تناظر (انكسار)
Symmetry breaking - Brisure de symétrie

Default Normal Template

التناظر (انكسار -)

نضال شمعون

التناظر في فروع الفيزياء المختلفة

التناظر في الرياضيّات والتعبير عنه

انكسار التناظر وآثارُه في النظريّات المختلفة

 

 

 

انكسار التناظر  symmetry breakingظاهِرة  فيزيائية تنقل المنظومةَ من حالةٍ تتمتّع بتناظُرٍ كبيرٍ- الذي يعبر عنه بعدد العمليات التناظرية الممكنة- إلى حالات ليس لها التناظُر نفسِه -غالباً ما تكون أقل تناظراً- وبالتالي يكون تناظر المنظومة قد اُختُزِل.

يُقال إن منظومةً فيزيائية تتمتّع بتناظر ما إذا أمكن إجراء عملية على المنظومة تكون نتيجتهاعودتهابعد إجراء العملية تماماً كما كانت قبله. والفخّارة مثال بسيط عن تناظر هندسي، فإذا وضعت الفخّارة على المنضدة وتم تدويرها بزاويةٍ ما اعتباطية فلن يتغيّر مظهرها، وتكون صورتا الفخّارة قبل التدوير وبعده متطابقتين؛ ويمكن القول حينئذٍ: إن الفخارة "متناظرة" بالنسبة إلى الدورانات حول محورِها. وقد تكون المنظومة جسيماً بسيطاً مثل الذرة، أو تركيبةً معقّدة من الجسيمات مثل الجزيء، أو جسم الإنسان أو حتى الكون برمّته، مادام يتبع سلوكُها قوانينَ الفيزياء.

التناظر موجود في كلّ مكان في الطبيعة، فله تجسّداتٌ لا حصر لها في التظاهرات اللامتناهية العدد التي تمنحها الطبيعة. إنه عنصر ذو أهمية قصوى، فهو الركيزة الأساسية للفنّ والموسيقى والرقص والشعر والعمارة، كما أنه موجود في كلّ العلوم مع تبوّئه مكانةً بارزة في الكيمياء وعلم الحياة والفيزيولوجيا والفلك، وعلى رأسها الفيزياء، وإن الاعتبارات التناظرية متجّذّرة في العالَم الداخلي لبنية المادة؛ وفي العالَم الخارجي للفضاء الكوني؛ وكذلك في عالَم الرياضيات التجريدي. ويمكن القول إنّ كلّ قوانين الفيزياء الأساسية التي يُمكن ذكرها عن الطبيعة تعتمد على نحو ما على اعتبارات تناظرية.

التناظر في فروع الفيزياء المختلفة

تُدعى العملية التناظرية (مثل التدوير) أو التغيير تحويلاً تناظرياً symmetry transformation، وإذا بقيت المنظومة نفسها عند إجراء تحويلٍ عليها دُعيت لامتغيّرةً (أوصامدةً) invariant بالنسبة إلى التحويل.

 غدا هذا المفهومُ أداةً أساسيّةً في الفيزياء النظرية، ففي حين يكون التناظُر صحيحاً من أجل الكائنات العيانيّة macroscopic المألوفة تقريبيّاً في الغالِب؛ فإنه يغدو صحيحاً من أجل الكائنات الصغريّة microscopic الكموميّة، ويغدو مفهوم عدم التغير بحاجة إلى تعمق كبير.

فعلى سبيل المثال؛ إذا أدير مثلّث متساوي الأضلاع مصنوع من الألمنيوم المطروق بزاوية قدرها 120°؛ فإنه يبدو نفسَه بعد التدوير، ولكن مع أجهزةِ قياسٍ ذات دقةٍ كبيرة كالمجهر الإلكتروني، قادرةٍ على تمييز تفاصيل دقيقة في المثلث- مثل حبيباته البلّورية - يمكن التأكد أن حالةَ المثلّث قد تغيّرت بعد التدوير. ولا يؤدي التناظر التقريبيّ دوراً كبيراً في الفيزياء العيانيّة، ووحدها تناظرات الزمان والمكان تؤدي دوراً مهمّاً في هذا المجال.

وفقاً لنظرية نوثر Nother يرتبط أيّ تناظُرٍ لمنظومة فيزيائيّة بمصونيّةِ conservation مقدارٍ فيزيائيّ يُميِّزها، فمثلاً يقتضي تناظر القوانين الفيزيائيّة – أي ثباتُها- بالنسبة إلى الزمن مصونيّةَ الطاقة،في حين يؤدّي تجانُس الكونِ مكانيّاً إلى مصونيّة الاندفاع الخطي linear momentum.

تتوقّف التناظُراتُ في العالَم الكمومي الصغريّ عن كونها تقريبيّة، فالكائنات الصغريّة من مثل الإلكترونات لها عددٌ محدود من "الحالات"states يمكنها شغلها، وتكون هذه الحالات متماثلةً تماماً فيما بينها. يعني هذا الأمر أن الحالاتِ الناجمةَ عن إجراء تحويلات تناظريّة فيما بينها واقع؛ لكنها تختلف قليلاً عند التُبادل بين موضعَي إلكترونَين؛ إذ تكون مُطابقةً لها قبل إجراء التحويل بعد ضربها بـ -1، ويعود ذلك إلى أسباب متعلِّقة بمبدأ الاستبعاد لپاوليPauli exclusion principle . هناك نتائجُ عميقةٌ لهذه التناظُرات في العالَم الكمومي يمكن تلخيصُها بإمكانيّة "تداخُل"interference هذه الجسيمات المتطابقة، وهذا يعني أنه ينبغي معاملةُ هذه الجسيمات الصغريّة ليس وفقاً لقوانين الفيزياء التقليديّة؛ بل كأمواجٍ متداخلة تتبع قواعِد ميكانيك الكمّ.

يفيد التناظُر كأداة توصيفيّة قويّة ويظهر بأوضح صورِه في دراسة خواصّ الجسيمات الأوّليّة (العنصرية)elementary particles ؛ إذ يمكن تفسيرُ معطياتٍ كثيرةٍ لتجارِب المسرّعات بأن النكليون (البروتون أو النترون) يتألّف من ثلاثة "كواركات" quarks لها "ألوان" مختلفة متناظِرة فيما بينها. في الحقيقة: إن نظريّات التحريك الكهربائي electrodynamics الكموميQED– التي تُوصِّف القوى الكهرمغنطيسيّة electromagnetics، والنظرية الكهربائيّة الضعيفة التي تُوصِّف القوى النووية الضعيفة وكيفيّةَ اتّحادِهما، ونظرية التحريك اللوني chromodynamics الكمومي QCD التي تُوصِّف القوى النووية الشديدة؛ هي كلُّها أمثلةٌ على نظريّات تناظُرٍ معياريّ gauge symmetry، حيث تستلزم اعتباراتٌ تناظريّةٌ تُحقِّقها التوابِع اللاغرانجيّة لهذه النظريّات "موضعيّاً " وجودَ جسيماتِ رُسُلٍ messengers حامِلةٍ للقوى الموافِقة، فتنتقل القوى الكهرطيسيّة عبر الفوتونات photons، وتحمِل جسيماتُ W وZ القوى النوويّةَ الضعيفة، في حين تتآثَر الكواركات بقوىً نوويّةٍ شديدة عبر الغليّونات gluons.

التناظر في الرياضيّات والتعبير عنه

إن لغة الرياضيّات التي يتمّ التعبير بها عن التناظُر هي لغة الزمرة؛ إذ يُمكن نمذجةُ زمرةِ تحويلاتٍ تناظريّةٍ G تتميّز بمحافظتِها على خاصيّةٍ ما عند تطبيقِها على كائِناتٍ رياضيةمُتحوِّلة من مجموعة X بتطبيق  ، حيث تُكتب صورة العنصر وفق التحويل   بالرمز ، ويقال عن كائنَين إنهما متناظران إذا كان أحدهما صورةً للآخر. تسمى من أجل كائنٍ  مجموعةَ العناصِر  التي تُحقِّق  زمرة التناظُر الموافِقة للكائن، وتكوِّن زمرةً جزئيّةً من G. فعلى سبيل المثال إذا أخذت زمرةَ الدورانات في الفضاء – والتي تحافِظ عند تطبيقِها على أشعة المكان وعلى طويلة هذه الأخيرة- فإن الزمرةَ الجزئيّةَ لتناظُر أيّ شعاعٍ يقع على المحور Z هي الدورانات حول هذا المحور.

عند توصيف نظريات فيزياء الجسيمات الأوّليّة تكون زمرُ التناظُر عادةً مستمرّةً (مما يسمى زمر "لي Lie")، ويُعبَّر عن الجسيمات الرّسُل الحامِلة للقوى تمثيلاتٍ لـجبر "لي"Lie algebra representations  الموافِق، فيكون هناك فوتونٌ واحِد موافِق لمولِّد generator  زمرة U(1) التبديليّة التي تتمتّع القوى الكهرطيسيّةُ بتناظرِها، في حين لدينا ثمانيّة غليّونات موافِقة لمُولِّدات زمرة الـ SU(3) التي تُمثِّل تناظراً يتمتّع به لاغرانجيّ الـ QCD.     

انكسار التناظر وآثارُه في النظريّات المختلفة

        هناك عادةً نوعان من انكسار التناظُر في الطبيعة. يتعلّق الأوّل بكسر التناظُر الصريح explicit symmetry breaking ويدلّ على احتواء التابع اللاغرانجي للمنظومة على حدودٍ لا تتمتّع بالتناظُر المُقترَح. مثال ذلك: يمكن معاملةُ البروتون والنترون كأنّهما مركِّبتان متماثلتان من كائنٍ واحِدٍ هو النكليون، شريطةَ الاقتصار على القوى النووية، أمّا إذا أخذت القوى الكهرطيسيّة في الحسبان فلا تكون هاتان المركبتان متماثلَتين لأن للبروتون شحنةً، في حين أن النترون عديمُ الشحنة الكهربائيّة، وبالتالي يُسبِّب حدُّ التابِع اللاغرانجي الذي يُوصِّف القوى الكهرطيسيّة كسرَ التناظر النووي بين البروتون والنترون.

        النوع الثاني من كسر التناظر هو ما يُعرَف باسم كسر التناظُر الذاتي (تلقائي) spontaneous symmetry breaking، وهو إجرائيّةٌ تضع منظومةً يتمتّع تابُعها اللاغرانجيّ بتناظُرٍ مُعيَّن في حالةٍ لا تُحقِّق ظاهريّاً هذا التناظر. لا بدّ لحدوث هذا الإجراء من وجودِ عديدٍ من الحالاتالأساسيّة المنحطّة (المنطبقة) ground states degenerate(ذات طاقاتٍ متساوية) يمكن للمنظومة أن توجَد في أيّ منها بالاحتمالِ نفسِه، وتكون المنظومةُ الإجماليّةُ متناظِرةً بالنسبة إلى هذه الحالات. مع ذلك عندما يستعمل الإجراء أو يؤثَر في المنظومةِ بطريقةٍ ما؛ فإن إحدى هذه الحالات لا بدّ أن يكون قد تمّ اختيارُها، وبالتالي فإن التناظُر بين هذه الحالات يكون قد فُصِم عبر اختيار المنظومةِ "ذاتياً" لواحدةٍ منها كحالةٍ أساسيّةٍ لها؛ بالرغم من أن التناظُر التحتيّ لا يزال موجوداً، ويدعى عندها "تناظُراً مخفيّاً". على سبيل المثال قد لا يتمتع الخلاءَ vacuum (الحالة الأساسيّة) بالتناظُر، في حين تبقى النظريّةُ الإجماليّة متناظِرةً.      

        وكمثال من الحياة اليوميّة: قلم مُدبَّبٍ يستند عند قمّته إلى طاوِلة. القلمُ في وضع توازِنه غيرِ المستقرّ متناظُرٌ بالنسبة إلى الدوران حول محورِه، ولكنّ أيَّ اضطرابٍ سوف يؤدّي إلى وقوعِ القلم على الطاولة (الحالات الأساسيّة) وفق اتّجاهٍ ما يمثّل حالةَ "الخلاء" التي اختارها القلم والتي لا تتمتّع بالتناظُر الدورانيّ.

مثالٌ آخر من مجال المغنطيسيّة، فالموادّ ذات المغنطيسيّة الحديديّة ferromagnetism تتألّف من مناطق ممغنطة  magnetization domains تكوِّن المغنطةُ العيانيّة التي تُمثِّل هناوسيطَ الترتيب order parameter، تصبح المغنطة في كلٍّ منها معدومةً عند درجاتِ حرارةٍ أعلى من درجة حرارة كوري، وبالتالي تتمتّع أيّ منطقة بتناظُرٍ دورانيّ، أمّا في درجاتِ حرارةٍ أدنى من درجة حرارة كوري فتأخذ المغنطةُ العيانيّةُ قيمةً غيرَ معدومةٍ في اتّجاهٍ ما فتكسِر هذا التناظُرَ في المنطقة، في حين تبقى المادّةُ بمجملِها (جميع المناطق معاً) متمتّعةً بالتناظُر. ويرتبط انكسارُ التناظُر الذاتي هنا بتحوُّلٍ طوريّ phase transition خضعت له المادّة.

        يقع المثال الأكثر شهرةً عن كسر التناظُر الذاتي في مجال فيزياء الجسيمات عبر آليّة هيغز  Higgs المسؤولة عن توليد الكتلة للكواركات وجسيمات Z وW. يتمثّل تناظُر القوى الكهرضعيفة بالزمرة U(1)×SU(2)، وكانت قيمةُ "خلاءِ" حقلِ هيغز معدومةً عند بداية الكون، وبالتالي كانت الكواركاتُ معدومةَ الكتلة. مع تمدُّد الكون وانخفاض درجةِ حرارتِه كُسِر في لحظةٍ ما –يُعتقَد أنها توافِق 10-12 ثا بعد الانفجارالعظيم Big Bang- "ذاتياَ" هذا التناظُر من خلال اختيار حقل هيغز لـ"خلاء" غير معدوم، لا يتمتّع إلاّ بتناظُر مُختزَل Uem(1) من أصل الـ U(1)×SU(2)، وبالتالي بقي الفوتون الموافِق للـ Uem(1) عديمَ الكتلةِ، في حين اكتسبت جسيمات W+وW-و Zالموافِقة للزمرة SU(2)- وكذلك الكواركات- كتلةً. لا يعاني تناظُر SU(3) المسؤول عن لون الكواركات أيَّ كسرٍ، وبالتالي تبقى الغليّونات عديمةَ الكتلة.

 

مراجع للاستزادة:

-   R. Gaudenzi, Historical Roots of Spontaneous Symmetry Breaking: Steps Towards an Analogy, Springer 2022.

-  F. Strocchi, Symmetry Breaking (Theoretical and Mathematical Physics),Springer 2021. 

-   F. Strocchi,  Symmetry Breaking in the Standard Model: A Non-Perturbative Outlook, Edizioni della Normale 2019.

 

 


- التصنيف : ميكانيك الكم - النوع : ميكانيك الكم - المجلد : المجلد العاشر، طبعة 2025، دمشق مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق 1