logo

logo

logo

logo

logo

البيت

بيت

House - Maison

البيت

البيت في عصور ما قبل التاريخ

البيت في العصور التاريخية

 

 

إن أكثر الوحدات المعمارية شيوعاً في الحضارات الإنسانية هي البيت الذي أصبح مأوى الإنسان ومسكنه بعد أن ترك الكهوف والملاجئ الصخرية التي عاش فيها خلال العصر الحجري القديم. ومن الناحية الأثرية فإن البيت يعد منفذاً مهماً للتوصل إلى معلومات مهمة ومتنوعة، فقد تكون للبيت وما يكتشف فيه أهمية خاصة في الإجابة عن أسئلة كثيرة تخص سكانه القدماء وأحوالهم الاقتصادية والاجتماعية وتفاصيل حياتهم اليومية؛ ذلك أن البيوت بوجه عام تقدم دليلاً على حياة السكان في العصور القديمة أكثر بكثير مما تقدمه الكهوف والملاجئ الصخرية.

البيت في عصور ما قبل التاريخ:

وجد أقدم بناء سكني مكتشف حتى الآن في سورية في موقع أم التليل [ر] في واحة الكوم شمالي تدمر، ويعود تاريخه إلى مرحلة ما بعد العصر الحجري القديم Epipalaeolithic التي سبقت العصر الحجري الحديث. ففي الطبقة الثالثة  - وهي أقدم طبقة -  في أم التليل 2  كشف عن بناء صغير شبه دائري أبعاده نحو 5×2.5م. وهذا البناء كان مشيداً بمواد خفيفة قابلة للاندثار على أسس من حجر الكلس، وفي مركز البناء وجد موقد بيضوي الشكل محفور في الأرضية وقد امتلأ بالرماد. ومن المرحلة النطوفية اللاحقة مما بعد العصر الحجري القديم (11000-10000ق.م) ظهرت دلائل على أبنية البيوت في الطبقة القديمة  (A1)  من موقع «أبو هريرة» [ر] على الضفة الغربية للفرات. فهذه الطبقة تتميز بوجود تقعرات فسرت على أنها بقايا أبنية نصف غائرة في الأرض كانت مخصصة للعمل والسكنى. وأكثر هذه التقعرات ينزل إلى عمق 70سم في التربة الطبيعية، وبقطر يراوح بين 2و2.5م، وهي متجمعة بشكل متقارب مع وجود حفر صغيرة فيما بينها تسمح بالتنقل من أحدها إلى الآخر. وقد وجدت حفر صغيرة بقطر متر واحد ملاصقة لمواضع هذه البيوت، وتحيط بهذه المواضع على نحو مرتب ثقوب لنصب الأعمدة الخشبية التي اندثرت بمرور الزمن. ومن الواضح أن تلك الأعمدة كانت تسند الجدران المقامة من الأغصان والقصب أو الجلود. وهناك ثقوب في مراكز البيوت الأكبر حجماً يرجح أنها كانت لأعمدة تسند السقوف. وفي مرحلة لاحقة (الطبقة IBc ) يبدو أن بيوت الحفر استبدل بها أكواخ قائمة بذاتها ومشيدة بالخشب والقصب، وتشمل بقايا هذه الأكواخ أرضيات خفيفة مرصوصة ومواقد وثقوباً للأعمدة، وبعض الأدوات الصوانية والمخلفات الأخرى.

نموذج بيت سكني قديم في سورية

 

 حملت القرون الأولى من العصر الحجري الحديث الكثير من السمات المشتركة مع مرحلة ما بعد العصر الحجري القديم السابقة، لكن الانتقال البطيء من حياة جامعي القوت إلى أفق العصر الحجري الحديث ترافق ومجموعة جديدة من القيم الاجتماعية والاقتصادية لمجتمع من المزارعين والرعاة، وكان البيت محوراً لهذه القيم وللنشاطات الجديدة من إنتاج المواد وخزنها إلى دفن الأموات من أفراد العائلة. ولقد عبر عن الانتقال إلى أسلوب الحياة الجديدة بالعناية بالبيت وبذل الجهود في تشييده وصيانته واستخدامه وإحكام تكوينه واستبداله.

كانت البيوت في القرى المبكرة عموماً دائرية الشكل نصف غائرة في الأرض وبغرفة واحدة، ثم تطورت تدريجياً إلى الشكل البيضوي أو المستطيل المتعدد الحجر. الجدران والأرضيات كانت تكسى وأحياناً تطلى، وتظهر عليها دلائل الجهود المبذولة سواء في الإنشاء أم الصيانة. المواقد والمرافق المنزلية الأخرى نقلت إلى داخل البيوت. وكثيراً ما كان يجدد بناء البيت في الموضع والترتيب نفسيهما مما يدعو إلى افتراض وجود ميل إلى التمسك بالمكان والاهتمام بالماضي وتثبيت حقوق السكن. ويمثل تل مريبط [ر] - على الضفة الشرقية للفرات في سورية - مثالاً على تطور العمارة السكنية في العصر الحجري الحديث، فقد بدأت السكنى في هذا الموقع خلال المرحلة النطوفية؛ الطبقة الأولى أ (IA) ، ودامت معظم العصر الحجري الحديث الذي ابتدأ مع الطبقتين الأولى ب (I B) والثانية (II) نحو  10000-9500ق.م. وقد وجدت هاتان الطبقتان على بقايا الطبقة الأولى أ في جزء منهما وعلى الأرض البكر في جزء آخر، وتميزتا بوجود أكواخ دائرية أو بيضوية الشكل نصف غائرة في الأرض أحياناً وبقطر يراوح ما بين 2.7م و4م. كانت هذه الأكواخ مشيدة بالطين المرصوص (طوف pisé ) على أسس من الجلاميد الصخرية والمجارش المكسورة والملاطات. الأرضيات كانت تكوَّن من طبقة مدكوكة من الطين بلون مائل إلى الأحمر، أو من جلاميد وحصى مسوى في الطين. لم تحتوِ هذه البيوت على مواقد، لكن حفر دائرية مبطنة بالحجر والطين في الساحات المحيطة بها استعملت لإشعال النار.

بيوت إيمار - مشهد تخيلي

في المرحلة اللاحقة في مريبط (الطبقة الثالثة  III في نحو 9500-8700ق.م استمرت خصائص العمارة السكنية الأقدم في عدة أوجه، لكن بعض أبنيتها تشاركت في الجدران وكونت تجمعات بنائية. ومن الخصائص الجديدة في هذه المرحلة ظهور التقسيم الداخلي لأبنية البيوت الدائرية التي صارت تضم حجرات صغيرة للمنام والطبخ والخزن. وأحد هذه البيوت بلغ قطره نحو ستة أمتار، ويضم «دكة منام» مرتفعة مقابل المدخل، ويتوسطه ممر على كل من جانبيه ثلاث حجرات صغيرة وجد في إحداها موقد. سقف هذا البيت كان منبسطاً، ويتكون من الطين وجذوع أشجار الحور المستندة إلى سلسلة من الأعمدة الخشبية. وهناك في الموقع نفسه بقايا بيتين أصغر حجماً عثر فيها على آثار رسوم جدارية هي المثال الأقدم المعروف من نوعه في الشرق الأدنى. وفي أواخر هذه المرحلة، في نحو  9000ق.م ظهر تغير تدريجي في شكل البيت في تل مريبط، فقد استبدلت بالأبنية الدائرية أو البيضوية تدريجياً أبنية مستطيلة متألفة من عدة غرف صغيرة. وصارت الجدران تشيد بكسر المجارش الحجرية القديمة والحجر الكلسي المقطوع بشكل متوازي المستطيلات المحدب من الأعلى والمغطى من كل الجوانب بملاط من طين أحمر، والجدران نفسها مدعمة بأعمدة خشبية. وقد كشفت التنقيبات عن بناية بيت صغير مربع الشكل (3.5×3.5م) مقسم إلى أربع غرف صغيرة مبلطة بأحجار الكلس. المداخل كانت إما عبر السقف وإما بشكل ثقوب عالية في الجدران. وفي مستهل المرحلة الأخيرة (الطبقة الرابعة IV ) - في نحو 8700ق.م - تحول سكان موقع مريبط تماماً إلى البيوت المستطيلة الشكل المشيدة بالطين المرصوص (الطوف) والمتكونة من عدة غرف صغيرة. وقد كشف في عدة مواقع في سورية عن بقايا بيوت معاصرة للطبقة الثالثة في تل مريبط، ومن هذه المواقع تل الشيخ حسن على الضفة الشرقية للفرات، وتل أسود قرب دمشق وتل قرامل شمالي حلب.

بيوت خويرة

إلى الشمال من تل مريبط، على الضفة الشرقية للفرات هناك موقع الجرف الأحمر [ر] الذي كشفت التنقيبات الأثرية فيه عن تعاقب معقد من السكنى يمتد من 9200  إلى 8700ق.م. ابتدأت السكنى في هذا الموقع في التل الشرقي أولاً، ثم امتدت إلى المرتفع الغربي لاحقاً. ضم التل الشرقي بقايا تسع قرىً بنيت الواحدة فوق الأخرى على مدى زمني يمتد إلى نحو  500 سنة، وفي المرتفع الغربي كشف عن ست طبقات بنائية. إن بعض بيوت المستوطن- على كلا المرتفعين- مشيدة على مدرجات وعدد منها نصف غائرة في السفح المقابل للنهر. ومن ناحية الشكل فإن بيوت جرف الأحمر تظهر تنوعاً يضم أشكالاً دائرية وبيضوية وإهليلجيه، وهناك أيضاً بيوت بأشكال شبه مستطيلة مع زوايا دائرية. أما البيوت ذات الشكل المستطيل فلم تلاحظ إلا في المرحلة الأخيرة. وفي حين أن أبنية عدة كانت تضم غرفة واحدة هناك أبنية أخرى مقسمة داخلياً أو موسعة بإضافة غرف جديدة إلى الغرف القديمة. وقد استدل على الوظيفة السكنية لهذه الأبنية من خلال الأرضيات ووجود المواقد فيها. وتجدر الإشارة إلى أن أبنية البيوت في الطبقات المتأخرة غالباً تكون متجمعة سوية وتشترك كل أربعة أو خمسة منها بساحة واحدة، وهذه الساحة تكون أحياناً مرصوفة بالحجر وتضم مواقد كبيرة محفورة في الأرضية مع حفر للخزن، وهي الموضع المشترك الذي يحضر فيه السكان طعامهم.

تميزت مواطن السكنى الكبيرة في وادي الفرات في سورية خلال الألف الثامن قبل الميلاد بالنظامية والمحافظة على الترتيب النمطي في تشييد البيوت؛ مما يدل على تخطيط معتنى به. وصار تقسيم البيت إلى عدة غرف ميزة أساسية ليس في منطقة الفرات فقط وإنما في أجزاء أخرى من سورية، ولعل هذه الميزة تتعلق بالميل إلى الخصوصية أو الحاجة إلى فضاءات مخصصة لخزن المحاصيل، وقد أصبح ذلك سمة ملازمة لعمارة البيوت لأمد طويل. وتأتي أمثلة مهمة عن عمارة البيوت في هذه المرحلة من تل بقرص [ر] ، على الجهة اليمنى لنهر الفرات الأوسط في سورية، حيث كشف عن بقايا بيوت مستطيلة الشكل مشيدة باللبن مع وجود باحة واسعة في ركن البيت. وضمت الغرف غالباً أفراناً صغيرة أو أحواضاً قليلة العمق تنزل في الأرضيات الصلبة المبيضة بالجبس أو في دخلات في الجدران. وكانت البيوت في موقعي «أبو هريرة» وحالولة [ر] ، على الضفة الغربية للفرات الأعلى في سورية، في الألف الثامن قبل الميلاد مشيدة على مساحات تراوح بين 46 و82م2. وهذه البيوت كانت متماسكة البنيان من خلال مجاورة بعضها بعضاً، وتضم باحات صغيرة بعرض 0.6-1.8م، وهي مشيدة بطابق واحد وبمخطط مستطيل الشكل أو بشكل حرف L اللاتيني. وقد كان إنتاج الجبس الكلسي آنذاك تطويراً تقنياً رئيسياً من منجزات العصر الحجري الحديث، وكان يستعمل لإكساء الأرضيات أو الأجزاء السفلى من الجدران. وكان جبس الأرضيات يلون عادة بالأسود أو الأحمر أو يترك بلونه الأبيض- الرمادي وقد كشف في أحد بيوت تل حالولة  -من أواخر الألف الثامن قبل الميلاد-  عن رسوم بشرية مختلفة الأحجام (14-21سم) لأشخاص بلغ عددهم ثلاثة وعشرين، وهذه الرسوم منفذة باللون الأحمر على أرضية الجبس الرمادي اللون ضمن مساحة لا تزيد على متر مربع واحد بجوار الموقد المركزي في الغرفة الرئيسية.

بيوت مقببة في الشمال السوري ( ثقافة حلف )
بيوت مقببة في الشمال السوري

في مرحلة متأخرة من العصر الحجري الحديث، في نحو  6300-6200ق.م اشتمل تل بقرص على زهاء 180 بيتاً غطت مساحة تتجاوز   3هكتارات. مخطط الموقع يدفع إلى افتراض وجود نمط أساسي من الأبنية ثلاثية التقسيم. وكل من هذه الأبنية يتألف من ثلاث أو أربع غرف مستطيلة الشكل مع غرفة مربعة صغيرة جداً في المؤخرة. مداخل البيوت كانت عادة في الغرف الجانبية، والجدران الداخلية مبيضة مع وجود آثار طلاء أحمر أو طبعات حصر على الأرضيات. ولابد أن يكون الحجم والمخطط الموحدان لبيوت تل بقرص في هذه المرحلة نتيجة لتخطيط مسبّق معتنى به للمستوطن كله.

على نحو متزايد اختار السكان القدماء في عدة أجزاء من سورية- في أواخر الألف السابع والألف السادس قبل الميلاد- الإقامة في بيوت دائرية مرتبة حول أبنية خزن مستطيلة الشكل. وتدل هذه المستوطنات على حجم سكاني صغير وجهد مشترك  للعيش؛ فالبيوت الدائرية كانت مخصصة لإيواء شخص واحد أو عائلة صغيرة، في حين أن أبنية الخزن كانت للاستخدام من قبل الجميع. وفي منتصف الألف السادس قبل الميلاد صار البناء الدائري (ثولوس [ر] tholos ) شائعاً في دور حلف [ر] في معظم شمالي سورية والعراق. وعلى الرغم من أن معظم الأبنية الدائرية تتألف من غرفة واحدة  يظهر بعضها بمخطط مشابه لشكل ثقب المفتاح، أي إنها تتكون من غرفة دائرية تتصل بها غرفة مستطيلة. وكانت الأبنية الدائرية في مواقع دور حلف تحتوي عادة على مواقد وتجهيزات منزلية أخرى تدل على كونها بيوتاً. ومن الجدير بالذكر أن البيوت ذات المخطط المستطيل لم تنقطع عن الاستعمال في دور حلف، ثم أنها عادت فحلت محل البيوت الدائرية التي تركت في نهاية الألف السادس قبل الميلاد، ولم تظهر سوى قلة منها في مواقع دور العبيد اللاحق مثل تل كوردو في شمال- غربي سورية، وتبه كورا ويارم تبه في شمالي العراق.

البيوت في دور العبيد (الألف الخامس قبل الميلاد) تظهر تنوعاً واسعاً في الشكل والحجم، من أبنية صغيرة بغرفة واحدة إلى تجمعات غير منتظمة من الغرف بأحجام مختلفة، وبيوت ثلاثية التقسيم مخططة تخطيطاً جيداً على مساحة تراوح بين 50 و200م2. ومثل هذه البيوت كانت تضم باحة مركزية واسعة مع صف من الغرف على كل من جانبيها. وبوجه عام كانت البيوت بمخططات مربعة أو مستطيلة الشكل، وتقسيمها إلى عدة غرف صغيرة يساعد على تخصيصها لوظائف منزلية متعددة. وكان الموقد المركزي عادة في أكبر غرف البيت والمخازن تحت الأرضيات. الجدران كانت تشيد من الطين (الطوف) أو اللبن، وتبنى أحياناً على أسس من الحجر. ومن المواقع السورية التي ضمت بيوتاً تعود إلى هذا الدور تل قوزاق الشمالي على الضفة الشرقية للفرات الأعلى.

مجسم طيني لبيت صغير من ماري

في الألف الرابع قبل الميلاد اكتسب دور أوروك المتأخر أهمية خاصة؛ ذلك أنه كان عصر نشوء المدن والاقتراب من التدوين مع ما رافق ذلك من تطورات اقتصادية واجتماعية. ومن المعروف أن هذا الدور شمل مناطق واسعة من سورية وبلاد الرافدين وتركيا وإيران، وقد ظهرت فيه مواقع مهمة منها موقع حبوبة كبيرة الجنوبي وقناص [ر] على الضفة الغربية لنهر الفرات في سورية. وتتجلى أهمية هذا الموقع في احتوائه على المثال الأوضح، وبأكبر مقياس للعمارة المدنية في هذا الدور. ففيه اكتشفت واحدة من المدن الأولى التي ضمت بيوتاً سكنية كثيرة لم يكشف عما يماثلها في أي موقع آخر، وكانت هذه المدينة مخططة تخطيطاً جيداً. لقد استظهر في هذا الموقع حيان سكنيان هما الحي الشمالي الذي تميز بالبيوت الكبيرة، والحي الغربي الذي ضم بيوتاً أصغر مساحة ألحقت بها مشاغل عمل كثيرة. أبرز الخصائص العامة للأبنية المكتشفة المخطط ثلاثي التقسيم، الذي ظهر على نطاق ضيق في العصور السابقة. ويتألف هذا المخطط من ثلاثة أجنحة متوازية يضم الأوسط منها باحة وسطية طويلة مع غرفة صغيرة عند أحد طرفيها في بعض الأحيان. ويضم كل صف على جانبي الباحة غرفتين أو ثلاثاً. وهذا المخطط شاع على نحو واسع في دور أوروك المتأخر في سورية والعراق، وظهر في عمارة المعابد أيضاً. وقد أعدت مخططات البيوت في موقع حبوبة كبيرة الجنوبي بعناية، ووظف فيها مبدأ التناظر. ومن الواضح أنه قد روعيت في هذه المخططات مسائل تنظيم التهوية وتوزيع وظائف الغرف، ومن الخصائص الأخرى في عمارة بيوت هذا الموقع التنوع في مساحاتها من بيوت كبيرة بمساحات واسعة ومرافق متعددة إلى بيوت صغيرة قليلة الغرف. اكتشف أكبر البيوت في الموقع عند الزاوية الشمالية- الشرقية، وهو يغطي مساحة واسعة، ويشتمل على سبعة عشر مرفقاً، ويعد هذا البيت مثالاً للبيوت التي وسعت في أكثر من مرحلة. وكشف في الموقع أيضاً عن بيوت ثنائية التقسيم، وهناك أبنية تتكون من غرفة واحدة كبيرة يوجد في أرضيتها أحياناً موقد. وهناك نوع آخر من الأبنية قوام كل منها قاعة واحدة، ولم تلحق بها غرف نوم أو طبخ وأحياناً تتصل بها غرفة استقبال فقط. ويرجح أن القاعة في هذه الأبنية كانت تستخدم للنوم والطبخ في آن. وعلى الرغم من بساطة بناء هذه البيوت لم تكن بالضرورة مخصصة لسكن الفقراء، ويحتمل أنها كانت تعود إلى عائلات لا يزيد عدد أفراد كل منها على اثنين أو ثلاثة. وربما كانت طبيعة حرف أصحاب هذه البيوت سبباً وراء التخلي عن مكونات البيت الاعتيادية مع الاحتفاظ بغرفة خزن صغيرة منفصلة.

بيوت في تل صبي

 

إن معظم البيوت في حبوبة كبيرة مشيدة بلبن صغير متوازي الأضلاع وله مقطع مربع، وهو اللبن الذي أطلق عليه المنقبون الألمان مصطلح Riemchen. وكانت الجدران تستقر على أسس من كسر أحجار الكلس المغطاة بالجص، أو على أرضيات ممهدة، أو في خنادق. الأرضيات كانت عادة من الطين، وفي أرضيات الغرف ذات الوظيفة الخدمية هناك المواقد ذات الشكل الكمّثري، أو الشكل المشابه للمقلاة. أما الباحات المفتوحة فأرضياتها كانت مرصوفة بالحصى ومجهزة بمجاري تصريف المياه.

البيت في العصور التاريخية:

استكشف حي سكني في حماة، الطبقات 8-5  J (منتصف الألف الثالث قبل الميلاد). البيوت المكتشفة منفصلة بعضها عن بعض بأزقة ضيقة، وهي متعددة الغرف ومشيدة باللبن فوق أسس من الحجر. ومن الألف الثالث قبل الميلاد أيضاً كشف في تل خويرة [ر] في شمال-شرقي سورية عن بيوت من الطبقة الثانية، وهذه البيوت متعددة الغرف ومتجاور بعضها مع بعض على طول شوارع ضيقة. يتألف المخطط العام لهذه البيوت من ممر يؤدي من المدخل إلى باحة البيت التي تطل عليها غرف صغيرة متجاورة. وقد افترض المنقبون أن هذه البيوت شيدت على مساحات منتظمة من الأرض بقياسات موحدة، ويدل هذا بالتالي على تخطيط مركزي كانت تقوم به سلطة ما.

ومن العصر البرونزي الوسيط  (2000-1600ق.م) كشف عن عدد كبير من البيوت في مواقع سورية مختلفة، ومن هذه المواقع تل مرديخ (إيبلا) ، وشغار بازار. وعلى الرغم من أن مخططات البيوت في هذين الموقعين لم تستكمل تمكن المنقبون في شغار بازار من تمييز غرفة المطبخ من الأدوات المكتشفة فيها، كما أنهم استظهروا درجاً وباحتين في البيت نفسه وفرناً في جواره، وقد وجدت قبور مقباة تحت أرضيات البيوت في هذا الموقع.  وفي تل حلاوة [ر] - على الضفة الشرقية للفرات-  استظهرت جزر سكنية في التل أ، الطبقة الثانية. وتضم هذه الجزر بيوتاً موحدة التخطيط منتظمة على طول شوارع متعامدة؛ مما يدل على وجود تخطيط مركزي وسيطرة اجتماعية. والمخططات الأرضية لهذه البيوت من نوع «الغرفة الأمامية» الذي يتألف من غرف مستطيلة واسعة عند المدخل وغرفتين أصغر في مؤخرة البيت. وكشف عن جزر سكنية أيضاً في تل محمد دياب [ر] في منطقة الخابور، وفي بيوت هذا الموقع يلاحظ الاستعمال الشائع للأقبية نصف الأسطوانية في مقابل الأقبية مثلثة المقطع الموروثة، كما يثير الانتباهَ استعمالُ القنوات الحجرية لتصريف المياه. وتحتوي هذه البيوت قبوراً تحت أرضياتها بشكل حفر بسيطة، أو حجر مشيدة بالآجر. وفي تل العشارة (تيرقا القديمة) استكشفت جزئياً ثلاثة بيوت أو أربعة من «عصر خانا» وجدت مدمرة بحريق كبير. وتتميز هذه البيوت بمخزونها الكبير من المواد المتنوعة.

تميزت البيوت في أوغاريت [ر] بوجود فناء صغير قد يضم بئراً وخزان ماء واحداً أو أكثر، وأحياناً فيه تنور ودرج أو حتى حمام. وفي كل بيت تقريباً وجد ضريح عائلي تحت أرضية إحدى الغرف، وهناك إشارات إلى وجود اسطبلات ملحقة بالبيوت في القطاع الشمالي- الغربي من المدينة. وفي حالة وجود طابق ثانٍ في البيت فإنه يكون مخصصاً للإقامة العائلية، في حين أن غرف الطابق الأرضي مخصصة للخزن وتحضير الطعام والإنتاج الحرفي. وكانت بيوت الأغنياء تحتوي على أنظمة توزيع المياه المرتبطة بحمامات. ومن العصر البرونزي الحديث استظهر خمسون بيتاً في تل البازي[ر] على الضفة الشرقية للفرات، كانت هذه البيوت مرتبة على طول شوارع عريضة، وكل منها يتألف من قاعة رئيسية واسعة مع غرف مربعة صغيرة على أحد جانبيها. ومن الجدير بالذكر أن مخططات البيوت المكتشفة في عدة مواقع سورية التي يعود تاريخها إلى ما بعد 1350ق.م، مثل مسكنة (إيمار القديمة) ، تل الفخيرية، تل فري، تل العطشانة، تل الحديدي، وراس الشمرا (أوغاريت) تظهر تقارباً يشير إلى اتخاذ منحىً قياسي في العمارة السكنية. فقد بات النمط العام تقريباً للبيوت شمولها على باحة مع غرف متصلة، يرافق ذلك عدم وجود توافق تام في التفاصيل. وهذا كان طابع العصور اللاحقة حتى وصل إلى عمارة البيت العربي في العصور الحديثة.

أساسيات بيوت أوغاريت

 

من أبرز الأمثلة على عمارة البيوت في العصر الحديدي (في الألف الأول قبل الميلاد) في سورية ما كشف عنه في تل أحمر[ر]  وتل خميس[ر]  على الفرات، وأرسلان طاش[ر]  في شمالي منطقة الجزيرة. وقد ضمت بيوت من تل أحمر وأرسلان طاش باحات مرصوفة بحصى أسود  وأبيض مرتب في مربعات مشابهة لرقعة الشطرنج. وفي تل خميس شيدت البيوت في هذا العصر (الطبقة الثامنة) باللبن على أسس من الحجر، والمداخل بعرض يزيد قليلاً على المتر الواحد، وكان لأحدها عتبة من لوح من حجر الكلس. واكتشف في أحد هذه البيوت موقد كبير (1×0.70م) وبجانبه جرة خزن كبيرة. ومن بيوت الألف الأول المهمة البيت الذي كشف عنه في تل أرسلان طاش وأطلق عليه المنقبون اسم «مبنى العاجيات» لاحتوائه على مجموعة من القطع العاجية المنحوتة. يتكون هذا البيت من باحتين وأكثر من ثماني عشرة غرفة، وقدر تاريخه من القرن التاسع قبل الميلاد. وكانت إحدى باحتيه مرصوفة  بالحصى الأسود والأبيض بطريقة مشابهة لما كشف عنه في تل أحمر.

نماذج من بيوت تل صبي ( عصر حلف الأبيض )

من الواضح أن الباحة كانت عنصراً أساسياً في مخططات البيوت في معظم العصور، وتتمثل أهميتها الوظيفية في توفير النور والتهوية لأجزاء البيت الأخرى، فضلاً عن كونها مكاناً ظليلاً خلال الصيف ومشمساً خلال الشتاء.  وقد كانت البيوت الكبيرة  -خصوصاً في الألف الأول قبل الميلاد- تضم أكثر من باحة واحدة، الطابق العلوي كان بالتأكيد موجوداً في بيوت كثيرة في مواقع وعصور تاريخية عدة، لكن تعرضه للزوال جعل من المتعذر معرفة مخططه بخلاف الطابق الأرضي الذي يمكن الكشف عن مخططه من خلال ما يتبقى من جدران أو أسس. السطوح كانت مستوية عادة، وتعمل من جسور خشبية وحزم من القصب أو الأغصان مع الطين والقش. المداخل كانت بعرض متر واحد أو أقل، وبارتفاع يقل عن مترين، وكانت تغلق بأبواب من الخشب أو بحصر من القصب أو مواد منسوجة أخرى. كانت الأبواب تثبت إلى محاور خشبية تدخل رؤوسها في تجويف عند طرف الأسكفة الحجرية أو الخشبية في أعلى المدخل، وفي الأسفل تنزل قاعدة المحور في حفرة لتستقر في تجويف يعلو حجر صنارة الباب التي كانت عادة من حجر البازلت أو الكلس. والأبواب كانت تفتح إلى الداخل وتقفل بمزلاج أو رتاج خشبي. النوافذ كانت في المستويات العليا غير الباقية من الجدران، وبالإمكان معرفة أشكالها من صفائح العاج المنحوتة أو المصغرات الطينية للبيوت، وقد عثر على أمثلة منها في المواقع السورية وهي مصنوعة من الطين المشوي ومثقبة. ولابد من الإشارة إلى أن المصغرات الطينية للبيوت التي وجدت في عدة مواقع سورية - منها تل الحريري (ماري) ومسكنة (إيمار)- يمكن أن تعطي فكرة عن شكل البيت، لكن الغرض منها لم يزل مثار جدل بين الباحثين، ومن غير المؤكد أنها مصغرات لبيوت حقيقية.

أكرم محمد كسّار

 مراجع للاستزادة:

-Peter M. M .G. Akkermans And Glenn M. Schwartz, The Archaeology Of Syria: From Complex Hunter- Gatherers To Early Urban Societies (Ca. 16.000- 300 Bc), (Cambridge, 2003).

-O. Aurenche, La Maison Orientale: L’architecture Du Proche Orient ,Ancient Des Origines Au Milieu Du Quatrième Millénaire, (Paris, 1981).

-E. Braemer, L’architecture Domestique Du Levant Á L’age Du Fer, (Paris, 1982).

-K. R. Veenhof (Ed.), Houses And Household In Ancient Mesopotamia, (Istanbul/ Leiden, 1996).

 


التصنيف : العصور التاريخية
المجلد: المجلد الثالث
رقم الصفحة ضمن المجلد :
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1103
الكل : 40580853
اليوم : 110668