logo

logo

logo

logo

logo

الأنباط

انباط

Nabatean - Nabateen

 الأنباط

الأنباط


التسمية
الموطن الأصلي للأنباط

الأنباط في الوثائق التاريخية

المواقع الأثرية
 

تعد دراسة الإرث الحضاري النبطي من أهم الدراسات التي تلقي الضوء على حضارة العرب قبل الإسلام وعلى نتاجهم الثقافي والاقتصادي والاجتماعي في مختلف الميادين؛ على الرغم من الغموض الكبير الذي ما يزال يكتنف الكثير من الجوانب المعرفية للأنباط نظراً لشح المصادر التاريخية التي تمد الباحثين بالمعلومات عن الأنباط وعن حضارتهم.

التسمية

ظلّ الباحثون حتى عهد قريب يُحاولون المطابقة بين تسمية الأنباط - الذين يرد اسمهم في نقوشهم بصيغة nbtw "نبطو"- والاسم Nebayot في العبريّة، وهو في "العهد القديم" بِكْرُ إسماعيل، ويظنون أنّهم هم أنفسهم الذين ورد ذكرهم بصيغة luNa-ba-ai-ti - في حوليات الملوك الآشوريين تجلات بلاصر الثالث (745-727 ق.م) وسرجون الثاني (722-705 ق.م) وسنحاريب (705-681 ق.م) - اسماً لقبيلةٍ كانت تعيش على ضفاف الفرات تدفع للآشوريين الإتاوة، ثم بصيغة Nebaioth اسماً لقبيلةٍ ذكر آشور بانيبال (668-627 ق.م) في حولياته أنه عاقبها لخيانتها، ولكن الرأي الراجح اليوم هو عدم وجود صلة بين الأنباط وأولئك الذين ورد ذكرهم في النصوص المشار إليها؛ لأنّ أوّل إشارة واضحة إلى الأنباط في أماكن سكناهم التاريخية لا تتجاوز أواخر القرن الرابع قبل الميلاد.

الموطن الأصلي للأنباط

يعتقد بعض الباحثين أن الانباط هم من أهل منطقة أدوم أو شرقها، وقد أثبتت أعمال التنقيبات الأثريـة ضعف هذه النظرية، ذلك أن المنطقة قد شهدت فراغاً حضارياً ولم يعثر فيها على أدلة لاستيطان بشري دائم ومستقر، وأن هناك فارقاً زمنياً بين المخلفات الأثرية الأدومية وبين المخلفات الأثرية النبطية. فيما يرى بعضهم أن جنوبي شبه الجزيرة العربية هو موطن الأنباط الأصلي، وأنهم رحلوا بعد انهيار سد مأرب خلال القرن الخامس قبل الميلاد، بناء على التشابه في بعض العناصر المعمارية، وخاصة النظام المائي المتبع لدى الأنباط وقبائل جنوب شبه الجزيرة العربية.

ويعتقد باحثون آخرون أن منطقة الهفوف في الأحساء هي الموطن الأصلي للأنباط بناء على عبادة الإله "ص ع ب/ص ع ب و"، والعثور على نص هيروغليفي وجد في معبد آمون يذكر أن العرب هم "هجر"؛ وبما أن "هجر" هي الهفوف قديماً فإن الأنباط هم الهجرانيون الذين أدوا دوراً تجارياً بين الخليج العربي ومصر، وكذلك بسبب التشابه والتقارب اللغوي بين الجماعات العربية التي خلفت نقوشاً عربية وآرامية ونبطية، فيما يعتقد بعضهم أن الأنباط أصلاً من وسط غرب الحجاز أو شماله.

الأنباط في الوثائق التاريخية:

ذكرت المصادر الكلاسيكية الأنباط في سياق الأحداث التي أعقبت موت الإسكندر الكبير المقدوني والصراع الذي قام بين قادته الكبار من أجل السيطرة على امبراطوريته في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، فقد نقل ديودور الصقلّي Diodorus Siculus (80-21 ق.م) عن شاهد عيان أنّ أنتيغونوس المقدوني Antigonos Monophthalmos أرسل حملةً عسكريّةً تتألّف من أربعة آلاف من الجند المشاة وستمئة من الخيّالة إلى بلاد العرب الذين يسمّون Nabataioi- أيْ الأنباط - عام 312 ق.م، فباغتتهم ليلاً في مخبأٍ لهم يجمعون فيه أُسَرَهم ومقتنياتهم يُدعى Petra- وهو الموقع الذي أقاموا فيه فيما بعد عاصمتهم البتراء - وغنمتْ كميّةً من البخور والمرّ والفضّة. وينقل عنه كذلك أنّ هؤلاء البدو "كانوا مربّي حيوانات وتجّاراً، يعيشون في أرضٍ قفرٍ، لايزرعون الحقول، ولا يشربون الخمور، ولا يبنون البيوت". وتشير هذه الروايات إلى أنّ الأنباط أفادوا من طريق البخور التجاريّ الذي كانت تنقل السلع عبره من جنوبي الجزيرة العربيّة إلى سواحل البحر المتوسط والبحر الأحمر، ويؤكد ذلك أنّ ديودور يقول في موضعٍ آخر: "إنّ عدداً غير قليل منهم تعوّدوا أن يجلبوا البخور والمرّ وأغلى ضروب الأفاويه إلى الساحل، يحصلون عليها ممن ينقلونها إليهم من بلاد العربيّة السعيدة". ويكتنف الغموض تاريخ الأنباط في القرنين التاليين لأنّ المصادر الكلاسيكيّة تغفل ذكرهم، وبالرغم من ذلك فإنّ المكتشفات الأثريّة - التي تشمل الفخّار والنقود - تدلّ على وجودهم في المنطقة الجنوبيّة من شرقيّ الأردن وفي منطقة النقب في القرن الثالث ق.م. ويظهر أنّ البطالمة استولوا في عهد بطلميوس الثاني فيلادلفوس Ptolemaios II Philadelphos (285-246 ق.م) على ميناء "أيلة" (العقبة) فحالوا بين الأنباط وبين الوصول إلى البحر الأحمر، كما استولوا على الساحل الشرقي للبحر الميّت فحرموهم بذلك من زراعة البلسم و من استخراج القار من ذلك البحر وبيعه - كما يقول ديودور - إلى المصريين لاستعماله في التحنيط، كما سيطر البطالمة على مدينة "ربة عمون" وأطلقوا عليها اسم فيلادلفيا Philadelphia وحولوا طرق تجارة البخور إلى سواحل البحر الأحمر وصولاً إلى مصر، فاضطر الأنباط لحماية مصالحهم التجارية إلى مهاجمة سفن البطالمة، وقد أشار ديودور إلى ذلك بقوله "إن أولئك العرب لم يكتفوا - بعد أن جعل ملوك الإسكندريّة طرق البحر ميسّرةً لإبحار تجارتهم - بمهاجمة من تحطّمت بهم سفنهم؛ بل أنزلوا إلى البحر سفن قرصنة تطارد التجّار والمسافرين". ثم يصف استرابون Strabon (63 ق.م؟-21م؟) -نقلاً عن صديقٍ له عاش في البتراء - حياة الأنباط الحضريّة المترفة آنذاك، فهؤلاء الذين كانوا أواخر القرن الرابع قبل الميلاد "لايملكون ماءً أو خمراً أو حبوباً"- بحسب رواية ديودور- أصبحوا في نهاية القرن الأول ق.م من أكثر الناس ماءً ومزارع وخموراً، "وهم يقيمون في بيوتٍ مشيدة في الصخور، وأضحت البتراء ملتقى الناس من شتى الأمم، وصار ملكهم يخطر في ثياب الأرجوان ولكنه - لتواضعه - يخدم نفسه بنفسه بل يخدم ضيوفه أيضاً". غير أنّ المصادر المتاحة - بما فيها الكتابات النبطية - لا تكاد تذكر شيئاً عن أسس تنظيم الدولة النبطية وجهازها الإداري، فلمْ تتحدّث مثلاً عن تقسيمها إلى ولايات؛ أو عن طبيعة العلاقة بين الملك ورجاله وحاشيته؛ أو عن حدود الدولة - وهي حدود متغيّرة - مع جيرانها؛ لأنّ التوسع النبطي كان في بعض الأحيان توسعاً تجاريّاً غير مصحوب بسيطرة سياسية، ولاشكّ أنّ الأنباط تأثّروا في تنظيم دولتهم بالسلوقيين والبطالمة والرومان، ولكن ذلك التأثر لايعني أن نظام دولتهم هلنستي أو بطلمي أو روماني.

يعتقد أن الأنباط بدؤوا دولتهم الفعلية بعد تحررهم من البطالمة، وقد تحولوا إلى الحكم الملكي واتخذوا ملكاً لهم منذ عام 169 ق.م، واستمروا بذلك حتى عام 106م، وخلال هذه الفترة حكم المملكة أحد عشر ملكًا، يعتقد أنهم ينتمون إلى ثلاث أو أربع أسر( أو سلالات) مختلفة. وكان الحكم في المملكة وراثياً؛ إما بين الأبناء مثل: عبادة الثالث بن مالك الأول، ومالك الثاني بن الحارثة الرابع الذي تقلد الحكم بعد وفاة والده، ورب إيل الثاني الذي جاء بعد والده مالك الثاني، وبين الأخوة مثل: عبادة الأول، ورب إيل الأول، والحارثة الثالث وهم أبناء الحارثة الثاني.

ويعد حكم الحارثة الرابع أطول الملوك الأنباط مدةً؛ إذ إنه استمر مدة 49 عاماً (9ق.م-40م)، فيما حكم رب إيل الأول عاماً واحداً فقط (85 ق.م). وقد اتخذ ملوك الأنباط أربعة أسماء: هي الحارثة وعبادة ومالك ورب إيل. وقد حكمت الدولة النبطية في فترة زمنية معينة زوجات الملوك وأمهاتهم.

وإذا كان الباحثون قد اختلفوا زهاء قرنٍ في عدد ملوك الأنباط وفي تسلسلهم الزمنيّ وفي سنوات حكمهم؛ فإنّ معظمهم متفقون اليوم على أنّ عدد ملوك الأنباط أحد عشر، وعلى ترتيبهم زمنيّاً كما يلي: حارثة الأوّل (168 ق.م- ؟)، فرب إيل الأوّل (غير مؤكّد)، فحارثة الثاني (120/110- 96 ق.م)، فعبادة الأوّل (96-85 ق.م)، فحارثة الثالث (85-62 ق.م)، فعبادة الثاني (62/61-59 ق.م)، فمالك الأول (59/58-30 ق.م)، فعبادة الثالث (30-9/8 ق.م)، فحارثة الرابع (9/8 ق.م- 40م)، فمالك الثاني (40-70 م)، فرب إيل الثاني (71-106م). وليس ثمة ما يُعرف عن أوّلهم سوى ورود اسمه في نقش نبطيّ من "الخلصة" في النقب - لايتجاوز في تاريخه منتصف القرن الثاني ق.م - على هذا النحو: ...h[r]tt mlk= nbtw "حارثة الأوّل ملك الأنباط"، ورواية سفر المكابيين الثاني أنّ كاهنين يهوديين تنازعا على منصب الكاهن الأكبر في المملكة الحشمونيّة ففرّ الخاسر منهما - ويُدعى "ياسون" - عام 169 ق.م ولجأ إلى حارثة الأوّل ملك العرب الأنباط. ويبدو أن هيروتيموس Herotimus الذي يصفه يوستين Justinus بأنه "ملك قوم من العرب كانوا مسالمين حتى اليوم ولكنهم أصبحوا الآن يهدّدون مصر وسورية بجيوشهم"؛ هو حارثة الثاني، وقد استولى ألكسندر ينايوس A. Jannaeus ملك الحشمونيين على غزّة في عهده منتهزاً ضعف السلوقيين لتهديد الأنباط في النقب، ثم غزا في عهد عبادة الأول مناطق نبطية في موآب فتصدّى له عبادة - كما يروي يوسيفوس Josephus - وهزمه في جدارا Gadara (أم قيس حالياً قرب إربد) في شمالي الأردن. ويذكر ستيفانوس البيزنطي Stephanus of Byzantium أنّ ملك السلوقيين أنطيوخوس الثاني عشر Antiochus XII هاجم الأنباط عام 87 ق.م فخسر المعركة التي انتهت بمقتله ومقتل عبادة. وقطف حارثة الثالث ثمرة هذا الانتصار فاستولى على مناطق شمالي الأردن وجنوبي سورية ثم استولى على دمشق عام 85 ق.م بعد أن استغاث به أهلها، وعاد بعد ذلك ليهاجم ينايوس ويلحق به الهزيمة في معركة قرب يافا عام 82 ق.م، ولكن ينايوس ردّ بغزو المنطقة شرقي البحر الميت واستولى على 12 قرية نبطيّة. وتنازع الأخوان هيركانوس الثاني وأرسطوبولس على حكم المملكة اليهوديّة بعد وفاة والدهما ينايوس عام 76 ق.م. ثم والدتهما ألكسندرا عام 67 ق.م. ولجأ هيركانوس إثر هزيمته من أخيه إلى حارثة الثالث الذي ضرب حصاراً على القدس بعد أن وعده هيركانوس باسترجاع ما انتزعه ينايوس منه. ثم بدأت الفترة الرومانية بوصول بومبيوس Pompeius إلى سورية عام 64 ق.م فأبقى على مملكة الأنباط وأعاد إليها ما انتزعه ينايوس من ممتلكاتها وضيّق الخناق على المنطقة اليهوديّة. وأغار حاكم سورية سكاوروس Scaurus الذي خلف بومبيوس عام 62 ق.م على الأنباط في البتراء، ولكن حارثة صالحه - كما يروي يوسيفوس - ودفع غرامة. وهكذا صار ولاء الأنباط للرومان، فأرسل مالك الأوّل عام 47 ق.م خيّالةً إلى يوليوس قيصر[ر] Iulius Caesar في مصر ليستعين بهم في صراعه مع البطالمة، ثم حضر ماركوس أنطونيوس M. Antonius إلى المشرق بعد اغتيال يوليوس قيصر فعيّن هيروديس الكبير Herodes عام 40 ق.م حاكماً على اليهوديّة، ولمْ يدم السلام طويلاً بينه وبين جيرانه الأنباط؛ إذ غزا هيروديس منطقة حوران لينتهي الأمر إلى هزيمته عام 32 ق.م. ولعلّ أبرز الأحداث في عهد عبادة الثالث هو الحملة الرومانيّة المخفقة على جنوبي الجزيرة العربية في عهد الامبراطور أغسطس Augustus بقيادة إليوس غالوس Aelius Gallus حاكم مصر عام 26/25 ق.م التي روى استرابون تفاصيلها، فذكر أنّ ألفاً من الأنباط شاركوا فيها وكان الوزير النبطي "سلي" دليلها. ويُعدّ عهدُ حارثة الرابع - الذي يتّخذ في النقوش لقب "مُحبّ شعبه" - أطول عهود الدولة وأزهاها؛ إذ بلغت دولة الأنباط آنذاك أقصى اتساعها الجغرافي وعاش الناس طوال نصف قرن في استقرار وأمان ونعيم. والظاهر أنّ العلاقات كانت حسنة أوّل الأمر بينها وبين جيرانها، إذ تزوّج حاكم الجليل هيروديس أنتيباس H. Antipas- وهو ابن هيروديس الكبير- ابنة حارثة، ثم تزوّج أخرى عام 27 م، فغضب حارثة وانتقم منه - بعد سنين - وألحقَ به الهزيمة في معركةٍ جرت كما يقول يوسيفوس في منطقة اليرموك، فشكاه إلى الامبراطور طيبريوس Tiberius الذي أمر حاكم سورية بمعاقبة حارثة، ولكن وفاة الامبراطور عام 37م أدّت إلى تراجع الجيش الروماني قبل أن يصل إلى مبتغاه، ولمْ يتأخر الامبراطور الجديد كاليغولا Caligula في إعلان العفو عن ملك الأنباط. ويروي يوسيفوس أنّ مالك الثاني أمدَّ تيتوس Titus عام 67م في عكّا وهو يجهّز حملته لتدمير الهيكل بخمسة آلاف من المشاة وألفٍ من الخيّالة. ولا يُعرف من الأحداث في عهد رب إيل الثاني الذي دام 36 عاماً سوى إشارات في بعض النقوش إلى تمرّد قبليٍّ واسع يُسمّى "دَمَسي" حدث في بداية حكمه مازال الباحثون يحاولون - بالمقارنة بالمصادر وببعض النقوش الصفوية - جلاء غموضه.

وبلغت دولة الأنباط نهايتها مطلع القرن الثاني للميلاد إثر وفاة رب إيل الثاني - الذي تذكر النقوش النبطيّة أنّه "وهب الحياة والخلاص لشعبه" - عندما أمر الامبراطور الروماني "ترايانوس" Traianus (98-117 م) نائبه في سورية كورنيليوس بالما A. Cornelius Palma بالاستيلاء على البتراء عاصمة الأنباط وإنهاء استقلالهم، فكان ذلك عام 106م، وحلّ محلّها ولاية العربية Provincia Arabia التي أصبحت "بُصرى" في جنوبي سورية عاصمةً لها.

وكانت التجارة عصب الحياة الذي يضمن البقاء والاستمرار والرّخاء لدولة الأنباط، ولذلك اتجه الأنباطُ بعد استقرارهم في منطقتي أدوم وموآب شمالاً حتى دمشق ليسيطروا على الطريق التجاريّ بينها وبين البحر المتوسط، وشرقاً إلى وادي السرحان ثم الجوف، وجنوباً إلى أيلة (العقبة)، ثمّ إلى الحجر (مدائن صالح حاليّاً) وديدان (العلا حالياً) ليصلوا عبر طريق البخور برّاً والبحر الأحمر إلى الجزيرة العربيّة، وغرباً إلى النقب ومنها إلى غزّة ثم سيناء حتى يبلغوا مصر.

عروبتهم ولغتهم:

يكاد الإجماع ينعقد على عروبة الأنباط وإنْ كان الباحثون يذهبون في تحديد موطنهم الأوّل في الجزيرة العربيّة مذاهب شتى، والأدلّة على ذلك واضحة، فمعظم أسمائهم عربيّة، نحو: أُذينة وأوس وجميلة ووائل وقيس وقصي وكُليب ونمر وحارثة وحنظلة وحميد وذئب وذؤيب…، ومعظم آلهتهم عربيّة، وأوّلها "ذو الشرى"؛ وهو إلههم الأكبر، و"هُبَل"- وقد ذكر ابن الكلبي في كتابه "الأصنام" أنّ أوّلهما كان صنماً لقومٍ من الأزد، وأن ثانيهما كان أعظم الأصنام عند قريش - و"اللات" و"العزّى" و"مناة"؛ وقد ذُكرتْ ثلاثتها في قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالْعُزّى ٭ وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم ٩١و٠٢)، وفي "شايع القوم" المعروف في النقوش الصفويّة أيضاً. ولا يرد لفظ الجلالة "الله" إلا في أسماء الأعلام المركّبة، نحو: عبد الله وسعد الله وتيم الله وأَمة الله، إضافة إلى ذلك أن المصادر الكلاسيكية تسمّيهم غالباً "العرب". وبالرغم من ذلك فإنّ لغة نقوشهم - التي يتجاوز المنشور منها خمسة آلاف - هي لهجة آراميّة مكتوبة بضربٍ من الخطّ الآرامي، ويرجع ذلك إلى شيوع "آراميّة الدولة" التي أصبحت لغةً رسميّةً في الدولة الأخمينيّة (538-331 ق.م) فصارت لغةً مشتركة lingua franca في المشرق كله منذ ذلك العصر. أما لغة الحديث فلا شكّ أنها لهجة عربيّة، والدليل على ذلك تلك الظواهر اللغويّة الخاصّة بالعربيّة - وهي غير معروفة في الآرامية ولهجاتها - في نقوشهم، كاستعمالهم أداة التعريف "ال"، وحرف العطف "الفاء"، وحرف الجرّ "في"، وحرف الاستثناء "حاشا"، ولفظ "آل" بمعنى "قبيلة، عشيرة"، والأفعال: هلكَ، صنعَ، لعنَ، غيّرَ، فلا تعليل لذلك سوى أن القوم كانوا عرباً - كالعرب التدمريين- يتحدّثون بالعربيّة ويكتبون بالآراميّة. كما كان بعض منهم يتقنون اللغة الإغريقية لكونها لغة الإدارة والثقافة والتجارة في سورية والشرق، وقد عثر على بعض النقوش المزدوجة باللغتين الإغريقية والنبطية الآرامية.

وينسب إلى الأنباط أصل الخط العربي الذي تطور إلى حالته المعروفة اليوم، فتبين النقوش النبطية أنها تشتمل على ألفاظ عربية كثيرة وخصوصاً في الأسماء؛ إذ استعمل الأنباط اللغة الآرامية بعد أن غادروا موطنهم الأصلي في شبه الجزيرة العربية، وقد عثر على بعض النقوش النبطية بين دمشق وشمالي الجزيرة العربية وسيناء؛ وكان معظمها مؤرخاً بدقة ويتناول موضوعات مختلفة، وتظهر هذه النقوش - التي يعود تاريخها إلى القرنين الثاني والثالث الميلاديين - خطوطاً قريبة الشبه من الخط العربي القديم؛ إذ تبين أن الخط النبطي إذا ما قورن بالخط الآرامي يميل إلى التدوير وربط الحروف وتعليقها بعضها ببعض والابتعاد عن الطريقة الآرامية المتبعة التي كانت تفصل بين حروف الكلمة الواحدة.

الديانة النبطية

مرت الديانة النبطية بمرحلتين رئيستين؛ وذلك تبعاً لتطور المملكة النبطية، وهما:

1- مرحلة الحياة الرعوية: وفيها كان الأنباط ينتقلون في الصحراء المسكونة - بحسب اعتقادهم - بالأرواح الخيرة والشريرة التي تساعد أو تعوق الوجود الإنساني، فبرزت الآلهة القبلية.

2- المرحلة الثانية: هي مرحلة الحضارة النبطية المتمدنة المستقرة التي بنى فيها الأنباط البيوت، وعملوا بالزراعة والتجارة، وفي هذه المرحلة اختلفت المفاهيم الدينية عندهم؛ إذ لم تعد الآلهة التي عبدوها في الصحراء تملك القدرة على التأثير في شؤون حياتهم الحضرية؛ لذا أصبح هناك مركز ديني وأنظمة وطقوس دينية، وتفاصيل أخرى. وقد حمل الأنباط ألهتهم معهم من مواطنهم الأصلية إلى بلادهم الجديدة. ومن الآلهة النبطية دوشرا (ذو الشرى) وهو الإله الرئيس عندهم وقد اتسم بطبيعة كوكبية تمثلت بالشمس، وعبد في كل المناطق التابعة للمملكة النبطية، وكان الإله الملكي لملوك الأنباط، ومن أشهر معابده المكتشفة في البتراء وأكبرها معبد "قصر بنت فرعون". أما "اللات" فهي من أهم الآلهة النبطية المعبودة من قبل الشعب، ويرى بعض الباحثين أنها تمثل كوكب الزهرة أو القمر كونها زوجة الإله الرئيس، وعثر على معبد لها في خربة التنور. وهناك "العزى" وهي من الآلهة المهمة والتي ترتبط عبادتها بالأماكن العالية. ومن الآلهة النبطية (بعل شمين، مناة، شيع القوم، قوس، الكتبى، هبل، صعبو، قيس، تا، أعرا، رضا، أيل، بعل، تره، نسرا، مناف، سعير، سعد، هدد، أشر، أترجاتيس، أسس، الجي، بصرى، كما عبد بعضهم الله عز وجل). ومن الجدير بالذكر هنا أن ظاهرة تأليه الملوك قد وجدت عند الأنباط، وكانت عبادة الملك عبادة هي الدليل الرئيس على ذلك، ويذكر إحسان عباس أن تأليه الملوك عند الأنباط يتم بعد وفاة الملك، وأن قداسته يسبغها الأبناء والأحفاد ولا علاقة لها بسلوك الملك في حياته.

وتأثّر الأنباط في ديانتهم بما وجدوه لدى جيرانهم، فأخذوا عنهم بعض الطقوس، وأضافوا إلى آلهتهم آلهةً أخرى، فالإله "قوس" معروف عند الأدوميين، و"إيزيس"- التي لها تجسيد في أعلى "الخزنة"- من مصر، و"الكتبى" إلهة الكتابة مذكورة في نقوش ديدان. وهكذا ناظر ذو الشرى ديونيسوس Dionysus وباخوس Bacchusإلهي الخمر عند الإغريق والرومان، وناظر قوس الإله الإغريقي زيوس Zeus، وناظرت اللات الإلهة السوريّة أترغاتس Atargatis، والعزّى أفروديت Aphrodite وڤينوس Venus إلهتي الحُبّ عند الإغريق والرومان. ولعل ذلك هو الذي أدّى إلى تنوّع أنماط معابدهم، فمنها "المُعلّيات" في الأماكن المرتفعة وفوق التلال، وتكون في صخرة مجوبة يوصل إليها بدرجٍ، وتتألّف من باحة وصهاريج الماء ومذبحين وأجران، ويمثّلها "معلاة كُونوي" Conway-High Place في البتراء، ومنها المعابد ذوات المقصورة الثلاثية كمعبد "قصر البنت"، ومنها تلك التي تأخذ شكل المصلّى فوق مصطبة مرتفعة كمعبد "الأسود المجنّحة" في البتراء ومعبد "خربة الذريح"، ومنها معابد يكون مدخلها على شكل مستطيل كمعبدي "خربة التنّور" و"وادي رم".

تعددت مظاهر الحياة الدينية عند الأنباط من تقديم الأضاحي والقرابين تقرباً للآلهة، كما قدمت الوجبة التعبدية (الولائم المقدسة) جزءاً من الشعائر والطقوس في أثناء التعبد وخاصة عند الموت وفي مواسم وأعياد دينية معينة. أما الحج فقد عرف في الجزيرة العربية منذ القدم، ومارسته أقوام شمال الجزيرة العربية ومن ضمنهم الأنباط الذين كانوا يحجون إلى الإله "ذو الشرى". كذلك كانت الصلاة عند الأنباط من الطقوس السائدة والمعروفة، ومن أشكالها رفع الأيدي بالدعاء، والسجود طلباً للحماية وخصوبة الأرض؛ والرواج للتجارة؛ والخلاص من الفقر والمرض. وصاحب أداء الطقوس الدينية الرئيسة ترديد لعبارات التراتيل والتمائم والرقي باللغة العربية بحسب ذكر المؤرخ اليوناني (أبيفانوس)، كما كان التطهر والاغتسال من أهم واجبات المتعبدين في الأحواض التي خصصت لذلك في المعابد والأماكن المقدسة. ويعد حرق البخور عند العرب الأنباط من أهم العادات الشائعة في معابدهم تقرباً للآلهة وإرضاء لها.

وأينما يَسِرْ المرءُ في المواقع النبطيّة يشاهدْ منحوتات تزيّن الواجهات الصخريّة والمباني، وتماثيل تمثّل آلهةً أو حيوانات كالخيل والإبل أو أشخاصاً يغلب أن يكونوا من الخيّالة، وتظهر فيها تأثيرات مصريّة أو إغريقيّة في المجالين الدّيني والفنّي.

النقود النبطية:

تحمل أقدم النقود النبطية التي وصلت إلينا حرف الحاء المهملة بالخط الآرامي والحرف A بالخط اليوناني، وهما الحرفان الأولان من الاسم "حارثة" وصيغته باليونانية Arethas، مما جعل الباحثين يرجعونها إلى عهد حارثة الثاني، ثم ضرب حارثة الثالث حينما خضعت له دمشق نقوداً تحمل صورته واسمه ولقبه Philhellenos "مُحبّ اليونان" باليونانية. وأصدر مالك الأول وخلفه عبادة الثالث نقوداً فضيّة تحمل على وجهها اسم الملك وصورة رأسه وعلى ظهرها صورة صقر، غير أن حارثة الرابع فاق الجميع - لطول عهده- بإصدار النقود التي كانت تحمل عبارة Philopatris باليونانية وrhm´mh ؛ بالآراميّة؛ أيْ "محب شعبه". وظهرت القطع النقدية النبطية في كل من إيطاليا واليونان وآسيا الصغرى وشمالي سورية ونصيبين وبلاد الرافدين وسيناء والجزيرة العربية.

الفخار النبطي:

برع الأنباط بصناعة الفخّار مطليّاً وغير مطليٍّ، وهو - بنوعيه - مشهور برقّته ورهافته، فيكون العثور عليه في موقعٍ ما دليلاً على نسبته إلى الأنباط، وتحمل الأدوات الخزفيّة التي تشمل الأطباق والأكواب والأباريق والجرار والقدور والسُّرُج زخارف يغلب أن تكون رسوماً نباتية متنوّعة، أما رسوم الحيوانات فهي قليلة. وقد تفنّن الأنباط في توزيع تلك الزخارف باللونين الورديّ أو البنّي المائل إلى الاحمرار في الأطباق الرقيقة بشكلٍ متناسق، وأكثرها شيوعاً شجيرات النخيل.

المواقع الأثرية:

يصعب حصر المواقع الأثرية للأنباط، فمنها: "عين الشلالة" و"الشيخ براك" و"خربة المشيرفة" و"خربة الذريح" و"ذات راس" و"قصر ربة"، والمعابد الثلاثة في "خربة التنّور" و"ذيبان" و"وادي رم"، وجميعها شرقيّ نهر الأردن، و"بصرى" و"أمّ الجمال" في جنوبيّ سورية، و"الخلصة" و"ممبسيس" Mampsis (كرنب) و"عبدة/عبادة" Oboda/’Avdat - نسبةً إلى الملك عبادة - و"نصتان" Nessana (عوجة الحفير) في النقب. وتجدر الإشارة إلى أن الفنّ المعماريّ الفريد يُشاهد في موقعين استعصيا على عوادي الدّهر هما: عاصمتهم البتراء - التي تُسمّى اليوم "المدينة الورديّة"- والحِجر (مدائن صالح). فأمّا البتراء فاسمها هذا تعريب لـ Petra ؛ وهو ترجمة يونانية لاسمها "سلع" بمعنى "الصّخرة" في العبرية - كما ورد في سفر إشعيا (16/1) - ولكن اسمها ورد في نقشٍ نبطيّ اكتشف فيها عام 1964 بصيغة rqmw، ثم ورد في المصادر العربية والسريانيّة بصيغة "الرقيم". ويدخل المرء إلى المدينة التي تبعد عن ميناء العقبة زهاء100كم شمالاً عبر ممرٍّ طبيعيٍّ ضيّقٍ ملتوٍ بين جدارين صخريين، يزيد طوله على ألف متر و يُسمّى "السّيق"، فإذا انتهى منه وجد نفسه فجأة أمام "خزنة فرعون"؛ وهو بناء شاهق بديع الصنع منحوت في الصّخر تزينه الأعمدة الكورنثيّة والزخارف المنحوتة؛ يظنّ سكّان المنطقة أنّ الجرّة المنحوتة التي تعلوه كانت تحوي كنوز فرعون، وعلى مقربة منه مسرح مدرّج Theatra كان يتّسع لسبعة آلاف مُشاهد، ويليه معبد "قصر البنت"، و يعود كلاهما - على الأرجح - إلى عهد حارثة الرابع. ثم يرتقي المرء - إلى الشمال منهما - مجموعة من السلالم المحفورة في الصخور توصله إلى معبدٍ ضخم منحوت في صخور الجبل يُسمّى "الدَّيْر" تشبه واجهته نظيرتها في "الخزنة". ولا بدّ من الإشارة إلى تقنية الأنباط التي استعملوها لتزويد المدينة بالمياه المأخوذة من عددٍ من الينابيع من خارجها أو المجموعة من مياه الأمطار في خزّانات، حيث أنشؤوا شبكة من القنوات المنحوتة في الصخور أو المبنيّة فوق القناطر والجدران أو من الأنابيب الفخّاريّة، واستطاعوا الإفادة مما يفيض من مياه الشرب في زراعة حقولٍ في ضواحي المدينة، ويرى ذوو الاختصاص أنّ ترميم هذه الشبكة اليوم سيبعث فيها الحياة. وأمّا "الحِجر" (مدائن صالح) - وهي في شمالي الحجاز- فقد أضحت في القرن الأول الميلادي مركز الأنباط التجاري الذي يصلهم بالبتراء شمالاً، وبجنوبي الجزيرة العربية جنوباً، وبالخليج العربي وبلاد الرّافدين شرقاً، وبالبحر الأحمر غرباً، وكان الرحّالة داوتي Ch. Doughty الذي زار المنطقة بين عامي 1876-1878 هو الذي اكتشف مدافنها الثمانين المنحوتة في الصخور التي تضاهي آثار البتراء، ونسخ ما عليها من نقوش مكتوبة - غالباً- على لوحاتٍ منحوتة فوق الجملون بمداخل المدافن.، كما شيد الأنباط مدناً لهم في صحراء النقب كمدينة "عبدة" نسبة إلى الملك عبادة، وشهدت "خربة الضريح/الذريح" تطوراً معمارياً نبطياً في فترات مختلفة، فيما تعد "أم الجمال" أهم المراكز النبطية على طرق القوافل الصحراوية.

مبنى المحكمة أو قبر الجرة في البتراء

ولكن زوال دولة الأنباط عام 106م لم يؤدّ إلى أفول حضارتهم، فقد منح الامبراطور الروماني هادريان Hadrianus (117-138 م) حينما زار البتراء عام 130م المدينةَ - كما يظهر في النقود التي صدرت في أثناء الزيارة - اسمه ومرتبة المدينة الأمّ "بترا هادريانا متروبوليس" Hadriana Petra Metropolis، مما يعني أنها لم تفقد أهميتها التجاريّة، وفي الربع الأوّل من القرن الثالث منحها الامبراطور إلاغابالوس Elagabalus (218-224م) مرتبة "المستعمرة" Colonia، ثم لحق بها دمار كبير نتيجة زلزالٍ ضرب المنطقة بين عامي 363- 365م فدخلت مجاهل النسيان حتى زارها الجغرافي السويسري بوركهارت J. L. Burckhardt عام 1812م ليكتشف أنها عاصمة الأنباط. وتدل النقوش النبطيّة المؤرّخة التي عُثر عليها في مناطق مختلفة على الاستمرار في كتابتها حتى منتصف القرن الرابع؛ إذ يرد في نقشٍ من الحجر خبرُ وفاة امرأة سنة 251 ( بتقويم بصرى، أيْ 356م).

ويبدو أن مجموعات من الأنباط استثمرت - بعد زوال دولتهم - الأموال في الزراعة في جنوبي بلاد الشام والجزيرة وسواد العراق، فأُطلقتْ عليهم وعلى العاملين معهم من الفلاحين والعبيد تسمية "النَّبَط" أو "النَّبيط" وجمعوها على "الأنباط"، ثم نُسيَ سببُ التسمية على مرّ القرون نتيجةً لاندماج تلك الطبقة من أثرياء الأنباط بالسكّان وتفرقهم في شتى الأصقاع، فحُصرتْ التسمية بذلك بالفلاحين وحدهم، وقد ذكر الواقديّ أنّ "الأنباط كانوا يقدمون المدينة بالدَّرْمَك (أيْ الدّقيق الأبيض) والزّيت"، وممن اشتهر منهم ابن وحشيّة - الذي عاش في القرن التاسع الميلاديّ - بكتابه المعروف "الفلاحة النبطيّة".

رفعت هزيم - ندى روابدة

مراجع للاستزادة:

- خالد الحموري، مملكة الأنباط، دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية (عمان 2002).

- إحسان عبّاس، تاريخ دولة الأنباط (عمّان 1987).

- جلين بورسوك، الأنباط الولاية العربية الرومانية، ترجمة آمال محمد الدروبي (القاهرة 2006).

- Ph. HAMMOND, The Nabataeans: their History, Culture and Archeology, (Gothenburg, 1973).

- M. LINDNER (Hrsg.), Petra und das Königreich der Nabatäer, 4. Auflage, (München, 1983).

- J. HEALEY, The Nabataean Tomb Inscriptions of Mada, in Salih (Oxford, 2001).

 


التصنيف : آثار كلاسيكية
المجلد: المجلد الثاني
رقم الصفحة ضمن المجلد :
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1096
الكل : 45638616
اليوم : 39299