيقة حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789م في فرنسا. وعندما حصلت المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في أمريكا الجنوبية على استقلالها في المدة من 1810- 1825م خشي الرئيس الأمريكي «مونرو» أن تلجأ الدول الأوربية إلى التدخل في شؤون دول أمريكا الجنوبية، فأصدر عام 1823 تصريحاً تضمن حق تلك الدول في تقرير المصير، كما تعهد تقديم الدعم الأدبي والعسكري لحكوماتها التي قامت استناداً إلى هذا المبدأ.

وفي تطور موازٍ نال مبدأ تقرير المصير في أوربا زخماً ضد طغيان الملوك والطبقات الحاكمة. ذلك أن الثورة الفرنسية التي أطلقت المبدأ في أوربا لم تكن تطلقه ضد حاكم أجنبي كما أنها لم تستهدف توحيد الشعوب. فالمسألة تتعلق بالأفراد والشعوب والأمم التي من حقها أن تتمتع بالحرية وأن تقاوم الاضطهاد وأن تحدد أوضاعها الداخلية والدولية. وهكذا وجدت فكرة الاقتراع العام Universal Ssuffrage، وكانت النتيجة المنطقية لذلك هي ديمقراطية الحكم وانبثاق مفهوم جديد لمبدأ تقرير المصير.

وقد أدى انتشار الديمقراطية إلى تقليص دور تقرير المصير ومضمونه في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر بسبب اللجوء إليه وسيلة لتحقيق الأماني القومية للأمم National aspiration. ذلك أن القومية Nationalism هي رابطة روحية تجد التعبير عنها في اتحاد الأفراد في الأصل وفي التراث المشترك من تاريخ وثقافة وعقائد وما إلى ذلك. وأن دول ذلك الوقت مثلما هي عليه الدول في العصر الحاضر لا تعدو أن تكون بصورة أو بأخرى مزيجاً من ثقافات وأجناس مختلفة، تكونت بفعل عدة عوامل تراكمت على مر التاريخ. بعبارة أخرى إن الأصل في الدول أنها تألفت من خليط من أمم قومية، ومن ثم فإن تطور الديمقراطية ونمو مشاركة الجماهير في الحياة العامة في القرن التاسع عشر حرك الأماني القومية لكل أمة داخل الدولة حتى سمي ذلك القرن عصر «مبدأ القوميات»Principle of nationalities  وأصبح مضمون تقرير المصير ضرورة تحقيق التوافق بين الدولة والأمة. وبكلمة أخرى أصبح معناه حق الأمم في تقرير مصيرها. ومما يؤكد هذا الاتجاه الذي اختطه مفكرون من أمثال مازيني أن إعلان حق الأمم في تقرير مصيرها لم يعط الاهتمام الكافي لحق الشعوب المستقلة في أن تقرر شكل الحكم لديها، بل اكتفى بتأييد حق الشعوب المناهضة لسيطرة أجنبية في تقرير مصيرها وتكوين دولها القومية.

أما أول إشارة يسارية لمبدأ تقرير المصير فقد جاءت في التصريح الصادر عام 1896 عن المؤتمر الاشتراكي العالمي لاتحاد العمال، إلا أن غموض نصوص التصريح أثار التساؤل حول من المخاطب به هل هي الأمم؟ أم طبقة العمال؟ أم الانتماء العمالي من أجل عزل الآخرين؟ كما لفّ الغموض من ناحية أخرى معنى تقرير المصير ذاته، فهل المقصود به استقلال الشعوب؟ أم سمو طبقة العمال؟ أم تحقيق الديمقراطية الاشتراكية العالمية؟

أما الدولة السوڤييتية فقد تبنت منذ مولدها حق الأمم في تقرير مصيرها مبدأً أساسياً للتسوية السلمية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، كما أنها كانت تعده أساس سيادتها بصدد القوميات؛ إذ لا يقوم موقفها في هذا المجال على الدفاع عن مبدأ القوميات بصورته التقليدية، وإنما تعطي مبدأ تقرير المصير أساساً أكثر عمقاً وأوسع مدى حين تقرن مسألة القومية بمسألة التحرر من الاستعباد الإمبريالي لشعوب المستعمرات والبلاد التابعة.

لقد أسهم انفجار تصارع القوى القومية - الذي انتقل إلى القرن العشرين من القرن السابق - في إشعال نار الحرب العالمية الأولى. فقد جاء في رد الحلفاء على استفسارات الرئيس الأمريكي ويلسون Wilson أنهم يقاتلون من أجل حرية  الإيطاليين والسلاڤ والبولونيين والتشيك واستقلالهم من السيطرة الأجنبية، مما دفع ويلسون إلى التصريح في عدد من خطبه الصارخة بوجهة نظره فيما يتعلق بحق تقرير المصير القومي بقوله: «ليس من الجائز مقايضة الناس بين سيادة وأخرى كما لو كانوا أموالاً منقولة أو حجارة لعب، وأن الشعوب لا يسيطر عليها ولا تحكم الأبناء على موافقتها، وأية تسوية إقليمية تنتج عن هذه الحرب يجب أن تكون لمصلحة الشعوب ذات العلاقة». وإذا كان المعنى الذي قصده ويلسون بعبارته السابقة قد أثار جدلاً فقد كان الفارق عظيماً بين ما قاله وما طبق فعلاً من قوله. فقد تأكد من مؤتمر السلام بڤرساي الذي اختتمت به الحرب العالمية الأولى فقدان الحماس لتطبيق حق تقرير المصير كما تعارض تطبيقه مع مصالح الدول المنتصرة.

وأخيراً وبفعل إصرار الزعماء - الذين مثلوا الإمبراطورية البريطانية - على عدم الاعتراف بمبدأ تقرير المصير أساساً يستند إليه في ترتيب تغييرات في السيادة على الإقليم في مواجهة أولئك الذين كانوا يمثلون الأقاليم البريطانية المتخصصة بالحكم الذاتي؛ تمَّ حذف المبدأ من عهد عصبة الأمم مع أن الرئيس ويلسون كان قد ضمنه نقاطه الأربع عشرة المشهورة، بل إن ويلسون نفسه عاد وأقر لاحقاً أنه حين تحدث عن تقرير المصير لم يكن يعلم عن «القوميات»، ومن ثم فإنه قرر بأن تطبيق هذا المبدأ يقتصر على شعوب الأقاليم التي انفصلت عن الامبراطوريات المهزومة في أوربا دون سواها، ففي غير أوربا ابتدع نظام الانتداب.

غير أن مبدأ تقرير المصير لم ينتهِ فقد عاد إلى الظهور من جديد حتى إبان الحرب، وكان على الحلفاء في هذه الحرب الكونية الثانية أن يلتزموا احترامه. ففي تصريح الأطلسي Atlantic Charter الصادر يوم 14 آب/أغسطس 1941 عن روزفلت وتشرشل أعلن الزعيمان بعض المبادئ التي تقوم عليها سياسة بلديهما حاضراً ومستقبلاً. وكان واضحاً أن المبدأين: الثاني الذي ينص على الرغبة في عدم إحداث تغيرات إقليمية ضد رغائب الشعوب، والثالث الذي ينص على حق جميع الشعوب في اختيار أشكال حكوماتها؛ يتناولان مبدأ تقرير المصير. بيد أن الغموض الذي اتسمت به نصوص التصريح بصورة عامة مضافاً إليه سلوك الدولتين الاستعماري جعل من الصعب معرفة ما إذا كانت نية واضعيه قد انصرفت إلى قصر تطبيقه على أوربا أم إنه ليشمل العالم بأسره.

ثالثاً - تقرير المصير بعد ميثاق الأمم المتحدة:

خلت مقترحات دومبارتون أوكس حول ميثاق المنظمة المقترحة لخلافة عصبة الأمم من الإشارة إلى مبدأ تقرير المصير. وفي محادثات الأربع الكبار في سان فرانسيسكو أثار وزير خارجية الاتحاد السوڤييتي الموضوع، واقترح النص عليه ضمن العبارة الخاصة بالهدف الثاني purposes للمنظمة وكذلك في مقدمة الفصل التاسع الخاص بالتعاون الاقتصادي والاجتماعي، ثم عاد وأعرب عن موقفه هذا في مؤتمر صحفي مؤكداً أن بلاده تعلق عليها أهمية كبرى لما تبديه من اهتمام خاص بسكان المستعمرات والأقاليم الخاضعة للانتداب والذين ترغب في أن تراهم يسيرون على طريق الاستقلال الوطني في أقرب فرصة ممكنة. ومن ثم فإن على الأمم المتحدة أن تدعم هذا الهدف وأن تعمل من أجل الإسراع في تحقيق مبادئ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للأمم.

ومع أن ممثلي الدول الثلاث الأخرى لم يشاطروا الممثل السوڤييتي وجهة نظره هذه، إلا أنهم قبلوا الاقتراح على أي حال، وقدموه إلى مؤتمر سان فرنسيسكو على أنه مشروع مشترك لتعديل مقترحات دومبارتون أوكس. وقد صادق المؤتمر في النهاية على هذه التعديلات فأصبحت بذلك الفقرة (2) من المادة الأولى من الفصل الأول أهداف ومبادئ الأمم المتحدة على النحو الآتي: «إنماء العلاقات الودية بين الأمم، على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز الســـلم العام»، وكذلك المادة (55) من الفصل التاسع الخاص بالتعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي التي تضمن نصها ما يلي: «رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سلمية وودية بين الأمم مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، تعمل الأمم المتحدة على…». وإذا كان تقرير المصير كما جاء في الفقــرة (2) من المادة (1) مبدأ مرشداً للأمم المتحدة في تحقيق أهدافها وأســاســــاً لتمتين علاقات الصداقة بين الشعوب، وتقوية السلام العالمي؛ فإنه - كما جاء في المادة (55) - الأساس لخلق شروط الاستقرار والرفاه اللازمين لعلاقات الصداقة والسلام بين الأمم، كما أنه المبدأ الذي تلتزم الدول الأعضاء الاسترشاد به في علاقاتها مع الأمم الأخرى، وعلى أي حال فإن كلا النصين مشوبان بالغموض وتعوزهما الدقة سواء من حيث بيان مجال التطبيق أم من حيث المعنى.

إن إقدام الأربع الكبار على التقدم بالتعديل المذكور شروعاً مشتركاً من دون الاتفاق على مضمونه هو مسؤوليتهم جميعاً لسماحهم بجعل مثل هذا المبدأ الحساس جزءاً من دستور العلاقات الدولية من دون بيان المعنى المقصود منه. ذلك أن النص عليه بمثل هذا الغموض لم يضع حداً للصراع القائم بشأن تقرير المصير بل على العكس أكسبه مزيداً من الحدة والضراوة. ومع أن المرجع في خلاف حول تفسير مبادئ ميثاق الأمم المتحدة لا يمكن أن يكون لرأي هذه الدولة أو تلك بل للأمم المتحدة كلها؛ فإن الصراع حول تفسير مبدأ تقرير المصير قد بلغ ذروته بين القوى الاستعمارية والقوى المناهضة للاستعمار ولا سيما في شأن منح الشعوب غير المستغلة استقلالها. فقد جهد ممثلو الدول الاستعمارية للتهوين من شأن هذا المبدأ وإضعاف أهميته إلى حد أن بعضهم ذهب إلى إنكار وجوده ضمن مبادئ القانون الدولي.

وقد دفع هذا الصراع الجمعية العامة إلى أن تطلب من لجنة حقوق الإنسان في قرارها (421) الصادر في 4/12/1950 أن تضع توصيات حول الطرق والوسائل التي تضمن حق تقرير المصير للشعوب. كما نصت في قرارها رقم (545) الصادر في 5/2/1952 على ضرورة تضمين الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مادة خاصة تكفل حق الشعوب في تقرير مصيرها. ثم أصدرت في 16/12/1952 القرار (637) الذي جعلت بمقتضاه حق الشعوب في تقرير مصيرها شوطاً ضرورياً للتمتع بالحقوق الأساسية جميعها وأنه يتوجب على كل عضو في الأمم المتحدة الحفاظ على حق تقرير المصير للأمم الأخرى واحترامه.

وتابعت الجمعية العامة بعد ذلك إصدار القرارات لتأكيد حق الشعوب في تقرير المصير. وإذا كانت قد استخدمت كلمة «حق» right بدلاً من كلمة مبدأ principle بدءاً من قرارها رقم (1181) الصادر في 11/12/1957 فإنها وبعد النظر في التقارير المختلفة التي قدمتها لجنة حقوق الإنسان عن طريق المجلس الاقتصادي والاجتماعي؛ أصدرت في 14/12/1960 قرارها رقم (1514) الخاص بمنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة والذي كانت له أهمية خاصة؛ لأنه اتخذ محوراً استندت إليه جميع القرارات اللاحقة الخاصة بتقرير المصير الصادرة عن الأمم المتحدة. وقد نص هذا القرار على حق جميع الشعوب من دون أي تمييز في تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي؛ على أن تتخذ خطوات مرتبة لمنح الشعوب غير المستقلة استقلالها التام، وألا يتخذ أي سبب مهما كان ذريعة لتأخير ذلك؛ لأن إخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي إنما هو إنكار لحقوق الإنسان الأساسية ويناقض ميثاق الأمم المتحدة ويعوق السلم والتعاون الدوليين. صدر هذا القرار التاريخي في أعقاب ممارسات المجتمع الدولي التي استمرت سبعة عشر عاماً بأغلبية 90 صوتاً مقابل لا شيء وامتناع 9 دول عن التصويت، وإن عدم وجود أي معارض للقرار إضافة إلى تدني نسبة الممتنعين عن التصويت إنما يدل على أنه يمثل رغبات جميع أعضاء الأمم المتحدة ومعتقداتهم، مما يعني أن حق تقرير المصير لم يعد حقاً قابلاً للتطبيق في المستقبل لأحوال غير محدودة وإنما أصبح حقاً قانونياً نافذاً وفورياً.

ثم قامت الجمعية العامة بجمع المبادئ التي سبق أن اتخذتها بصدد تقرير المصير في قرار واحد في محاولة لإيضاحها؛ وذلك في القرار (2625) الذي اتخذته بالإجماع unanimously في 24/11/1970؛ والذي تضمن الإعلان الخاص بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لأحكام ميثاق الأمم المتحدة. وهو - فقهاً واجتهاداً - التفسير المعتمد لأحكام الميثاق فيما تضمنه من مبادئ.

وفي 12/12/1972 صدر عن الجمعية العامة قرار مهم آخر برقم (2955) حول حق الشعوب في تقرير المصير والحرية والاستقلال وشرعية نضالها بكل الوسائل المتاحة لها والمنسجمة مع ميثاق الأمم المتحدة. وبقرارها رقم (3070) الصادر في 30/11/1973 طلبت من جميع الدول الأعضاء الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها واستقلالها وتقديم الدعم المادي والمعنوي وجميع أنواع المساعدات للشعوب التي تناضل من أجل هذا الهدف. وقد درجت الجمعية العامة منذ ذلك على تأكيد هذه المبادئ في جميع قراراتها المعنونة تحت «الإعمال العالمي لحق الشعوب في تقرير مصيرها ومنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة والاحترام العالمي لحقوق الإنسان». وفي غضون ذلك وقعت في 1 آب/أغسطس 1975 ثلاث وثلاثون دولة أوربية إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في هلسنكي «الاتفاقية النهائية التي أسفر عنها مؤتمر الأمن والتعاون في أوربة. وقد تضمن القسم الأول منها إعلاناً عن المبادئ التي ينبغي أن توجه علاقات الدول المشتركة فدعا إلى الأخذ بعشرة مبادئ توجيهية وصفت بأنها غاية في الأهمية وأن الواجب يقضي تطبيقها بلا تحفظ. وقد نص المبدأ الثامن منها على حق تقرير المصير».

كما وسعت الأمم المتحدة من نطاق تطبيق تقرير المصير وجعلته أحد حقوق الإنسان الأساسية من ناحية وحقاً اقتصادياً من ناحية أخرى. ففي 16/12/1966 أقرّت الجمعية العامة العهدين الدوليين covenants اللذين أعدتهما لجنة حقوق الإنسان بناء على طلب الجمعية، وتتعلق الاتفاقية الأولى بالحقوق المدنية والسياسية وقد أصبحت نافذة المفعول بدءاً من 23 آذار/مارس 1976، في حين تتناول الثانية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وقد أصبحت نافذة المفعول بدءاً من 3/1/1976. وقد تناولت المادة الأولى من كلتا الاتفاقيتين حق تقرير المصير بنص موحّد هو ما يلي: «تملك جميع الشعوب حق تقرير مصيرها وتملك بمقتضى هذا الحق حرية تقرير مركزها السياسي وحرية تأمين نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي».

لقد حقق تقرير المصير لعدد متزايد من الشعوب استقلالها السياسي، غير أن قلة من الدول المستعمرة استمرت بالسيطرة على ثرواتها ومواردها الاقتصادية لتبعيتها اقتصادياً داخل دائرة الاستعمار، ومن ثم اتضح أن إزالة تسلّط الاستعمار سياسياً يجب أن يتبعه إزالة تسلطه الاقتصادي. ومن خلال رؤية الاستعمار في جانبه الاقتصادي برزت فكرة السيادة الاقتصادية وحق تقرير المصير الاقتصادي ومبدأ السيادة على الموارد الطبيعية Natural resources. وفي 21/12/1952 أصدرت الجمعية العامة القرار (626) بعدما أثير أمامها موضوع حق الدول ذات السيادة في تأميم ثرواتها الطبيعية والتصرف بها، وذلك في الوقت الذي أثيرت فيه فكرة السيادة الاقتصادية أمام لجنة حقوق الإنسان التي كانت تعدّ قراراً يكفل للشعوب الحق في تقرير المصير، إذ أوضحت الدول النامية أنه لا معنى لتقرير المصير ما لم تخول الدول الحق في أن تقرر بحرية نظامها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فاقترحت لجنة حقوق الإنسان على الجمعية العامة عام 1954 إنشاء لجنة خاصة لدراسة حق الشعوب في السيادة على ثرواتها ومواردها الطبيعية. وبعد جدل طويل أقرّت الجمعية العامة سنة 1958 إنشاء هذه اللجنة وبناء على اقتراحها اعتمدت الجمعية العامة قرارها رقم (1803) الصادر في 14/12/1962، وقد نص على حق الشعوب غير القابل للتصرف في السيادة على ثرواتها ومواردها الطبيعية بوصفه من الحقوق المنبثقة عن حق الشعوب في تقرير مصيرها وفي تقرير مركزها السياسي وتأمين نمائها الاقتصادي وفي التصرف بثرواتها ومواردها الطبيعية، شريطة عدم الإخلال بأي التزامات تستند إلى مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة ومبدأ القانون الدولي. وقد استندت بعض الدول إلى حق تقرير المصير الاقتصادي هذا حين لجأت إلى تأميم ثرواتها ومواردها الطبيعية ولا سيما النفط.

رابعاً- الطبيعة القانونية لحق تقرير المصير:

أصبح واضحاً في الممارسة الطويلة للمجتمع الدولي - دولاً ومنظمات دولية - أن طبيعة تقرير المصير قد تطورت فأصبحت تعني أحد أهم الحقوق التي تقررها مبادئ القانون الدولي المعاصر، فهو يرتب للشعوب حقوقاً ويرتب على الدول التزامات ذات طبيعة دولية وهو حق دولي جماعي وعام في آن معاً. فهو حق دولي جماعي بمعنى أنه مقرر للشعوب من دون الأفراد، وهو حق دولي عام لأنه مقرر لمصلحة جميع الشعوب من دون أن يقتصر على فئة من دون أخرى من شعوب العالم، فهو - نظرياً- يشمل جميع الشعوب المستقلة وغير المستقلة وفقاً للمعنى السياسي القانوني لتعبير الشعب كما تحدد في ميثاق الأمم المتحدة وليس وفقاً للمعنى المرتبط بمبدأ القوميات.

ويتجلى حق تقرير المصير في مظهرين خارجي وداخلي. فهو في مظهره الخارجي يعنى بتحديد الوضع الدولي للدولة أو الشعب من حيث اكتساب الاستقلال أو المحافظة عليه (اكتسابه للشعوب المستعمرة والمحافظة عليه للشعوب المستقلة)، أو من حيث اندماج الوحدة السياسية مع وحدة أو وحدات أخرى ضمن أحد أشكال الاندماج التي يعترف بها القانون الدولي. وهو يعطي الوحدة السياسة الحق في أن تسلك الطريق التي تشاء في علاقاتها الخارجية من دون تدخل خارجي من قبل الشعوب أو الوحدات السياسية الأخرى؛ إذ لها أن تنشئ أو توقف علاقاتها الدبلوماسية وأن تنضم أو أن تنسحب من المنظمات والهيئات الدولية، أما من حيث مظهره الداخلي فإن حق تقرير المصير هو حق أغلبية الشعب داخل الوحدة السياسية المقبولة وفقاً لمبادئ القانون الدولي في ممارسة السلطة (دولية أو إقليم غير متمتع بالحكم الذاتي) لإقامة شكل الحكم والمؤسسات الوطنية بصورة تتلاءم ومصالح هذه الأغلبية ولا يتضمن حق تقرير المصير الداخلي حق الانفصال؛ إذ ليس للأقليات حق تقرير مصير يمكنها من أن تحتج به للمطالبة بانفصالها عن إقليم الدولة. ذلك أن ما يرتبه القانون الدولي هو أن تصان حقوقها عن طريق التزام الأغلبية واحترام حقوق الإنسان.

وترى الجماعة الدولية أن حق تقرير المصير يمارس عموماً عن طريق الوسائل الودية والديمقراطية التي يُعد الاقتراع العام أهمها ويفضل أن تتم ممارسته بإشراف الأمم المتحدة أو تحت رعايتها وعلى أساس أن لكل شخص صوتاً واحداً بغض النظر عن أصله وعرقه ودينه ولغته. إلخ. أما إذا رفضت القوى المهيمنة على السلطة داخل الوحدة السياسية التي يعيش الشعب فيها أو القوى الاستعمارية تطبيق هذا السبيل الودي وأنكرت على الشعوب حقها في تقرير مصيرها؛ فإن لهذه الشعوب أن تمارسه بالكفاح المسلح وهو ما يسمى تقرير المصير الثوري، مثال ذلك تقرير المصير في إندونيسيا في مطلع الخمسينات وفي الجزائر في منتصف الخمسينات وفي فلسطين حتى تاريخه. والكفاح الوطني المسلح ضد الاستعمار أمر أقرته الأمم المتحدة بقراراتها وإعلاناتها والمواثيق التي أقرتها وممارستها، وهو ليس إرهاباً، الإرهاب هو في التصدي للكفاح الوطني المسلح وفي العدوان والاحتلال.

خامساً- تقرير المصير القومي:

خلافاً لما تقدم وعلى أثر اهتزاز النظام العالمي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أعلن الرئيس الأمريكي بوش عام 1990 عن ولادة ما أسماه النظام العالمي الجديد.

بدأت بعض الشعوب التي كانت أقليات في وحدة سياسية واحدة تتحلل من تلك الوحدة وتؤلف دولاً خاصة بها. وهذا ما حصل للاتحاد السوڤييتي مثلاً فقد انقسم إلى دول بعضها ضمته رابطة دول الكومونولث وبعضها استقل تماماً وابتعد عن الدولة السلف في كل شيء مثل إستونيا وإيتوانيا ولاتيفيا وسواها، وكذلك ما حصل للاتحاد اليوغسلاڤي سابقاً؛ إذ انقسم إلى دول: صربيا والجبل الأسود (يوغسلافيا) وكرواتيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا وسلوفانيا. وقد تم ذلك باسم حق تقرير المصير، ولكن في بعض الحالات تبين أن التعاون الاثني أو الديني يحمل أقلية ما على التمرد والانفصال باسم تقرير المصير كصرب البوسنة في جمهورية البوسنة، والأكراد في العراق، ودارفور في السودان وجنوبي هذا الأخير، والباسك في إسبانيا… إلخ.

وهكذا عاد تقرير المصير القومي إلى الانبعاث، وهو لو أطلق على غاربه سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في العلاقات الدولية؛ فما من دولة في هذا العالم المعاصر يمكن أن تضم قومية واحدة، لذا يمر تقرير المصير وممارساته حالياً بامتحان بالغ الخطورة إذا حل الشعب بالمعنى الاثني محل الشعب بالمعنى السياسي والقانوني في ممارسته.

مراجع للاستزادة:

- عمر إسماعيل سعد الله، تقرير المصير السياسي للشعوب في القانون الدولي العام المعاصر (المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1986).

- عمر إسماعيل سعد الله، تقرير المصير الاقتصادي للشعوب في القانون الدولي العام المعاصر (المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1986).

- Muhammad AZIZ SHUKRI , The Concept of Self- Determination in The United Nations, (Dar Al- Fikr, Damascus 1965).

 


التصنيف : القانون الدولي
النوع : القانون الدولي
المجلد: المجلد الثالث: الجرف القاري ــ الرسم والنماذج الصناعية
رقم الصفحة ضمن المجلد : 188
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 508
الكل : 31194281
اليوم : 19438