logo

logo

logo

logo

logo

القاعدة القانونية

قاعده قانونيه

legal rule - règle juridique

 القاعدة القانونية

القاعدة القانونية

أيمن أبو العيال

مفهوم القاعدة القانونية

أنواع القواعد القانونية

 

أولاً ـ مفهوم القاعدة القانونية:

تعريف القاعدة وأصنافها:

القاعدة أياً كانت هي علاقة مطردة بين ظاهرتين، الظاهرة الأولى تسمى فرضاً، والظاهرة الثانية تسمى حكماً، فكلما وقع الفرض نتج الحكم باطراد. والقواعد تنقسم إلى طائفتين؛ الطائفة الأولى تقرر الواقع كما هو، أي تصف ما هو كائن، كالقاعدة التي تبين العلاقة بين درجة حرارة الماء وغليانه، فالفرض فيها ارتفاع درجة حرارة الماء حتى المئة، والحكم أنه يغلي، فهذه تصف ما هو كائن، ومثلها قاعدة الجاذبية الأرضية. وأما الطائفة الثانية فهي لا تكشف ما هو كائن في الواقع من علاقات بين ظواهر الطبيعة، بل تبين ما يجب أن يحدث إذا حدثت ظاهرة معيّنة، ويمكن ألا يحدث. فالقاعدة التي تبين أنه إذا تملك شخص شيئاً فيجب على من سواه أن يمتنع عن سرقته، والقاعدة التي تبين أنه إذا اشترى شخص شيئاً فيجب أن يدفع ثمنه للبائع، مثل هذه القواعد لا تصف ما هو كائن عملاً، بل تبين ما يجب أن يكون وأن يحدث؛ بدليل أنه كثيراً ما تقع سرقات لأموال الآخرين، وكثيراً ما يمتنع المشترون عن دفع ثمن ما اشتروه…إلخ.

والقاعدة القانونية تدخل في الطائفة الثانية من القواعد، شأنها في ذلك شأن غيرها من القواعد الاجتماعية، والتي تسمى بقواعد السلوك، أو توصف بأنها قواعد تقويمية في مقابل تسمية قواعد الطائفة الأولى بالقواعد التقريرية.

والصياغة النموذجية للقاعدة القانونية أن تبدأ ظاهرة الفرض بأداة من أدوات الشرط مثل «إذا» وأن تبدأ ظاهرة الحكم بعبارة «وجب» كالقاعدة التي تنص عليها (المادة 345/1) من القانون المدني السوري من أنه «إذا كان محل الالتزام شيئاً معيناً بالذات وجب تسليمه في المكان الذي كان موجوداً فيه وقت نشوء الالتزام… إلخ».

ولكن لا يشترط أن ترد صياغة القاعدة القانونية بهذه الصيغة دائماً، وإنما يمكن أن تصاغ بأساليب أخرى، كالقاعدة القانونية التي تنص عليها (المادة 396) من القانون المدني السوري من أنه «يلتزم البائع أن يقوم بما هو ضروري لنقل الحق المبيع إلى المشتري… إلخ» فهي تعني أنه إذا باع شخص لآخر شيئاً وجب على البائع أن يقوم بما هو ضروري لنقل المبيع إلى المشتري.

وقد يكون الفرض في القاعدة القانونية محض واقعة مادية يكفي للتحقق منها المشاهدة كالقاعدة التي تنص عليها (المادة 31/1) من القانون المدني السوري من أنه «تبدأ شخصية الإنسان بتمام ولادته حياً… إلخ». فهي تعني أنه إذا «ولد الإنسان بتمامه حياً وهذا هو الفرض؛ وجب عده شخصاً» وهذا هو الحكم. وقد تكون ظاهرة الفرض عبارة عن مركز قانوني لا يمكن التثبت من وجوده إلا بتطبيق قاعدة قانونية أو قواعد قانونية أخرى، كالقاعدة القانونية التي تقرر أن لمالك الشيء وحده في حدود القانون حق استعماله واستغلاله والتصرف فيه المادة (768 مدني سوري).

فالفرض في هذه القاعدة هو «إذا وجد مالك»، والحكم فيها هو «وجب أن يكون له وحده حق استعمال الشيء المملوك واستغلاله والتصرف فيه». فلا يمكن التثبت من أن شخصاً ما يعدّ مالكاً للشيء أم لا؛ إلا بالرجوع إلى قواعد قانونية أخرى تبين متى يعدّ الشخص مالكاً.

وقد يكون الفرض في القاعدة القانونية خليطاً من واقعة مادية ومركز قانوني.مثل القاعدة القانونية التي تنص عليها (المادة 168) من القانون المدني السوري من أنه «لا يكون الموظف العام مسؤولاً عن عمله الذي أضر بالغير… إلخ» فالفرض هنا مكون من واقعة مادية هي الفعل الضار ومن مركز قانوني هو أن يكون الفاعل موظفاً عاماً.

تعريف القاعدة القانونية وخصائصها:

القاعدة القانونية خطاب ملزم موجه للأشخاص في صيغة مجردة.

من هذا التعريف تتضح خصائص القاعدة القانونية، وهي:

أ ـ القاعدة القانونية خطاب موجه للأشخاص: يقصد بأن القاعدة القانونية خطاب موجه للأشخاص أنها تتضمن حكماً تقويمياً سلوكياً على وجه الاقتضاء أو التخيير أو الوضع. إن الحكم في القاعدة القانونية هو الأثر الذي يجب أن يحدث إذا وقع الفرض. وقد يكون حكم القاعدة القانونية مقصوداً لذاته، وسواء أكان حكم القاعدة يتضمن اقتضاء، أي يفيد وجوب القيام بعمل معيّن كالقاعدة التي توجب على الزوج أن ينفق على زوجته، أم يفيد التحريم والنهي عن القيام بعمل، وهذا هو شأن قواعد قانون العقوبات التي تحرم ارتكاب الجرائم. وقد يفيد الإباحة والتخيير بين الفعل والترك، ويتم التعبير عن الإباحة في الغالب بعبارة يجوز كالقاعدة التي تنص عليها (المادة 250 مدني سوري) مثلاً من أنه «يجوز أن يشهر إعسار المدين إذا كانت أمواله لا تكفي لوفاء ديونه المستحقة الأداء».

وقد لا يكون حكم القاعدة القانونية مقصوداً لذاته، وإنما لتيسير التعبير عن قاعدة قانونية أخرى وفهمها. وهذا هو شأن كل قاعدة قانونية تقتصر على بيان المعنى الاصطلاحي للفظ معيّن كالقواعد القانونية التي تبين معنى البيع وغيره من العقود المسماة، وكالتي تبين معنى الرشد والتمييز مثلاً. فالأحكام في مثل هذه القواعد ليست مقصودة لذاتها، إنما لتحديد معنى هذه العبارات عندما ترد في قواعد قانونية أخرى.

ويعبر علماء أصول الفقه الإسلامي عما تقدم بالحكم الشرعي وأقسامه وأنه خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الاقتضاء أو التخيير أو الوضع، فالاقتضاء يعني اقتضاء الفعل على سبيل الوجوب أو الندب أو الاقتضاء على سبيل التحريم أو الكراهة، وأما التخيير فيعني الإباحة، وأما الوضع فهو جعل الشارع الشيء سبباً لشيء آخر أو شرطاً له أو مانعاً منه. فالعقد سبب للملك، والأهلية شرط لنفاذ العقد أو لصحته، واختلاف الدين مانع من الميراث.

ب ـ القاعدة القانونية مجردة وعامة: يعني تجريد القاعدة القانونية أن ظاهرة الفرض فيها لا تتعلق بشخص بذاته، أو بواقعة أو حادثة بعينها، إنما يتعلق الفرض بشخص أو أشخاص محددين بأوصافهم لا بذواتهم، أو يتعلق بواقعة أو حادثة تحدد بأوصافها وشروطها لا بذاتها.

فالقاعدة التي يقررها نص (المادة 164 مدني سوري) من أن كل خطأ سبب ضرراً للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض، لا تتعلق بواقعة خطأ معيّنة بذاتها، بل بأي فعل ينطبق عليه وصف الخطأ أو عدم المشروعية. والقاعدة التي تقرر إحالة العامل في الدولة على سن التقاعد عند بلوغ الستين من العمر لا تتعلق بموظف بعينه، بل بكل شخص تتوافر فيه شروط هذه القاعدة، وهو أن يكون من العاملين في الدولة وأن تبلغ سنه الستين.

ولا يقتضي تجريد القاعدة القانونية أن تتعلق بعدد من الأشخاص، بل يمكن أن تتعلق بشخص واحد مادام هذا الشخص غير محدد بذاته، إنما بالأوصاف، فالقواعد التي تنظم حقوق رئيس الجمهورية أو رئيس محكمة النقض أو رئيس الجامعة وواجباتهم وسلطاتهم، هي تتعلق بشخص واحد ولكن هذا الشخص ليس الرئيس الفلاني بالذات، بل أي شخص يمكن أن يشغل منصباً أو وظيفة من هذه الوظائف.

ويعبر بعضهم عن هذه الخاصية بالعموم، فيقولون: إن القاعدة القانونية ينبغي أن تكون عامة. ولا يفضل آخرون استعمال هذه العبارة للتعبير عن هذه الخاصية من خصائص القاعدة القانونية لسببين؛ الأول: أن العموم هو نتيجة لازمة للتجريد ولا يظهر إلا عند تطبيق القاعدة القانونية. والثاني: أن تعبير العموم قد يثير اللبس وقد يفهم منه أن هذه القاعدة لا يوجد عليها استثناء، مع أنه ليس هذا هو المقصود من وصف القاعدة القانونية بالعموم. فالقاعدة تبقى قاعدة قانونية؛ لأنها مجردة أو عامة كما يصفها بعضهم ولو أنه يوجد استثناء عليها.

فالقاعدة التي تقرر سريان الفوائد القانونية من تاريخ المطالبة القضائية، هي قاعدة قانونية؛ لأنها مجردة بالمعنى المتقدم للتجريد؛ ولو أنه يوجد استثناء عليها بقواعد قانونية أخرى تقرر سريان الفوائد القانونية من وقت سابق للمطالبة القضائية، كالقاعدة التي تقرر سريان الفوائد على ما يستحقه الفضولي والوكيل تجاه رب العمل أو الموكل مما أنفقه في سبيل تنفيذ الفضالة أو الوكالة. فهذه القواعد هي قانونية؛ لأنها تتصف بالتجريد بالمعنى المتقدم رغم أنها ليست عامة، بل تشكل استثناء من القاعدة العامة المنوه بها.

ج ـ القاعدة القانونية ملزمة: تبين أن القاعدة القانونية خطاب، وتبين أن معنى الخطاب أن القاعدة القانونية ليست محض نصيحة أو توصية يحسن بالأشخاص أن يتبعوها. بل هي تنظم سلوك الأشخاص في المجتمع، وتوجهه مباشرة كالقواعد التي توجب أداء الضرائب، والخدمة العسكرية، وتحرم ارتكاب الجرائم، وتوجب على كل مدين أن يوفي الدين الذي يشغل ذمته إلى غير ذلك من القواعد القانونية التي تتضمن أمراً أو نهياً أو تخييراً. كما يمكن أن توجه السلوك وتنظمه بطريقة غير مباشرة كالقواعد التي تحدد المعاني الاصطلاحية القانونية لبعض الألفاظ، أو التي تنظم المحاكم، وتحدد اختصاصاتها، فهي توجه سلوك الأفراد بطريقة غير مباشرة، فحتى لا يخسر المدعي دعواه عليه أن يراعي عند رفع الدعوى المحكمة المختصة التي تحددها القاعدة القانونية.

فما دامت القاعدة القانونية هي قاعدة تقويم أو قاعدة سلوك؛ فلا يمكن لها أن تحقق غايتها إلا إذا كان الأشخاص المخاطبون بأحكامها يشعرون بأنها واجبة الاتباع والاحترام.

فمعنى الإلزام في القاعدة القانونية، هو شعور الأشخاص المخاطبين بأن القاعدة واجبة الاتباع، ولن يتحقق هذا الشعور إلا إذا كانت الجماعة تمتلك من الوسائل المادية ما يؤمن احترام القاعدة القانونية، وفي مقدمة هذه الوسائل أن تضع الجماعة جزاءً منظماً يتم إيقاعه على من يخالف القاعدة القانونية ويخرقها.

ومعنى كون الجزاء منظماً أن يكون محدداً مسبّقاً في مضمونه وفي إجراءات إيقاعه، وأن تكون هناك سلطة عليا في الجماعة يدين لها الجميع بالخضوع تتولى هي إيقاعه بما تتمتع به من سلطة عامة. ولكن هذا الأمر لم يسلم به علماء القانون جميعهم، فبعضهم يرى أن اتصاف القواعد بالقانونية لا يستلزم وجود جزاءٍ أصلاً، ولئن استلزم ذلك وجود جزاءٍ عند بعضهم؛ فلا يلزم أن يكون منظماً عند بعضهم الآخر، بمعنى أن اتصاف القواعد بالقانونية عند هؤلاء لا يستلزم أن يكون هناك سلطة عليا قادرة على إيقاع الجزاء. ويستدل الأولون على وجهة نظرهم بقواعد القانون الدستوري، فهي عندهم لا تقترن بجزاء، ولم يخل ذلك بكونها قواعد قانونية، كما يستدل الآخرون بقواعد القانون الدولي وحيث لا توجد سلطة عليا فوق أعضاء المجتمع الدولي قادرة على فرض احترام قواعد هذا القانون بالقوة عند اللزوم، ومع ذلك فقواعد القانون الدولي عندهم هي قواعد قانونية بالمعنى الدقيق.

والحقيقة أن العنصر الجوهري لوجود القاعدة القانونية هو الإلزام أي شعور الجماعة بوجوب احترام القاعدة واتباعها، ويعدّ الجزاء إحدى أهم الوسائل التي تكفل احترام القاعدة، وإن لم يكن الجزاء عنصراً داخلاً في تكوينها؛ فإنه يعدّ شرطاً لازماً لوجودها؛ لأن وجود الجزاء هو الذي يسفر عن إرادة الجماعة بوجوب احترام القاعدة.

أما بالنسبة إلى حجة المعارضين المتمثلة بقواعد القانون الدستوري؛ فإن الرد عليها بسيط، وهو أن نظام الحكم في الدول الحديثة يقوم على مبدأ توزيع السلطات وفصلها، فهناك سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية وثالثة قضائية، ويظهر الجزاء عند توزيع السلطات وفصلها على هذا النحو في الرقابة المتبادلة لكل سلطة على السلطة الأخرى تختلف حدودها وتنظيمها من دولة إلى أخرى بحسب نظام الحكم فيها. فيكون للسلطة التنفيذية مثلاً أن تحل البرلمان الذي يتولى السلطة التشريعية، ويكون للمحاكم (السلطة القضائية) سلطة إلغاء القوانين المخالفة للدستور أو على الأقل لها الحق في أن تمتنع عن تطبيقها، والنظر في تظلم الأشخاص من تصرفات السلطة الإدارية والحكم عليها بالتعويض عند اللزوم، فهذه الرقابة المتبادلة شكل من أشكال الجزاء الذي يضمن نفاذ قواعد القانون الدستوري.

وفي حال تصور تواطؤ هذه السلطات كلها على مخالفة قواعد القانون الدستوري، فإن الجماعة نفسها تمارس إيقاع الجزاء بالضغط على هذه السلطات لاحترام قواعد الدستور بالوسائل السلمية، وعندما لا تفلح هذه الوسائل فإن الأمر سيتطور إلى ثورة المجتمع على الهيئات الحاكمة، حيث تسود الفوضى فترة من الزمن إلى أن يعود المجتمع إلى حالته الطبيعية التي تعبر فيها الهئيات الحاكمة عن إرادته المتمثلة في قواعد القانون الدستوري.

وأما بالنسبة إلى الحجة الخاصة بقواعد القانون الدولي العام فإن فريقاً من العلماء لا يزالون ينكرون الصفة القانونية بالنسبة إلى قواعد القانون الدولي العام؛ وذلك نظراً إلى عدم وجود سلطة أو سلطات عليا فوق الدول تتولى توقيع جزاء على من يخالف هذه القواعد وعلى قدم المساواة.

أما حجة القائلين: إن قواعد القانون الدولي العام هي قواعد قانونية بالمعنى الدقيق فهي أنه لا يلزم حتى تتصف القاعدة بالقانونية أن تكون مؤيدة بجزاء، حتى لو تم التسليم بضرورة اقترانها بجزاء فلا يلزم أن يكون هذا الجزاء منظماً توقعه سلطة عامة مختصة؛ لأن طريقة إيقاع الجزاء مسألة تتصل بمدى ما بلغه التنظيم القانوني من ضبط وإحكام لا بوجود القاعدة القانونية ذاتها، وأن في قواعد القانون الدولي العام صوراً أخرى من إيقاع الجزاءات كتوجيه اللوم إلى من يخالف القاعدة، أو إعلان بطلان المعاهدة أو فسخها، والمعاملة بالمثل، وإعلان الحرب.

والحقيقة أنه مهما قيل في وصف قواعد القانون الدولي العام: إنها قانونية؛ فإن الواقع يكذب ذلك، وأن توجيه اللوم لمن يخالف القاعدة من أعضاء المجتمع الدولي يجعل من هذه القواعد محض قواعد مجاملات وآداب أخلاقية، وأما المعاملة بالمثل وفسخ المعاهدة عندما يخل الطرف الآخر بها، فيخل أساساً بدور القاعدة القانونية والغرض منها، وهو تحقيق النظام في المجتمع.

فقواعد القانون الدولي العام ما لم يبلغ المجتمع الدولي من التنظيم ما بلغه المجتمع الداخلي لا يمكن أن تكون قواعد قانونية بالمعنى الاصطلاحي الدقيق، فوجود الجزاء المنظم الذي يتم إيقاعه من سلطة عليا شرط لاتصاف القاعدة بالقانونية.

والجزاء المؤيد للقواعد القانونية قد يكون عقابياً كالغرامة والسجن والحبس والاعتقال… إلخ. وقد يكون مدنياً كبطلان التصرف القانوني وفسخ العقد الملزم للجانبين، والتنفيذ العيني الجبري، والمسؤولية المدنية بالتعويض النقدي، أو بالتعويض العيني المتمثل بإعادة الحال إلى ما كانت عليه كهدم الحائط الذي يشيده الشخص، ويحجب النور عن أرض جاره، وكان الذي بناه متعسفاً في استعمال حقه… إلخ.

وإن اقتران القاعدة بالجزاء المادي المنظم هو الذي يميز القواعد القانونية من القواعد الاجتماعية الأخرى،كقواعد الأخلاق وقواعد الدين.

2ـ القاعدة القانونية والقواعد الاجتماعية الأخرى:

أ ـ القاعدة القانونية والعادات والتقاليد: في كل جماعة توجد قواعد سلوك وتقويم يتفق الأشخاص على اتباعها بحيث تعدّ من عادات المجتمع وتقاليده، كواجب تقديم العزاء عن المصائب، وواجب تقديم التهنئة في المناسبات السعيدة، وكواجب إلقاء السلام والتحية، وما ينبغي أن يرتديه الأشخاص في بعض المناسبات، بحيث تصير هذه التقاليد أو العادات جزءاً من التنظيم الاجتماعي في هذا المجتمع أو ذلك.

وهذه العادات والتقاليد قابلة للتغيير بصورة تلقائية، مثلما تكتسب، وتكتسب قوتها بصورة تلقائية بسبب اعتياد الأشخاص على اتباعها في سلوكهم. فعندما يجد الأشخاص أن من هذه العادات ما ينافي العقل السليم والفطرة السليمة فإن الجماعة تبدأ تدريجياً بالعزوف عن اتباعها وتتبع غيرها.

والفارق الجوهري بين العادات وبين قواعد القانون هو فكرة الجزاء المنظم الذي تقترن به القاعدة القانونية، فإرادة الجماعة تفرض الخطاب الذي تنطوي عليه القاعدة القانونية، ويدل على هذه الإرادة الجزاء المادي الخارجي الذي توقعه الهيئات المختصة في الجماعة على من يخالف القاعدة، وإذا وصل شعور الجماعة بالنسبة إلى عادة من العادات أنها مستحبة ومن ثم واجبة الاحترام، وأنه خليق بالجماعة أن تلتزم بها، وأن من يخالفها يوقع عليه الجزاء المادي؛ فإنها تتحول إلى عرف، والعرف هو أحد مصادر القاعدة القانونية. وبالعكس لو وجدت الجماعة أن عادة من العادات هي بغيضة؛ فإن القاعدة ستأمر بالامتناع عنها تحت طائلة الجزاء، فتكون هذه القاعدة ـ وليست العادة ـ هي القاعدة القانونية بالمعنى الدقيق.

ب ـ القاعدة القانونية والقاعدة الأخلاقية: قواعد الأخلاق هي المثل العليا لما يجب أن يكون عليه سلوك الأشخاص، كواجب الإحسان للضعفاء والوفاء بالعهد والصدق في الأقوال وإغاثة الملهوف… إلخ.

وطبيعة الجزاء الذي تقترن به القاعدة هي التي تحدد كونها محض أخلاقية أم قانونية. فالجزاء في قواعد الأخلاق هو تأنيب الضمير وازدراء المجتمع واحتقاره لمن يخالفها، وأما الجزاء في القاعدة القانونية فهو ـ كما مرـ مادي توقعه الدولة جبراً عند اللزوم على من يخالف القاعدة.

ولا يعني ذلك أن دائرة قواعد الأخلاق منبتة الصلة بدائرة قواعد القانون، فكثير من قواعد القانون هي قواعد أخلاقية بالأساس، فتحريم الاعتداء على جسم الإنسان هي قيمة خلقية، وكذلك تحريم الاعتداء على الكيان المعنوي للإنسان كتحريم السب والقذف، والقوة الملزمة للعقد تستند إلى مبدأ خلقي هو واجب الوفاء بالعهد، والقاعدة التي تحرم الإثراء على حساب الغير من دون سبب هي بالأصل قاعدة خلقية. وإذا كانت قواعد القانون لا تحرم الكذب إلا إذا بلغ من الخطورة ما يهدد أمن المجتمع وسلامه ونظامه؛ فإنه يصير محرماً كتجريم شهادة الزور واليمين الزور والتزوير… إلخ. ولكن هل كل قواعد القانون هي قواعد أخلاقية.

الحقيقة أن هناك من قواعد القانون ما لا يعدّ بالأساس أخلاقياً، كقواعد القانون التي تنظم المرور واختصاص المحاكم… إلخ؛ اللهم إلا مع القول: إن احترام نظم الجماعة وقواعدها يعدّ في ذاته واجباً خلقياً، فتكون قواعد النظام أخلاقية كلها على هذا المعنى. ولكن السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هو أنه ما دامت كل من قواعد القانون وقواعد الأخلاق أمراً مرغوباً فيه؛ فلماذا لا تقترن كل قواعد الأخلاق بجزاء مادي منظم، فتدخل في دائرة القانون؟

والإجابة عن هذا التساؤل بسيطة، وتتمثل في فلسفة القاعدة القانونية وفلسفة القاعدة الأخلاقية.

فكل قاعدة ـ أ ياً كانت أخلاقية، أو دينية، أو قانونية ـ تحتمل المخالفة. وتعمل كل جماعة على حمل أفرادها على احترام أكبر قدر من قواعد السلوك لتحقيق أكبر قدر ممكن من النظام و المثالية في المجتمع، ولكن هذه المثالية تحتاج إلى وسائل مادية تكون كفيلة باحترام هذه القواعد جبراً عند اللزوم. والواقع المشاهد أن هذه الوسائل تقصر في كثير من الحالات عن ضمان احترام كل قواعد السلوك التي تتمثلها الجماعة، فتتخير الجماعة من هذه القواعد ما تراه لازماً لتحقيق الحد الأدنى من النظام الذي تحرص على ضرورة تحقيقه، وتتوجه بها إلى الأشخاص في صورة أوامر ملزمة، وهذه هي القواعد القانونية، وتترك الجماعة بعضاً من أهدافها لرقابة ضمير الشخص ذاته وضمير المجتمع.

فالقاعدة القانونية تضمن تحقيق الحد الأدنى من النظام الذي ترغب الجماعة في تحقيقه، والتي ترى أن ما تمتلكه من وسائل مادية يكفي لحمل الأفراد على احترامها، إن لم يكن بصفة مطلقة؛ لأن وجود الجزاء المنظم لم يمنع ولن يمنع بحال وقوع المخالفة للقاعدة القانونية؛ فبصفة نسبية، أي بالقدر الذي يحفظ لقوة الجماعة وإرادتها هيبتها تجاه الأشخاص، أي على الأقل أن تكون الجماعة قد هيأت الوسائل المادية اللازمة لفرض احترام القاعدة جبراً وبالقوة عند اللزوم.

فتطبيق الجزاء المادي ليس شرطاً لوجود القاعدة القانونية، فكثيراً ما تنتهك القاعدة القانونية ولا يتم إيقاع الجزاء، وعلى الرغم من ذلك لا يخل هذا بكونها قاعدة قانونية؛ لأن الشرط اقتران القاعدة بالجزاء، وليس إيقاعه فعلاً عند مخالفتها.

ج ـ القاعدة القانونية والقاعدة الدينية: قواعد الدين هي الأحكام التي يسود اعتقاد الجماعة أنها منزلة من عند الله، وفي الغالب تتطابق قواعد الأخلاق (المثل العليا) مع قواعد دين من الأديان، ولكن مهما تأصلت قواعد الدين في نفوس أفراد الجماعة؛ فلا يكفي ذلك لعدها قواعد قانونية، ولا تعدّ قواعد الدين من قواعد القانون إلا إذا فرضتها الجماعة، ووضعت لها جزاءً مادياً يوقع جبراً بالقوة على المخالفين عند اللزوم، وقد يكون هذا الجزاء الدنيوي من عند الله أيضاً.

وتختلف الجماعات بمقدار ما تدخل من قواعد الدين في دائرة القانون، ففي التنظيم القانوني في سورية تعدّ مبادئ الشريعة الإسلامية وقواعدها الكلية المصدر الثاني للقاعدة القانونية، فإذا لم يجد القاضي نصاً تشريعياً يطبقه على النزاع المطروح بلفظه أو بفحواه؛ فإنه يطبق عندئذٍ قواعد الشريعة الإسلامية ومبادئها العامة (المادة 1 مدني سوري).

كما أن قواعد الشريعة الإسلامية هي المصدر المادي لقانون الأحوال الشخصية في سورية، ففي قضايا الزواج والطلاق والوقف وآثارهما بالنسبة إلى المسلمين؛ وفي قضايا الأهلية والنيابة الشرعية والميراث والوصية بالنسبة إلى المسلمين وغير المسلمين، فإن أحكامها مستمدة من الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة.

وتمتاز قواعد النظام الحقوقي في الشريعة الإسلامية بأنها تقترن بنوعين من الجزاء: جزاء دنيوي مادي يوقعه ولي الأمر جبراً بالقوة عند اللزوم، وجزاء أخروي يتمثل في الثواب (الجنة) لمن يمتثل؛ وفي العقاب (النار) لمن يخالف، ما يضمن احترامها، ويكفله على نحو أقوى وأوفر إذا ما قورنت قواعد الدين بقواعد القانون التي لا تستند إلى أساس ديني.

ثانياً ـ أنواع القواعد القانونية:

تصنف قواعد القانون إلى عدة أنواع وفق معايير واعتبارات مختلفة، فمن حيث طبيعة الرابطة التي تنظمها القاعدة القانونية تصنف القواعد القانونية إلى قواعد عامة وقواعد خاصة. ومن حيث إمكانية تنظيم الروابط بأحكام مغايرة لأحكام القواعد القانونية تصنف القواعد القانونية إلى قواعد آمرة وقواعد تكميلية.

1ـ القواعد القانونية العامة والقواعد القانونية الخاصة:

القواعد القانونية العامة هي التي تنظم رابطة قانونية تكون الدولة طرفاً فيها بوصفها سلطة عامة ذات سيادة. وأما القواعد القانونية الخاصة فهي التي تنظم روابط بين أشخاص لا يعمل أحد منهم بصفته صاحب سيادة أو سلطان، سواء أكان أطراف هذه الرابطة أشخاصاً عاديين؛ أي لا يملكون سلطة عامة أو سيادة، أم كان أحدهم أو بعضهم ذا سلطة عامة وسيادة ولكن لم يدخل في الرابطة القانونية بهذه الصفة.

وتبرز أهمية التفرقة بين قواعد القانون العام وقواعد القانون الخاص في أن قواعد القانون العام تخول الدولة أو إحدى هيئاتها سلطات لا تخولها قواعد القانون الخاص. ونظراً إلى أن الدولة وهيئاتها العامة تتولى تسيير المرافق العامة، فحرية الموظفين العامّين أضيق من حرية العاملين عند أشخاص القانون الخاص. وقواعد نظرية العقد التي تبرمها الدولة أو إحدى هيئاتها لتسيير المرافق العامة تختلف عن نظيرتها في عقود القانون الخاص، المدنية أو التجارية، فالدولة تستطيع أن تفسخ العقد، وتعدل شروطه بإرادتها المنفردة إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك، والقواعد التي تنظم الملكية العامة تختلف عن القواعد التي تنظم الملكية الخاصة للأشخاص العاديين وهكذا.ويدخل تحت تصنيف قواعد القانون العام: قواعد القانون الدستوري، والقانون الإداري، والقانون المالي.

أ ـ قواعد القانون الدستوري: وهي مجموعة القواعد التي تحدد نظام الحكم في الدولة، وتبين السلطات العامة فيها واختصاص كل سلطة، وعلاقة هذه السلطات ببعضها، وتبين الحريات العامة للأفراد وحقوقهم تجاه الدولة.

ب ـ قواعد القانون الإداري: وهي مجموعة القواعد التي تنظم نشاط السلطة التنفيذية في مباشرة نوع من الأعمال التي تدخل في وظيفتها هي الأعمال الإدارية تمييزاً لها من الأعمال السيادية كإعلان الحرب وعقد المعاهدات والهدنة. وتبين قواعد القانون الإداري أشخاص القانون العام والهئيات التي تتولى السلطة الإدارية كرئيس الدولة والوزراء والإدارات الأخرى وعلاقاتها ببعض، وعلاقة كل منها بالموظفين الذين يباشرون العمل فيها، من حيث كيفية التعيين والترفيع والمسؤولية المسلكية، كما تنظم قواعد القانون الإداري الرقابة القضائية على أعمال السلطة الإدارية.

ج ـ قواعد القانون المالي: وهي تنظم مالية الدولة من حيث بيان مصادر إيراداتها وكيفية تحصيلها، ونفقاتها والوجوه التي تنفق فيها إيراداتها وكيفية إنفاقها كقواعد القانون الضريبي والموازنة العامة للدولة والقانون المالي الأساسي.

ويدخل تحت تصنيف قواعد القانون الخاص: قواعد القانون المدني، والقانون التجاري، وقانون العمل.

أ ـ قواعد القانون المدني: وهي التي تنظم العلاقات المالية الخاصة بالأشخاص، وتعدّ قواعده هي الأصل لكل قواعد القانون، ومنه تفرعت كل قواعد القانون الأخرى، حتى قواعد القانون العام قد ولدت في أحضان قواعد القانون المدني؛ لأن قواعده هي أول ما ظهرت من قواعد القانون. ولكن كلما تمايزت طائفة من الروابط بخصائص معيّنة استدعت تنظيمها بقواعد متميزة انفصلت عن قواعد القانون الأم؛ وهو القانون المدني، واستقلت بتصنيف متميز من قواعد القانون. فوظيفة الدولة في تسيير المرافق العامة كالصحة والتعليم والدفاع والأمن استدعت تنظيمها بقواعد متميزة من قواعد القانون المدني، ومن هنا ولدت قواعد القانون العام، وبدأت بالتمايز. وخصائص العلاقات التجارية وما تحتاج إليه من مرونة وسرعة وسهولة وثقة اقتضت تنظيمها بقواعد القانون التجاري، فانفصلت عن قواعد القانون المدني. والطابع الديني لروابط الأسرة اقتضت تنظيمها بقواعد قانونية دينية، فانفصل قانون الأحوال الشخصية عن قواعد القانون المدني. وطبيعة علاقات العمل وحماية الطرف الضعيف في هذه العلاقة ـ وهو العامل ـ اقتضى قواعد قانونية متميزة؛ فولدت قواعد قانون العمل، وهكذا…

 ويترتب على أبوة القانون المدني لقواعد القانون كافة أنه إذا لم توجد لمسألة من المسائل قاعدة في فرع من فروع قواعد القانون الأخرى؛ وجب على القاضي الرجوع في حكمها إلى ما يقرره القانون المدني. ولكن بالنسبة إلى روابط القانون العام يتعين على القاضي الإداري أن يحوّر القاعدة القانونية المدنية؛ لتلائم طبيعة روابط القانون العام، وكون الدولة أو إحدى هيئاتها طرفاً فيها، وتمتاز بكونها سلطة عامة تتولى تسيير مرافق عامة.

ب ـ قواعد القانون التجاري: وهي مجموعة قواعد تنظم العلاقات التجارية، فتبين ما يعدّ عملاً تجارياً ومن هو التاجر وما هي الشركات التجارية من حيث إجراءات تشكيلها وحلها وواجبات التجار وحقوقهم… إلخ، وتمتاز قواعده برعاية متطلبات الثقة والمرونة والسهولة والسرعة في العلاقات التجارية، ففي حين لا يجوز إثبات التصرفات القانونية المدنية إن زادت قيمتها على مبلغ معيّن (500ل.س في قانون البينات السوري) بالشهادة، ولا بد من دليل مكتوب لإثباتها من حيث المبدأ؛ فإنه يجوز إثبات المعاملات التجارية بوسائل الإثبات كافة بما فيها شهادة الشهود والقرائن القضائية مهما كانت قيمتها &http://arab-ency.com.sy/law/details/25759/6#64831;إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألا تَكْتُبُوهَا&http://arab-ency.com.sy/law/details/25759/6#64830; [البقرة 282].

 ج ـ قواعد قانون العقوبات: هي مجموعة القواعد التي تبين الأفعال التي تعدّ جرائم، وتحدد العقوبات التي توقع على مرتكبيها. والجرائم ثلاثة أنواع: جنايات وعقوباتها: الإعدام، الأشغال الشاقة المؤقتة أو المؤبدة، والسجن. وجنح وعقوباتها الحبس، والغرامة. والمخالفات وعقوباتها الحبس التكديري، والغرامة (المادة 37ـ42 عقوبات سوري).

وتصنف قواعد قانون العقوبات ـ بحسب الرأي السائد في سورية ومصر في طائفة القانون العام ـ على أساس أن الجريمة تمس المصلحة العامة للمجتمع، وأن السلطة العامة (النيابة العامة) هي التي تباشر الدعوى العامة لملاحقة المجرمين. ويرى بعضهم أن الحجة المتقدمة لا ينبغي أن تحجب حقيقة أن أغلب الجرائم تضر بحقوق ومصالح خاصة للأفراد، وتتوقف الدعوى العامة على الفرد المتضرر أو ادعائه شخصياً، ما ينبغي معه أن تعدّ قواعد قانون العقوبات مختلطة على الأقل بوصفها ضمانة للحقوق الخاصة. ويرد الأولون بأنه إذا ترتب على الجريمة ضرر خاص؛ فيكون من حق المتضرر المطالبة بالتعويض فقط، وهذه مسألة لا تدخل في نطاق قانون العقوبات، بل في نطاق القانون المدني.

والحقيقة أن الدولة ليست طرفاً في الرابطة التي تنظمها قواعد قانون العقوبات كلها، حتى تصنف في فرع القانون العام، أو حتى توصف بأنها مختلطة، بل هي تنظم العلاقة بين المجتمع من جهة، والفرد من جهة ثانية؛ لحماية مصالح الأول من الأفعال التي تمسها وتصدر من الثاني. والجماعة هنا بوصفها شخصية اعتبارية تمثل مصالحها النيابة العامة؛ متميزة من الدولة وهيئاتها بوصفها شخصية اعتبارية، بدليل أن النيابة العامة تتدخل في بعض القضايا المدنية والتي تكون الدولة طرفاً فيها، ولها محامي الدولة الذي يمثلها، وقد تبدي النيابة العامة رأيها ومطالعتها بالمخالفة لمطالعة الدولة؛ حفاظاً منها على مصلحة المجتمع. تماماً مثلما أن النقابات المهنية تدافع عن المصالح الجماعية لجماعة المنتمين إلى المهنة، ولم يقل أحد بأن تلك الجماعات هي من أشخاص القانون العام ولا أن القواعد التي تنظمها من قواعد القانون العام. ولهذا اعتُمِدَ تصنيف قواعد قانون العقوبات في طائفة قواعد القانون الخاص؛ وإن تكن ذات نفع عام.

ولئن كانت النيابة سلطة قضائية عامة تتولى تحريك الدعوى العامة ومتابعتها؛ فتلك مسألة تتصل بأصول المحاكمات الجزائية، وهي من قواعد القانون العام.

ولا يزال الخلاف محتدماً أيضاً في تحديد الطبيعة القانونية لطائفة من قواعد القانون كقواعد أصول المحاكمات وقواعد القانون الدولي الخاص وقواعد القانون الدولي العام.

أ ـ قواعد أصول المحاكمات: هي مجموعة قواعد تنظم السلطة القضائية، وتبين المحاكم ودرجاتها واختصاصها وشروط تعيين القضاة وإجراءات التقاضي وإصدار الأحكام القضائية وتنفيذها.

ويرجح بعضهم تصنيفها في قواعد القانون الخاص إن كانت تنظم المحاكم المدنية التي تنظر في مسائل القانون الخاص، وفي قواعد القانون العام إن كانت تنظم المحاكم الجزائية التي تنظر في الدعاوى التي تتولاها النيابة العامة لملاحقة مرتكبي الجرائم، وتنظم إجراءات ضبط الجرائم والتحقيق فيها ومحاكمة المتهمين بارتكابها وتنفيذ العقوبات التي يحكم بها.

والأرجح أن قواعد أصول المحاكمات أياً كانت هي من فروع القانون العام؛ لأنها تنظم علاقة بين طرفين، أحدهما الدولة ممثلة بالسلطة القضائية، وهي إحدى السلطات العامة للدولة بصرف النظر عن طبيعة العلاقة القانونية التي تتولى المحاكم فصل المنازعة حولها ومنح القضائية المطلوبة بشأنها. وتبرز أهمية تصنيف قاعدة ما في طائفة قواعد القانون العام أو قواعد القانون الخاص؛ أن الأولى تفسر عند الشك بالنسبة إلى الدولة أو إحدى هيئاتها تفسيراً موسعاً، وأما بالنسبة إلى أشخاص القانون الخاص فتفسر تفسيراً ضيقاً، بخلاف ما لو صنفت في طائفة قواعد القانون الخاص حيث تفسر تفسيراً موسعاً بالنسبة إلى أشخاص القانون الخاص.

ب ـ قواعد القانون الدولي الخاص: لا تزال الطبيعة القانونية لقواعد هذا القانون محل خلاف؛ بسبب الاختلاف فيما يندرج تحت هذا التصنيف من قواعد القانون.

فبعضهم يدخل تحت مضمونه قواعد جنسية الدولة، شروط منحها واكتسابها والتجريد منها… إلخ. وقواعد الإسناد التي تحدد القانون الواجب التطبيق على منازعات القانون الخاص ذات الطابع الدولي؛ أي التي تطرق إليها عنصر أجنبي، كعقد بيع بين سوري وجزائري، أو بين سوريين خارج سورية، أو كأن يضر شخص أجنبي في أثناء مروره في سورية بآخر مثلاً. ويدخل أخيراً في مندرجات قواعد القانون الدولي الخاص قواعد الاختصاص القضائي الدولي؛ أي مدى صلاحية المحاكم الوطنية للنظر في المنازعات التي تثور بشأن علاقات القانون الدولي الخاص كزواج سوري بأجنبية أو العكس… إلخ.

ولا ينبغي أن يثير وصف هذه القواعد بالدولية الظن بأنها ليست وطنية، فقواعد القانون الدولي الخاص في كل الأنظمة القانونية هي قواعد قانونية وطنية وجزء من القانون الداخلي لأي جماعة، ولكل دولة قانونها الدولي الخاص، ووصفها بالدولية لا يعني أكثر من أنها تنظم علاقة خاصة تطرق إلى أحد عناصرها (الأشخاص ـ الموضوع ـ الواقعة القانونية المنشئة للعلاقة) العنصر الأجنبي.

بناءً على هذا التحديد لمعنى قواعد القانون الدولي الخاص ومضمونه لا بد أن يترجح أن قواعد القانون الدولي الخاص هي خليط من قواعد القانون العام وقواعد القانون الخاص، فقواعد الجنسية والاختصاص القضائي الدولي للمحاكم الوطنية هي من قواعد القانون العام؛ لأن الدولة طرف فيها بوصفها صاحبة سيادة وسلطان، وأما قواعد الإسناد فهي من قواعد القانون الخاص؛ لأن الدولة ليست طرفاً فيها بوصفها صاحبة سيادة وسلطان.

ج ـ قواعد القانون الدولي العام: هي القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول أو بينها وبين المنظمات الدولية، حيث تبين شروط اكتساب الدول للشخصية الدولية وأنواع الدول، وتنظم علاقات الدول في حالتي الحرب والسلم، ويفضل بعضهم بحق جعل تقسيم القانون إلى دولي وداخلي أساسياً وعدم إدخال قواعد القانون الدولي العام في تقسيم قواعد القانون إلى قواعد خاصة وعامة بحسبان أن قواعد القانون الدولي تنظم العلاقات في مجتمع آخر غير المجتمع الذي يسود فيه القانون الداخلي الذي تنقسم قواعده إلى عامة وخاصة. فمجتمع القانون الدولي العام هو العالم في حين أن مجتمع القانون الداخلي هو الدولة.

أنواع القاعدة القانونية من حيث طبيعة الحكم فيها:

(تصنيف قواعد القانون إلى آمرة ومكملة):

تنقسم القاعدة القانونية من حيث طبيعة الحكم فيها إلى نوعين، الأول: ويسمى بالقاعدة القانونية الآمرة، والثاني: ويسمى بالقاعدة القانونية المكملة.

أ ـ القاعدة القانونية الآمرة: هي القاعدة التي لا يجوز للمخاطبين بأحكامها أن يتفقوا على ما يخالف الحكم الوارد فيها. وتسمية هذا النوع من القواعد القانونية بالآمرة لا يعني أن الحكم فيها هو دائماً أمر بالقيام بفعل، بل يمكن أن يكون نهياً وإن كان بعضهم يصف هذا النوع من القواعد القانونية بالناهية. فالمقصود بعبارة »آمرة« هو أنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف حكمها، وسواء أكان هذا الحكم هو الأمر أم النهي أم الإباحة.

ب ـ القواعد القانونية المكملة: وهي التي ـ بخلاف الآمرة ـ يجوز الاتفاق على ما يخالف حكمها. فلا ينطبق حكمها إلا إذا لم يوجد حكم اتفق أطراف العلاقة القانونية المحكومة بهذه القاعدة المكملة على اتباعه بخلاف حكم هذه الأخيرة.

وقد تصور بعضهم تعارض هذا النوع من القواعد القانونية مع خصائص القاعدة القانونية وضرورة اتصافها؛ لتكون قانونية بصفة الإلزام، إذ كيف ينبغي أن تتصف القاعدة بالصفة الإلزامية؛ لتكون قاعدة قانونية، ثم تجوز مخالفتها من دون أن يتهدد من يخالفها الجزاء الذي تقترن به هذه القاعدة؟! فيقول هؤلاء لإزالة هذا التعارض: إن القاعدة القانونية المكملة هي اختيارية ابتداءً، ولكنها ملزمة انتهاء.

والحقيقة أنه لا يمكن قبول هذا التكييف؛ لأن القاعدة ينبغي أن تتصف من لحظة وجودها بالصفة الإلزامية؛ وإلا فلا تعدّ قاعدة قانونية، ولذلك فإنه لإزالة هذا التصور الخاطئ ينبغي أن يُرجع إلى التحليل الذي أُورد للقاعدة عموماً. فقد ذُكر أن القاعدة ـ بما فيها القاعدة القانونية ـ تتكون من ظاهرتين؛ الأولى تسمى الفرض، والثانية تسمى الحكم، وأن العلاقة بينهما هي علاقة اطراد، فلا يحدث الحكم إلا إذا حدث الفرض.

والأمر بالنسبة إلى القاعدة القانونية المكملة لا يخرج عن هذا التحليل. كل ما في الأمر أن الفرض في القاعدة المكملة يتضمن شرطاً لتحققه لا يوجد في القاعدة الآمرة، هذا الشرط يتمثل في ضرورة عدم وجود اتفاق على حكم يخالف حكم القاعدة المكملة، فإذا تحقق هذا الشرط، ومن ثم تحقق الفرض؛ نتج الحكم، وكان ملزماً لا تجوز مخالفته، تحت طائلة تطبيق الجزاء الذي يؤيد نفاذ القاعدة المكملة.

والسبب في وجود هذا النوع من القواعد القانونية هو أن الجماعة إذ تعبر عن إرادتها والتي تتجلى في القواعد القانونية؛ لا تستهدف سلب حرية الأشخاص بقدر ما تستهدف تنظيم هذه الحرية. فتبقي للأفراد هامشاً من هذه الحرية ينظمون فيه سلوكهم على النحو الذي يريدون؛ لأن مصلحة الجماعة وكيانها لا يتأثران بالكيفية التي ينظم فيها الأشخاص سلوكهم في حدود هذا الهامش.

ويكون مقصد الجماعة من وضع هذه القواعد المكملة؛ هو مواجهة الحالات التي لا يتفق فيها الأشخاص المخاطبون بأحكامها على كيفية تنظيم سلوكهم في الفروض التي تتناولها هذه القواعد، ومنعاً من وقوع المنازعات في كيفية تنظيمها تضع الجماعة هذه القواعد؛ لينطبق حكمها، ويكون ملزماً للمخاطبين بأحكامها مادام قد فاتهم أو تعمدوا عدم الاتفاق على الأحكام التي تنظم سلوكهم فيما تتناوله من فروض. (يسمي بعضهم القواعد المكملة بالقواعد المفسرة أو القواعد المقررة على أساس أنها تفسر إرادة المخاطبين بأحكامها، أو تقرر الأحكام التي اتفقوا عليها ضمناً، والحقيقة أنه مادامت هذه القواعد لا تنطبق أحكامها إلا إن غاب الاتفاق على حكم مخالف؛ فكيف يقال: إنه هناك اتفاق ضمني تقرره القواعد المكملة؟ كما أن غياب الاتفاق يعني غياب الإرادة، والتفسير كما هو معلوم ينصب على إرادة موجودة؛ لكنها غامضة، والفرض هنا أن الإرادة مفقودة، ولذلك يفضل وصف هذا النوع من القواعد بالمكملة؛ لأنها حقيقة تكمل إرادة المخاطبين بأحكامها).

ج ـ طريقة التعرف إلى نوع القاعدة القانونية:

(1) ـ الألفاظ المستخدمة في صياغة القاعدة القانونية: لا شك في أن دلالة الألفاظ التي تستخدم في صياغة القاعدة القانونية هي المعيار الأول والأساسي لتحديد نوعها، فإن دلت الألفاظ على جواز الاتفاق على حكمها كانت مكملة، وإن دلت على عدم جواز ذلك كانت آمرة. فمن أمثلة العبارات المستخدمة في صياغة القواعد الآمرة عبارة «لا يجوز» وعبارة «تحت طائلة البطلان» وعبارة «وإلا كان باطلاً» والجمل الإنشائية. ومن أمثلة العبارات التي تستخدم في صياغة القواعد المكملة التي تدل على جواز الاتفاق على ما يخالف حكم القاعدة عبارة «ما لم يتفق على خلاف ذلك»، «ما لم يوجد اتفاق على خلاف ذلك».

فمن النصوص القانونية الآمرة: تنص (المادة 115 مدني سوري) على أنه «ـ يقع باطلاً تصرف المجنون والمعتوه؛ إذا صدر التصرف بعد شهر قرار الحجر». وتنص (المادة 150 مدني سوري) على أنه: «إذا تم العقد بطريق الإذعان وكان قد تضمن شروطاً تعسفية؛ جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها، وذلك وفقاً لما تقضي به العدالة، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك».

وما تنص عليه (المادة 151/1 مدني سوري) من أنه «إذا كانت عبارة العقد واضحة، فلا يجوز الانحراف عنها من طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين». ومن النصوص المكملة ما تنص عليه (المادة 425/1 مدني سوري) من أنه «يكون الثمن مستحق الوفاء في الوقت الذي يسلم فيه المبيع ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك».

(2) ـ النظام العام والآداب: إذا لم تكن العبارة المستخدمة في صياغة القاعدة القانونية تدل على إمكانية الاتفاق على ما يخالف حكمها أو عدم إمكانية ذلك، فإنه يتعين عندئذٍ البحث فيما وراء هذه الألفاظ للتعرف إلى نوع القاعدة القانونية. وذلك من خلال معرفة علة عدم جواز الاتفاق على حكم القاعدة القانونية وعلة جواز ذلك. ومن الثابت أن هذه العلة تتمثل في مدى تأثر كيان الجماعة ومصالحها بحكم القاعدة القانونية.

فالقاعدة القانونية الآمرة تنظم مسألة شديدة الصلة بكيان الجماعة ومصلحتها بوصفها وحدة مستقلة عن كيان الأشخاص المكونين لها، ولذلك تستقل الجماعة بتنظيم أحكام هذه المسائل حفاظاً على كيانها.ولهذا يقال: إن القواعد الآمرة تتصل بالنظام العام أو الآداب، أما القاعدة القانونية المكملة فتنظم مسألة لا تهم إلا أطراف العلاقة التي تنظمها هذه القاعدة، ولذلك توصف بأنها لا تتعلق بالنظام العام أو الآداب.

ومن ثم يكون التعرف إلى نوع القاعدة القانونية فيما وراء الألفاظ والعبارات المستخدمة في صياغتها في تعلقها بالنظام العام أو الآداب أو عدم تعلقها بهما عند أغلب علماء القانون. [ولا شك في أن كل قاعدة قانونية تتعلق بالنظام العام؛ هي قاعدة آمرة، ولكن ليست كل قاعدة آمرة تتعلق بالنظام العام، بدليل أن القاعدة القانونية المتمثلة باشتراط الشكلية في بعض العقود كإفراغ الهبة بورقة رسمية (المادة 456 مدني سوري) بوصفه شرطاً لانعقادها. وهي من القواعد الآمرة، ولا شك في ذلك عند علماء القانون، إلا أنها لا تتعلق بالنظام العام؛ إذ تجيز المادة ذاتها إبرام الهبة دون مراعاة الورقة الرسمية إن تمت تحت ستار عقد آخر كعقد بيع صوري مثلاً، حيث تنص (المادة 456/1) على أنه: «تكون الهبة بسند رسمي، وإلا وقعت باطلة ما لم تتم تحت ستار عقد آخر». ولذلك من المفضل أن يكون معيار التفرقة بين القاعدة الآمرة والقاعدة التكميلية مقصد الجماعة من تشريع القاعدة، فإن كان المقصد هو مواجهة احتمال سكوت الأفراد عن كيفية تنظيم سلوكهم في الفرض الذي تناولته؛ فإن القاعدة تكون مكملة، وإن كان المقصد أمراً آخر لا يمكن أن تحققه الجماعة إلا بمراعاة حكم القاعدة؛ كانت آمرة سواء تعلقت بالنظام العام أو الآداب أم لم تتعلق، فالمقصد من اشتراط السند الرسمي لانعقاد الهبة حماية الواهب من نفسه وتوفير الوقت الكافي له للتروي قبل الإقدام على هذا التصرف الخطير، ولا يمكن لهذا المقصد التشريعي أن يتحقق لو أجيز للأشخاص الاتفاق على ما يخالف حكم هذه القاعدة، ولذلك فهي آمرة رغم أنها لا تتعلق بالنظام العام بدلالة جواز إبرام الهبة من دون سند رسمي إن تمت تحت ستار عقد آخر، فلو كانت هذه القاعدة من النظام العام لما أجاز القانون إبرامها تحت ستار عقد آخر بصورة رضائية ومن دون الورقة الرسمية.

ومن ثم لا بد من تحديد مفهوم النظام العام والآداب، فيقصد بالنظام العام مجموعة الأسس التي يقوم عليها كيان الجماعة من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخلقية؛ أي مجموع المصالح الأساسية للجماعة سواء أكانت مصالح سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم خلقية.

والأسس الخلقية التي يقوم عليها كيان الجماعة، هي التي تعدّ في نظر الجماعة في وقت معيّن ضرورية لحفظ كيانها، ويعدّ الخروج عليها مظهراً من مظاهر الانحلال، وهي ما يعبر عنها بالآداب أو بالآداب العامة. وليس بالضرورة أن تتطابق الآداب مع كل قواعد الأخلاق والمثل العليا، إنما تمثل الآداب الحد الأدنى من قواعد الأخلاق التي تعد ضرورية للجماعة في وقت معيّن لحفظ كيانها من الانحلال، بحيث تفرض الجماعة بقواعد القانون على كل الأشخاص احترامها وعدم المساس بها، فهي تهدف إلى حماية الأصول الأساسية للأخلاق في الجماعة. وكثيراً ما يستعمل مصطلح النظام العام بما يشمل هذه الأسس الخلقية أي الآداب، وفي بعض الأحيان يتم عطف الآداب على مصطلح النظام العام.

هذا هو المقصود بالنظام العام بالمعنى الواسع لهذا المصطلح، وهو مفهوم مرن يتغير في مضمونه من وقت إلى وقت ومن مجتمع إلى مجتمع آخر بحسب الأفكار التي تسود في الجماعة. فما يعدّ من النظام العام في مجتمع قد لا يعدّ كذلك في مجتمع آخر، وما يعدّ من النظام العام في زمن معيّن قد لا يعدّ كذلك في زمن آخر في المجتمع ذاته ولاسيما في المجال الاقتصادي.

بكل الأحوال فإنه ـ وعلى الرغم من أن فكرة النظام العام تتسم بالمرونة ـ توجد معايير استرشادية تحدد الطبيعة القانونية للقواعد القانونية. فقد سبق تقسيم القاعدة القانونية إلى قواعد القانون العام وقواعد القانون الخاص. ومعيار التفرقة بينهما، فكل قواعد القانون العام تتعلق بالنظام العام فهي آمرة كقواعد القانون الدستوري التي تبين حقوق الأشخاص في الدولة كحق الانتخاب والتصويت والترشيح للمناصب العامة وتولي وظائف الدولة، وقواعد القانون الإداري التي تبين كيفية شغل الوظائف العامة وحقوق الموظفين وواجباتهم. وقواعد القانون الضريبي التي تحدد مطرح الضريبة والشخص المكلف بها ومقدارها، فلا يعتد بأي اتفاق يغير في أحكام قواعد هذه القوانين.

وأما قواعد القانون الخاص فما تعلق منها بتنظيم المجتمع و الأسرة وحماية مصالحهما، فهو من النظام العام. فقواعد قانون الأحوال الشخصية من النظام العام، فهي آمرة لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها؛ فيكون إسقاط الأب لولايته باطلاً، وإسقاط المرأة لحضانتها لأولادها الصغار باطلاً لا يعتد به، وإسقاط الشخص لصفته وارثاً باطلاً، وهكذا.

وقواعد قانون العقوبات التي تبين الجرائم وعقوباتها، تتعلق بكيان الجماعة، وتمس مصالحها في مختلف الميادين، فهي ولا شك تتعلق بالنظام العام، فهي آمرة، فإذا اتفق شخص مع آخر على قتله؛ فلا يعفى القاتل من المسؤولية الجزائية؛ لأن مثل هذا الاتفاق باطل.

وأما قواعد القانون الخاص المتعلقة بتنظيم المعاملات المالية؛ فهي المجال الوحيد لأن توجد فيها قواعد مكملة وإن لم تكن كلها كذلك.فما يتصل من قواعد تنظم المعاملات المالية الخاصة للأفراد بالأسس الاقتصادية للمجتمع، وتهدف إلى حماية المصلحة العامة الاقتصادية للجماعة؛ فإنها تتعلق بالنظام العام وتكون آمرة، كالقاعدة التي تحدد سعر الفائدة الاتفاقية في (المادة 228 مدني سوري) بما لا يزيد على 9%.

وكذلك كل قاعدة قانونية لتنظيم المعاملات المالية الخاصة للأفراد، وتستهدف حماية الطرف الضعيف في العلاقة المالية أو تحقيق التوازن بين طرفيها وتقررها الجماعة لضمان العدالة في الرابطة المالية الخاصة؛ فتكون هذه القواعد متعلقة بالنظام العام وآمرة، فلا يجوز الاتفاق على ما يخالف حكمها، وإن جاز التنازل عن الحق الثابت بموجبها، لكن بعد ثبوته لا قبله، ولهذا تعدّ كل قواعد قانون العمل التي تنظم علاقة العامل برب العمل من النظام العام، وهي آمرة لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها؛ ما دام الحكم المخالف ينقص من حقوق العامل بوصفه الطرف الضعيف في هذه العلاقة.

وبحسب الفكر السياسي والاجتماعي السائد في الجماعة تضيق دائرة النظام العام أو تتسع، ففي المجتمعات التي تتبنى أفكار التضامن الاجتماعي بوصفها أساساً لنظامها القانوني يزداد ويتسع فيها نطاق النظام العام؛ ليشمل كل قواعد القانون تقريباً، ومن بين هذه الأنظمة الشريعة الإسلامية؛ إذ قواعدها كلها من النظام العام حتى ما تعلق من هذه القواعد بحقوق العباد ما دام الأمر يتصل بكيفية تنظيم هذه الحقوق بحيث لا يجوز الاتفاق على ما يخالف أحكامها، وإن جاز التنازل عن هذه الحقوق بعد ثبوتها؛ لأنها من حقوق العباد الخاصة، كالتنازل عن الحق في التعويض أو في الدية بعد ثبوتهما. ولكن الأحكام التي تنظم العلاقات بسائر نواحيها هي من حقوق الله تعالى؛ أي من النظام العام، فلا يجوز الاتفاق على ما يخالفها حتى في نطاق العقود والمعاملات المالية؛ لأن المقصود فيها إقامة هذه الروابط الناشئة من هذه المعاملات على أساس العدل والمساواة، فالربا محرم بأشكاله كافة في الشريعة مع أنه يتم أساساً باتفاق أصحاب العلاقة؛ لأنه يتصل بالمصلحة الاقتصادية العامة للمجتمع، فأحكامه من حقوق الله تعالى، فيبطل أي اتفاق على ما يخالفها.

إن قواعد النظام العام هي التي يقصد بها تحقيق مصلحة عامة تتعلق بالنظام الأساسي للمجتمع، سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية أم غيرها. ونطاق هذه القواعد يضيق في ظل الأنظمة الفردية التي تقدس حرية الفرد، وتقدم مصلحته على مصلحة المجتمع، وتتسع في ظل الأنظمة الاجتماعية التي تقدم مصلحة المجتمع، وتضحي في سبيلها بمصلحة الفرد.

والآداب هي مجموعة القواعد والمبادئ الخلقية التي تدين بها الجماعة في زمان ومكان معيّنين. وهذا يعني أن فكرة النظام العام والآداب مرنة تتسع وتضيق تبعاً للمذاهب والأفكار السائدة، ومن ثم تتغير بحسب ظروف الزمان والمكان.

ويمكن أن يوجد نظير في الفقه الإسلامي لفكرة النظام العام والآداب، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بحق الله تعالى، وهو كل حكم لا يختص نفعه بأحد، إنما تتعلق به مصلحة عامة، فينسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه. ويقابله حق العبد، وهو كل ما تتعلق به مصلحة خاصة، وحقوق الله تعالى لا يجوز التعامل فيها بعكس حقوق العبد.

أضف إلى ذلك نظرية الشروط الفاسدة المقترنة بالعقد ونظرية الربا ـ مما اختص به الفقه الإسلامي، ومما لا يتسع المقام لبحثه تفصيلاًـ فإن من شأنها أن توسع دائرة النظام العام وحقوق الله تعالى في الفقه الإسلامي.

وفي الفقه الإسلامي إن الاتفاق على تعديل المسؤولية أكثر تقييداً. فلا يجوز مثلاً الاتفاق على جعل الأجير المشترك مسؤولاً فيما لا يمكنه الاحتراز عنه باتفاق الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، في حين أن الاتفاق على جعل الأجير المشترك غير مسؤول ـ فيما يمكنه الاحتراز عنه ـ فيه خلاف بينهم، فيجوز عنده، وذهب الصاحبان إلى عدم الجواز. ويوجد الخلاف نفسه عند الأحناف والحنابلة في صحة اشتراط قلب مقتضى العقد من حكم الضمان إلى حكم الأمانة أو العكس. فمثلاً حكم ضمان استحقاق المبيع من حقوق الله تعالى، فالاشتراط الذي ينافي هذا الضمان بإسقاطه أو الإنقاص منه يعدّ فاسداً يفسد العقد، أما في القانون المدني السوري فهو من الحقوق الخاصة للمشتري، لذا يجوز الاتفاق على الإعفاء منه أو إنقاصه (المادة 413).

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ منصورمصطفى منصور، المدخل إلى العلوم القانونية، ط2 (مكتبة سيد عبد الله وهبة 1970).

ـ هشام القاسم، محاضرات في القانون المدني (منشورات جامعة دمشق، 1999ـ 2000).

ـ عبد المنعم فرج الصدة، مصادر الالتزام (دار النهضة العربية، 1992).

ـ أيمن أبو العيال ومحمد حاتم البيات، الالتزامات (منشورات جامعة دمشق، 2003ـ 2004).


التصنيف : القانون الخاص
النوع : القانون الخاص
المجلد: المجلد السادس: علم الفقه ــ المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان
رقم الصفحة ضمن المجلد : 100
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 524
الكل : 28911294
اليوم : 7690