logo

logo

logo

logo

logo

الأبجدية

ابجديه

The Alphabet - L'Alphabet



الأبـجديّـة

الأبجدية الأوغاريتية

الأبجدية الكنعانيّة

الألفبا العربية الجنوبية

 

تقاسم الشرقَ القديم منذ بداية الألف الثالث قبل الميلاد نظامان للكتابة، أحدهما: نظام الكتابة المسماريّة[ر] في بلاد الرّافدين[ر]، والآخر: نظام الكتابة المصرية القديمة، وهو ذو ثلاثة أشكال: الهيروغليفي[ر] ّ Hieroglyphic (المقدّس) وهو أقدمها، ثم (الهيراطيقي  Hieratic الكهنوتيّ) منذ مطلع الألف الثاني ق.م، ثم الديموطيقي Demotic (الشعبيّ) منذ القرن السابع ق.م. وعلى الرغم من أنّ النظامين كليهما مرّا بمراحل من التطوّر قلّلتْ ما فيهما من صعوبةٍ وتعقيد؛ فإنّ تعلّم أحدهما واستعماله ظلّ أمراً عسيراً لا يقدر عليه إلا القليلون. وهكذا ظهرتْ الحاجة إلى ابتكار نظام جديد للكتابة يتّصف بالسهولة ويكون تعلّمه متاحاً للغالبية العظمى من الناس، وقد كان ذلك في بلاد الشام وفي اليمن القديم. ويبدو أنّ ذلك يرجع - في المقام الأوّل- إلى الموقع الاستراتيجي لهذين الإقليمين الذي جعلهما منذ أقدم العصور معبراً للتجّار والسلع بين الشرق الأقصى وحوض البحر المتوسط، وجعل معظم سكّانهما تجّاراً ووسطا على (طريق الحرير) في الشمال أو (طريق البخور) في الجنوب، ولمّا كانت السرعة عاملاً مهمّاً في العمليات التجارية؛ فقد كانت الحاجة ملحّة لدى الكنعانيين في بلاد الشام والسبئيين والمعينيين في جنوبي الجزيرة العربية إلى هذا الابتكار؛ لأن الحاجة أمّ الاختراع. وهكذا ابتكر الكنعانيون[ر] ضربين من الأبجدية، أولهما: الأوغاريتية المسمارية التي عاشت حيناً من الدهر، ثم زالت بزوال أوغاريت[ر]؛ والآخر: الأبجدية الكنعانية التي كُتبتْ بها معظم اللغات الساميّة، وكانت أصلاً لخطوط اللغات الكبرى في العالم حتى اليوم. وابتكر اليمنيون القدامى الألفبا العربية الجنوبية التي ظلّت حيّةً حتى ظهور الإسلام، إذ اكتشف نقشان على الصخر قرب (صعدة) في شمالي اليمن كتبهما رجلان مسلمان بهذا الخط؛ ولكنهما مصوغان بالعربية الفصحى.

فأمّا مصطلح "الأبجدية" فهو صيغة المصدر الصناعي من الاسم الأول من التسميات المعروفة لترتيب الأحرف الاثنين والعشرين "أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت"، وأمّا  مصطلح "الألفبا " الذي  يرادفه  فهو يعود إلى القرن الثالث ق.م، وقد نشأ في اليونانيّة  Alphabeton تسميةً للخط اليوناني الموحد، وهو مركّب من اسمَيْ حَرفي الألف والبا كما ينطقان في اليونانية، وهما Alpha & Beta، ثم صارت صيغته في اللاتينية   Alphabetum، وكان القسيس اللاتيني تيرتوليان Tertullian - الذي وُلد في قرطاجة، وتُوفِّي عام 230م - أول من استعمله.

أولاً- الأبجدية الأوغاريتية:

طوّر الأكاديون نظامهم الكتابي التصويري إلى كتابة مقطعية syllabic writing، فاستطاعوا بذلك تخفيض عدد العلامات المسمارية إلى نحو خمسمئة علامة منذ مطلع الألف الثاني ق.م. ونشأت الأبجدية الأوغاريتية في منتصف الألف الثاني ق.م. بالاعتماد على مبدأ تفكيك المقطع الصوتي في الأكدية، ففصلت بين الصامت consonant والصائت أيْ الحركة  vowel ، فكانت النتيجة  هذه الأبجدية التي تبدو في ظاهرها مسمارية، ولكنها تستند إلى المبدأ الألفبائي  alphabetic principle القائل إنّ الكلام يتألف من عدد محدود من الأصوات – phonemes) الفونيمات) - تشمل الصوامت والصوائت، ولمّا كانت اللغات كلها تمتلك عدداً محدوداً من الأصوات؛ فإنّها يمكن أن تُكتب بعددٍ محدود من العلامات الكتابية لا يتجاوز عددها في معظم اللغات ثلاثين علامة signs. وتعتمد الأوغاريتية على استعمال الأسافين أو الأوتاد - المعروفة في الكتابة المسمارية - منفردةً أو مجتمعة بوضعٍ أفقيّ أو عموديّ، فالإسفين المفرد الأفقي هو حرف التا ، والعمودي هو حرف الجيم، والإسفينان الأفقيان المتجاوران هما حرف الفا ، فإذا كانا بوضعٍ عموديّ فهما حرف الصاد، وهلمّ جرّاً. وقد بدأ باور H. Bauer ودورم E. Dhorm العمل في فكّ رموز الحروف الأوغاريتية بعد اكتشافها في "رأس شمرا" عام 1929، غير أنّ فيرولّو Ch.Virolleaud استطاع قرا ة الأبجدية كلها قرا ةً صحيحة في بحثٍ نشره في مجلة "Syria"عام 1931، وقد اختار - لكشف أسرار العلامات المسمارية - النصوص التي افترض أنها تُستهل بحرف اللام باحثاً عن كلمة "مَلكٌ" التي تتلوها، فإذا كانت كذلك فهذا يعني أنّ الميم هو الحرف المتوسط بين اللامين وأنّ الكاف هي الحرف الأخير، ثم بحث عن صيغة الجمع "م ل ك م = ملوكٌ"، ثم عن اسم الإله "بعل" المعروف عند الكنعانيين، وقد ساعده على تعيينه شيوعه في النصوص، ثم توصل إلى قرا ة كلمة "ب ت" مستعيناً باللغات الساميّة المعروفة؛ لأنها ستكون "بيتٌ" أو "بنتٌ " بالإدغام، وهكذا كان يتقدم خطوةً خطوةً؛ لأنّ قرا ة كلّ حرف أو كلمة ترشده إلى قرا ة المزيد حتى استطاع إنجاز عمله بنجاح تام. وتتألف هذه الأبجدية - التي تُقرأ من اليسار إلى اليمين - من 27 حرفاً مضافاً إليها ثلاث صيغ للألف (الهمزة) بالفتح والضمّ والكسر، وترتيب حروفها- كما يتبيّن من رقيمٍ عُثر عليه عام 1948 أُعدّ لغرض التعليم - كما يلي: أَ (مفتوحة) ب ج خ د هـ و ز ح ط ي ك ش ل م ذ ن ظ س ع ف ص ق ر ث غ ت أُ (مضمومة) إ (مكسورة) س2 (يرد أحياناً في بعض النصوص غير الأدبية)، وهي تطابق العربية الفصحى ما عدا خلوّها من حرف الضاد (وقيل: إنه ورد في نصٍ اكتشف عام 1988). ثم نقص عددها في مرحلة متأخرة إلى 22 حرفاً بسبب اختفا العلامات الكتابية الخاصة بحروف الغين (المعجمة) والسين الثانية والألف المضمومة والمكسورة، ودمج الحا والخا (المعجمة) في علامة واحدة وكذلك الشين والثا .

الحروف الأبجدية الأوغاريتية مدونة على رقيم طيني

ثانياً- الأبجدية الكنعانيّة:

تتألف من 22 علامة كتابية sign تُكتب منفصلةً غير متصلة، وتعتمد المبدأ الأكروفوني acrophony، حيث تقصر القيمة الصوتيّة للعلامة الكتابية على الحرف الأوّل، فيمثّل كل منها صامتاً واحداً، وترتيبها معروف وهو (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت). ولم تصل إلينا أسما الحروف ودلالاتها لدى واضع الأبجدية أو في المرحلة المبكرة من استعمالها، أما الأسما الشائعة فقد نقلها القدّيس جيروم (340 -420) Jerome  في زمنٍ متأخّر عن أحبار اليهود في الترجمة اللاتينية Vulgate للكتاب المقدّس، وأما دلالاتها فبعضها متفق عليه وبعضها موضع خلاف، وهي على النحو التالي: آلِف (ثورٌ)، بيث (بَيت)، جِمِل جَملٌ)، دالِث (مصراع الباب)، هِـ (نافذةٌ؟)، واو (كُلاّب إسفينٌ)، زَيِن (سلاح)، حِيث (سُورٌ؟)، طِيث (خرطومٌ؟)، يُوذ (يَدٌ)، كاف (كَف)"، لامِذ (مهماز الثور؟)، ميم (ما ٌ)، نون (سمكة)، سامِخ (شجرةٌ/دعامةٌ؟)، عَيِن (عَيْنٌ)، فِـ (فَمٌ)، صادِه (صنّارة الصيد؟ دَرَج)، قُوف (القفا/ثقب الإبرة ؟)، رِيش (رأسٌ)، شِين/سِين (سِنٌ)، تاو (إشارة الصليب أو التقاطع). وتستعمل الحروف للدلالة على الأعداد استعمالاً سهلاً، فالحروف "أبجد هوز حطي" للآحاد (من 1-10 على الترتيب)، والحروف "كلمن سعفص" للعقود (من 20-90)، والحروف "قرشت" للمئات (من 100-400). ويرى الباحثون أنّ الكتابات القديمة كان لها تأثير واضح في مبتكر الأبجدية الكنعانية في العصر البرونزي المتأخّر، ولكنهم يختلفون في تحديدها؛ أهي الهيروغليفية والمسمارية  أم هي المتطوّرة عن إحداهما أوعنهما معاً حتى منتصف الألف الثاني ق.م، وهذه أهم الفرضيّات:

أ- الأصل المصري: أدّى الشبه الظاهري بين أشكال العلامات الكتابية في المصرية القديمة ونظائرها في الساميّة القديمة إلى نشأة ثلاث فرضيات في الأصل المصريّ للكتابة الألفبائيّة، تُرجعه إلى الهيروغليفية (شامبليون F. Lenormant وK. Sethe و J. Halévy) أو الهيراطيقية S. D. Luzzatto) و E. de Rougé و (I.Taylor أو الديموطيقية (H. Bauer). وقد بيّن ديرنجر D. Diringer غلط الفرضيّة الثالثة؛ لأنّ الخطّ الديموطيقي متأخّرٌ زمناً عن نشأة الكتابة الأبجدية، ثم اعترض  على نظرية الأصل المصري بمجملها، وتسا ل:"إذا كانت نشأة الأبجديّة في مصر؛ فلماذا ظلَّ المصريون يستعملون نظام الكتابة القديم المعقّد قروناً بعد ذلك؟" لقد عرف نظام الكتابة المصريّة كلمات مؤلفة من ثلاثة صوامت consonant أو من صامتين، كما عرف كلمات مؤلّفة من صامت واحد بإضافة صامت آخر إليه هو الهمزة أو حرف العلّة (الواو أو اليا ) دون مراعاة ذلك في الكتابة، وكأنها تعتمد المبدأ الأكروفوني، فصارت - في الشكل - شبيهة بالخط الأبجديّ، ولكنها لم تكن أكروفونية حقيقية، ولم تشمل سوى 24 علامة كتابية مما يعني أن العلامات الكتابية في المصرية ظلت بأشكالها المختلفة دالةً على الكلمات، ولم تتحوّل إلى حروف أبجدية على النحو الذي عرفته الساميّة.

ب- كتابات سرابيط الخادم [ر]: أعدّ غاردنر Gardiner ثم ألبرايت W. F. Albright جدولين  قارنا في كل منهما بين  العلامات الكتابية في النقوش السينائية من سرابيط الخادم التي تعود إلى منتصف الألف الثاني ق.م ونظائرها المفترضة في  المصرية القديمة وفي الخطّ الساميّ الشماليّ، وتوصلا إلى أنّ الكاتبين أخذوا بالمبدأ الأكروفوني، أيْ إنهم أخذوا عن المصريّة العلامة التصويرية الدالة على "بيت" دون لفظها، وهو pr، وأطلقوا عليها اللفظ الخاص بهذه الدلالة في لغتهم الساميّة، ثم اقتصروا على الحرف الأول في اللفظ، فصارت العلامة با ً، وهكذا دواليك.

تمثال صغير لكائن مركب (أبو الهول) مكتشف في موقع سرابيط الخادم في شبه جزيرة سينا يحمل كتابة أبجدية مبكرة (شبه سينائية) تقرأ ب ع ل ت أي "السيدة" يعود تاريخه إلى نحو 1805 ق. م

ج- كتابات جبيل [ر] القديمة: سمّى أحد الباحثين الخط الذي كُتبت به "خط الصوامت المزيّف" pseudo- consonantal writing، على حين  سمّاه فريدريش J. Friedrich "الخط الجبيلي المبكّر" proto- Byblian وأرجعه إلى مطلع الألف الثاني ق.م.

د- الأصل الكريتي: ذهب هذا المذهب  سوندوول J. Sundwall وشنايدر H. Schneider وايڤانز J. A. Evans استناداً إلى شهرة الكنعانيين الفينيقيين بالتجارة عبر البحار؛ مما يشير إلى اطلاعهم على نماذج من ضربٍ من الكتابة في جزيرة كريت[ر] يصفها الباحثون بأنها مقطعية غير تصويرية syllabic linear تمكّن ڤينترس M. Ventris من قرا ة بعضها عام 1952م وأرجعها إلى النصف الثاني من الألف الثاني ق.م. وقد أيّد سوندوول رأيه بنشر جدول للمقارنة بين الكريتيّة وما سمّاه "الساميّة الشمالية الفينيقية" يُظهر التماثل بينهما في عدد كبير من علامات الكتابة، زد على ذلك استعمال كلتيهما النقطة أو الخط القصير للفصل بين الكلمات، كما مال جينسن H. Jensen إلى هذا  المذهب.

وأيّاً كان الرأي في تلك الفرضيات؛ فإنّ سقوط دولة أوغاريت مطلع القرن الثاني عشر ق.م أدّى إلى انحسارٍ في استعمال الأبجدية الأوغاريتية المسمارية؛ مما مهّد السبيل لنشو الأبجدية الكنعانيّة التي يُسمّي الباحثون نقوشها الأولى من القرنين 12 و11ق.م "الكنعانية الأولى أو البدائية" Proto/Archaic Canaanite (نقوش على رؤوس السهام البرونزية من الرّويسة والبقعة في لبنان ومن الخضر في فلسطين، ونقوش على كسرٍ فخاريّة/أوستراكا[ر] ostraca من بيت شمس والخيش (تل الدّوير حالياً) وتل جزر[ر] Gezer وشكيم (تل بلاطة حالياً شرقي نابلس) ومواقع أخرى في فلسطين[ر]). وقد شاعت تسمية هذه الأبجدية بـ"الفينيقية" اقتباساً من الإغريقية؛ لأنها أطلقت اسم "الفينيقيين" على سكان المناطق الساحلية الكنعانيين في سورية[ر] ولبنان[ر]، والصواب أن يقتصر استعمال هذا المصطلح على لغة النقوش دون الخط؛ لأن لغات مختلفة استعملت تلك الأبجدية في المرحلة المبكرة قبل أن يتفرع منها منذ القرن الثامن ق.م خطوط خاصة بها، والدليل على ذلك أمران؛ أحدهما: أنّ المر لا يجد فروقاً واضحة في أشكال الحروف التي كتبت بها نقوش تلك المرحلة باللغة الفينيقية (كلمو =KAI 24  و: قره تبه = KAI 26) واللغة الآرامية (تل فخيرية[ر] و: زكور =  KAI 202و: بنموالأول والثاني =KAI 214-215  و: السفيرة[ر] KAI 222-224  و: دير علاّ[ر]) واللغة العبرية (تقويم تل جزر Gezer calendar) واللغة الموآبيّة (نقش ميشع) واللغة العمونيّة (نقشا القلعة وتل سيران من عمّان)، والآخر: أنّ الباحثين يختلفون في تحديد لغة النقوش أحياناً، كما فعلوا في نقشَي: كلمو الثاني KAI 25 ودير علا: أهي فينيقية أم آرامية؟ وفي نقش ميشع: أهو عبريّ أم موآبيّ؟ فيستعينون لذلك بأدلةٍ لغويةٍ وتاريخية؛ مما يعني أن الفروق في اللغة لا في الخط.

وأهم الخطوط الكنعانية اثنان، هما الفينيقي والآرامي، وقد تفرّعت منهما الخطوط التي استعملتها لغاتٌ ولهجات كثيرة ساميّة وغير ساميّة، وهذا بيانها:

1)- الخط الفينيقي: يجعله الباحثون ثلاثة أضرب، أحدها: الخط المستعمل في موطنهم الأوّل؛ أيْ جبيل وصور وصيدا وسواها، والثاني: الخط البوني أو القرطاجي، وهو المستعمل في قرطاجة[ر] والبلاد التي وصل إليها الكنعانيون الفينيقيون كجُزر قبرص[ر] ورودس وصقليا ومالطا وسردينيا في البحر المتوسط وسواحل شمالي إفريقيا واليونان وإيطاليا وفرنسا، والثالث: الخط البوني الجديد، وهو الذي بدأ استعماله بعد سيطرة الرومان على معظم تلك المناطق. ومن أقدم النصوص الفينيقية الواضحة المعروفة بالأبجدية الكنعانيّة نقشا (أحيرام[ر] = KAI 1) و(يحي ملك = KAI 4) - وهما من "جبيل"- اللذان يعودان فيما يراه جمهور الباحثين  إلى القرن العاشر ق.م، ثم نقش (كلمو الأول = KAI 24) - وهو من زنجرلي[ر] قرب خليج الإسكندرون - ونقش (نورا KAI 46) من سردينيا، وكلاهما من القرن التاسع.

2)- الخط الآرامي: كانت اللغة الآرامية سائدة منذ مطلع الألف الأول ق.م في المنطقة الممتدة من بلاد الرافدين شرقاً حتى لبنان غرباً، ويبدو أن الآراميين تبنّوا الأبجدية الكنعانية  في القرن العاشر ق.م، ثمّ طوّروا خطّاً خاصاً بلغتهم منذ نهاية القرن الثامن. ويُعدّ نقش تل حلف[ر] (جوزانا قديماً) في الجزيرة السورية المؤلف من سطرٍ واحد ونقش تل الفخيرية المكتشف في موقعٍ قريب منه - وهو في 23 سطراً - أقدم نصّين يمثّلان المرحلة المبكّرة من اللغة الآرامية التي تسمّى الآرامية القديمة، فأولهما يعود إلى القرن العاشر أو التاسع والآخر إلى التاسع ق.م، كما يمثلها نقوش (برهدد =KAI 201) و(زكور = KAI 202) و(سفيرة KAI 222-224) و(بنمو الأول + بنمو الثاني KAI 214-215) و(بر ركب =  KAI 216-218) و(دير علا) في الأردن، فجميعها لا يتجاوز تأريخه نهاية القرن الثامن ق.م، ولم ينجم عن السيطرة الآشورية ثم الفارسية على المنطقة في القرون التالية تراجع مكانة الآرامية، بل أدّى إلى زيادة انتشارها؛ لأنها أصبحت لغة الاتصال بين الولايات الآشورية ثم لغةً رسميّة في الدولة الفارسية، ولذا سمّيت في هذه المرحلة (آرامية الإمبراطورية أوالآرامية الرسمية Imperial/Official Aramaic، وهكذا عُثر على نقوش آرامية مكتوبة بالخط الآرامي في بقاع مختلفة من آسيا الصغرى (كيليكيا وليكيا وليديا) وفي مصر[ر] وإيران والجزيرة العربية[ر]. ولم تلبث اللغة الآرامية أن انقسمت - نتيجة هذا الانتشار الجغرافي الواسع واختلاف الشعوب والطوائف التي استعملتها على مرّ القرون - إلى لهجات كُتبت بخطوط مختلفة، وأهمها:

أ-الخط المربّع: كان نفي اليهود إلى بابل على يد نبوخذ نصر عام 586 ق.م في عهد ازدهار اللغة الآرامية، فلمّا فتح كورش ملك الفرس بابل عام 539 ق.م سمح لهم بالعودة من منفاهم، فعادوا إلى فلسطين وقد حملوا معهم الآرامية لغةً وخطاً، وما لبثوا أن طوّروا هذا الخط المربّع الذي يعزون تبنّيه إلى "عزرا"، وقيل: إنه سُمّي كذلك؛ لأنّ أشكال حروفه تبدو كأنها أضلاع المربّع أو كأنها مكتوبة داخل مربّع، وشاعت تسميته "الخط العبري"؛ لأنه ما يزال مستعملاً في كتابة العبرية إلى اليوم. ومن أقدم شواهده نقش من خمسة أحرف من "عراق الأمير" في شرقي الأردن يعود إلى القرن الخامس ق.م، ويليه زمناً نقش من ستة أحرف من تل الجزر  في فلسطين يعود إلى النصف الأول من القرن الأول ق.م. واستعمل هذا الخط في كتابة أسفارٍ من "العهد القديم" مكتوبة بالعبرية والآرامية على الرَّقّ وورق البردي عُثر عليها ضمن كتابات البحر الميّت التي اكتشفت في "قمران"[ر] وفي مواقع أخرى قرب أريحا[ر] في فلسطين بين عامي 1947 و1962. وقد لجأ كاتبو الخط المربّع في البداية لضبط القرا ة ومنع اللبس إلى استعمال بعض الحروف - وهي الألف والواو واليا والها والعين - للدلالة على الحركات، ثم تأثروا في القرون التالية بالأنظمة المتعددة لضبط الحركات في المنطقة، وانتهوا في القرن الثامن الميلادي إلى الأخذ بالنظام الطبريّ (نسبةً إلى "طبريّة" في فلسطين) الذي احتفظوا به حتى اليوم.

ب- الخط النبطي: هو ذاك الذي استعمله العربُ الأنباط[ر] الذين أقاموا في موطن الأدوميين بعد زوال دولتهم بزمنٍ طويل  لكتابة نقوشهم الآرامية. وقد وصف ديودروس الصقلّي[ر] أحوالهم في أواخر القرن الرابع ق.م، وعاشت دولتهم التي كانت عاصمتها تُدعى "الرقيم" وسمّاها اليونان "البترا "[ر] من منتصف القرن الثاني ق.م إلى عام 106م عندما ألحقها الرومان في عهد الإمبراطور "تراجان"[ر] بدولتهم، وجعلوها قسماً من "الولاية العربية" الجديدة التي كانت عاصمتها "بصرى"[ر] في جنوبي سورية . ويُرجح أنّ أقدم نقوشها - المنتشرة في الأردن وجنوبي فلسطين وسينا وشمالي السعوديّة وجنوبيّ سورية - يعود إلى منتصف القرن الثاني ق.م.

ج- الخط التدمري: اتّخذ التدمريّون - كإخوانهم الأنباط - الآرامية لغةً للكتابة، وقد عُثر على معظم النقوش التدمريّة - وهي منقوشة على الحجر، وبعضها مكتوب على ورق البردي أو الرق - في تدمر[ر] نفسها ثم في دورا أوربوس[ر] (الصالحية حاليّاً) على ضفاف الفرات، ويعود أقدم نقشٍ تدمريّ مؤرّخ بالتقويم السلوقي- وهو من معبد "بيل"[ر] - إلى عام 44 ق.م، أما أحدث النقوش زمناً فيعود إلى عام استيلا الرومان بقيادة الإمبراطور "أورليان" على تدمر؛ وهو 272م.

د- الخط السرياني: فرضت دولة أوسرويني Osroene - وعاصمتها Edessa الرّها (أورفا حاليّاً في المنطقة الجنوبية الشرقية من تركيا) - منذ تأسيسها في القرن الأول ق.م لهجتها الآرامية السريانية، ونشأ الخط السرياني الذي كان يكتب أول الأمر بحروف منفصلة، ثم ظهر الخط ذو الحروف المتصلة وهو المسمّى الإسطرانجيلي أيْ المدوّر الذي كُتب به زها مئة من النقوش يعود أقدمها إلى مطلع القرن الأول، وأحدثها إلى منتصف القرن الثالث الميلادي . ثم أدّى انقسام السريان الديني إلى طائفتي النساطرة نسبةً إلى "نسطور" واليعاقبة نسبةً إلى يعقوب البردعي عام 489م إلى ظهور لهجتين في أواخر القرن السادس تستعملان ضربين من الخطوط: الشرقي أو النسطوري؛ والغربي أو السرطو أيْ المستقيم عند اليعاقبة. وتمتاز هذه الخطوط الثلاثة بإضافة علامات تدل على الصوائت (أي الحركات) إلى حروفها، وقد استعملت النقاط فوق الحرف أو تحته في الخط الإسطرانجيلي لهذا الغرض، ثم أُضيف إليه مزيد من العلامات في الخط النسطوري، فغدا أكثر دقةً، أما أصحاب خط السرطو فقد أخذوا الحروف الدالة على الصوائت في الخط اليوناني.

سورية بلد أول أبجدية في العالم

هـ - خط نقوش الحضر: كانت "الحضر"[ر] - التي تقع في الجنوب الغربي من الموصل - عاصمة مملكة "عربايا" التي حكمها ملوك عرب منذ مطلع القرن الأول الميلادي، حتى استولى الفرس الساسانيون[ر] عليها عام 241م في عهد أردشير الأول. وقد نُشرت نقوشها المكتوبة بخطٍّ خالٍ من  الصوائت يشبه الخط المربّع - وهي زها 400- مُسلسلةً في النصف الثاني من القرن العشرين.

و- خط الكتابات المندائيّة: كان المندائيون - ويُعرفون أيضاً بالصابئة والغنوصيين - أتباع يوحنا المعمدان قبيل ظهور السيّد المسيح\، ومازالوا يعيشون في جنوبي العراق إلى اليوم. وكتاباتهم مكتوبة بخطٍّ متصل الحروف شبيه بالخط النبطي، ولكنهم أدخلوا العلامات الدالة على الحركات بين حروفه على النحو المتبع في الخط اللاتيني اليوم.

ز- الخط العربيّ: أضافت العربيّة إلى حروف الأبجديية الكنعانية ستة أحرف، هي: الثا والخا والذال والضاد والظا والغين، ومنحتها القيمة العددية التي تكمل ما رأيناه في الحروف الاثنين والعشرين أعلاه (من 500- 1000 على الترتيب). ومازال الباحثون مختلفين في تحديد أصول هذا الخط، وهناك من يرجعه إلى الخطين النبطي والسرياني معاً، فأما الأصل النبطيّ فيدلّ عليه أنّ أقدم نصٍّ بالعربية الفصحى ورد في سياق نقشٍ نبطي من النقب - وهو نقش "عبادة"- لا يتجاوز تأريخه منتصف القرن الثاني للميلاد،  ويؤيّد ذلك أنّ النقشين العربيين التاليين له زمناً - وهما نقش أمّ الجِمال الأول من شمالي الأردن (عام 250 م)  ثم نقش النمارة من جنوبي سورية (عام 328 م) - مكتوبان بهذا الخط أيضاً. وأما الأصل السرياني فيؤيّده نقش كنيسة زبد المكتوب باليونانية والسريانية والعربية (عام 512 م) حيث يظهر الشبه الواضح بين الخطين العربي والسرياني. فإذا أخذ في الحسبان أنّ العرب الذين كتبوا نقوشهم العربية الثمودية والصفوية - وكذلك العرب الأنباط والتدمريون وعرب الحضر والرها الذين كتبوا نقوشهم بالآرامية - كانوا يتابعون جيلاً بعد جيل منذ الألف الأول ق.م تطوّر الآرامية - لغةً وخطاً - في مواطن إقامتهم في بلاد الشام والمناطق المجاورة لها، فليس ما يمنع الأخذ من كلا الخطين، إذ يوجد دليل على ذلك فيما بعد في أوجه الشبه بين الخطين الكوفي والسرياني وكذلك بين الخطين النسخي والنبطي المتأخر المسمّى "السريع أو الليّن" = cursive. أما الرأي القائل إنّ خط المسند هو أصل الخط العربيّ؛ فإنّ الدليل عليه يستمد من وجود صلات بين الخطوط في الساميّة الشماليّة والجنوبيّة، فلعلّ ذلك يشير إلى أخذ كلا الفرعين من أصولٍ مشتركة متعدّدة تطوّرت في كلّ  منهما على نحو مستقل عن الآخر، وبهذا يمكن تعليل ما بينهما من أوجه اتفاق أو اختلاف.

 ولم يقتصر انتشار الأبجدية الكنعانية على الشعوب الناطقة باللغات الساميّة، فقد جذبت الأبجدية الكنعانية الناطقين باللغة اليونانية، فأخذوها عن الفينيقيين، ثم أخذتها عنهم بعد ذلك في أزمان مختلفة لغات كثيرة، وهذا بيانها:

رقيم طيني مدون بنص أبجدي آرامي من تل شيوخ فوقاني
(موقع مدينة بُرمَرنيا القديمة)

1)- الخط اليوناني القديم: سبق هيرودوت إلى القول: إنه من أصلٍ فينيقي، ثم أورد الباحثون المُحْدثون الأدلّة على ذلك، وأهمها: التماثل أو التشابه الواضح بين أشكال الحروف في الفينيقية القديمة واليونانية القديمة، والتماثل في ترتيب الحروف فيهما، واتجاه الكتابة في بعض النقوش اليونانية القديمة من اليمين إلى اليسار، وكون أسما الحروف اليونانية ساميّة. وقد جعل كرتشوف A.Kirchhoff هذا الخط ثلاثة أضرب، أحدها: الأتيكيّ المستعمل في نقوشٍ من أتيكا   Attika وأغينا Agina والسواحل الغربية الإيونيّة من آسيا الصغرى وفي مناطق أخرى، وأقدم شواهده كتابة من أثينا منقوشة على إبريق تتجه من اليمين إلى اليسار وتعود إلى القرن الثامن ق.م، وثانيها: الدوريّ المستعمل في نقوش من الجُزر الدوريّة (تيرا Thera وميلوس Melos) ومنها نقش صخريّ مكتوب بخط المحراث boustrophedon يعود إلى القرن السابع ق.م، أما الضرب الثالث فهو الإيونيّ، وتمثله نقوش من مواقع مختلفة بعضها في صقلية وجنوبي إيطاليا تعود إلى القرن الخامس ق.م،  ثم شاع استعمال الخط اليوناني الموحّد في القرن الرابع ق.م.

 وقد أخذت اليونانية من الفينيقية أحد عشر حرفاً، هي البا والتا والجيم والدال والرا والزاي والفا والكاف واللام والميم والنون، ولم تكن بحاجةٍ إلى حروف الطا والصاد والقاف، فاستعملتها لأغراض أخرى، فتحوّلت الطا ُ فيها إلى ثا ، والصاد والقاف إلى اسمين للعددين 900 و90،  وأصبحت العين والحا والها والألف والواو واليا فيها صوائت للفتحة والضمّة والكسرة، وتحوّلت السين إلى حرفين، أحدهما هو الـ Sigma والآخر للصوت المزدوج "ks"، ثم أضافت حروفاً للصوامت التي لاتعرفها الساميّة الشماليّة، وهي:ph  وps وx.

واتخذت لغاتٌ كثيرة في العالم القديم في أزمانٍ مختلفة الخط اليونانيّ بعد أن عدّلت فيه قليلاً أو كثيراً؛ ليُعبّر عما فيها من أصوات، فمنها الإتروسكيّة (في إيطاليا) والأرمنيّة والقبطيّة والسلافيّة - التي تفرّع منها الخط الكيرلي الذي تُكتب به اللغة الروسيّة - واللاتينية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفينيقيين أنفسهم خلّفوا في مواقع قرب "صور" في لبنان وفي قسنطينة في الجزائر نقوشاً من القرن الثاني ق.م "KAI174-177)" لغتها فينيقية أو بونيّة؛ ولكنها مكتوبة بالخط اليوناني.

2)- الخط اللاتيني: يبدو أن هذا الخط - المنسوب إلى منطقة "لاتيوم" التي تقع فيها مدينة روما - لم يؤخذ من الخط اليوناني نفسه كما يفترض مومسين Th. Mommsen وغاردتاوسن V. Gardthausen وغيلب I. Gelb وآخرون؛ إذ أورد هامرستروم M. Hammarström بعد الحرب العالمية الأولى أدلّة مقنعة على أخذه من الإتروسكية، وهي أقدم الكتابات الإيطالية؛ إذ يرجع أقدم نقوشها إلى القرن الثامن ق.م. ويعود أقدم نقشٍ لاتينيّ إلى القرن السابع ق.م، وهو سطرٌ واحد يُقرأ من اليمين إلى اليسار، غير أن نقوش القرن السادس ق.م مكتوبة بطريقة خط المحراث. وقد انتشرت اللاتينية - لغةً وخطاً -  مع توسع سلطان الرومان في عهد الإمبراطورية، فلما تبنّت روما المسيحية صارت اللاتينية لغة الكنيسة الغربية، على حين ظلت اليونانية - أو السريانية والقبطية - مستعملة في الكنائس الشرقية. ثم استمر استعمال الخط اللاتيني في اللغات المتفرّعة منها كالإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية؛ وفي لغاتٍ أخرى حتى غدا اليوم أكثر الخطوط استعمالاً في العالم كله.

ثالثاً- الألفبا العربية الجنوبية:

لمْ يُعثر حتى الآن على نماذج تمثّل بداياتها، ولكنها وصلت إلينا وقد اكتمل تطوّرها في ضربين، أحدهما: الخط الذي سمّاه العرب قديماً "المُسند"- ويسمّيه المستشرقون الخط التذكاري أو النصبيّ monumental script - في نقوش مكتوبة على الحجر أو المعدن يرجع أقدمها إلى القرن الثامن ق.م. وهو خط منفصل الحروف يتألف من 29 حرفاً من الصوامت    consonant، ويطابق في أصواته وعدد حروفه خطّ العربية الفصحى، ويزيد عليه حرفاً يسمّيه الباحثون السين الثالثة، ويُكتب من اليمين إلى اليسار إلا في نقوش المرحلة المبكرة حيث يُكتب فيها بطريقة خط المحراث؛ فيكون اتجاه الكتابة في الأسطر الوترية من اليمين إلى اليسار وفي الأسطر الشفعيّة من اليسار إلى اليمين مما يؤدي إلى قلب اتجاه بعض الحروف؛ ليوافق اتجاه الكتابة. وقد حاول بعض الباحثين أن يجدوا له أصلاً في الأبجدية الكنعانية؛ غير أن التماثل في أشكال  الحروف بينهما يقتصر على خمسةٍ فحسب، زد على ذلك الفرق في عددها. ثم نشأ من هذا الخط أربعة فروع كُتبتْ بها نقوش اللهجات العربية الشمالية، وهي اللحيانية - الديدانيّة في شمالي السعوديّة، والثموديّة والصفويّة في بلاد الشام وشمالي السعوديّة، والأحسائيّة في شرقي السعوديّة، وكتابات "الفاو" في وادي الدواسر إلى الشمال الشرقي من نجران، وتشمل هذه المجموعات الخمس -على خلافٍ بين الباحثين في تصنيف لغتها وخطوطها وتأريخها - زمناً يمتدّ من القرن الخامس ق.م إلى القرن الرابع الميلادي.

وقد حمل اليمنيون المهاجرون إلى الحبشة قبل الميلاد هذا الخط معهم، فأخذته أقدم اللغات الساميّة هناك، وهي "الجعزيّة  Ge’ez"، ثم طوّره الأحباش، فحذفوا منه أحرف الثا والذال والظا والغين؛ لأنّ هذه الأصوات لا وجود لها في لغتهم، وأضافوا إليه علامات للحركات بطريقة الإلصاق، فصار لكل حرف سبع صيغٍ، وعكسوا اتجاه الكتابة، فأصبح من اليسار إلى اليمين. ثم أخذته الأمهريّة التي أصبحت لغة الدولة في الحبشة في القرن 13 الميلادي، فزادت عليه حروفاً للأصوات غير المعروفة في الساميّة وعدّلت فيه بعض التعديل. كما اكتُشف في بلاد الرافدين وشرقي الجزيرة العربية شكل آخر من أشكال هذا الخط، وقد سمّى بعض الباحثين نقوشه العويصة المُبهمة المكتوبة على الأختام والأحجار الكريمة التي يرجع أحدها - فيما يبدو- إلى القرن السادس ق.م "العربية الأولى" Proto-Arabic، في حين سمّاها آخرون "الكلدانيّة". 

أما الضرب الآخر من الخط العربي الجنوبي؛ فهو المستعمل في الكتابة بقلمٍ معدنيّ أو خشبيّ على سعف النَّخل وأعواد الخشب، وهو خط سريع ليّن لا تكاد أشكال حروفه في نقوش المرحلة المبكرة تختلف عن نظائرها في خط المسند في المرحلة نفسها؛ مما يدلّ على اشتراكهما في الأصل والمنشأ، ولكنهما لا يلبثان أن يتباعدا شيئاً فشيئاً بسبب اختلاف مواد الكتابة وأدواتها وتطوّر كلٍّ منهما مستقلاً عن صاحبه نحو ألف عام. وقد ذكر المتقدمون أنّ اليمن عرف نوعين من الكتابات، هما المساند أيْ المكتوبة بالمسند؛ و"الزُّبُر" وهي صيغة الجمع من "الزَّبور"، ولذا يحسن أن يُسمّى هذا الضرب خطّ الزَبور.

وينبغي - في الختام - أن يُدرك حجم الصعوبات التي تواجه الباحثين في أصول الأبجديات وفي بيان ما بينها من روابط وصلات وفي تتبّع ما يلحق بها من تعديلٍ أو تطوير. ويكفي أن يشار هنا إلى مسألتين؛ أولاهما: تنوّع أشكال الخط وحروفه بسبب اختلاف أدوات الكتابة (الإزميل أو المنقاش أو القلم المعدني أو الخشبي أو الرِّيشة…)؛ كي تناسب المواد المستعملة لهذا الغرض (الحجر أو البرونز أو ورق البردي أوالرّق أو الفخار والخزف أو سعف النخل والخشب…)، وقد أدّى ذلك - منذ البداية - إلى نشو ضربين من الخطوط الأبجدية، هما الخط النصبيّ أو التذكاريّ والخط السريع أو الليِّن، ثم أدّى انتشارهما على مرّ القرون إلى ظهور فروعٍ لكلٍّ منهما. والأخرى: مشكلة تأريخ النقوش؛ لأنها مسألة جوهرية في توضيح ذلك كله، ولكن خلوّ معظم النقوش والكتابات القديمة من التاريخ أدّى إلى اختلاف الباحثين في تحديده ثم في ما يُبنى عليه من استنتاجات، ولذا استعان الباحثون للتغلب على تلك الصعوبة بوسائل متعددة، فمنها: الدراسة الخاصة بالخطوط القديمة والمقارنة بين أشكال الحروف في النصوص، ودراسة الظواهر اللغوية والنحوية والأسلوبية في النقش، والربط بين أسما الأعلام فيه وأحداثٍ تاريخية معروفة، والمقارنة بنظيره المصاحب له إذا كان ثنائي اللغة، وإجرا الاختبارات الأثرية في موقع اكتشاف النقش، والفحص بالأشعة إذا كان النقش مكتوباً على المعدن. غير أنّ ذلك كله لا يؤدّي إلى اتفاق الباحثين، بل إلى اختلافهم في النتائج والأحكام التي يتوصلون إليها بسبب تعدّد مناهج البحث وأساليبه، فقد ذهب بعض الباحثين إلى أن نقش أحيرام الفينيقي من القرن 13 ونقش تل الفخيرية الآرامي من القرن 11، في حين ذهب الأكثرون إلى أن أولهما يعود إلى القرن العاشر وثانيهما إلى التاسع. أضف إلى ذلك أنّ اكتشاف نقش جديد قد يجعل المر مضطراً إلى البد في بحث هذه المسألة العويصة الشائكة من جديد.

 

رفعت هزيم

 

 

مراجع للاستزادة:

- رمزي بعلبكي، الكتابة العربية والساميّة (بيروت 1981(.

- أحمد هبو، الأبجديّة، نشأة الكتابة وأشكالها (اللاذقية 1984).

- G. R. DRIVER, Semitic Writing from Pictograph to Al­pha­bet, (Oxford, 1977).          

- H. DONNER & W.RÖLLG,  Kanaanäische und aramäische Inschriften, (Wiesbaden, 1966- 1969).

 

 

 


التصنيف : العصور التاريخية
النوع : علوم
المجلد: المجلد الأول
رقم الصفحة ضمن المجلد : 15
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1111
الكل : 40549736
اليوم : 79551