logo

logo

logo

logo

logo

التنزيل والتلبيس

تنزيل وتلبيس

-

 التنزيل والتلبيس

التنزيل والتلبيس

تطور فن التنزيل والتلبيس خلال العهود الإسلامية المختلفة 

 

 

جاء في كتب اللغة أن كلمة نزل نزولاً تعني هبط من أعلى إلى أسفل، وأنزل الشيء جعله ينزل. ويقال نزّل هذا مكان هذا أي أقامه مقامه. أما التلبيس فيعني في اللغة الخلط أو الاختلاط، لهذا يُقال: التبس الأمر، أي أُشكل واختلط.

ويبدو مما سبق من التعريف اللغوي لكلمتي التنزيل والتلبيس أنهما مختلفتان في معنييهما، بيد أنهما مرتبطتان معاً في إحداث الفعل، فإنزال شيء والهبوط به من أعلى على السطح المراد يُحدث نوعاً من الخلط فيما بين أصل الشيء وما ألمَّ به من مُنزَل خارجي.

تربة اعتماد الدولة في أغرا - الهند سنة 1038هـ/1628م
تنزيل الزخارف الكتابية بالخط النسخي في مسجد وزير خان في لاهور بالهند سنة 1044هـ/16634م

والتنزيل والتلبيس بالمصطلح الأثري يقصد به مفاهيم عدة؛ منها إنزال الرخام الأبيض وتلبيسه بقطع رخامية صغيرة تمثل شكلاً زخرفياً، وربما كانت هذه القطع الرخامية صغيرة تشبه الفسيفساء (عرفت باسم خردة الرخام).

وهو أيضاً ملء الشكل الزخرفي المحفور في القطع الرخامية أو الحجرية أو الجصّية بمعاجين ملوّنة بألوانٍ مغايرةٍ للون القطعة المراد زخرفتها. وقد شاع اللونان الأسود والقرميدي صبغة للمعاجين. وذهب بعضهم إلى أن التنزيل والتلبيس معناه كل حفر على سطحٍ تم ملؤه بمادة ملونة أخرى مغايرة لمادة السطح الأصلي، سواء أكان هذا السطح من الرخام أم من الحجر أم من الجص. ويُقال إن الخشب يتم تنزيله بالعاج، والأواني المعدنية يتم تنزيلها أو تلبيسها بالذهب والفضة. وعلى الرغم مما سبق فإن المشهور في كتب الآثاريين أن التلبيس والتنزيل- بالمصطلح الأثري- اختُصَّ بالرخام والحجر أكثر من غيره من المواد الأخرى. وقد ورد ذكر كلمة «حشو» في عملية زخرفة الرخام بهذه الطريقة في بعض الكتب والوثائق التاريخية ولاسيما في العصر المملوكي، لذا يرقب القارئ بين دفّات الكتب كلمة «حشوة» رخامية، ويُقصد بها معنى التنزيل والتلبيس نفسه.

زخارف رخامية في دعامة ركنية في ضريح
 تاج محل في أغرا بالهند
محراب الإمام في الجامع الأموي
وهو مؤلف من حشوات مختلفة الشكل

يبدأ الحِرَفيّ برسم الزخرفة المطلوبة على سطح اللوح الرخامي المراد التنزيل فيه، ويقوم بوساطة إزميل أو غير ذلك من آلات الحفر اليدوية الدقيقة بنحت رسوم زخرفية تراوح أبعادها بين ربع سنتيمتر ونصفه، يتمّ بعدها تلبيس القطع المنزّلة على طبقة المادة اللاصقة إلى أن تتماسك تلك القطع ذات اللون المغاير لسطح الرخام الأصلي، لتظهر التصميم الفني المرسوم على سطح الرخام. وربما مُلئ هذا الحَفْر المنزّل على سطح الرخام بمعاجين ذات ألوان مختلفة كي تُظهر الشكل الجمالي والزخرفي المحفور على سطح الرخام.

تطور فن التنزيل والتلبيس خلال العهود الإسلامية المختلفة

انصرف المسلمون عن نحت التماثيل الرخامية أو الحجرية؛ وذلك لأن تصوير الكائنات الحية فيه مضاهاة لخلق الله عز وجل، واتجهوا إلى الزخارف النباتية والهندسية والكتابية فظهرت تلك العناصر الزخرفية الفنية على العناصر المعمارية المختلفة من تيجان وأعمدة ومحاريب وغير ذلك والتي تشهد على عظمة الزخارف وروعتها.

بركة ذات مجارٍ تائهة وحولها أرضية من الرخام المشقف الكبير من العصر العثماني

وقد اشتُهرت بعض العمائر الدينية والمدنية في العصر الأموي بظهور الزخارف عنصراً معمارياً مهماً على واجهات هذه العمائر وأرضياتها ومداخلها وأعمدتها، وكانت هذه العناصر الزخرفية تحاكي الطبيعة إلى حدٍ بعيدٍ، فهي زخارف نباتية وهندسية وكتابية. وكان قوام الزخارف النباتية أوراقاً مجنّحة، وكيزان صنوبر، وأنصاف مراوح نخيلية، وأوراق العنب وعناقيده، وظهرت الأوراق النباتية ثلاثية الفصوص أو خماسيتها، كما ظهرت الزخارف النباتية في بعض الأحيان داخل إطار أو قالب، أو تخرج من شيء على هيئة قارورة زجاجية تخرج منها تفريعات وأغصان.

كما يُلاحظ أن القطع الرخامية الملبّسة كانت بها زخارف هندسية متعددة الأشكال، وزخارف كتابية خاصة بالخط الكوفي.

الكتبية ذات الستائر الرخامية من العصر العثماني
محراب مسجد الأقصاب من العصر المملوكي (626هـ/1228م)

وتظهر هذه الزخارف المنزّلة على الرخام في بعض العمائر الأموية، ولعل أشهرها ما وجد في قبة الصخرة من لوحين من رخام ذي زخارف محفورة ومنقوشة يظهر فيها بجلاء فن التنزيل والتلبيس، ويرجع تاريخها إلى عهد الخليفة عبد الملك بن مروان. وذكر ابن فضل الله العمري أن الجامع الأموي في دمشق استُخدم في بنائه الرخام الملون كالغرابي والمنقط والمشحم والأحمر والأخضر والسماقي. وعلى الرغم من تعرّض هذا المسجد للحريق أكثر من مرة بيد أنه يُعد من عجائب الدنيا، وله تأثير كبير في العمارة الإسلامية، فزخرفته الأصلية من المعروف أنها كانت فاخرة؛ إذ كان كثير من العناصر المعمارية مكسواً بالرخام الأبيض، وكانت الجدران مخططةً بخطوط بارزة بالرخام، وفوق هذه الكسوة الرخامية ما يعرف «بُخردة الرخام» الفسيفساء.

ومن التحف الرخامية النادرة والتي يظهر فيها فن التنزيل والتلبيس ذلك المحراب المجوف المصنوع من الرخام الأبيض المائل إلى الصفرة- ويرجع تاريخه إلى القرن ١هـ/٧م- والمحفوظ اليوم في متحف بغداد، وارتفاعه يزيد على المترين، وعرضه نحو متر وربع. ويرتكز عقده على عمودين حلزونيين، نُقشت عليه بعض الزخارف من أوراق «الأكانتس»، ويحيط بالعقد إطار فيه زخارف منقوشة ينبثق منها أوراق عناقيد العنب. وقد استمرت التقاليد الفنية والزخرفية لفن التنزيل على الرخام في بداية العصر العباسي كما كانت عليها الحال في العصر الأموي؛ إلى أن ظهر ما يُعرف بطراز سامراء حيث حُوّرت العناصر الزخرفية على الرخام الملبس بعيداً عن الطبيعة، وظهر التداخل بين الزخارف النباتية والهندسية والكتابية، فنُقشت التفريعات من المراوح النخيلية على هيئة زهرة اللوتس محوّرة، وظهر تداخل بين أوراق العنب وعناقيده. كما تكوّنت بعض الأشكال الهندسية من دوائر تنحصر في داخلها أوراق عنب وأنصاف مراوح نخيلية، مُلئت الفراغات داخلها ببعض الأوراق النباتية والآيات القرآنية التي تم تنفيذها بالخط الكوفي.

 
زخارف من الخانقاه الجقمقية بدمشق من العصر المملوكي  

ورث الفاطميون التقاليد الفنية في صناعة الرخام المُلبّس ممن سبقوهم، بيد أن استخدام الرخام في هذا العصر كان قليلاً جداً في الأغراض الإنشائية أو الزخرفية، فقد اعتمد الفاطميون على الأحجار على نحو واسع فتم نقشها وزخرفتها. وعلى الرغم من كثرة ما وصل من آثار فاطمية في مصر، بيد أنه لا يوجد فيها سوى أثر وحيد استُخدم فيه الرخام، وظهر في زخرفته فن التنزيل والتلبيس، وهذا الأثر هو مشهد السيدة رقية ٥٢٧هـ /١١٣٣م الموجود في القاهرة.

أما العصر الأيوبي فظهر فيه الرخام في أغراض إنشائية وزخرفية، ووضح اهتمام الأيوبيين بالرخام في العمائر الدينية والمدنية. واستمرت الزخارف النباتية والهندسية والكتابية على الرخام المُلبّس، وإن ظهر خط الثلث (النسخي الأيوبي) بدلاً من الخط الكوفي. كما استمر طراز سامراء مسيطراً في الزخارف على الرخام المُلبّس، فجاءت المراوح النخيلية وعناقيد العنب وزهرة «الأكانتس» محوّرة متداخلة مع الأشكال الهندسية. ولعل أهم ما وصل من هذا العصر هو أول حنية محراب رخامي مزخرفة وملبّسة بالرخام الملون في ضريح الصالح نجم الدين أيوب (٦٤١–٦٤٨هـ/١٢٤٢–١٢٥٠م)، الواقع في شارع المعز لدين الله في القاهرة. كما يذكر المقريزي أن إيوان جلوس الملك الصالح نجم الدين أيوب بقلعة الروضة في القاهرة أيضاً كان فيه من صفائح الذهب والرخام والأبنوس ما لم ترَ العين مثله وما يذهل الأفكار ويستوقف الأبصار.

 
زخارف المغسلة الرخامية في بيت خالد بك العظم بدمشق من العصر العثماني
 

وتميّز العصر المملوكي بالغنى الزخرفي وتنوّع أشكاله وتكويناته، فقد تطوّرت المزرّرات، وظهرت الحشوات الزخرفية التوريقية والهندسية ذات الأشكال المستديرة والمربّعة والمستطيلة التي نفذ أغلبها بالمعجون المُنَزَّل ذي الألوان المختلفة وبدقة غير مسبوقة كثيراً ما أوحت أنها قطع من الرخام المُنَزَّل، وظهرت الفسيفساء الرخامية الملونة والمشقّفة التي تكوّنت منها زخارف نباتية أو هندسية- كما هي منزّلة في المحاريب- إلى جانب الفسيفساء الزجاجية، وانتشرت الرنوك وهي شعارات أو رموز للسلطان أو نائبه وغيره. وأما الزخارف الكتابية فقد شاعت بخط الثلث، والكوفي على نحو أقلّ؛ وذلك على السواكف وأعلى المداخل والواجهات الجدارية المختلفة.

وقد شهدت بدايات العصر العثماني رواجاً غير عادي في استخدام الرخام؛ ولاسيما في صناعة المنابر الرخامية والمحاريب والأحواض (الفسقيات) الرخامية ذات الأشكال المربعة والمستطيلة والدائرية والبيضوية، وكلها كانت تُصنع في الغالب من الرخام الأبيض، ويتم تلبيسه بالرخام الملون، وإلى جانب ذلك اهتم المرخّم بالأرضيات والواجهات الرخامية. وواضح في كل هذه القطع الرخامية الملبسة مدى تأثر الزخارف العثمانية المتأخرة المنزلة على الرخام بالطراز الأوربي، وهو ما عُرف بالباروك والروكوكو، وإن هُذّبت هذه الزخارف بما يتلاءم مع الذوق المحلي والتقاليد الدينية.

 
زخارف هندسية ونباتية من الرخام المشقف الذي يغطي أرض القاعة الدمشقية من العصر العثماني 
 

أما أهم العناصر الزخرفية التي تم تنزيلها على الرخام فكانت زخارف نباتية من أوراق العنب وعناقيده وزهرة القرنفل وزهرة اللالا. وإلى جانب الزخارف النباتية ظهرت الزخارف الهندسية من الدوائر وأنصافها والخطوط العرضية والمتقاطعة أو المتماسة والمثلثات والأشكال السداسية والثمانية، وظهرت الزخارف الكتابية الخطية بخطوط الثلث والنسخي والفارسي والديواني على القطع الرخامية والحجرية، كما ظهرت الطغراء العثمانية.

ومن المحاريب الرخامية التي يظهر فيها فن التنزيل والتلبيس بجلاء محراب سليمان باشا (سارية الجبل) بقلعة الجبل في القاهرة، ويرجع تاريخه إلى القرن ١٠هـ/١٦م؛ حيث ينقسم هذا المحراب إلى ثلاث طبقات: العليا منها بائكة معقودة على شكل وزرات رخامية نُفّذت بطريقة الحفر والتلبيس، والوسطى أطباق نجمية تم تنزيلها على الرخام بما يعرف «بخردة الرخام» الفسيفساء الرخامية، والسفلى مشغولة بوزرات رخامية سوداء وبيضاء.

وفي متحف الفن الإسلامي بمصر حوض رخامي يرجع تاريخه إلى العصر العثماني، يحمل اسم صاحبه أحمد آغا، وتظهر فيه الزخارف الكتابية إلى جانب الزخارف النباتية التي نُفِّذت فيه بطريقة التلبيس.

كما تحتوي مدينة دمشق على أمثلة كثيرة مميزة للتنزيل والتلبيس لا تخطئها العين في المدارس والجوامع المملوكية والعثمانية حيث كُسيت أرضياتها وجدرانها بالرخام المتنوع الألوان المُنَزَّل والملبَّس كما في الخانقاه الجقمقية وجامع الدرويشية وغيرهما كثير. وقد تميزت البيوت الدمشقية بغناها بالرخام المشغول بالتنزيل والتلبيس ولاسيما في القاعات والأواوين وبرك المياه، كما يظهر في قصر العظم وفي القاعة الشامية المحفوظة في متحف دمشق الوطني.

فاطمة السليطي

 

مراجع للاستزادة:

- أبو صالح الألفي، الفن الإسلامي (دار المعارف، القاهرة 1985م).

- عاصم محمد رزق، الفنون العربية الإسلامية في مصر (مكتبة المدبولي، القاهرة 2007م).

- علي أحمد الطايش، الفنون الزخرفية الإسلامية المبكرة (في العصرين الأموي والعباسي) (مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، د.ت).

- سعاد محمد ماهر، الفنون الإسلامية (دار الكتب المصرية، 1987م).


التصنيف : آثار إسلامية
المجلد: المجلد الرابع
رقم الصفحة ضمن المجلد :
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 606
الكل : 31792302
اليوم : 67763