logo

logo

logo

logo

logo

بيروت (مدينة-)

بيروت (مدينه)

-

بيروت (مدينة-)

بيروت في العصور القديمة

بيروت في العصور الكلاسيكية

بيروت في العصر الإسلامي

 

بيروت Beirut  مدينة قديمة على ساحل بلاد الشام بنيت على رأس بري سمي باسمها يمتد في البحر نحو تسعة كيلومترات، وتقع جغرافياً على خط العرض الشمالي 27ً 54َ 33ْ، وعلى خط الطول الشرقي 50ً 8َ 35ْ. وقد فُسِّر اسمها (بيروتا) Berotha على أنه كنعاني يعني الآبار، وهو صيغة جمع لكلمة بئروت Be’erot (بئر)، وذلك لكثرة الآبار التي كانت فيها خلال العصور القديمة، كما فُسر اسمها على أنه مشتق من كلمة بيروتا الآرامية، ومعناها الصنوبرة «Bruta Ilois»، لشهرتها بأشجار الصنوبر منذ القدم.

 

بيروت في العصور القديمة:

أظهرت الحفريات الأثرية التي جرت في منطقة بيروت أن الاستيطان البشري بدأ فيها منذ العصور الحجرية؛ إذ تم العثور على أدوات صوانية مختلفة تعود إلى العصر الحجري القديم والوسيط والحديث. إلا أن أقدم ذكر لها في الوثائق المكتوبة يرد في مراسلات تل العمارنة (القرن الرابع عشر ق.م) المكتشفة في مصر الوسطى (الرسائل 85 - 92 - 101- 114- 118- 134- 138- 141- 143- 155)، وهناك رسائل أخرى تذكر أسماء بعض من حكمها مثل عمّونيرا Ammunira الذي أرسل رسالتين (134- 114) إلى الفرعون المصري أمنحوتب الرابع يشكره فيها على إرساله مساعدة عسكرية له. وهذا يدل على أنها كانت إحدى ممالك– مدن سورية القديمة التي كانت تابعة للتاج المصري في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

مدينة بيروت

كما ورد ذكر بيروت في نصوص أوغاريت وفي بعض النصوص المصرية والحثية والفينيقية.

وقد عثر فيها على تمثال الملك أمنحوتب الثالث، وترك رعمسيس الثاني (1298-1235ق.م) نصباً تذكارياً على صخرة نهر الكلب شمالي بيروت، كما أن الملك الآشوري سرجون الثاني (722-705ق.م) خلد ذكراه على الصخرة ذاتها.

نهر الكلب والنصب الأثرية

بيروت في العصور الكلاسيكية (333ق.م–634م):

اكتسبت بيروت أهميتها التاريخية والحضارية في العصرين الهلنستي والروماني؛ إذ كانت بين مدن الساحل السوري التي استقبلت الإسكندر الكبير المقدوني سنة 333ق.م، ثم خضعت لسلطة كبار قادته فحكمها البطالمة طوال القرن الثالث قبل الميلاد وأقاموا فيها داراً لسك العملة أصدرت مجموعة من النقود تحمل على ظهرها شعار بيروت، وهو حربة الإله بوسيدون Poseideon ذات الثلاث شعب. ومنذ سنة 200ق.م خضعت المدينة للحكم السلوقي، وقد منحها الملك أنطوخيوس[ر] الرابع حق سك النقود فأصدرت سنة  162ق.م نقداً مهماً يحمل على الوجه الاسم الجديد لبيروت باللغة الإغريقية؛ وهو لاذقية فينيقية Laodikeia in Phoinikia، وعلى وجهها الآخر بالكنعانية: لاذقية كنعان. ويذكر استرابون في جغرافيته (XVI,2.19) أنه جرى تدمير المدينة نحو سنة 140ق.م خلال الصراع على العرش السلوقي.

كان لبيروت في العصر الهلنستي روابط وعلاقات تجارية وثيقة مع جزر بحر إيجة، وكان لها جالية مهمة في كلٍّ من رودوس وديلوس تسمت باسم حامي مدينتهم بوسيدون.

أما في العصر الروماني فإن الحدث الأكبر في تاريخ المدينة كان عندما أسس فيها الامبراطور أغسطس [ر] Augustus سنة 15/14ق.م أول مستعمرة رومانية في سورية وأهمها حملت اسم ابنته يوليا، ولقبت بالسعيدة وهكذا سميت:Colonia Augusta Julia Felix Berytus  وقد ضمت مستعمرة بيروت منطقة كبيرة شملت بعلبك ومعبدها الشهير، التي بقيت تابعة لها ما يزيد على قرنين من الزمن. وإرضاء لأسيادهم الرومان أغدق عليها حكام فلسطين آنذاك كثيراً من الهبات فأقاموا فيها مسرحاً فخماً وملاعب رياضية وحمامات عامة.

شهدت بيروت نهضة عمرانية كبيرة خلال العصور الكلاسيكية، وأظهرت التنقيبات التي جرت في عقد التسعينيات من القرن العشرين عدم وجود انقطاع في العمارة السكنية بين العصرين الإخميني والهلنستي وظهور حي جديد في الجهة الشمالية الشرقية وأنماط عمارة جديدة ارتبطت بقدوم مستوطنين جدد. ويدل العدد الكبير من الحجارة وبقايا الأعمدة التي تم العثور عليها في بيروت الرومانية على عظمة المباني العامة التي كانت تزدان بها المدينة.

آثار حمام روماني في بيروت

أصبحت بيروت منذ القرن الأول قبل الميلاد مركزاً مهماً لصناعة الجرار الفخارية الطويلة المعروفة باسم أمفورات amphorae، والتي ظهر عدد كبير منها في التنقيبات وختم بعضها بشعار المستعمرة .(Col-Ber.) وتدل فخاريات بيروت التي عثر على كثير منها في مصر وجزيرة قبرص وغيرها على وجود تأثيرات محلية وإغريقية رومانية.

ومن أجل تزويد المدينة وحماماتها بالمياه النقية أُقيمت قناة للمياه aquaductus وجدت آثارها في ضواحي بيروت، كما أقيم جسر روماني على نهر بيروت في عهد الأسرة السيفيرية.

وقد وجدت نقوش عديدة بكتابات لاتينية في دير القلعة المشرف على بيروت مخصّصة للإله بعل مرقود- حيث أقيم دير ماروني وكنيسة بنيت بحجارة الهيكل الروماني القديم. كما عثر على نقوش كثيرة للإله جوبيتر الهليوبوليتاني Jupiter Heliopolitanus وغيره من الآلهة الرومانية نشرت في مدونة النقوش اللاتينية (CIL).

اشتهرت بيروت بمدرستها الحقوقية الرومانية التي تأسست في عهد الامبراطور سبتيميوس سفيروس (193-211م) ودرس فيها أعظم المشرعين ورجال القانون، كما شارك أساتذتها في وضع مدونة جستنيانوس (527-565م) الشهيرة التي يصف الامبراطور في مقدمتها بيروت بأنها أم الشرائع ومرضعتها، كما قامت في بيروت كليات للآداب والفلسفة، وأصبحت مركزاً لتجارة الحرير والمنسوجات المختلفة من الصوف والكتان والحرير.

الموقع الأثري المتوقع لمدرسة الحقوق الرومانية

 

تعرضت بيروت لعدد من الهزات الأرضية المدمرة في السنوات: 306م، 349م، 502م، 529م، 543م، لكن الزلزال الأشد وقع في منتصف القرن السادس سنة 551م وألحق بها دماراً كبيراً، أعقبه موجة بحرية عارمة غمرت المدينة وأغرقت الأبنية، وهدمتها، وسببت خسائر هائلة في الأرواح والممتلكات، وقد لقي 30 ألفاً من سكانها حتفهم في هذه الكارثة التي دمرت بيروت ومعهدها الحقوقي الذي لم تقم له قائمة بعد ذلك.

بيروت في العصر الإسلامي (13-1337هـ/634-1918م):

أولاً: العصر الراشدي (13-41هـ/634-661م):

فتح العرب المسلمون بيروت سنة 13هـ/634م في عهد الخليفة عمر بن الخطاب(ر)  الذي جعل أبا عبيدة ابن الجراح قائداً لجيش فتوح الشام، والذي عهد بدوره إلى يزيد بن أبي سفيان وأخيه معاوية فتح بيروت والمدن الساحلية. وأصبحت بيروت بذلك تابعة لجند دمشق. ثم قام الأسطول البيزنطي بغارة انتقامية ضد المسلمين سنة 22هـ/643م، استرد فيها بيروت والمدن الساحلية. وعلى الفور قام والي الشام معاوية بن أبي سفيان بهجوم بري وبحري سنة 24هـ/645م استرد به بيروت وغيرها. عندها أدرك المسلمون ضرورة تحويل بيروت إلى مركز للأسطول البحري الإسلامي وإلى جلب السكان المسلمين ليسكنوا فيها، فأصبحت بيروت مدينة حصينة ورباطاً بعد انتشار اللغة العربية وتعاليم الدين الإسلامي بين أهلها. ومن الصحابة الذين رابطوا في بيروت أبو الدرداء وسلمان الفارسي وبشير بن سعد وأبو ذر الغفاري وغيرهم. لذلك فقد كان في بيروت قبور جماعة من الصحابة والتابعين لم يعد يُعرف مكانها، وأُنشئ فيها الجامع العمري تكريماً للخليفة عمر بن الخطاب(ر)، والذي عُرف أيضاً بجامع فتوح الإسلام.

ثانياً: العصر الأموي (41-132هـ/661-750م):

ما كاد والي الشام معاوية بن أبي سفيان يصبح خليفة للمسلمين حتى عمل على تدعيم الدفاع عن السواحل باستقدام الأمراء الأرسلانيِّين والتنوخييِّن وبشحنها بالمقاتلة الذين يرابطون في بيروت لتمكين الدفاع البري، وأصبحت سواحل الشام عامرة بالقلاع والأبراج، وتحولت بيروت إلى مركز الأسطول البحري الإسلامي. ثم عيّن الخليفة معاوية جنادة بن أبي أمية في منصب أمير بحر الشام، فأقام في بيروت. وكان أمير البحر هو أمير مدينة بيروت. وفي أواخر العصر الأموي كان في بيروت مسجد جامع هو مسجد ورد.

ثالثاً: العصر العباسي (132-503هـ/750-1110م):

أدرك العباسيون ما لساحل بلاد الشام من أهمية، فأمروا بتحصين ثغوره، وأرسل الخليفة أبو جعفر المنصور قبيلة من المسلمين (آل تنوخ)، وعوّل عليهم في صدِّ غارات الروم وأهالي الجبل، فنزل أحد رؤسائهم الأمير أرسلان رأس البيدر، وقطن الباقون أرباض بيروت وصيدا سنة 145هـ/763م.

وهكذا عمّر الأمير أرسلان وأقاربه الجبال المحيطة ببيروت، وسكن هو في منطقة سن الفيل، وتوفي في بيروت ودفن فيها. ظهر في هذا العصر الإمام الأوزاعي حيث كان يقيم في بيروت ويدرّس في زاوية معروفة باسمه في قلب بيروت، ومنها  انتشر مذهبه في بلاد الشام، ومقامه ما يزال قائماً إلى هذا اليوم في ضاحية بيروت مع مسجد؛ وهو بناء متواضع، يفصل بينه وبين الضريح باب صغير، وفي جداره القبلي محراب مجوف.

رابعاً: الاحتلال الصليبي (503-583هـ/1110-1187م):

سلك الصليبيّون الطريق الساحلي في زحفهم من غربي أوربا نحو مدن ساحل الشرق الإسلامي، وقد وصلوا بيروت سنة 491هـ/1097م، ثم اتجهوا نحو بيت المقدس فاستولوا عليها في السنة نفسها. وفي سنة 503هـ/1110م عاد القائد الصليبي بلدوين واحتل بيروت بعد مقاومة باسلة من سكانها ومقتل 20 ألفاً منهم، وتم تدمير جميع المساجد التي بناها المسلمون ما عدا مسجد الإمام الأوزاعي [ر] ومقامه الذي يرجع الفضل في بقائه إلى النصارى الذين أقنعوا الصليبيين بعدم هدمه وفاءً للإمام الأوزاعي الذي وقف إلى جانبهم في أثناء أزمتهم مع الوالي العباسي. وتحولت بيروت الإسلامية إلى بارونية تحكمها أسرة دي أبلن. وأمر بلدوين ببناء كنيسة القديس يوحنا المعمدان. كما بنى الصليبيّون قلعة بيروت التي ظلت قائمة حتى سنة 1273هـ/1856م، وأصبح جبل بيروت تحت نفوذ حاكم دمشق. أما مدينة بيروت فكانت بيد الصليبيِّين، وظلت كذلك مدة 77 سنة، حتى أعادها السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 583ه/1187م.

كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس

خامساً: العصر الأيوبي (583-648هـ/1187-1250م):

بعد توحيد السلطان صلاح الدين الأيوبي بلاد الشام ومصر وانتصاره في حطين سنة 583هـ/1187م؛ توجه إلى مدن الساحل ففتحها وحاصر بيروت ثمانية أيام، حتى سأله الصليبيّون الأمان فأمّنهم، ودخلها صلحاً. واستطاع بذلك أن يحرمهم من قواعدهم البحرية التي تربطهم بأوربا، وأن يحقق الاتصال البحري السريع بين شطري دولته في مصر والشام. ولذلك اهتم بإحياء البحرية الإسلامية وتحصين الثغور وتقوية أجهزة الدفاع والحراسة الساحلية. وحوّل المسلمون كنيسة يوحنا المعمدان إلى جامع العمري بعد أن خلت بيروت من المسيحيِّين ومن الصليبيِّين. ثم ولّى السلطان صلاح الدين على بيروت الأمير سيف الدين المشطوب، ثم الأمير أسامة بن منقذ الذي كانت بيروت في أيامه هي قاعدة الأسطول البحري الشامي. واستغل الصليبيّون وفاة السلطان لاسترجاع بيروت، فاستسلمت لهم من دون قتال وعادت إلى حكم أسرة دي أبلن الذي استمر 95 سنة، واستعادوا مبنى الجامع العمري وحولوه إلى كاتدرائية. ولم يسلم أيضاً من الهدم في هذه الفترة سوى مسجد الأوزاعي ومقامه وجامع شمس الدين وزاوية الراعي. وكانت مراكب الفرنجة التجارية تتردد إلى بيروت فأصبح لهم فيها فنادق وخانات وكنائس وحمامات وأفران.

سادساً: العصر المملوكي (648-922هـ/1250-1516م):

بدأ السلطان الظاهر بيبرس تحرير بيروت والمدن الساحلية الإسلامية من الاحتلال الصليبي، وقد حطمت أخبار انتصاراته معنويات الصليبيِّين، ولا سيما بعد تحرير أنطاكية سنة 666هـ/1268م، مما حدا بملكة بيروت إيزابيلا على المسارعة إلى عقد هدنة مع السلطان بيبرس سنة 667هـ/1269م، مدة عشر سنوات. ويتبين من نصوص الهدنة حدودَ مملكة بيروت ونواحيها التي تمتد من جبيل شمالاً إلى صيدا جنوباً. كما يتبين أن معظم أسماء مدن مملكة بيروت وأحيائها ما زالت باقية إلى اليوم، مثل: جونية والعصفورية وسن الفيل وأنطلياس والجديدة والبوشرية والدكوانة وخلدة والناعمة. وفي سنة 684هـ/1285م وقّع أيضاً السلطان المنصور قلاوون هدنة مماثلة. ثم اندلعت الحروب بين المماليك والصليبيِّين زمن السلطان الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون، وبدأت الهزائم تلحق بالصليبيِّين بعد أن نجح في الاستيلاء على عكا ثم صور وصيدا. وهكذا دخل الأمير علم الدين سنجر الشجاعي بيروت من دون مقاومة سنة 690هـ/1291م، وبادر إلى هدم سور بيروت وقلعتها حتى لا يعاود الصليبيّون الاستيلاء عليها، وانتهى بذلك حكم أسرة دي أبلن. وقد سُميّت منطقة الأشرفية في ضواحي بيروت تيمناً بالسلطان الأشرف خليل.

قسّم المماليك بلاد الشام إلى ست نيابات، وكانت بيروت تابعة لنيابة دمشق. وكان والي بيروت حاكماً برتبة أمير طبلخاناه يُعيَّن من نائب السلطنة بدمشق. وفي أثناء حكم الأمراء التنوخييِّن تمتعت منطقة الغرب وبيروت والسفوح المجاورة لها-التي تمتد جنوباً حتى أعالي الدامور- بالاستقلال الداخلي، وجعلوا من بيروت مرفأ لدمشق.

طمع الصليبيّون من سكان جنوة الإيطالية في احتلال بيروت؛ فأغاروا بأسطولهم عدة مرات بدءاً من سنة 698هـ/1299م وانتهاء بسنة 806هـ/1403م، انتهت جميعها بالإخفاق. وقام نائب السلطنة في دمشق الأمير بيدر بتجديد السور البحري لبيروت، وجعل بين أبراجه باباً وسلسلة تمنع المراكب من الدخول. وأقام السلطان برقوق البرج الكبير في بداية عهده سنة 784هـ/1382م. وبنى الأمير تنكز -نائب دمشق- البرج الصغير وخاناً وحماماً في بيروت (اندثرت جميعها). وأصبحت بيروت بذلك هي الميناء الذي تتوجه منه مراكب المسلمين إلى فتح قبرص؛ فاستطاع السلطان برسباي هزيمة القبارصة سنة 828هـ/1425م.

أدرك المماليك أهمية بيروت بعد تحريرها من الصليبيِّين، فعمدوا إلى تحصينها وربطها بدمشق بوساطة البريد، كما نشط أهلها في بناء المساجد؛ فكانت داراً للإسلام، وأصبح مرفأ بيروت الميناء الرئيسي لبلاد الشام. واجتمع التجار من مختلف المدن في بيروت، وتعددت المراكز التجارية الأوربية وقنصلياتهم وفنادقهم. وأنشأ المماليك الوكالات والخانات والقيساريات؛ مما جعل بيروت مركزاً تجارياً مهماً وملتقى لشعوب البحر المتوسط. وشيّد والي بيروت الدمياطي جسراً عند نهر الدامور. وبُني مسجد البدوي ومسجد الدباغة سنة 743هـ/1343م في محلة المرفأ، وكذلك مسجد التوبة. كما بنيت زاوية المجذوب سنة 745هـ/1344م، وزاوية المغاربة سنة 793هـ/1390م، وزاوية رأس بيروت سنة 810هـ/1407م. وتحوّلت كنيسة يوحنا المعمدان إلى الجامع العمري ثانية، بعد أن طُليت جدرانه الداخلية لتغطية الصور الموجودة، وأضيفت إليه المئذنة وبركة الميضأة والرواق الشمالي والمحراب والمنبر.

سابعاً: العصر العثماني (922-1337هـ/1516-1918م):

أبقى السلطان سليم الأول- بعد دخوله بلاد الشام سنة 922هـ/1516م- التقسيمات الإدارية في بلاد الشام كما كانت عليه في عهد المماليك، فكانت بيروت تتبع نيابة دمشق. وفي عهد السلطان سليمان القانوني سنة 926هـ/1520م تم تقسيم سورية إلى ثلاث ولايات كبرى يتبعها 28 سنجقاً؛ أهمها ولاية الشام ومركزها دمشق، ويتبعها 12 سنجقاً منها بيروت وصيدا، وتشرف بالتالي على أمراء جبل لبنان. وفي عهد السلطان مراد الثالث 982-1004هـ/1574-1595م أصبحت الولايات تسمى «الباشويات» أو «الإيالات». واستمرت سورية مقسمة إلى ثلاث باشويات: الشام، حلب، طرابلس. كما استمرت بيروت بوصفها سنجقاً يتبع باشوية الشام، ويحكمها حاكم يلقب بـ مير ميران.

ولعل أول مسجد ثبت أنه بُني في بيروت بعد دخول العثمانيِّين إليها؛ هو جامع الأمير منصور عساف التركماني[ر] بعد توليه الإمارة عند وفاة عمه الأمير قايتباي سنة 931هـ/1524م، وسكن بيروت في مقرٍّ عُرف بالسراي. وفي سنة 981هـ/1572م امتد حكمه إلى حماة، ثم توفي الأمير منصور عساف سنة 986هـ/1578م؛ فخلفه ابنه الأمير محمد، واستطاع بنو سيفا القضاء على آل عساف والسيطرة على طرابلس والشمال.

- بيروت ضمن إمارة فخر الدين الثاني (1001هـ/1592م):

اختبأ فخر الدين بعد وفاة والده، وعندما هدأت الأمور استدعاه خاله الأمير سيف الدين التنوخي سنة 999هـ/1590م، وسلّمه ولاية الشوف، لتمتد سيطرته من نهر الكلب إلى جبل الكرمل. وفي سنة 1001هـ/1592م حصل على بيروت وصيدا وصور وعكا.

وكان الأمير فخر الدين الثاني قد اتخذ مدينة صيدا حاضرة لإمارته ومقراً له سنة 1003هـ/1594م. ثم وسّع إمارته؛ ففي سنة 1007هـ/1598م كانت وقعة نهر الكلب بينه وبين ابن سيفا الذي أراد استرجاع بيروت، ولكنه انهزم وتفرقت جيوشه. وكان عدد سكانها في ذلك الوقت لا يتجاوز ستة آلاف نسمة.

وجمع الأمير فخر الدين- بعد موافقة ولاة الأمر العثمانيِّين- بين جبل لبنان وبيروت وصيدا. وبعد أن وسّع حدود إمارته جعل عاصمته دير القمر صيفاً، وصيدا شتاءً. وبسيطرته على بيروت وصيدا تحكّم في منفذ جبل لبنان إلى الخارج.

وعندما تضايقت الدولة العثمانية من الأمير فخر الدين لتحصينه القلاع وتوسيع إمارته؛ أرسلت إليه حملة بقيادة الحافظ أحمد باشا سنة 1020هـ/1611م؛ مما اضطره إلى الهرب إلى إيطاليا حيث أقام فيها خمس سنين وشهرين 1020-1025هـ/1611-1616م، ثم عاد مستصحباً معه كثيراً من المهندسين لبناء القلاع وعمل الذخائر الحربية، مما ساعد أيضاً على ازدهار بيروت في عهده.

ثم عرفت بيروت عصرها الذهبي زمن الأمير فخر الدين الثاني، فقد جعلها عاصمة ثانية له سنة 1042هـ/1632م، وساهم الخبراء الإيطاليون في تحصين بيروت وتجميلها وتصميم منازلها ومدارسها وحدائقها ومبانيها العامة، كما بُنيت الفنادق ورُصفت الأسواق، حتى أصبحت بيروت مطمح أنظار السياح والرحّالة الذين كتبوا عنها. وأهم ما اشتهرت به بيروت: قصر الأمير فخر الدين وبرجه وحديقته وحمامه، وغابة الصنوبر الكثيفة.

بنى الأمير فخر الدين قصره في منطقة البرج شمال شرق بيروت، وما تزال هذه المنطقة تعرف بساحة البرج منذ أن بنى فخر الدين برج الكشاف الشهير لمراقبة السفن الآتية من البحر. ويتألف القصر من غرف كثيرة، وإصطبلات للخيل مبنية على صفوف عديدة من الأعمدة المربعة، وحديقة الوحوش التي بناها فخر الدين في أواخر أيامه تقليداً لملوك إيطاليا، وهي مرابض للأسود والوحوش الضارية. وكانت المياه تجري بأنابيب في الجدران. وفي الوسط حديقة البرتقال وهي بستان كبير، كان الأمير فخر الدين يجلس مع بطانته في مكان مرتفع منه شرقاً، حتى أصبح قصره أشبه بقصر روماني.

- بيروت تحت ولاية الأمير منذر بن سليمان التنوخي (1025هـ/1616م):

تولّى الأمير منذر التنوخي حكم بيروت سنة 1025هـ/1616م بتعيين من الأمير علي في أثناء وجود والده الأمير فخر الدين الثاني في إيطاليا. وأنشأ في بيروت سنة 1029هـ/1620م مسجد النوفرة، ويُعرف باسمه، وقد وصفه الرحّالة النابلسي عند زيارته بيروت سنة 1112هـ/1700م.

- بيروت سنجق يتبع إيالة صيدا (1071هـ/1660م):

وفي سنة 1071هـ/1660م أُنشئت إيالة صيدا التي تتألف من سناجق صيدا وبيروت وصفد، بعد أن سُلخت من ولاية الشام. ويرجع أسباب إنشاء إيالة صيدا إلى الحدّ من سلطة ولاة الشام خوفاً من اتساع نفوذهم من ناحية، وإلى حرص الدولة العثمانية على مراقبة أمراء جبل لبنان بصورة أكثر فاعلية من ناحية ثانية.

- بيروت والإمارة الشهابية (1109-1247هـ/1697-1831م):

انقرضت الإمارة المعنية بوفاة الأمير أحمد بن معن سنة 1109هـ/1697م. وعقد الأمراء والمشايخ مؤتمر السمقانية، حيث تم اختيار الأمير بشير بن شهاب من أمراء وادي التيم، وهو ابن أخت الأمير أحمد آخر أمراء آل معن. ثم أُرسل قرار السمقانية إلى إسطنبول بوساطة والي صيدا، فتمّت الموافقة على أن تكون الإمارة لحيدر الشهابي ابن ابنة الأمير أحمد بن معن، ولأنه صغير السن فقد تمَّ اختيار الأمير بشير ريثما يبلغ أشده.

وفي عهد الأمراء الشهابيِّين جُعلت بيروت عاصمة شتوية لهم، فبنوا الحوانيت والخانات والقيساريات والأبراج، والديوان وميزان الحرير. كما شُيدت كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس سنة 1179هـ/1764م.

في سنة 1191ه/1776م انتصر أحمد باشا الجزار على الأمير يوسف الشهابي، وصادر أملاك الشهابيِّين. وبوفاته سنة 1219هـ/1804م خلفه سليمان باشا ثم عبد الله باشا سنة 1235هـ/1819م الذي استمر حكمه حتى دخول بيروت تحت الحكم المصري سنة 1247هـ/1831م. وسواء في حكم أحمد باشا الجزار أو عبد الله باشا كانت بيروت مدينة محصنة كما يأتي:

السور والأبواب:

اشتهرت بيروت بسورها الذي يحيط بها ويعود تاريخه إلى الكنعانيِّين، وقد تهدّم مراراً، فأعاد أحمد باشا الجزار بناءه سنة 1206هـ/1791م، وبلغ ارتفاعه 5م، ووصل سمكه إلى 4م عند القاعدة و3م عند القمة. وكان يبدأ من قلعة بيروت القديمة في الشمال الشرقي إلى باب النصر في الجنوب الشرقي، وإلى باب يعقوب عند محلة السور في الجنوب الغربي، ثم إلى باب السنطية ليصل إلى ميناء الخشب عند مرفأ بيروت القديم في الشمال الغربي. وأصبحت بيروت المحصنة تمتد داخل السور في منطقة صغيرة طولها 660 متراً من الشمال إلى الجنوب، وعرضها 380 متراً من الشرق إلى الغرب. وكان لسور بيروت سبعة أبواب مصفحة بالحديد، لا يمكن دخول المدينة إلا عبرها، وهي:

1-باب الدباغة: يُعد من أكثر الأبواب ازدحاماً؛ لقربه من سوق الدباغين الذي حمل اسمه، ومن مرفأ بيروت حيث اتُّخذ مركزاً لتحصيل رسوم البضائع الصادرة والواردة.

2-باب السرايا: يقع قرب سرايا الأمير فخر الدين التي تهدّمت سنة 1300هـ/1882م.

3-باب أبي النصر: عند مدخل السوق الذي سُمّي باسمه من ناحية ساحة البرج، ويُنسب هذا الباب إلى الشيخ عمر أبي النصر اليافي.

4-باب الدركاه: من أجمل أبواب بيروت، وقد بُني جنوبي المدينة بأحجار صلدة ذات ألوان طبيعية، وقد تهدّم سنة 1334هـ/1915م.

5-باب يعقوب: قيل إنّ بانيه هو أحمد باشا الجزار، وقد جاءت تسميته نسبة إلى طبيب صيداوي يدعى يعقوب أبيلا، أو نسبة إلى يعقوب الكسرواني الذي كان يسكن فوقه.

باب يعقوب

6-باب إدريس: يقع غربي بيروت، وسُمّي كذلك نسبة إلى رجل من أسرة إدريس كان يسكن هناك، وقد هُدم الباب سنة 1276هـ/1859م عند توسيع أسواق المدينة.

7-باب السنطية: هو أصغر أبواب بيروت، ويقع شمال غربي المدينة بجانب مقبرة السنطية الإسلامية.

وكان حُفّاظ الأبواب، يقومون بإقفال الأبواب عند مغيب الشمس، وإنارة المصباح المعلق إلى جانب كل باب، ثم تُعطى مفاتيح الأبواب إلى متسلّم بيروت الذي يحفظها عنده حتى الصباح. وكانت القوافل التي تَفِدُ ليلاً إلى بيروت تضطّر إلى البقاء خارج المدينة حتى يُفتح الباب في الصباح. ووحده باب الدركاه يبقى مفتوحاً حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل؛ لدخول القادمين الذين قد يتأخرون في الوصول.

القلعة والأبراج:

أُقيمت القلعة والأبراج خارج الأبواب وفي ضواحي بيروت، وذلك في عصور مختلفة. وكانت قلعة بيروت هي مقرّ الحامية، وتقوم على قمة صخر في جنوب شرقي مدخل المرفأ، وقد بنيت بالحجارة الضخمة. وكانت القلعة تحمي مدخل المرفأ، وقد جُهّزت بالأدوات الحربية كالمنجنيق والمواد النفطية المتفجرة. وقد توالت بعض الأسر البيروتية على حراسة القلعة، وهم من الشجعان مثل آل القوتلي وآل دية، وأشهرهم قاسم قوتلي، وصادق دية الذي عيّنه الأمير يوسف الشهابي سنة 1186هـ/1772م، وكذلك عبد الله أبو دية دزدار القلعة زمن أحمد باشا الجزار.

قلعة بيروت البحرية

أما الأبراج الأخرى التي تساند القلعة في حماية المدينة، فهي:

1- برج الحشاش: قرب القلعة عند مدخل المرفأ، وقد اندثر معها سنة 1291هـ/1874م.

2- برج الفنار وبرج السلسلة: كانا عند مدخل مرفأ بيروت. ويقوم برج الفنار على صخرة منفردة فوقها فنار. أما برج السلسلة فتسميه العامة برج الميناء، وكان يتصل باليابسة برصيف هدمته عاصفة هوجاء سنة 1266هـ/1849م. وقد هُدم البرجان سنة 1308هـ/1890م.

3- البرج الصغير: أقامه تنكز نائب الشام، ويُعرف ببرج البعلبكية نسبة إلى الجنود الذين يأتون أبدالاً كل سنة من بعلبك، للدفاع عن السواحل فيحِلّون به.

4- البرج الكبير: بناه السلطان الظاهر برقوق، وقد تهدّم سنة 1291هـ/1874م، وقامت مكانه السراي الصغيرة سنة 1302هـ/1884م.

5- برج الكشاف: بناه الأمير فخر الدين في إحدى زوايا بستانه، وهو برج عال ارتفاعه ستون قدماً، كان حصيناً جداً ومهمته كشف قوات العدو ومراقبة سفنه الآتية من البحر. وقد تهدّم بقنابل الأسطول الإنكليزي سنة 1256هـ/1840م، وبقيت جدرانه حتى أُزيلت سنة 1291هـ/1874م.

6- برج الأمير جمال الدين: بُني في زمن فخر الدين أيضاً، وهو برج رفيع يسيطر على جميع المدينة.

7- برج الأمير دندن: بُني في زمن الأمير فخر الدين أيضاً، ويقع في طريق الشام. وقد زال هذا البرج بعد سنة 1247هـ/1831م.

8- برج الحديد: يقع على ربوة ارتفاعها 31 متراً، في محلة باب يعقوب.

9- برج الغلغول: وهو من أقوى الأبراج التي تدافع عن جنوبي بيروت. (عرفت منطقته باللعازارية فيما بعد).

10- برج القشلة: بناه شخص يدعى كشلي، وبعد هدمه بُنيت مكانه ثكنة الجند «القشلة» سنة 1270هـ/1853م.

11- برج أبي حيدر: كان يسمى برج أبي هدير؛ لأنه كان يسمع فيه صوت خفيف بسبب علوه ونفوذ الرياح إليه.

12- برج العريس: غرب البسطة التحتا، وقيل إنّه كان يتصل بمغارة نافذة إلى المحلة التي عرفت بالمزرعة.

13- برج بيهم: بناه الحاج حسين بيهم في منزله بمحلة المصيطبة.

14- برج الحصن: في محلة ميناء الحصن.

15- برج شعبان: قرب عين المريسة.

16- برج البوّاب: على شاطئ رأس بيروت.

17- برج شاتيلا: جنوب غربي منارة بيروت، وقد شاهده الرحالة الفرنسي دارفيو سنة 1071هـ/1660م.

18- برج سيّور: هُدم سنة 1270هـ/1853م.

وكان الحراس يحيطون بالأبراج، وعند الشعور بالخطر يضرمون النار على قمة أحد الأبراج، فتسرع حامية القلعة للدفاع عن المدينة.

وأما الآثار داخل المدينة فكانت بيروت تضم عدداً من المباني الأثرية من أهمها:

1- الجامع العمري الكبير [ر]: أكبر الجوامع الموجودة في باطن بيروت، وقد عرف أيضاً باسم جامع فتوح الإسلام واسم جامع النبي يحيى، ويذكر أن هذا الجامع حُوِّل في عهد الصليبيِّين إلى كنيسة بعد هدمه، ثم قام السلطان صلاح الدين بتحويل الكنيسة إلى مسجد. ولما أعاد الصليبيُّون احتلاله سنة 593هـ/1197م حولوه إلى كاتدرائية، ثم استعاده المسلمون ثانية في عهد الأمير سنجر مولى الملك الأشرف خليل بن السلطان محمد قلاوون المملوكي سنة 764هـ/1362م، وأضافوا إلى المبنى عناصر معمارية كالمئذنة والمحراب والمنبر وبركة الميضأة لتحقق وظيفة الجامع.

2- جامع الأمير منصور عساف التركماني [ر]، ويسمى جامع السراي لأنه أقيم بجوار سراي الأمير المذكور مقابل القصر البلدي لبيروت؛ فإن أقدم وصف له هو ما قدمه الرحالة عبد الغني النابلسي سنة 1112هـ/1700م حين ذكر «بأن المسجد كان له بابان، وأن فناءه احتوى على بركة للمياه، وأن به قبة رئيسية يحيط بها أربع قباب وأربع قبوات...»

جامع الأمير منصور عساف

3-جامع الأمير منذر التنوخي [ر]: الذي يقع في قلب العاصمة بيروت، بالوسط التجاري بالقرب من المنطقة المعروفة باسم باب إدريس. قام بإنشاء هذا الجامع الأمير منذر بن سليمان التنوخي سنة 1029هـ/1620م في العصر العثماني. عُرف المسجد باسم مسجد النوفرة لوجود بركة ماء احتوت في وسطها على نوفرة، وقد أقام الأمير منذر فيه سكناً شتوياً له- يتكون من طابقين- ملاصقاً للحائط الشرقي للمسجد. وينقسم المبنى إلى جزأين: الحرم والصحن المحاط برواق من جميع الاتجاهات.

4- المقاهي: وهي كثيرة في بيروت وتطلّ مباشرة على الشوارع كمقاهي الأستانة. وكان المقهى يتألف من غرفة مظلمة رديئة البلاط، تنتصب حولها مقاعد من الحجارة مفروشة بحصير، وكان يجلس عليها الروّاد داخل المقهى، وعلى الطريق العام. وأشهر مقاهي بيروت: مقهى عربي في محلة السور.

أحد مقاهي بيروت

5- الحمامات: كان في بيروت حمامات عدة، أشهرها: الحمام الكبير الذي يقع قرب السراي القديمة، وكذلك حمام السفير، وحمام الدركاه وهو حمام تركي عند باب الدركاه يسمى حمام زهرة سورية الجديدة.

ضواحي بيروت:

كانت ضواحي بيروت تمتد خارج الأسوار، ولا تتجاوز غابة الصنوبر (حرج بيروت) جنوباً أو نهر بيروت شمالاً. وكانت الطرق خارج بيروت تتفرع من أبوابها باتجاهات مختلفة، وهي ممرات رملية ضيقة مسيجة بالصبّار، أشهر الأثمار التقليدية وقتها. وكانت وسائل النقل هي المشي والخيل والدواب. وكانت بساتين التوت تحيط ببيروت، وتمتد حولها، وبينها كروم العنب والتين والزيتون وشجر الجميز والزلزلخت، وأكثر هذه البساتين محاطة بسياج من الصبّار.

وقد أُقيمت المقابر في الضواحي خارج سور بيروت، وأشهرها مقبرة الخارجة الإسلامية التي تقع في شمال شرقي المدينة، جنوب القلعة، وتُشاهد عند الخروج من بابي الدباغة والسراي. أما مقبرة السنطية الإسلامية فكانت تقع في شمال غربي المدينة بالقرب من باب السنطية، ثم مقبرة الباشورة في جنوبي المدينة.

وكانت الإقامة خطرة جداً خارج سور بيروت لصعوبة توفير الأمان للسكان، وكانت أولى المنازل التي بنيت خارج السور نحو سنة 1216هـ/1801م، وهي أكواخ صغيرة استخدمت لإيواء دودة القز.

إن أهم ما تتميز به آثار بيروت الإسلامية خارج أسوارها هو مسجد الإمام الأوزاعي ومقامه[ر] الذي ولد في بعلبك وسكن بيروت وتوفي فيها ودفن في قبلة المصلى الذي كان مسجداً لقرية حنتوس التي كانت قرية قديمة دُرِست وانمحت آثارها، ونشأت مكانها ضاحية تعرف اليوم باسم محلة الأوزاعي. وهذا المبنى الأثري مؤلف من جزأين: أصلي قديم (مسجد الأوزاعي وتربته)، وفي الجهة الشرقية (مصلى آل الرفاعي وتربتهم).

وبعد جلاء الجيش المصري سنة 1256هـ/1840م بدأت بيروت تمتد خارج أبوابها، نحو نهر بيروت شرقاً ثم نحو الغرب والجنوب. وامتدت الشوارع الجديدة إلى الضواحي، بعد أن أُصلحت وفُرشت بالحصى واعتُني بها، وملأت المساكن الجديدة الحدائق وبساتين التوت الواقعة على التلال في الجنوب والجنوب الشرقي. وبذلك عُمّرت أحياءٌ جديدة، كانت تُعد من ضواحي بيروت، فأصبحت ضمن حدودها الجديدة، مثل المصيطبة وزقاق البلاط ومار متر والأشرفية والمدوّر. أما الأحياء التي عُمّرت على بُعد كيلومتر أو أكثر فعدّت الضواحي الجديدة لبيروت، وكان حي زقاق البلاط من أبرز الأحياء الجديدة التي امتازت بطابعها الأرستقراطي (الثري).

حديقة الصنائع

وبعد ذلك شُيّد ضريح قبر الوالي وحوض ماء في منطقة الباشورة، ومن هنا تسمية المنطقة المجاورة بـ حوض الولاية. وبُني مستشفى قلب يسوع سنة 1279هـ/1862م شمال مقبرة الباشورة وسُمِّي المستشفى الفرنسي، وأُضيفت إليه أبنية حديثة إلى جهة الجنوب الغربي؛ مما أدّى إلى قيام منطقة البسطة التي تمتد على طول الربوة المواجهة للأشرفية. وفي قمة هذه الربوة تقع منطقة برج أبي حيدر أو برج أبي هدير، (نسبة إلى البرج الذي كان يوجد فيها)، ويجاورها منطقة المصيطبة التي كانت مصطبة عمّرها بيدر الخوارزمي لبناء السفن. كما كانت مصيفاً للسلاطين والأمراء الذين اختاروها لارتفاعها واعتدال هوائها، وتكرر مجيئهم إليها حتى عُرفت بمنزلة السلاطين. ثم بني فيها جامع سنة 1302هـ/1884م في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، عُرف بجامع المصيطبة [ر] الذي وصفه محيي الدين الخياط عند إتمام بنائه فقال: «هو جامع عال، حسن، واقع في أعلى مواقع بيروت وأنقاها هواءً، وأجودها مناخاً وهي المصيطبة... سقفه على شكل قبة شبه مربعة قائمة على عشر دعامات حجرية... ويبلغ طول صحنه 30م في عرض 8م وله صُفّتان شرقية وغربية... وله مئذنة شاهقة مستديرة...».

وأُنشئ جامع المجيدية عند ميناء الخشب سنة 1257هـ/1841م، وجامع الحميدية عند القلعة القديمة سنة 1260هـ/1844م، وجامع الباشورة والبسطة التحتا سنة 1282هـ/1865م.

قبر الوالي في جبانة الباشورة
جامع المجيدية من الداخل

كذلك شُيدت القصور الفخمة للأسر الغنية، كآل سرسق وبسترس وفرعون وملحمة والمدوّر من سنة 1256هـ/1840م حتى سنة 1288هـ/1871م. وشُيّدت الفنادق منذ سنة 1259هـ/1843م. وشُيّدت كاتدرائية مار إلياس للروم الكاثوليك قرب السرايا القديمة شرقي بيروت سنة 1262هـ/1846م. وبُني خان أنطون بك نجار سنة 1277هـ/1860م. وشُيّدت المنارة بارتفاع 38م سنة 1280هـ/1863م.

قصر بسترس
منارة بيروت القديمة

وعُبّدت طريق بيروت – دمشق سنة 1280هـ/1863م، وافتُتحت الجامعة الأمريكية (الكلية السورية الإنجيلية) سنة 1283هـ/1866م، ومُدّت أنابيب مياه الشرب من نهر الكلب إلى بيروت سنة 1292ه/1875م. وأُسّست جامعة القديس يوسف (المدرسة اليسوعية) سنة 1292هـ/1875م.

الجامعة الأمريكية
الجامعة اليسوعية

إنشاء ولاية بيروت وتحديث المدينة (1306هـ/1888م):

برّرت الدولة العثمانية إنشاء ولاية بيروت بأنه نتيجة ازدياد أهمية مدينة بيروت وحساسيتها، وكذلك للوقوف في وجه النفوذ الأجنبي والتقليل من شأنه وأسبابه، إضافة إلى اتساع ولاية سورية واتخاذ ولاتها مدينة دمشق مركزاً لهم، وهو الأمر الذي جعل بيروت في وضع دون أهمية دمشق، لذلك استدعت الضرورة السرعة في جعل بيروت ولاية، بعد فصلها عن ولاية سورية.

بيروت في العهد العثماني

وبمقتضى هذا التنظيم الإداري الجديد استمرت بلاد الشام (سورية) حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1337هـ/1918م، منقسمة إلى ثلاث ولايات؛ هي دمشق وحلب وبيروت، وثلاث متصرفيات؛ هي جبل لبنان والقدس ودير الزور.

وقد أحبّ السلطان عبد الحميد الثاني (1293هـ/1876م- 1326هـ/1909م) بلاد الشام وعمل على تطوير عواصمها، وحوّل بيروت العتيقة إلى مدينة حضارية، مُعيداً تخطيطها ومُوسّعاً شوارعها، ومُنشئاً فيها الأسواق المتنوعة لمختلف الحرف والسلع؛ كسوق الجوهرجية واللحامين وسوق الخضراوات، وأسواق أياس والطويلة وسيّور وسرسق والجميل والبازركان وأبي النصر والنورية والفرنج. وشيّد فيها المطاحن والمعاصر والمعامل والمصانع والخانات التجارية؛ كخان البربير والشونة وفخري بك والحرير والصغير والبيض والنورية. وأنشأ الشركة العثمانية لمرفأ بيروت سنة 1306هـ/1888م، وافتتح سكة حديد بيروت- دمشق سنة 1313هـ/1895م إضافة إلى سكة حديد الحجاز، وأصدر نظام الهاتف العثماني، وشيّد القشلة (الثكنة) والمستشفى العسكري، وبرج الساعة الحميدية سنة 1315هـ/1897م على تلة مشرفة عليها. كما كان قد شيّد السراي الصغير في شمالي ساحة البرج سنة 1302هـ/1884م، وسيّر الترامواي الكهربائي فيها سنة 1316هـ/1898م.

مخطط تقريبي لسور بيروت العتيقة
برج الساعة عند السرايا الحكومية

وفي سنة 1318هـ/1900م افتتح محطة الركاب البحرية في مرفئها وبني سبيل الحميدية في ساحة سورها وافتتح مخازن أوروزدي بك في وسطها، وبنى البنك العثماني إلى جانب مرفئها سنة 1324هـ/1906م، وأنشأ مدرسة ومستشفى وحديقة الصنائع سنة 1325هـ/1907م.

 
  المرفأ

وشجّع بناء المساجد كمسجد الأشرفية وعثمان ذي النورين والمصيطبة وعين المريسة ورمل الزيدانية وزقاق البلاط والبسطة الفوقا وقصر الصنوبر والحرج وبرج أبي حيدر والمنارة والقنطاري وقريطم بدءاً من سنة 1296هـ/1879م حتى سنة 1326هـ/1909م. وكذلك بناء الزوايا؛ كزاوية القصار وأبي النصر وسوق البياطرة والقطن والهال والمجيدية وباب الدركاه وباب المصلى والجمرك والشهداء. وسهّل تشييد الكنائس ككنيسة القديس يوسف سنة 1296هـ/1879م وكنيسة المخلّص والمسكوبية، ودير الفرنسيسكان والكبوشيِّين، وكاتدرائية مارجرجس المارونية سنة 1306هـ/1888م.

جامع عين المريسة
 
كنيسة مار جرجس المارونية

وفي نهاية القرن 13هـ/19م أصبحت بيروت بلا مُنازع؛ أكثر أجزاء السلطنة العثمانية تقدماً، وأصبح المجتمع البيروتي في طليعة مجتمعات الولايات العثمانية. ويوضح الرحالة محمد بيرم التونسي الذي زار بيروت سنة 1298هـ/1880؛ الألفة والمحبة بين أهالي بيروت الذين وإن كانوا قسمين: مسلمين ونصارى؛ لكنهم جميعاً في غاية الألفة بعضهم مع بعض، وعوائدهم جميعاً واحدة حتى في محاسن أخلاقهم.

زكريا كبريت، جمال كبريت

مراجع للاستزادة:

- صالح بن يحيى، تاريخ بيروت (دار الفكر الحديث، بيروت 1990م).  

- حسان حلاق، بيروت المحروسة في العهد العثماني (الدار الجامعية، بيروت 1987م).

- عصام شبارو، تاريخ بيروت (دار مصباح الفكر، بيروت 1987م).

- لويس شيخو، بيروت تاريخها وآثارها (دار المشرق، بيروت 1993م).

- طه الولي، تاريخ المساجد والجوامع الشريفة (دار الكتب، بيروت 1973م).

 


التصنيف : آثار إسلامية
المجلد: المجلد الثالث
رقم الصفحة ضمن المجلد :
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1087
الكل : 40599397
اليوم : 129212